ثلاثة عوامل تحكم استجابة مصر للحرب في غزة

معبر رفح بين مصر وغزة - آب/أغسطس 2020. © علي جاد الله - وكالة الأناضول

منذ اندلاع الحرب بين حماس وإسرائيل في فلسطين في 7 تشرين الأول/أكتوبر، تصدرت مصر عناوين الأخبار العالمية بوصفها واحدة من الجهات الفاعلة الرئيسية تاريخياً في غزة والدولة العربية الوحيدة المتاخمة للقطاع. وبينما يتطور الوضع سريعاً، فإن الهدف هنا ليس تقديم تقرير إخباري عن الأحداث بقدر ما هو دراسة ثلاثة عوامل أساسية تشكل استجابة النظام المصري للأزمة: دور القاهرة كوسيط في حل الأزمة، والمزايا التي تحصل عليها من هذا الدور، والمخاوف الأمنية الإقليمية المصرية المتعلقة بسيناء، والصحوة المفاجئة للاحتجاجات الشعبية في وقت تمر فيه البلاد بأزمة اقتصادية طاحنة.

1. القاهرة كوسيط في حل الأزمة: دور متنامي يحدده الموقع الجغرافي والمصالح والتحالفات

في أعقاب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، أصبحت مصر ثاني أكبر دولة تتلقى مساعدات خارجية أميركية بعد إسرائيل. ولا تهدف هذه الأموال والشراكة الوثيقة إلى إبقاء القاهرة بعيدة عن أي صراع عسكري محتمل مع تل أبيب فحسب، بل أيضاً دعم نظام قادر على فرض الاستقرار الإقليمي يتماشى مع مصالح الولايات المتحدة، وحماية أمن دولة إسرائيل، وتأمين قناة السويس، وضمان عدم حدوث أي اضطرابات في تدفق النفط، وأخيراً وليس آخراً القيام بدور الوسيط للمساعدة من أجل التوصل إلى تسوية سلمية يمكن أن تنهي الصراع العربي الإسرائيلي.

وقد تعاملت مصر مع دورها كوسيط من خلال منظور متغير. فبعد سيطرة حماس على قطاع غزة عام 2007، اتخذت "وساطة" القاهرة شكل الضغط على فصائل المقاومة الفلسطينية لوقف التصعيد أو قبول التسويات السياسية. وقد ارتكز نفوذها مع هذه الجماعات على التعاون الأمني مع حركة فتح والسلطة الفلسطينية ضد خصومها الإسلاميين، والأهم من ذلك، على إدارة معبر رفح، وهو المنفذ الحدودي الوحيد لغزة الذي لا يخضع لسيطرة إسرائيل.

وبهذه الصفة، لم تكن القاهرة وسيطاً محايداً. فقد أعلنت رئيسة الوزراء الإسرائيلية آنذاك تسيبي ليفني الحرب على غزة عام 2008 أثناء زيارتها لمصر بعد لقائها مع حسني مبارك. وقد شارك مبارك في فرض حصار كارثي على القطاع، مما تسبب في أزمة إنسانية خطيرة. فقد دأب المسؤولون ووسائل الإعلام المصرية على مهاجمة حماس، في حين دعوا قادتها إلى القاهرة أحياناً للتفاوض أو تقديم مقترحات (من إسرائيل والولايات المتحدة، فضلاً عن تلك التي أعدتها مصر) للحد من التصعيد ووقف إطلاق النار.

وبعد انقلاب 2013 مباشرةً، فرضت مصر حصاراً أشد على غزة، وأغلقت معبر رفح لفترات طويلة. وسلطت وسائل الإعلام المصرية الضوء على الأصل المشترك لحركة حماس وجماعة الإخوان المسلمين المصرية، وأثارت حالة من الهلع الأمني وروجت لمجموعة واسعة من نظريات المؤامرة حول حماس. وقد تنوعت هذه النظريات ما بين مشاركتها في تنظيم عمليات اقتحام السجون المصرية، وإطلاق النار على المتظاهرين في ميدان التحرير، والتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين لإنشاء ميليشيات مسلحة، وتدبير عمليات إرهابية، وقتل الجنود المصريين في سيناء.

