تمهيد
أسس دستور 2011 لمنظور جديد في الارتقاء بالمشاركة المُواطِنة بالمغرب عبر إقرار آليات جديدة لتدعيم مساهمة المواطنين في مراقبة السياسات العامة، كالملتمسات التشريعية، والعرائض التي تم الرهان عليها لتجويد التدبير العمومي ولتجسير الفجوة بين المواطن والدولة. لكن طبيعة التنزيل القانوني والتنظيمي لمقتضيات الدستور، ونوعية الثقافة السياسية والإدارية السائدة، قد حدت نوعا ما من تملّك هذه الأدوات، ومن درجة تأثيرها في تفكيك الخطاطة التقليدية للتدخل العمومي.
سنحاول في هذه الورقة تتبع مكاسب التجربة المغربية في مجال الديموقراطية التشاركية، من خلال تحليل المقتضيات الجديدة واستقصاء تأثيرات العرائض المقدمة إلى السلطات العمومية والترابية، وسنرصد، في ضوء الحصيلة الأولية، القيود التشريعية والعملية التي تكبح هذا المسعى، مع محاولة استشراف ممكنات الإصلاح.
أولا: التأطير التشريعي للعرائض المحلية بين البعدين السياسي والإجرائي
اندرج إقرار العرائض للسلطات العمومية بالمغرب ضمن مسار تطعيم الديموقراطية التمثيلية بتقنيات الديموقراطية التشاركية، بما يمكن من توسيع مساحات مشاركة المواطنين ودرجة تأثيرهم في السياسات العامة، وهنا يُطرح التساؤل حول مدى استيعاب المساطر الإجرائية لسقف الرهانات الدستورية ذات الصلة بتنويع آليات الديموقراطية المواطنة ولمستوى التطلعات الشعبية فيما يخص تعزيز الولوج المنصف للمواطنين للخدمات العمومية.
موقع العرائض في تطور مسار الديموقراطية التشاركية بالمغرب
تعد المشاركة في الحياة السياسية مؤشرا فعالا لتقييم درجة التقدم الحاصل في المنهجية الديموقراطية، وقياس أثر الإصلاحات السياسية والتشريعية على أرض الواقع. بشكل عام، ظلت المشاركة السياسية للمواطنين جد ضعيفة، وهو واقع عكسته مؤشرات المشاركة في الانتخابات التي لم تتخط عتبة %42،29 في انتخابات 2016 التشريعية، وعتبة %53,67 بالنسبة للانتخابات الجماعية والجهوية في 2015. وهي مؤشرات دالة تعكس ضعف الثقة في الأحزاب السياسية، وتعمق الشرخ بين المؤسسات التمثيلية والنسيج الاجتماعي.
أمام هذا الفراغ، عرف المجتمع المدني مدا متناميا ليتجاوز عتبة 200 ألف جمعية تشتغل معظمها في مجالات تنشيط التنمية وتقديم الخدمات، لكن هذا التطور لا يمكن أن يحجب إشكالات جمة تتعلق بالتفاوت بين الجمعيات الوطنية والمحلية في الولوج للتمويل العمومي، فضلا عن محدودية إعمال قواعد الحكامة الرشيدة في عمل الجمعيات، كتغييب المنهجية الديموقراطية والشفافية المالية في تدبير مشاريع التنمية، مع تغليب الأدوار الخدمية على حساب مهام الترافع والوساطة، في ظل قلة الجمعيات التي تمتلك قدرات تنظيمية وتواصلية تؤهلها للترافع.
على الصعيد العملي، اتسم التدبير العمومي بنفس الاستئثار، حيث ظل إشراك المواطنين في القرار متوقفا على إرادة المسؤولين المركزيين والمحليين. ووعيا بأهمية المشاركة في تثبيت السلم الاجتماعي وتفعيل التزامات المغرب في مجال التنمية المستدامة، - عبر وضع عدة برامج لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية وتجسيد أجندة 2030 للتنمية المستدامة - فقد أصبح الخطاب الرسمي يؤكد على ضرورة وضع آليات جديدة تتيح مشاركة واسعة للمواطنين، وفق تعاقد اجتماعي جديد يقلص الهوة بين الحاكمين والمحكومين، ويمكن من إعادة الديموقراطية المخطوفة من قبل النخب السياسية إلى حضن الشعب.
