دَولة الظلّ بين حربِ التحالُف والحرب الأهليّة: حالُ مدينة عدن

تتلقى عدن دعم وحماية التحالف التي تقوده المملكة السعودية بصفتها العاصمة اليمنية المؤقتة. لم يقف هذا أمام انزالق المدينة إلى حال من انعدام الأمن وانتشار الفساد على نطاق واسع بسبب ممارسات الرئيس هادي وحكومته. دفعت الحرب والتنافس ودعوات الانفصال المدينة إلى الخروج على القانون معززة في ذلك بغياب مؤسسات حكومية فاعلة أو سلطة حاكمة. بعد أربع سنوات، تستمر الحرب على اليمن ولا نهاية في الأفق للأزمة الإنسانية التي تؤثر على ملايين اليمنيين.

Arab Reform Initiative - دَولة الظلّ بين حربِ التحالُف والحرب الأهليّة: حالُ مدينة عدن
حريق ودخان في خزان النفط بمصفاة تكرير النفط الرئيسية في عدن، اليمن، كانون الثاني/يناير 2019. © Najeeb Almahboobi/EPA EFE

بعد مرور نحو أربع سنوات منذ أن اجتاحتها حرب ضارية أواخر  آذار/ مارس 2015، قد تبدو عدن في جنوبيّ اليمن، التي اتّخذتها حكومة عبدربه منصور هادي المعترَف بها دوليّاً عاصمة مؤقّتة للبلاد، هادئةً وآمِنة للمر اقب الخارجي. لكن المدنيّين فيها يعانون من صعوبات يوميّة  شتّى، فمدينتهم وكأنها تائهة، لا مؤسّسات فيها ولا دولة لتبسط سيطرتها وتفرض سيادة القانون.

تنفّس المدنيّون الصعداء في تموز/ يوليو 2015، حين قامت قوّاتُ مقاومة شعبية - شكّلها خليطٌ من أبناء عدن، مستقلّين وسلفيّين وإصلاحيّين ومُنتمين إلى فصائل مختلفة في الحراك الجنوبي-  وقوّاتُ تحالفٍ شكّلته دوَل عربية بقيادة السعودية والإمارات، بدَحر قوّات الرئيس السابق علي عبدالله صالح التي تحالفت مع حركة أنصار الله الحوثيّة الى خارج المدينة. فراحوا يحلمون بحياة طبيعيّة وانطلاقة جديدة لمؤسّسات حقيقيّة تأخذ على عاتقها تطبيعَ الأوضاع وبناءَ الدولة المدنيّة الحديثة وتُعيد الاعتبار لأبناء المدينة الذين عانَوا على مدى عقود من الإقصاء والتهميش وحُرموا من إمكانية تدبير  أمور مدينتهم بأنفسهم. في الوقت نفسه، رفع مقاتلون أعلام دولتَي السعودية والإمارات إلى جانبِ علم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة، وذهب المنُتمون إلى الحراك الجنوبي إلى المطالبة بانفصال جنوب اليمن عن شماله.

لا أنّ الآمال سرعان ما تبدَّدت. تشابكت صلاحيّات الحكومة المؤقّتة مع المجلس الوطنيّ المستحدَث، وتداخلت مصالح دوَل التحالف الراعية لكلٍّ من هاتين السلطتَين، و انزلقت عدن إلى حالة من الانفلات الأمني فتكاثرت الميليشيات المسلحة وتفشّى الفساد. تحاوِل هذه الورقة رصد تَشرذُم الدولة اليمنيّة بعدَ  أربع سنوات من هجوم التحالف على اليمن بهدف إعادة الشرعيّة إلى البلاد. تتطرَّق الورقة إلى ممارساتِ عبد ربه منصور هادي في إدارة شؤون البلاد والمنافسة بين السعودية وحليفتها دَولة الإمارات، التي انعكست على الأرض صراعاً على النفوذ بين الحكومة  اليمنيّة المؤقّتة والمجلس الانتِقالي الجنوبي، كما تسعى إلى تسليط الضوء على الفساد والانفِلات الأمنيّ والاحتِجاجات المدنيّة العارمة ضدّ الوضع السائد في عدن.

