خيارات السياسات الصحية المستقبلية في سوريا

مقدمة

تحولت الأزمة السورية بعد اكثر من سنتين ونصف من بدء الثورة قي آذار/مارس 2011، إلى صراع مفتوح بالكامل على احتمالات كثيرة وتجاوز الصراع حدوده الداخلية ليصبح إقليمياً بامتياز، بل ودولياً في الكثير من عناصره.

وطالت الأزمة الانسانية الناجمة عن الحرب والاقتتال والتشريد والتهجير والافقار اكثر من 13 مليون سورياً يعانون، بحسب تقارير الأمم المتحدة، من نقص شديد في الغذاء والمياه الصالحة للشرب والمأوى والتعليم. كما أدى تصاعد الصراع المسلح والاستخدام الكثيف للأسلحة الثقيلة من قبل القوات النظامية السورية ضد مواقع مدنية إلى ارتفاع في أعداد اللاجئين إلى الدول المجاورة ليصل إلى أرقام غير مسبوقة في تاريخ المنطقة. ويشكل هذا التدفق الكبير على بلدان تعاني بالأساس من ضائقة اقتصادية وتوتر اجتماعي كلبنان والأردن مشكلة حقيقة وخطيرة، قد تؤدي إلى تغيير ديمغرافي في تلك البلدان مما ينذر بتحولات عميقة على الصعيد السياسي والاجتماعي، وبالضرورة، الصحي.

إن التراجع الحاد في الحصول على الرعاية الصحية والأدوية للسوريين أمر بالغ الأهمية سواء داخل سوريا أو في البلدان المضيفة وهو ما سيكون له آثار عميقة وبالغة الخطورة على مستقبل السوريين. كما أن غياب الاستراتيجيات الصحية والخطط الضرورية لمواجهة الأزمة الناجمة عن استطالة الصراع سواء على الصعيد الإغاثي الآني أو على المديين المتوسط والبعيد الأمد سيفاقم في المستقبل تردي الوضع الصحي و يزيد من عبء المشكلات التي ستواجه الدولة القادمة.

ويعود سبب النقاش العام حول الشأن الصحي إلى تكريس مفهوم يرى في الصحة مجرد خدمات صحية وادوية وتجهيزات، وليست شأناً عاماً يتداخل فيه الاجتماعي بالاقتصادي بالسياسي بالثقافي ، وأنه يؤثر ويتأثر بمجمل الديناميكيات التي تطال المجتمعات في لحظات حراكها وتغييراتها الكبرى.

لقد أظهرت الأزمة الحالية أن الصحة كمفهوم والجسم الصحي كأفراد ومؤسسات كانت طرفاً وهدفاً في الصراع. فمنذ البداية اعتبر أن تقديم الخدمات الصحية والاسعافية للمحتجين المصابين أثناء التظاهرات أمراً يعادل بخطورته التظاهر ذاته، وقد عوقب الأطباء والمؤسسات التي كانت تقوم بهذا العمل بقسوة. وبهذا، تم الاقرار منذ البداية أن الصحة ليست حقاً للجميع وأنها، شأنها شأن اي حق عام يستحقه الانسان بالمواطنة، هي للبعض فقط على حساب البعض الآخر. وهي معرضة للتقييد والمنع والسلب بما يصل لدرجة الإلغاء. وأنها تمنح كأعطية وتفضّل وتكرّم وليست حقاً أساسياً، كما جاء في الدستور، ترعاه الدولة ويحميه القانون.

إن طرح قضية الصحة العامة والسياسات الصحية وخياراتها في المرحلة الانتقالية وما بعد الأزمة للنقاش العام واعتبارها جزءاً أساسياً من الحوارات التي يجب أن تدور حول سوريا المستقبل هو في حد ذاته تبنٍ لهذا المفهوم الشامل  للصحة وربطها بمحدداتها المتعددة والمتشابكة. كما أن حوارات الصحة بهذا المعنى قد تكون مدخلاً آمناً وتوافقياً يمكن ان يتجاوز فيه وعبره السوريون حدة الخلافات التي لطالما وسمت المناحي الأخرى في نظرتهم إلى مستقبلهم.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.