وعيا بهذه الرهانات، واستجابة للسقف العالي للمطالب السياسية في خضم موجة الربيع العربي، فقد شكلت المشاركة مُوجها مفصليا لمستجدات دستور 2011، كمرتكز جوهري لدولة المؤسسات وكشرط حاسم لتجسيد الديموقراطية، وذلك عبر عدة آليات تتمثل في هيئات التشاور والملتمسات التشريعية والعرائض. وبذلك يكون الدستور المغربي إلى جانب الدستور التونسي من الدساتير القليلة في العالم العربي التي تكرس صراحة الديموقراطية التشاركية، وخاصة العريضة كوسيلة لتفعيل مقتضيات الدستور المتعلقة بالمشاركة المواطنة، وكآلية اقتراحية من شأنها أن تفعّل مشاركة المواطنين في اقتراح وتتبع وتقييم السياسات العمومية.
وإذا تأملنا في المتن الدستوري، نجد أن العرائض تتوخى رهانات متعددة: سياسية كإطار لتجاوز الشخصنة والتراتبية في علاقة المواطنين بدوائر القرار، وبيداغوجية كمقاربة إجرائية لتمرين المواطنين على تدبير الشأن العام، وتنظيمية كفرصة للرفع من قدرات النسيج الجمعوي وتثمين أدوار الوساطة والترافع. وهنا يُثار التساؤل حول مستوى تمثل النصوص التشريعية والتنظيمية لروح الدستور.
المساطر الإجرائية لتقديم العرائض بالمغرب: ضمانات أم قيود
لتوضيح المقتضيات الدستورية تم إصدار عدة قوانين ونصوص تنظيمية لتقديم العرائض الوطنية، كالقانون التنظيمي رقم 44.14 المحدد لشروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض للسلطات العمومية. عرف القانون العريضة بكونها طلبا مكتوبا يتضمن مطالب أو مقترحات، يوجهه مواطنات ومواطنون إلى السلطات العمومية لاتخاذ ما تراه مناسبا من إجراءات، وحصر نطاق السلطة العمومية في رئيس الحكومة ورئيسي مجلسي البرلمان. ولضمان جدية موضوع العريضة، حدد القانون شروط شكلية وموضوعية، إذ رهن ممارسة الحق في تقديم العرائض بمتطلبات ممارسة الحقوق من داخل منظومة الديمقراطية التمثيلية واشترط التقيد بواجباتها وكذا التمتع بالحقوق السياسية والمدنية، مع التنصيص بشكل صريح على ضرورة التسجيل في اللوائح الانتخابية العامة، وارتباط موضوع العريضة بمطالب مشروعة وبتحقيق المصلحة العامة.
إضافة إلى ذلك، يتعين تجنب عدة محاذير لمنع قبول العريضة، كالمس بالثوابت الجامعة للأمة - المتمثلة في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية والاختيار الديمقراطي-، أو التدخل في عمل السلطات القضائية والتشريعية أو تهديد الأمن القومي، أو الإخلال بمبادئ المرافق العمومية، أو الإساءة للمؤسسات والأشخاص أو أن تكتسي العريضة طابعا تمييزيا أو نقابيا أو حزبيا ضيقا، أو أن تتضمن تظلمات أو شكاوى يكون النظر فيها من اختصاص مؤسسات دستورية أخرى.
بجانب نص العريضة الذي يشترط فيه الإيجاز والوضوح، يتعين إرفاقها بمذكرة مفصلة تبين الأسباب والأهداف الداعية لتقديمها، ونسخة من محضر عقد اجتماع لجنة تقديم العريضة، ولائحة دعم العريضة تتضمن على الأقل 5000 توقيع، مع إرفاق التوقيعات بنسخ من بطائق التعريف الوطنية. ويُلاحظ استبعاد الجمعيات من مجال العرائض الوطنية على الرغم من كونها أداة مهمة لتقوية التمثيلية الاجتماعية للمجتمع المدني ولإسهامه في تجسيد ثقافة الترافع لدى عموم المواطنين بكيفية قد ترفع من درجة تأثيرهم في القرار العمومي.