عاصمة مؤقَّتة ورئيس غائب

تبدو عدن اليوم مُنهَكة تماماً. وتشير الكثير من المباني المُدمّرة في المدينة إلى عجز الحكومة اليمنيّة عن إعادة  الأمور الى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب. حالُها  في ذلك حالُ الرئيس هادي الذي لا يملك حتّى قرار العودة إلى العاصمة المؤقّتة للبلاد التي يرأسها. والمُلفت في الموضوع هو استمراريّة هادي في السلطة الهجينة هذه رغم مرور سبعَ سنوات على  فترة رئاسيّة لم يكن من المفترَض أن تدوم أكثر َ من سنتيَن. فالرجل ذو الـ74 عاماً الذي فرّ من صنعاء إلى عدن، ومنها إلى الرياض عبر مسقط في آذار/ مارس 2015، ما زالَ يُدير من العاصمة السعودية الرياض مؤسّسةَ الرئاسة اليمنيّة.

يجدر بالتذكير أن الكثيرين راهنوا على عجزِه عن الاستمرار كرئيس مؤقَّت لليمن لمدّة عامَين، وفق المبادرة الخليجية التي أتت به ليكون رئيساً توافقياً منتخباً في 25 آذار/ فبراير 2012. يَحكم هادي البلاد من منفاه، تاركاً في العاصمة المؤقّتة رئيس حكومته مع عدد قليل من الوزراء يُديرون شؤونها متنقِّلين بين عدن والرياض، علماً أن هؤلاء الوزراء يَعيشون بمعظمهم مع عائلاتهم خارج اليمن.1تعاقب على منصب رئيس الوزراء في عهد الرئيس هادي بالترتيب: محمد سالم باسندوة(  10  /12/  2011 - 21  / 09/ 2014) ،  خالد بحاح ( 13/ 10/  2014 -03  /04/ 2016)، أحمد بن دغر ( 3/04/ 2016 - 15 /10/ 2018 ) معين عبدالملك 15 / 10/ 2018← ).

بُعيْد اغتيال محافظ عدن الأسبق جعفر محمد سعد في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2015، سارع هادي من الرياض بتعيين عيدروس الزبيدي بديلاً عنه في 7 ك1 / ديسمبر 2015،  كما عيّن شلال شائع مديراً لأمن عدن. ولم تأخذ هذه التعديلات في المناصب أكثر َ من يوم واحد. عاد بعدَها هادي الى عدن وفي 4 كانون الثاني/ يناير 2016 زار الثلاثةُ ميناءَ عدن الذي بقيَ لفترة طويلة خارج نطاق العمل وفقاً لأهميَّته الاستراتيجيّة على مستوى العالم. الثلاثة فرحوا بتدشين بداية جديدة بين أبيَن (منطقة هادي)  والضالع (منطقة عيدروس وشلال اللذين لم يشاركا في تحرير عدن).2كانت أبيَن والضالع خاضتا صراعاً دمويّاً معلى السلطة في أحداث 13 كانون الثاني يناير 1986، خلال فترة الحكم الشمولي التي فرضها الحزب الاشتراكي الحاكم في الجنوب اليمنيّ. إلا أن هادي لم يمكث طويلاً في عدن، فعاد واستقر في الرياض.

وبدلاً من أن تتحسَّن الأوضاع في العاصمة المؤقّتة، راحت تتداعى نحو الأسوَأ. ليست الأحداث التي هزَّت عدن  أواخر 2018 سوى تعبيرٍ عن تدهور الحال هذه حتى اليوم. ولا توجد إرهاصات تشير إلى انفراج ما. كما أنّ لا شيء يضمن عدمَ تكرار أعمال العنف، لا بل ثمّة أخبار يتمُّ تداولها عن تحشيدات ترقُّباً لصدامات جديدة.

دولة الظلّ في ظلّ سلطة مشطورة

لا وجود لمؤسّسة الرئاسة في عدن إلّا في نطاق مساحة صغيرة في ناحية نائية من المدينة على البحر حيثُ يوجد القصر الرئاسي  في منطقة معاشق في مديرية كريتر. وهو مكان استراتيجيّ محصّن في نهاية منطقة حُقّات الجبلية ومُطلٌّ على البحر، وتحرسُه قوَّة سعوديّة إماراتيّة مشتركة ضمن قوّات التحالف العربي.تستند الحكومة اليمنيّة كذلك الى قوّة عسكرية كبيرة تحمل اسم ألويَة الحماية الرئاسيّة،  وهي تسيطر على جزء من المعسكرات في عدد من مديريات المدينة ويقودُها اللواء ناصر  وما هو سوى ابن الرئيس هادي. و يتحاشى اللواء الشاب الظهور إعلامياً تماماً كأخيه جلال الذي يشارك، في الظلِّ، في إدارة شئون الدولة.