كانت القاهرة متواطئة تماماً مع إسرائيل في حربها عام 2014، وحرضت وسائل الإعلام المصرية - التي دعمت الانقلاب، حتى قبل أن تصبح رسمياً تحت سيطرة جهاز المخابرات العامة - بشكل فاضح على العنف ضد الفلسطينيين، ودعت إلى تدمير حماس.

يمكن أن يُعزى مثل هذا العداء إلى عاملين رئيسيين. أولهما، التحالف الوثيق الذي نشأ بين مصر وإسرائيل بعد الانقلاب، والذي انطوى على سماح مصر لإسرائيل بشن ضربات جوية سرية في سيناء ضد أهداف إرهابية مزعومة، وتدخل إسرائيل نيابةً عن مصر لدى الولايات المتحدة لإلغاء حظر المساعدات العسكرية. وثانيهما، هو هجوم السيسي على أي قضية تبناها ثوار 2011 الذين كانوا داعمين بشدة للفلسطينيين.

ابتداءً من عام 2017، بدأ عداء السيسي تجاه حكام غزة يتغير تدريجياً إلى تقارب نسبي. فمن ناحية، أثبتت حماس قدرتها على الصمود. ومن ناحية أخرى، عانى الجيش المصري من خسائر فادحة أثناء محاربته لحركات التمرد في سيناء، وكان بحاجة إلى مساعدة حماس للسيطرة على تدفق الجهاديين السلفيين (الذين يكرهون حماس) والأسلحة من غزة، فضلاً عن قطع طرق الهروب التي سلكها المقاتلون المحليون في سيناء للجوء إلى جنوب رفح.

شمل التقارب التخفيف نسبياً من الحصار، وفتح معبر رفح، وزيارات مكوكية واجتماعات مع قادة حماس للتوسط في هدنة طويلة الأجل مع إسرائيل. بيد أن الوضع الإنساني لم يتحسن كثيراً في القطاع. وفي نهاية المطاف، ظلت السياسة الخارجية المصرية تعتمد على إرشادات الولايات المتحدة، والتي وصلت إلى مستويات جديدة لم يسبق لها مثيل مع وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض. وقد عكست اتفاقيات إبراهيم، التي فتحت الباب أمام إسرائيل لتحقيق "سلام دافئ" مع جهات فاعلة عربية مؤثرة في غياب الدور المصري، مزيداً من التراجع في نفوذ القاهرة الإقليمي.

قبل تولي جو بايدن منصبه عام 2020، وعد بمحاسبة  "دكتاتور ترامب المفضل" (في إشارة إلى السيسي). بيد أن اندلاع حرب غزة عام 2021، قدمت فرصة للسيسي لتقديم نفسه على أنه "وسيط" يمكن أن يؤثر على حماس مع ضمان أمن إسرائيل. ومن خلال جهاز المخابرات العامة المصري، نجحت القاهرة في التوسط لوقف إطلاق النار، وحظيت بالثناء من إدارة بايدن.

بدأت القاهرة منذ عام 2021 في العودة إلى الدور المعتاد الذي كانت تضطلع به منذ عهد مبارك. إذ يعمل جهاز المخابرات العامة على ضمان الحد من التصعيد ووقف إطلاق النار كلما اندلعت التوترات بين إسرائيل وجماعات المقاومة الفلسطينية. وفي المقابل، تحصل على بعض النفوذ السياسي مع واشنطن والعواصم الغربية.

علاوة على ذلك، أدى ضمان التهدئة إلى استخدام معبر رفح كورقة مساومة مع حماس ونقل المعلومات الاستخباراتية إلى الإسرائيليين فيما يتعلق بالمخاطر الوشيكة. فقد ذكرت تقارير إعلامية إسرائيلية أن المخابرات العامة المصرية حذرت بنيامين نتنياهو من هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر قبل أيام من وقوعه. وفي حين نفت القاهرة ومكتب نتنياهو على حد سواء هذه التقارير، فقد أكدها الجمهوري مايكل ماكول، رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي.