بخصوص العرائض المحلية، المؤطرة بموجب القوانين التنظيمية للجماعات الترابية الصادرة في 7 تموز/يوليو 2015، فهي كل محرَّر يطالب بموجبه المواطنات والمواطنون والجمعيات المحلية بإدراج نقطة تدخل في جدول أعمال المجالس المنتخبة. ولتدقيق مسطرة إيداعها وتقديمها تم إدراج عدة مقتضيات داخل القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، إضافة إلى إصدار عدة مراسيم تبين نموذج العريضة ومسطرتها سواء تعلق الأمر بالعرائض التي يقدمها الأفراد أو الجمعيات.
بالنسبة للعرائض المحلية الموجهة من قبل المواطنين للمجالس المنتخبة اشترط القانون الإقامة في المجال الترابي للجماعة، إضافة إلى التسجيل في اللوائح الانتخابية مع إعفاء العرائض المقدمة للمجالس الجهوية من هذا القيد. كما اشترط وجود مصلحة مشتركة بين المعنيين بتقديم العريضة، مما قد يمنح للجهة المستقبلة سلطة تقديرية واسعة في تأويل هذا الشرط، بشكل قد يمنع المواطنين في إطار التضامن أن يوقعوا على عريضة ليسوا معنيين بها بشكل مباشر. أما بخصوص التوقيعات المطلوبة فهي تتراوح بين 100 و500 توقيع بحسب صنف الجماعة الترابية وعدد ساكنتها.
بالنسبة للعرائض المحلية المقدمة من قبل الجمعيات فقد وضع المشرّع عدة شروط تتعلق بالوضع القانوني للجمعية، بما فيها أن تكون مؤسسة بالمغرب، وأن يتواجد مقرها أو أحد فروعها بتراب الجماعة المعنية بالعريضة، فضلا عن وجودها في وضعية سليمة إزاء القوانين الجاري بها العمل، وأن يمر على تأسيسها ثلاث سنوات على الأقل. وإذا كان المشرع قد حذف شرط العدد بالنسبة لعرائض الجمعيات عدا تلك المقدمة لمجالس العمالات أو الأقاليم بحيث يجب أن يفوق عدد منخرطي الجمعية 100 عضو، فقد كان أكثر تشددا في موضوع العريضة بالتأكيد على ارتباطه بنشاط الجمعية.
ويُلاحظ اتجاه المشرع نحو إدماج مرتكزات المنهجية الديموقراطية عبر اشتراط اشتغال الجمعيات طبقا للمبادئ الديموقراطية، ومأسسة مسالك تقديم العرائض حتى لا تترك بيد رئيس الجماعة ليوظفها تبعا لرهاناته الخاصة، مع وضع ضمانة أساسية لدفع المنتخبين إلى التعامل بجدية مع مآل العريضة، فالمجالس المنتخبة ملزمة بالرد على مقدمي العرائض ونشر محاضر اجتماعاتها وقرارها بخصوص العرائض المؤهلة، مع فتح إمكانية الطعن أمام القضاء الإداري في حالة الرفض الذي يجب أن يكون مبررا.
ثانيا: ممكنات إسهام العرائض في تجسيد المشاركة المواطنة بالمغرب
بلغ عدد العرائض المقدمة للسلطات العمومية ثمانية عرائض فيما تجاوزت 212 عريضة على المستوى الترابي، وهي مؤشرات تعكس تطورا ملحوظا في إعمال هذه الآلية مقارنة بالدول العربية. لكن القراءة الوصفية لا يمكن أن تخفي حجم القيود التي تغل يد المبادرين للعرائض، وتهدد بتحول هذه الأخيرة من مدخل لترسيخ الديموقراطية، إلى فرصة لإضفاء الشرعية الاجتماعية على سياسات فوقية.
الحصيلة الأولية للعرائض بالمغرب: الثمار والآثار
تشير الإرهاصات الأولية لتفعيل العرائض إلى حماس شعبي واضح في تجريب هذه الآلية الترافعية، مقابل فتور رسمي في التعاطي معها سواء على الصعيدين الوطني أو المحلي. فعلى المستوى الوطني قُدمت ثمان عرائض رُفض معظمها، إذ لم يتم قبول سوى عريضة واحدة تتعلق بإحداث صندوق لمكافحة السرطان في 28 أيلول/سبتمبر 2020، حيث التزمت الحكومة بعدة إجراءات كتحويل المعهد الوطني للأنكولوجيا إلى مؤسسة عمومية وتعميم مراكز التشخيص والعلاج، دون الالتزام بالحل المقترح من قبل أصحاب العريضة الذين طالبوا بوضع حساب مالي في الميزانية العامة للتكفل بمرضى السرطان. ورغم مرور حوالي سنة ونصف فإن الحكومة لم تبدأ بعد في تفعيل الالتزامات التي قطعتها بخصوص هذه العريضة، الأمر الذي يعطي رسالة سلبية حول مدى جدية الحكومة في التعاطي مع مبادرات المواطنين.