تتقاسم الحكومة سلطتَها مع المجلس الانتقالي الذي يسيطر على جزء آخر من المعسكرات في عدة مديريّات في المدينة مدعوماً بذلك بقوات ألوية الحزام الأمني التي ساندته في محاولته الانقلابية على الحكومة نهاية يناير 2018.

وفي مشهد كهذا، يبدو وضع اللا دولة الماثل في عدن  وكأنّه مستدام. ولا أحد يعلم متى يُمكن أن ينتهي، ولا متى يستطيع الرئيس اليمنيّ ترك الرياض والعودة إلى عاصمة بلاده المؤقّتة ليستقرّ فيها. تبدو الأمور وكأنّه اعتاد على هذا الوضع وارتاح له. فخطاب هادي الرسميّ في إدارة مؤسّسة الرئاسة ينوّه بضرورة الحفاظ على وحدة اليمن وأمنِها وسلامة أراضيها والعمل على تأسيس اليمن الاتِّحادي مثلما نصّت عليه مُخرجات الحوار الوطني والمبادرة الخليجيّة التي أتت به رئيساً مؤقّتاً للبلاد ومدعوماً بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216.

تعاني تلك الإدارة من صعوبات كثيرة وثقيلة، وضغوط أثقل، ليس أقلها انها تحت سيطرة حزب الإصلاح (الإسلامي) و علي محسن الأحمر نائب الرئيس ونائب القائد الأعلى للجيش اليمني. كما تنامى نفوذ المركز القوي الذي كوّنه نجلا الرئيس جلال وناصر ، بحيث أضحَت الرئاسة مؤسسةً في خدمة هادي لتعزيز وجوده كرئيس دائم للبلاد، علماً أن ولايته انتهت في 25 فبراير 2014.

في إدارتها لشؤون الدولة تركت مؤسّسة الرئاسة جانباً الشروط والمعايير المنصوص عليها في الاستراتيجيّة الوطنيّة للدولة بشأن الوظائف والمرتّبات والأجور في الجهاز الإداري للدولة ومؤسّساتها.  بحكم سوء استخدام السلطة، غدت الأمور خاضعة للرئيس المُستَتر  في غياب أية معارضة جدّيّة، لا سيما وأن جهاز الرقابة والمحاسبة في الدولة غير فاعل. وبانتهاك معايير الاستراتيجيّة الوطنيّة للدولة ،  يبدو واضحاً  أن سياسة هادي  تتَّبع  نهج الإدارة نفسه  الذي انتهَجهُ نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح في ادارة مؤسسة الرئاسة والتي تستند إلى الولاء المطلق للفرد الواحد وهو الرئيس.3حدّدت الاستراتيجيّة الوطنية للدولة اليمنيّة بشأن الوظائف والمرتبات والأجور في الجهاز الاداري للدولة ومؤسّساتها مجموعة معايير للترشح على مناصب الإدارة العلي في البلاد، أساسها  الخبرةُ والمعارفُ العلمية اللازمة، القدرةُ على تحليل المشكلات واتّخاذ القرارات.

على نهج علي عبدالله صالح في الإدراة

ولفهم الآليّةِ التي تحوّلت بها سلطة الدولة الى أداةٍ لخدمة هادي، ومن يدين له بالولاء، وطريقةِ الإمساك بمفاصل السلطة، يتوجّب النظر إلى التعييناتِ التي أقرّها في مؤسّسة الرئاسة ومجلسِ الشورى ومجلس الوزراء، وتلك التي أقرّها على مستوى مستشاري الرئيس والمحافظين والسفراء والقناصل والملاحق وما دونهم، حتّى وصل الأمر الى جامعة عدن التي تشهد فساداً مريعاً كما لم تشهده الجامعة من قبل.4قام الرئيس هادي في 2016 بتعيين الخضر لصور (من أبيَن) رئيساً لجامعة عدن بطريقة مُخالفة للاستراتيجيّة الوطنيّة للدولة اليمنيّة بشأن الوظائف والمرتَّبات والأجور في الجهاز الاداري للدولة. بحكم هذه الاستراتيجية، يصدر بتعيين رئيس الجامعة قرار ٌمن رئيس الجمهورية، بناءً على عرض رئيس المجلس الأعلى للجامعات والوزير المختصّ، ويشترط أن يكون المرشح لرئاسة الجامعة حاصلاً على درجة الدكتوراه أو ما يعادلُها من الشهادات الطبّية المتخصّصة العليا المعترَف بها ودرجة الأستاذيّة مع عشر سنوات خبرة في العمل الأكاديمي والإداري في جامعة معترف بها بعد الدكتوراه ولمدّة خمس سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة.