مع احتدام الحرب الحالية، يحاول السيسي تقديم نفسه لقادة العالم - الذين انتقد بعضهم سجله في حقوق الإنسان مؤخراً - كوسيط يحاول تهدئة التوترات. بيد أن استمرار الحرب يكشف كيف فقدت القاهرة الكثير من نفوذها الإقليمي وقدرتها على التأثير في محيطها. إذ لم تسفر جهود الوساطة من أجل وقف التصعيد عن أي نتائج حتى الآن. بل على العكس، تصاعد العدوان الإسرائيلي، مما أسفر عن مقتل أكثر من 6,000 فلسطينياً  حتى 25 تشرين الأول/أكتوبر.

عُقدت قمة دولية لبحث الأزمة في غزة في 21 تشرين الأول/أكتوبر في القاهرة، غير أن معظم قادة العالم الغربي المؤثرين تجاهلوها تماماً، وأرسلوا مبعوثين لكنهم رفضوا الحضور شخصياً. وبخلاف التصريحات الغاضبة، فإن القمة لم تخرج بأي شيء من شأنه أن يغير الوضع بشكل ملموس.

كل ما كانت القاهرة "تكافح" من أجله (ولم تحقق نجاحاً يذكر حتى الآن) هو مجرد السماح بإدخال بعض قوافل المساعدات الطبية والغذائية إلى غزة. وقد تعمدت إسرائيل تجاهل القاهرة مراراً وتكراراً، وقصفت معبر رفح أربع مرات، مما أسفر عن إصابة أربعة مصريين.

لن يتخلى السيسي عن دوره "كوسيط" في المستقبل القريب، وسيبقى طرفاً في أي تسوية للأزمة، لأسباب ليس أقلها قرب مصر الجغرافي من منطقة النزاع. غير أن نفوذ القاهرة بدأ يتضاءل على نحو متزايد أمام جهات فاعلة إقليمية أخرى مثل قطر، التي يمكن القول إنها أقرب إلى قيادة حماس من مصر. وفي نهاية المطاف، فإن "الوساطة" الوحيدة التي أسفرت عن نتائج حتى الآن هي النجاح القطري في تأمين إطلاق سراح رهينتين أميركيتين.

2. مخاوف أمنية إقليمية

العامل الآخر المؤثر في استجابة مصر للحرب في غزة هو أمنها الإقليمي. في اليوم الثاني من الحرب، دعا المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي سكان قطاع غزة إلى مغادرته واللجوء إلى مصر من أجل سلامتهم. وقد أثار ذلك موجة استنكار واسعة في وسائل الإعلام الرئيسية المصرية ووسائل التواصل الاجتماعي. وفي اليوم التالي، تراجع الجيش الإسرائيلي عن دعوته، في حين سارعت السفيرة الإسرائيلية لدى القاهرة إلى نفي أن تكون لدى دولتها أي نوايا لإعادة توطين الفلسطينيين في شبه جزيرة سيناء.

لا يبدو أن مثل هذه التأكيدات قد نجحت في تهدئة مخاوف القاهرة. واستمرت وسائل الإعلام الرئيسية، التي يديرها في الغالب جهاز المخابرات العامة، في إثارة الموضوع، وبدأت اللجان الإلكترونية على موقع X - تويتر سابقاً - في نشر هاشتاغات تندد بـ "مؤامرة سيناء". ونشر موقع مدى مصر، وهو موقع إعلامي مستقل، تقريراً استقصائياً مطولاً زعم فيه - بناءً على مقابلات مكثفة مع مسؤولين محليين ودبلوماسيين أجانب - أن مصر كانت على وشك قبول اتفاق يتم بموجبه تقديم حوافز مالية ضخمة مقابل استقبال لاجئين فلسطينيين من غزة. وقد قامت إدارة الموقع لاحقاً بحذف التقرير مستشهدة بمخاوف تتعلق "بالأمن القومي".