ساهمت هذه العريضة -التي فاقت توقيعاتها 40 ألف توقيع- في خلق نقاش عمومي موسع حول السياسات الصحية، بتوجيه من أصحاب العريضة الذين ينتمي جلهم للوسط الأكاديمي. وهنا يظهر الأثر المهيكل للعرائض في تجسير الهوة بين مراكز الأبحاث الجامعية وبين الفاعلين المدنيين والسياسيين، وفي إدماج المواطن في صلب ديناميات حقيقية للترافع تضمن إيصال صوته ضمن صيغة عقلانية يمكن أن تقلل من مخاطر الاحتجاج العنيف أو السلبية المقيتة نتاج الإحساس بالعجز وضعف الثقة في المؤسسات.
في الفترة الحالة توجد عريضة وطنية واحدة في طور الدراسة، وهي العريضة المطالبة بتفعيل المناصفة الدستورية الفعلية في أفق سنة 2030، والمودعة لدى مجلس النواب بتاريخ 3 شباط/فبراير 2021، والتي قارب عدد توقيعاتها 14 ألفا، ومن خلال حملة جمع التوقيعات واللقاءات مع وسائل الإعلام ومع لجنة العرائض بمجلس النواب، فقد أعادت هذه العريضة الجدل حول المناصفة بين النساء والرجال في المجال الانتدابي إلى واجهة النقاش العمومي.
في المجال الاقتصادي، توجد عريضة في طور التقديم تتعلق بإسقاط حق الإقامة فيما يتعلق بالوصاية على الأراضي السلالية، تقودها فعاليات نسائية تطالب بمراجعة المرسوم رقم 2.19.973 المتعلق بتطبيق أحكام قانون رقم 62.17، بشأن الوصاية الإدارية على الجماعات السلالية وتدبير أملاكها، والذي يشترط بند الإقامة كمعيار لاكتساب صفة العضوية بالجماعة، وهو شرط مجحف يحرم فئات اجتماعية واسعة من حقها في الاستفادة من أراضي الجموع.
على المستوى المحلي، استثمر المواطنون بشكل متزايد الحق في تقديم العرائض، والتي بلغت وفقا لمعطيات وزارة الداخلية 212 عريضة، تحول العديد منها إلى مشاريع مهمة في مجال خدمات القرب والتجهيزات الأساسية، حيث أدت المبادرات الناجحة إلى بناء الطرق أو المراكز الثقافية المحلية، في حين تمّ تجاهل عرائض أخرى بسبب عدة أعذار منها نقص الموارد المالية. وبغض النظر عن التضارب في مواقف بعض المجالس المنتخبة، فإن مجرد دفع هذه الأخيرة إلى وضع نقط تثير اهتمام الساكنة المحلية في جدول أعمالها يشكل مكسبا مهما يمكن استثماره مستقبلا.
بفضل العرائض، بدأت تظهر بوادر التكامل بين الديموقراطية التشاركية والتمثيلية، عبر تلاقي إرادات الفعاليات المحلية لمعالجة المشاكل المحلية. ونشير على سبيل المثال إلى تفريغ مخرجات يوم دراسي حول تحرير الملك العام بمدينة مكناس من احتلال أصحاب المحلات ضمن عريضة نجم عنها تدخل المجلس المنتخب -بتنسيق مع السلطة المحلية- عبر تدابير الشرطة الإدارية للحد من ظاهرة احتلال أرصفة الشوارع من قبل بعض التجار وأصحاب المقاهي. بل إن العرائض غدت وسيلة أساسية لاستيعاب الرفض الشعبي لسياسات معينة ضمن مشروع للتغيير، كما هو الحال مع مبادرة "التفكير من أجل الفنيدق" التي تقودها النخبة المحلية المثقفة لدفع مجلس الجهة إلى وضع حلول اقتصادية جذرية لحل المشاكل الاجتماعية الناجمة عن إغلاق معبر الفنيدق الذي يربط المغرب بإسبانيا عبر مدينة سبتة المحتلة.