نأخذ على ذلك مثالاً واحداً، ألا وهو مكتب الرئاسة الذي يديره اليوم شاب يدعى عبدالله العليمي. عيّنه الرئيس اليمني بخرق جليّ لمعايير التعيينات في الإدارة العليا في الدولة اليمنية . فالعليمي- من مواليد 1979 - قفز فجأة إلى واجهة المشهد السياسي في اليمن في 2011 بصفته أحد الشباب الذين يَنتمون إلى حزب الإصلاح ويُلقون خطابات حماسية في الساحات.

في 2012، تمَّ تعيينُه مباشرة رئيساً لدائرة السلطة المحلّيّة ومنظَّمات المجتمع المدنيّ بمكتب رئاسة الجمهوريّة. في 2015، تمّ تعيينُه نائباً لمدير مكتب الرئاسة، وفي 2016 أصبح مديراً لهذا المكتب. والمُلفت أنَّ الأخبار التي تبثُّها وكالة الأنباء الرسميّة اليمنيّة سبأ من الرياض تعطي العليمي صفةَ المسؤول الذي يحمل  شهادة الدكتوراه، في حين تشير سيرتُه الذاتية المهنية أنه يحمل فقط شهادة بكالوريس طبّ من جامعة عدن، وماجستير في الإدارة والاقتِصاد الصحي من ماليزيا، وأنه عضو الهيئة التعليميّة المساعدة في جامعة عدن.

في الأشهر الفائتة، بدأت وكالة الأنباء الرسمية اليمنية سبأ تروِّج لرجل الأعمال المثير للجدل أحمد صالح العيسي -  وهومن أبيَن، مواليد 1968 -  بصفته نائباً لمدير مكتب الرئاسة. ما من سيرة ذاتية تشير الى مؤهّله الجامعي، ليس معروفاً عنه سوى كونِه رجلَ النفط الأوَّل في اليمن، ويَمتلك عدّة شركات في هذا المجال، كما يَملك شركةَ بلقيس للطيران وقناةَ عدن سكاي الفضائية، ويُعرف أنَّه رئيس الاتِّحاد الوطنيِّ لكرة القدم.

شريعة الغاب وتفشي الفساد

في ضوء وضع كهذا، يبدو كل شيء منفلتاً تماماً. غابت سيادة القانون، ولم تعد مؤسّسة القضاء ملاذاً لتحقيق العدالة.

جرت عمليّات اعتقال واحتجازات تعسُّفية، وحالات اختِفاء قسري وأعمال تعذيب. وأضحَت حوادث القتل والاغتِيالات التي تشهدها عدن فترة ما بعد حرب 2015، ينفِّذها مسلَّحون مُلثّمون ويلوذون بالفرار، جزءًا من حياتها اليوميّة رغمَ انخِفاض معدلها في الأشهر الفائتة. وغدا كلُّ فرد من سكان المدينة احتمالُ قتيل. فالسلاح الخفيف والمتوسّط مُنتشر بلا ضابط بين عامّة الناس الذين وَجدوا أنفسَهم رهينةَ كتائب ومليشياتٍ مسلَّحة غير خاضعة للدولة (وتضمُّ في قوامِها من هبَّ ودبَّ من مُتشدِّدين وبلاطجة وخرّيجي سجون).