وفي مؤتمر صحفي مشترك مع المستشار الألماني أولاف شولتس، في 18 تشرين الأول/أكتوبر، أكد السيسي مجدداً رفضه لنقل الفلسطينيين إلى سيناء، قائلاً إن هذا من شأنه أن يخلق مشكلة أمنية في شبه جزيرة سيناء، مما سيحولها إلى موقع لإطلاق "الهجمات الإرهابية" ضد إسرائيل. وأضاف، مما أثار صدمة للكثيرين في مصر، أن:

إذا كان هناك فكرة للتهجير القسري، توجد صحراء النقب في إسرائيل، ممكن قوي يتم نقل الفلسطينيين حتى تنتهي إسرائيل من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة، أو الجماعات المسلحة في حماس والجهاد الإسلامي وغيرها في قطاع غزة، ثم بعد كدا تبقى ترجعهم إذا شاءت.

يبدو أن مخاوف السيسي بشأن إعادة توطين الفلسطينيين من غزة إلى مصر حقيقية، حتى عندما يستخدم النظام هذا الموضوع لأغراض دعائية، وستكون عاملاً أساسياً في التأثير على قراراته بشأن معبر رفح والوضع الإنساني في القطاع.

3. تأثير الدومينو المخيف

لعقود من الزمن، كانت القضية الفلسطينية عاملاً رئيسياً للتطرف والتسييس لأجيال من الشباب المصري، وسرعان ما تطورت أعمال التضامن مع الفلسطينيين إلى معارضة مناهضة للنظام. فبعد كل شيء، لم تكن ثورة 2011 إلا تتويجاً لعملية طويلة من تراكم المعارضة التي بدأت قبل عقد من الزمن بفضل الانتفاضة الفلسطينية الثانية. ولذا، كانت الأنظمة المتعاقبة التي حكمت البلاد تنظر دائماً إلى الفلسطينيين بعين الريبة، حتى عندما أظهرت علناً دعمها للنضال الفلسطيني.

وعلى مدى العقد الماضي تعرّضت المعارضة في مصر للقمع والإسكات، لكنها اليوم تنتعش، ولو ببطء. وهنا مرة أخرى، تكون القضية الفلسطينية هي السبب وراء تحرك المياه الراكدة.

خلال الأسبوع الأول من الحرب؛ اندلعت الاحتجاجات بصورة عفوية، وفي 8 أكتوبر/تشرين الأول، هز الآلاف من مشجعي كرة القدم للنادي الأهلي ملعباً في الإسكندرية بهتافات مؤيدة لفلسطين؛ وتلك إشارة مهمة، لأن هذه المجموعة الشبابية بالذات تعرضت لحملات أمنية شديدة الوطأة، والمحاولات السابقة لرفع علم فلسطين في مدرجات كرة القدم قوبلت بالقمع.

كما اندلعت احتجاجات في الشوارع في عدة بلدات، مثل مدينة السادس من أكتوبر، وقد هاجمتها الشرطة واعتقلت عدداً من المتظاهرين. وتجمهر الصحفيون أمام نقابة الصحفيين وسط القاهرة لحرق الأعلام الإسرائيلية، ونُظّمت احتجاجات أمام نقابة المحامين ونقابة الممثلين.

وكانت أكبر تعبئة، خلال الأسبوع نفسه، تظاهر المئات أمام الجامع الأزهر بعد صلاة الجمعة، قبل أن تفرقهم الشرطة.

تصاعدت الاحتجاجات التضامنية مع دخول الحرب أسبوعها الثاني، ودعت نقابة الصحفيين إلى وقفة احتجاجية ثانية انضمت إليها نقابة المحامين وأطراف أخرى. وأُعلن عن تحالف النقابات المهنية لتنسيق الأعمال التضامنية.

كما اندلعت احتجاجات طلابية في القاهرة والقاهرة الجديدة والإسكندرية ومدينة السادس من أكتوبر والفيوم والمنيا والمنصورة وكفر الشيخ والمنوفية وأماكن أخرى. وفي عدة حالات، خرج المتظاهرون إلى الشوارع في جميع المحافظات تقريباً.

إن الاحتجاجات في الحرم الجامعي لها أهمية كبيرة في مصر؛ فقد كانت الجامعات هدفاً رئيسياً لحملات القمع الأمني التي أعقبت انقلاب عام 2013، عندما داهمت قوات الأمن والجيش الجامعات، وأطلقت النار وقتلت الطلاب في وضح النهار، وأجرت اعتقالات جماعية، وحاكمت الطلاب في محاكم عسكرية، وأمرت بإعدام بعضهم دون محاكمة.