وما يُحسب للعرائض المقدمة تمثلها إلى حد ما المقومات الفكرية للمواطنة، باستحضار مقاربة النوع، ومراعاة حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، من خلال عدة عرائض محلية نادت بتوفير مدن ولوجة تحول معظمها إلى قرارات بوضع ولوجيات في المجال العام، والدعوة لمراعاة البعد الإيكولوجي فيما يخص تثمين المآثر التاريخية والمواقع الطبيعية، وفق مقاربة حقوقية تربطها بتجسيد الحق في بيئة سليمة، مثل العريضة التي تقدم بها منتدى المبادرات الشبابية بأكادير في كانون الأول/ديسمبر 2020، من أجل إحداث حاويات أزبال تحت أرضية، وعريضة مرصد حماية البيئة والمآثر التاريخية بطنجة حول المعالجة الثلاثية للمياه العادمة في أيار/مايو 2019.
لقد أسهمت عدة ديناميات في الرفع من إيقاع تقديم العرائض في بعض المناطق، حيث شكل مسار إعداد وتتبع العرائض مجسا أساسيا للوقوف على أهمية التعاون بين منظمات المجتمع المدني، فالجمعيات التي تمكنت من بلورة عرائض نوعية هي التي تنتظم ضمن شبكات محلية ووطنية. وفي ضوء تحدي التشارك في الخبرات والموارد أصبح النسيج الجمعوي يتجه أكثر نحو التشبيك لإسناد أدوار الترافع.
كما ساهمت دينامية التسييس في تكثيف العمل بآلية العرائض، عبر الدور القيادي لمنتخبين سابقين يملكون المعطيات وموارد التأثير، أو منتخبين محتملين امتطوا صهوة العرائض لتوسيع شبكات النفوذ وتقوية علاقاتهم بدوائر القرار. ارتباطا بذلك، نشير إلى دور دينامية التوافق بين المجالس المنتخبة والفعاليات الجمعوية في تحويل بعض العرائض إلى قرارات مؤثرة في محيط عيش المواطنين، مثل اتخاذ جماعة طنجة في أيار/مايو 2019 لتدابير حول إقرار الميزانية التشاركية في بنية القرار المحلي، وإحداث جماعة مراكش في تشرين الأول/أكتوبر 2019 لوكالة تنمية المدينة وحماية تراثها الحضاري والبيئي.
حدود وآفاق إسهام العرائض في تطوير المشاركة المواطنة بالمغرب
أفرزت تجربة العرائض بالمغرب أوجه قصور لا حصر لها بسبب إشكالات قانونية وعملية، مما يستوجب مراجعة مساطرها واتخاذ خطوات حاسمة نحو الديمقراطية التشاركية. فالإفراط في وضع الشروط الشكلية والتعسف في تأويل الشروط الموضوعية يكاد يفرغ المشاركة المواطنة من مضمونها، بدل تدعيمها وتحويلها إلى ثقافة موجهة للفعل العمومي في اتجاه تحسينه وزيادة منسوب الثقة في المؤسسات الرسمية.
من بين التعديلات ذات الطابع المستعجل التي يتعين إدماجها في الإصلاحات المرتقبة لمنظومة العرائض، نذكر توسيع السلطات العمومية لتشمل كل شخص معنوي عام يمارس صلاحيات إدارية، وتجاوز شرط المصلحة المشتركة لأن مختلف المشاكل العمومية تشتمل على مصلحة مشتركة للمواطنين بغض النظر عن تواجدهم الجغرافي ومستوى تأثرهم بالمشكلة موضوع العريضة، ونفس الأمر فيما يخص تجاوز الشرط الخاص بمجال تخصص الجمعية لقطع الطريق على كل نزعة تأويلية قد تستغله كذريعة قانونية لرفض العرائض، أو على الأقل الحكم على ارتباط موضوع العريضة بتخصص الجمعية انطلاقا من القانون الأساسي وليس من اسم الجمعية، على اعتبار أن معظم الجمعيات المحلية تغطي مجالات متعددة يتداخل فيها الاجتماعي بالاقتصادي بالثقافي.