ويعيش سكّان عدن صراعاً يوميّاً لتوفير لقمة عيشهم في ظلّ ارتفاعٍ مخيف للبطالة، وتفشّي الفقر، وارتِفاعٍ جنونيّ في أسعار معظم السلع الغذائيّة والكماليّة، وانهيار العملة الوطنيّة، وتدنّي أجور مرتبات موظفي الدولة.5يَستلم موظَّف حكوميّ بدرجة متوسِّطة بعد اعتماد الزيادة التي تمَّ اقرارها بنسبة 30% نحو 90 ألف ريال يمنيّ، ما يعادل 150 $. ويستلم المدرِّس الأكاديميّ في جامعة عدن نحو 250 ألف ريال يمنيّ (416 $ ). ويبلغ راتب جنديّ في ألوية الحزام الأمني 1000 ريال سعودي (266 $)، أمّا قادة ومسؤولي هذه الألوية فيَستلمون أضعاف تلك المبالغ، نا هيك عن امتيازاتٍ أخرى. في غِياب دورٍ فعليّ للهيئة المعنيّة بمكافحته، انتشر الفساد على نحوٍ مُخيف وغير مسبوق كما انتشرت في المدينة تجارة المخدَّرات تحت مظلَّة شخصيّات نافذة فتتمّ تصفية من يَقترب منهم أو يحاول التصدّي لهم.

نهار الأحد 3 آذار/ مارس 2019، تجوّل وزير خارجية بريطانيا جيريمي هنت في مدينة عدن،  مرتدياً سترة واقية للرصاص. قال حينذاك: "نحن الآن أمام فرصةً أخيرة لنجاح عمليّة ستوكهولم للسلام. العملية قد تموت في غضون أسابيع، إن لم نرَ التزاماً من الجانبين بالوفاء بالتزاماتهم طبقاً لاتّفاق ستوكهولم".

منافسةٌ سعوديّة إماراتيّة حول السلطة في عدن

تبيَّن مع الوقت أنّ الحكومة اليمنيّة قادرةٌ على الاستمرار رغمَ ضعفها، وأنَّ المجلس الانتقاليَّ الجنوبيَّ المسلَّح عاجزٌ عن تحقيق الانفِصال رغم الدعم الإماراتي. فالمجلس الانتقالي هذا، قامت دولة الإمارات بتأسيسِه في 11 ايار/ مايو 2017 ردّاً على قرار هادي بإقالة عيدروس الزبيدي من منصبِه كمحافظٍ لعدن في 27 نيسان/ أبريل 2017، وهي تستمرُّ في دعمه وتمويله ، بما في ذلك صرفُ رواتبَ وإعطاء امتيازات. كما أن دولة الإمارات تتعامل مع رئيسِ المجلس كرئيس دولة، وجعلته يتصرَّف كبديلٍ للحكومة أو في موازاتها، لا بل إنَّ المجلس الانتقاليَّ الجنوبيَّ حاول، في الفترة  الممتدَّة ما بين 28 إلى 30 كانون/ يناير 2018 ، القيامَ بإنقلاب عسكري ضدَّ الحكومة اليمنيّة المؤقَّتة، سقط على إثره نحو 50 قتيلاً وضعف العدد من الجرحى.6من المُمكن أيضاً قراءة هذا الانقلاب على أنّه تجدُّد الصراع على السلطة بين أبيَن والضالع والاصطفافات المناطقية المنبثقة من هذا الصراع.

تُسيطر الإمارات على زمام الأمور في عدن من خلال المجلس الانتِقالي وألويَة الحزام الأمني التي أنشأتها عقب حرب آذار / مارس 2015 (5). ورغم أنها جزء من التحالف العربي، وأنّ موقفَها الرسميّ على مُستوى الأمَم المتَّحدة داعمٌ لوحدة الجمهوريّة اليمنيّة، لكن موقفَها على الأرض يدعم انفصال جنوب اليمن عن شماله. لا بل إنّ الإمارات تُراهن على سلطة الأمر الواقع من خلال تَمكين المجلس الانتقالي وتعزيزِ وجوده حتّى خارج اليمن. وصل الأمر ُ حدَّ تأسيس مقر ٍّ للمجلس الانتِقالي في أبوظبي وفتحِ مكاتبَ له في عدَّة عواصم.

وقد أدلى عدد من وزراء الحكومة اليمنيّة بتصريحات تفيد بأن الإمارات تمنعهم من أداء مهامِّهم في عدن. كان في طليعة هؤلاء المصرِّحين نائبُ رئيس مجلس الوزراء ووزيرُ الداخلية أحمد الميسري (من محافظة أبيَن)، ووزير ُالنقل صالح الجبواني (من محافظة شبوة) الذي قال إنّ الإمارات عملت على تأسيس مليشيات خارجَ نطاق الدولة اليمنيّة. ولابدَّ من التنويه أنّ عدداً من الوزراء والمسؤولين ممنوعون من العودة إلى عدن.

