رؤى من الجنوب العالمي: نهج أمريكا اللاتينية المشتت تجاه فلسطين

تتباين مواقف حكومات أمريكا اللاتينية تجاه فلسطين تبايناً كبيراً. فمنذ اندلاع الحرب الحالية في غزة، برزت ثلاثة مواقف مختلفة نسبياً: 1) دعم قوي لإسرائيل وحقها في الدفاع عن النفس؛ 2) إصرار على ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وانتهاك حقوق الفلسطينيين؛ 3) السعي إلى الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف. ويُمكن تفسير كلاً من هذه المواقف التي تبنتها كل دولة من خلال فهم مزيج من العوامل الداخلية والخارجية.

فقد اضطلع القادة السياسيون الكبار بدور محوري في هذا السياق، إذ تمنح دساتير دول أمريكا اللاتينية عادةً صلاحيات واسعة لرؤساء الدول. ولذا فإن ميولهم واختياراتهم ووجهات نظرهم العالمية ضرورية لتفسير النُهج الدبلوماسية والمواقف العامة تجاه الحرب. على سبيل المثال، أشار الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو إلى النضال الذي خاضه الشعب اليهودي من أجل التحرر من الحكم النازي عند صياغته للواقع الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية اليوم. ومما لا شك فيه أن كونه عضواً سابقاً في حركة لحرب العصابات ساهم في هذا المنطق القياسي. وفي المقابل قارن الرئيس السلفادوري نجيب بُقيلة - بالرغم من أنه من أصول فلسطينية - بين عصابات "مارا سالفاتروتشا" العنيفة المروعة وحماس، التي وصف أعضائها بأنهم "وحوش برية" و"حيوانات". في هذه الحالة، ينطوي تشبيهه هذا على غرض سياسي وهو محاولة الحصول على الشرعية الدولية لصالح نظام حكمه الاستبدادي. أما في المكسيك، يساهم عدم اهتمام الرئيس أندريس مانويل لوبيس أوبرادور الشديد بالقضايا الدولية في فهم رد فعل بلاده المبدئي أو موقفها الحيادي تجاه الحرب.

ما يمكن أيضاً ملاحظته هو أن مواقف حكومات دول أمريكا اللاتينية تجاه حرب غزة لا ترتبط بشكل عام بموقعها العام على الطيف السياسي. إذ إننا لا نجد مواقف متجانسة بين حكومات يُنظر إليها غالباً على أنها تقدمية (البرازيل، والمكسيك، وتشيلي، وكولومبيا، وحتى وقت قريب الأرجنتين)، ولا مواقف متجانسة بين حكومات يُنظر إليها غالباً على أنها محافظة (الإكوادور، وبيرو، وأوروغواي، وباراغواي، وكوستاريكا، والسلفادور، وغواتيمالا). وهذا الأمر ليس بجديد، لطالما تألف اليسار في أميركا اللاتينية من قوة تعددية، وليس فقط القادة اليساريين الذين سعوا نحو التقارب مع الشرق الأوسط وفلسطين. على سبيل المثال، أجرى الرئيس التشيلي اليميني السابق سبستيان بنييرا (2010-2014) أول زيارة لرئيس تشيلي إلى الأراضي الفلسطينية في عام 2010. كما فعل نظيره رئيس البيرو سابقاً آلان غارسيا (2006-2011) الشيء نفسه. وباستثناء كوبا وفنزويلا وبوليفيا، حاول اليسار في أمريكا اللاتينية عموماً تجنب التسييس المفرط لعلاقاته، كما يتضح من خلال العلاقات الجيدة مع إسرائيل التي سعى عادةً إلى الحفاظ عليها. ومع ذلك، يبدو أن الاستثناء في حرب غزة الحالية هو كولومبيا التي يتزعمها الرئيس اليساري غوستافو بيترو.

علاوةً على ذلك، يبدو أن الرأي العام في أمريكا اللاتينية بعيد كل البعد عن كونه العامل المهيمن في عملية اتخاذ القرار بشأن فلسطين فيما يتصل بالسياسة الخارجية في أمريكا اللاتينية. ثمة أُطر وأنماط مستشرقة ثابتة في السرديات الإعلامية البارزة في العديد من دول أمريكا اللاتينية. ويذكي هذا الاستشراق الأفلام والمسلسلات الدرامية الطويلة والمسلسلات التلفزيونية التي تعرضها شبكات البث، فضلاً عن أن العديد من قادة الرأي العام الوطنيين الذين يظهرون على منصات متميزة في وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية، يضطلعون بدور حاسم في صياغة وهيكلة تغطية الحرب، وحتى في تحديد شروط النقاش حولها.

في حين تسعى الجهات الفاعلة المحلية غير الحكومية، وتحديداً الجاليات اليهودية والفلسطينية، بأبعادها العابرة للحدود الوطنية، أيضاً إلى التأثير على النقاش والسياسات، لا سيما خلال الفترات الحرجة. ويجب أن يؤخذ تأثيرها بعين الاعتبار فيما يتعلق بالتوجهات على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية - الأمر الذي يتجلى في درجات الإدانة المتباينة ضد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة. على سبيل المثال، في الأرجنتين، التي تضم أكبر جالية يهودية في أمريكا اللاتينية، كان الرئيس اليساري السابق ألبرتو فرنانديز، الذي خلفه مؤخراً الرئيس الحالي خافيير مايلي في 10 كانون الأول/ديسمبر، من أوائل رؤساء أمريكا اللاتينية الذين أظهروا دعمهم لإسرائيل. بينما في تشيلي، التي تحتضن أكبر جالية فلسطينية في أمريكا اللاتينية، أدان الرئيس غابرييل بوريك ووزير خارجيته ألبيرتو فان كلافيرين مراراً وتكراراً العنف التعسفي الذي تمارسه إسرائيل ضد المدنيين.

بينما تشكل الجماعات الإنجيلية في أمريكا اللاتينية عاملاً سياسياً آخر، إذ تمارس ضغوط متواصلة وقوية من أجل زيادة العلاقات مع إسرائيل، كما هو الحال في غواتيمالا والبرازيل في السنوات الأخيرة. بيد أن تأثيرها على مواقف الحكومة تجاه إسرائيل يتفاوت اعتماداً على طبيعة الحكومة وقوة مؤسسات الدولة. ولقد درست أنا وزميلي الدكتور كيفين بارثيناي (جامعة تورز) كيف ترتبط المشاركة الدبلوماسية المتزايدة الأخيرة مع إسرائيل من قبل غواتيمالا وهندوراس والسلفادور مع التراجع الديمقراطي والمركزية المفرطة لعملية صنع القرار.

في سياق المشهد الجيوسياسي لأمريكا اللاتينية، يجب أيضاً أن نأخذ في الاعتبار هيمنة الولايات المتحدة. إذ إنه عامل حاسم في تفسير مواقف العديد من حكومات أمريكا اللاتينية في الحروب الحالية والماضية في غزة، سواء أكان ذلك بالدعوة إلى إنهاء الاحتلال، أم الإصرار على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، أم التمسك بالوقوف على مسافة واحدة من جميع الأطراف. وغالباً ما يفسر الاعتماد المتفاوت لإحدى دول أمريكا اللاتينية على الولايات المتحدة في مجالي الاقتصاد والهجرة، التفاوت في الموقف الذي تتبناه تجاه حركة حماس وفلسطين وإسرائيل.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.