موازاة مع توسيع أفق تقديم العريضة الوطنية، يتعين تقليص العدد ليستقر في حدود دنيا أو التخلي عنه، دون أن ننسى "الشرط التعجيزي" المرتبط بالتسجيل في اللوائح الانتخابية لتقديم العرائض والتوقيع عليها سواء على المستوى الوطني أو المحلي. الأمر الذي يطرح تساؤلا مؤرقا حول القيمة المضافة لهذه الآلية إذا كانت لا تستطيع التعامل إلا مع المواطن الناخب بدل المواطن الفاعل والمشارك. فهذا الشرط يتناقض مع فلسفة الديموقراطية التشاركية التي تبلورت في الأصل لاستيعاب المواطنين غير المشاركين بشكل مباشر بالعملية السياسية وغير المقتنعين بدور المؤسسات التمثيلية، في أفق تغذية ثقتها في المؤسسات الرسمية، ومن ثم إدماجها في تدبير الشؤون العامة والمحلية.
يرتبط جزء من ضعف دينامية العرائض بالتوقيع الورقي، وهنا يُطرح بإلحاح مطلب دمقرطة البنية الرقمية للتوقيع الإلكتروني بتخصيص منصات لتلقي وتتبع العرائض المحلية مع تطوير البوابة الوطنية للمشاركة المواطنة، التي على الرغم كونها تتيح إمكانية إيداع العرائض بشكل إلكتروني فإن الحصيلة شبه منعدمة ، إذا ما استثنينا العريضة المودعة لدى رئيس مجلس النواب بتاريخ 3 شباط/فبرير 2021 والتي بلغت توقيعاتها 13816 توقيعا من ضمنها فقط 125 توقيعا الكترونيا عبر البوابة الوطنية .فإرساء هذه الأخيرة لم يواكب بحملة تواصلية كافية للتعريف بها، ناهيك عن صعوبات تقنية تتمثل في اشتراط المسح الضوئي لمختلف الوثائق، وعدم تحيين خدمات البوابة أو تطوير الحلول الرقمية التي تتيحها لتعزيز مشاركة المواطنين.
وبدل الاستغراق في وضع الشكليات التي تعقد من مسطرة تقديم وإيداع العرائض يتوجب تبسيطها، من خلال التخفيف من الشروط الشكلية المطلوبة، مع وضع آليات لتجاوز الصعوبات المتعلقة بصياغة وتتبع العرائض، عبر مكاتب استشارية متخصصة في مصاحبة المبادرات والتحاور مع أصحابها حول سبل تجويدها وتفعيلها.
إذا كان مطلوبا من أصحاب العرائض أن يتعاملوا معها كآلية للتعاون، فإن الفاعلين السياسيين مطالبين بالتعامل معها بموضوعية بعيدا عن كل توظيف حزبي قد يهدد بنزع المحتوى الديموقراطي للمشاركة المواطنة، ويحولها من مشاركة مستقلة إلى مشاركة "مفبركة" يمكن التلاعب بها بتوظيف قيم الزبونية كأدوات لعرقلة مجتمع مدني مستقل، بحيث قد تتحول العرائض إلى أداة لإعطاء شرعية اجتماعية لسياسات عامة تم رسمها ووضعها بشكل فوقي خارج متطلبات الديموقراطية التشاركية.
ونفس الهاجس يحضر على الصعيد المحلي، من خلال الوعي بمخاطر تحويل مشاركة المواطنين والجمعيات إلى أداة لتحقيق رغبات المنتخبين المحليين ولخدمة الأغراض الانتخابوية. ولتجنب هذا المآل، يجب الحرص على استثمارها كسلطة للتأثير في السلطات العمومية قصد دفعها لمراعاة الأولويات الفعلية للمواطنين، وهو ما يفرض بناء جسور الثقة بين الفاعلين المدنيين والسياسيين قد تسمح بتفكيك الثقافة الإدارية القائمة على الصراع وفتح مسالك جديدة لتبليغ مطالب المواطنين ومعالجتها بشكل تشاركي.
إن إسهام العرائض في تحقيق الديموقراطية لا يتوقف فقط على الإصلاحات التشريعية، بل كذلك على مواقف الفاعلين السياسيين، من خلال تأطير دور المنتخبين وتعزيز تواصلهم مع محيطهم، وجعلهم يقتنعون بالعائد الديموقراطي والتنموي لآلية العرائض، ويثقون في قدرات وخبرات المواطنين دون التوجس من تبلور سلطة مضادة أو موازية للتدبير الرسمي.