تداعت الأمور كثيراً صيفَ العام 2018، وساهم في هذا التداعي تجاهلُ هادي وحكومتُه لعدن، إذ لم يعيَّن لها محافظاً جديداً من أبناء المدينة عقبَ استقالة المحافظ السابق عبدالعزيز المفلحي من منصبه منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2017.

احتِجاجات عارِمة وقوى مدنيّة محليّة

بلغت الأمور ذروَتها في شهر أيلول/ سبتمبر 2018، وخرج متظاهرون إلى الشوارع في عدد من مديريّات عدن في احتجاجات عارمة، وحاولوا فرض عصيان مدنيّ بعد أن فقدوا الأمل بحدوث تغيير فعليّ يخفِّفُ عنهم معاناتهم اليومية. ارتفعت شعاراتٌ ضدَّ الحكومةِ اليمنيّة والمجلسِ الانتقاليّ، مطالبين برحيل دوَل التحالف العربي، وبالتحديد دولتّي السعودية والإمارات. نادى المحتجّون  بما أسموه "التحرّر َمن الاحتِلال ووضع أيديهم على موانئهم ومطاراتهم"، و"العيش على أرضهم باستقلاليّة وكرامة". وحُرقت أعلامُ الإمارات وصوَر عدد من قادة دَولتها.

تراجع زخمُ الاحتِجاجات وتلاشت حين حاوَل المجلس الانتقاليُّ الجنوبيُّ السيطرة عليها بحجّة دعمِها وحمايتها، فتحوّلت من عصيان مدنيّ سلميّ الى أعمال عنف وقطعِ الطرقات بقوّة السلاح من قبل مجموعات مسلَّحة ملثَّمة.

ردّت الحكومة اليمنيّة بأنها ستتّخذ إجراءات من شأنها تطبيع الأوضاع وإيقاف تدهور الاقتصاد، وإعادة الاستِقرار التمويني والغذائي والخدماتي، كما وعدت بإعادة النظر في عمل الأجهزة الأمنيّة وتوحيد مؤسّساتها، والعمل على تأمين الأرواح والممتلَكات والاستثمارات والطرقات، لضمان حرِّيَّة تنقُّل البضائع، وحلِّ مشكلة المطارات والموانئ لتسهيل عودة شركات النقل البحريّ والجويّ.

على أنَّ هادي تجاهل الاحتِجاجات مفضِّلاً الذهاب إلى الولايات المتَّحدة للعلاج. وفي 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، قام باقالة رئيس الحكومة أحمد بن دغر وإحاله إلى التحقيق بحجّة "الإهمال الذي رافق أداء الحكومة (...) في المجالات الاقتصاديّة والخدميّة، وتعثُّر الأداء"؛ كما  ألقى عليه مسؤوليَّة "فشل الحكومة في اتِّخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة كارثة إعصار لبان في محافظة المهرة"، ثمّ قام بتعيين وزيرِ النقل معين عبدالملك رئيساً للحكومة إلا أنَّه أبقى على كافَّة أعضاء الحكومة رغم نصِّ قرار الإقالة الذي يُدين بالإهمال الحكومةَ كاملةً.

ظهرت خلال الأشهر الفائتة في عدن مجموعات مدنيّة تطالب بالعمل من أجل توَلّي أبناء المدينة الحقيقيّين زمام أمور مدينتهم، لكنّها ما زالت غيرَ مؤثّرة في سياق المشهد السياسيّ العام في اليمن كقوّة يُحسب لها حساب. تَجدر الإشارة إلى أنّ عدد كبيراً من هذه المجموعات تنظر بعين الرضى إلى وضع مدينة عدن في مسوَّدة نصّ دستور اليمن الاتِّحادي،  فهو يتلاءم مع أهداف إعضائها وتطلعاتهم الساعيَة لتولّي شؤون مدينتهم بأنفسهم، بما يتوافق مع المواد 273-277 من تلك المسوّدة.

يقول طارق محمد عبدالله المحامي، أحد رموز مدينة عدن- وهو في السبعينات من عمره-،  والداعم الرئيسي لتلك المجموعات المدنية في عدن: "إن تحقيقَ أهدافنا، أي بقاء عدن كمدينة مدنيّة يسودها النظام والقانون يعتمد في المقام الأول على الشباب من أهالي عدن، الذكور والإناث، وذلك من خلال تنظيمِ أنفسهم في هيئة كبيرة واحدة ضمن كيان أهالي عدن، والجمعِ بين جهودهم وجهودِ الجميع من أجل الصالح العامّ بدلاً من التنافس لتحقيق أهداف شخصيّة أو أهداف ذات طابع سياسي".

توافق أمَمِيّ في ستوكهولم وعرقلة على الأرض

أواخر كانون الثاني/ يناير 2018، قام فريق خبراء معنيٍّ باليمن بموجب قرار مجلس الأمن 2342 (2017) برفع رسالة إلى مجلس الأمن الدولي تضمّنت تقريره عن الوضع في اليمن. خَلص التقرير  إلى أنّ سلطة الحكومة الشرعيّة اليمنية "تآكلت إلى حدّ أصبح فيه مشكوكاً ما إذا سيكون بمقدورها في يوم ما أن تُعيد اليمن إلى سابق عهده بلداً واحداً". وفقاً للتقرير فإن "في اليمن دوَيلات بدلاً عن دولة واحدة".

في  إطار هذه الخلاصة، يتوجَّب إدراج  التوافق الذي نجح المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث في إبرامه في استوكهولم في 13 كانون الأوّل/ ديسمبر 2018 بين الحكومة اليمنيّة برئاسة هادي من جهة، والمتمرِّدين الحوثيّين . إذ إنّه كان واضحاً أن اتّفاق ستوكهولم الذي رعته الأمم المتحدة يُمهّد الطريق-  إن نجح-  لمشاورات تفضي إلى حلٍّ سياسيٍّ في إطار دولة اليمن الموحَّدة.

فقد سبق أن أكَّد غريفيث أنَّ "مسألة مستقبل الجنوب لن يتمّ التفاوض بشأنها في هذه المشاورات، بل ستكون جزءاً من نقاش يمنيٍّ في المرحلة الانتقالِيّة. لقد شرحنا ذلك للجنوبيّين، وقد أوضحنا ذلك لجميع المعنيّين وهم يوافقون على ذلك". لا بل أكَّد غريفيث أكثرَ من ذلك قائلاً: "بصفتي مبعوث الأمم المتحدة، أؤمن بسيادة ووحدة وأمن أيّ دولة، وهذه هي قِيَم الأمم المتَّحدة، فإنَّنا لا ندعم الانفصال(...)ما لم يكن نتيجة عمليّة توافقيّة داخل تلك الدولة العضو، لذلك نحن بالفعل نأخذ الرأيَ القائل إنّ وحدة اليمن مهمّة، وهي فعلاً كذلك. إذا انفصل اليمن اليوم، سيكون ذلك كارثيّاً".

يتضمَّن اتِّفاق ستوكهولم على أنَّ الأطراف أقرَّت بالنقاط التالية :1ـ)  اتّفاق حول مدينة الحدَيدة وموانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى، 2) آليّة تنفيذيّة حول تفعيل اتفاقيّة تبادل الأسرى، 3ـ)  إعلان تفاهمات حول تعز. وتعهّدت الأطراف في ستوكهولم على: تنفيذ أحكام هذا الاتفاق تنفيذاً كاملاً والعمل على إزالة أيّة عوائق تَحول دون تنفيذه، الالتزام بالامتِناع عن أيِّ فعل أو تصعيد أو اتِّخاذ أيّة قرارات من شأنها أن تقوّض فرص التطبيق الكامل لهذا الاتِّفاق، الالتزام بمواصلة المشاورات دون قيد أو شرط في غضون شهر كانون الثاني/ يناير في مكان يُتَّفق عليه لاحقاً.

مرّ الوقت سريعاً دون إحراز أيِّ تقدم يُذكر، فكلُّ طرف في النزاع يتَّهم الآخر بعرقلة الاتِّفاق, ناهيك عن دور المجلس المجلس الانتِقالي في جنوب اليمن  والذي تدعمه الإمارات في الضغط للانفِصال عن الشمال. ممّا دفع مجلس الأمن لعقد جلسة في 4 شباط/ فبراير 2019 حثّ فيها طرفَي النزاع وبشكل عاجل، على التعاون مع رئيسِ لجنة تنسيق إعادة الانتشار وبعثة الأمم المتحدة لدعم اتفاق الحديدة، بحيث يتمُّ دون تأخير تطبيق خطة إعادة انتشار القوى المسلّحة في مدينة الحديدة وموانئها والصليف ورأس عيسى. و أكَّد المجلس "الحاجة لإحراز تقدُّم للتوصل إلى اتِّفاق سياسيّ شامل للصراع في اليمن، وفق ما دعت إليه قرارات وبيانات مجلس الأمن الدولي ومبادرة مجلس التعاون الخليجيّ ومخرجات مؤتمر الحوار الوطني".