في المقابل، تظل مسؤولية الفاعل المدني حاضرة بقوة، من خلال الالتزام بالمقتضيات التشريعية والتنظيمية، والوعي بحدود الدور الترافعي للمجتمع المدني، كإطار للدفاع عن حقوق المواطنين وليس لخدمة مصالح خاصة، دون إغفال متطلبات الحكامة، وضرورة تعزيز شفافية عمل الجمعيات بنشر الوثائق الإدارية والمالية وتعميق أخلاقيات التواصل والتطوع والمبادرة، مع حسن توظيف السياق وتوخي التكامل مع باقي أدوات الديموقراطية التشاركية، كالملتمسات التشريعية والآراء الاستشارية ومنتديات التشاور العمومي، والتي يُلاحظ تسجيل تأخر كبير في تفعيلها بشكل يتناقض مع رهانات دسترتها. إلى حدود اللحظة لم يتم التقدم بأي ملتمس تشريعي بسبب صعوبة الشروط الموضوعية والمسطرية، كما لم يتم إحداث هيئات للتشاور -التي نص عليها الفصل الثالث عشر من الدستور- قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها.
خاتمة
إجمالا، يمكن القول أن آلية العرائض اندرجت ضمن مساعي تنويع مسالك إدماج المواطنين في دائرة القرار، وتدعيم مرتكزات الديموقراطية المواطنة التي شكلت المدخل الموجه للإصلاحات الدستورية والسياسية التي دشنها المغرب إبان الموجة الأولى للربيع العربي، بحيث تم إقرار الإطار القانوني لمسطرة تقديم العرائض لدى السلطات العمومية والجماعات الترابية، كما تم إصدار معظم النصوص التنظيمية المؤطرة لعميات إيداع ومعالجة العرائض، ليتم الشروع في تجريب هذه الآلية التي كشفت عن فرص واعدة في نقل المطالب الاجتماعية إلى دوائر القرار بكيفية مؤسساتية، بحيث تحولت العديد من العرائض إلى مشاريع لإشباع حاجيات المواطنين ولتجويد التدبير العمومي.
لكن في المقابل، أفرزت الممارسة عدة صعوبات تحد من دينامية وفعالية هذه الآلية ومن مستوى مساهمتها في تجسيد المشاركة المواطنة، حيث لم تتم مواكبة الإصلاحات التشريعية بتدابير إدارية وبيداغوجية لدفع السلطات العمومية والجماعات الترابية إلى التعاطي الإيجابي مع العرائض المقدمة، كما نسجل مفارقة صارخة بين التوجه نحو تعزيز الطابع الاقتراحي والتشاركي وبين تزايد مساحات التوتر بين الدولة والمجتمع، حيث تصاعدت بشكل لافت الاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي بشكل قد يؤشر على ضعف إسهام قنوات الوساطة والمشاركة في الاستجابة للمطالب الاجتماعية الملحة.
ويمكن القول أن تعقد الشروط القانونية والتنظيمية، بجانب ضعف تمثل ثقافة المشاركة، قد يهدد بتحول العرائض من فرصة لتجسيد المشاركة المواطنة إلى أداة للتسويق السياسي ومطية لشرعنة السياسات العمومية ومنحها مصادقة شعبية، دون أن تعكس بشكل فعلي مطالب المواطنين، لتظل أداة بيد النخب توظفها في إطار حرب المواقع، الأمر الذي يستوجب تعميق المحتوى الديموقراطي لآلية العرائض.
إن ضعف الديموقراطية التمثيلية وتراجع أدوار الترافع والوساطة التي يقوم بها المجتمع المدني قد يهدد بتعميق الفجوة بين المجتمع والدولة. ومن شأن تبسيط مساطر تقديم العرائض أن يسهم في توسيع مجالات مشاركة المواطنات والمواطنين في وضع وتتبع السياسات العمومية بشكل مباشر أو عبر وساطة المجتمع المدني، لكن هذا الرهان يتوقف على إصلاحات قانونية وتنظيمية تندرج ضمن تصور متكامل لتجذير بينات الديموقراطية التمثيلية وتجديد أدوات الديموقراطية التشاركية.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.