لا شكّ أن العبارة الواردة في مجلس الأمن، ألا وهي "شدَّد الأعضاءُ على التزامهم القويِّ بوحدة وسيادة واستِقلال اليمن وسلامة أراضيه"، تتضمّن رسالة واضحةً لأطراف النزاع في اليمن وصنّاع القرار فيه كخارِطة طريق للحلِّ السياسيّ في هذا البلد المنكوب. لكنَّ الأمورَ على الأرض تسيرُ خلافَ ذلك، وتؤكّد ما جاء في رسالة فريق الخبراء المعنيّ باليمن بموجَب قرار ِمجلس الأمن 2342(2017)، وهو أنَّ "صنّاع القرار السياسيِّ لدى جميعِ الأطراف لا يَعانون من وطأة الحرب. الذين يُعانون هم المدنيّون اليمنيّون".

Endnotes

Endnotes
1 تعاقب على منصب رئيس الوزراء في عهد الرئيس هادي بالترتيب: محمد سالم باسندوة(  10  /12/  2011 - 21  / 09/ 2014) ،  خالد بحاح ( 13/ 10/  2014 -03  /04/ 2016)، أحمد بن دغر ( 3/04/ 2016 - 15 /10/ 2018 ) معين عبدالملك 15 / 10/ 2018← ).
2 كانت أبيَن والضالع خاضتا صراعاً دمويّاً معلى السلطة في أحداث 13 كانون الثاني يناير 1986، خلال فترة الحكم الشمولي التي فرضها الحزب الاشتراكي الحاكم في الجنوب اليمنيّ.
3 حدّدت الاستراتيجيّة الوطنية للدولة اليمنيّة بشأن الوظائف والمرتبات والأجور في الجهاز الاداري للدولة ومؤسّساتها مجموعة معايير للترشح على مناصب الإدارة العلي في البلاد، أساسها  الخبرةُ والمعارفُ العلمية اللازمة، القدرةُ على تحليل المشكلات واتّخاذ القرارات.
4 قام الرئيس هادي في 2016 بتعيين الخضر لصور (من أبيَن) رئيساً لجامعة عدن بطريقة مُخالفة للاستراتيجيّة الوطنيّة للدولة اليمنيّة بشأن الوظائف والمرتَّبات والأجور في الجهاز الاداري للدولة. بحكم هذه الاستراتيجية، يصدر بتعيين رئيس الجامعة قرار ٌمن رئيس الجمهورية، بناءً على عرض رئيس المجلس الأعلى للجامعات والوزير المختصّ، ويشترط أن يكون المرشح لرئاسة الجامعة حاصلاً على درجة الدكتوراه أو ما يعادلُها من الشهادات الطبّية المتخصّصة العليا المعترَف بها ودرجة الأستاذيّة مع عشر سنوات خبرة في العمل الأكاديمي والإداري في جامعة معترف بها بعد الدكتوراه ولمدّة خمس سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة.
5 يَستلم موظَّف حكوميّ بدرجة متوسِّطة بعد اعتماد الزيادة التي تمَّ اقرارها بنسبة 30% نحو 90 ألف ريال يمنيّ، ما يعادل 150 $. ويستلم المدرِّس الأكاديميّ في جامعة عدن نحو 250 ألف ريال يمنيّ (416 $ ). ويبلغ راتب جنديّ في ألوية الحزام الأمني 1000 ريال سعودي (266 $)، أمّا قادة ومسؤولي هذه الألوية فيَستلمون أضعاف تلك المبالغ، نا هيك عن امتيازاتٍ أخرى.
6 من المُمكن أيضاً قراءة هذا الانقلاب على أنّه تجدُّد الصراع على السلطة بين أبيَن والضالع والاصطفافات المناطقية المنبثقة من هذا الصراع.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.