وفي ظل هذا القمع الشديد، بدأت التعبئة الطلابية تفقد قوتها بحلول منتصف عام 2015، وأفل نجمها بالكامل بحلول بداية عام 2018. وطوال تاريخ مصر، كانت الجامعات دائماً نقطة انطلاق حيث تلقى القادة والمنظّمون المعارضون المستقبليون تعليمهم السياسي وصقلوا قدراتهم ومهاراتهم التنظيمية. وبالطبع كان لنهاية النشاط الطلابي آثار عميقة على المشهد السياسي العام؛ فقد تخرجت أجيال من الطلاب دون أن يشاركوا قط في احتجاج أو مسيرة أو حملة انتخابية. بل لم يشاركوا حتى في مناظرات، ولم يكتبوا بياناً، ولم يوزعوا منشوراً؛ وهو ما حرم المعارضة من كوادرها ذات الخبرة، وضَمن اكتمال عملية "تجريف" المشهد السياسي. بيد أن الاحتجاجات الحالية تمثل نقطة تحول ستخرج جيلاً جديداً من الناشطين، وستكون بمثابة دفعة قوية لحركات المعارضة.

كان الرد الأمني على الاحتجاجات خلال الأسبوع الأول "معتدلاً" بمعايير النظام، ووقعت بعض الاعتقالات في بعض المظاهرات في الشوارع، وليس واضحًا إذا كان المتظاهرون قد أطلق سراحهم في وقت لاحق أم أنهم ما زالوا رهن الاحتجاز. وفي حالات أخرى، قامت قوات الأمن المركزي بتطويق المتظاهرين لمنعهم من السير، لكنها لم تهاجمهم.

تكمن وراء هذا "القمع الناعم" حتى الآن - والذي قد يتغير في أي وقت في المستقبل - عدة أسباب.

أولاً: لم تعد القبضة الحديدية القاهرة للنظام قوية كما كانت قبل الأزمة الاقتصادية التي بدأت قبل عامين تقريباً، وتتجه الآن نحو تدمير البلاد. ولم يعد السيسي واثقاً من قاعدة دعمه كما كان في السابق، وحتى رعاته الإقليميين توقفوا عن تقديم الدعم غير المشروط له. وفي الوقت نفسه، لا يلوح له في الأفق أي مخرج واضح من هذه الأزمة. ولذا فإن عدم اليقين الاقتصادي والخوف من انفجار العامة العارم يجعلانه أكثر حذراً نسبياً فيما يتعلق بمدى ونطاق حملات القمع.

ثانياً: يعرف السيسي أنه ليس في وضع يسمح له باعتقال كل المتظاهرين من أجل فلسطين، كما أنه لا يتطلع إلى استنفاد رأس ماله السياسي للقيام بذلك. وقد يجد أيضاً أنه من المفيد أن يُظهر للقادة الغربيين أن هناك ضغوطاً شعبية ضد خطة إعادة التوطين في سيناء، ومن الممكن أن تساعده تلك الاحتجاجات في إلغاء مخطط النقل، أو رفع تكلفة المساومة في حالة القبول.

وضمن هذا السياق ينبغي أن تُفهَم الدعوة للاحتجاجات التي تسوقها الدولة منذ اجتماع السيسي مع شولتس في 18 تشرين الأول/أكتوبر، حيث طُلب من الشعب منح السيسي "تفويضاً لحماية الأمن القومي المصري"، وهو تفويض له سابقة في عام 2013، عندما طلب السيسي من الشعب "تفويضاً لمحاربة التهديد الإرهابي المحتمل".

بيد أن الفارق أنه في عام 2013 كانت شعبية السيسي في أوجها، وسط ذُهان الخوف الجماعي في المجتمع المصري، مما جعله واثقًا من قدرته على حشد الملايين لدعم حملاته القمعية المخطط لها ضد الإخوان المسلمين.

ولكن بعد عشر سنوات، أصبحت الأمور مختلفة؛ فقد وصلت شعبية السيسي إلى الحضيض لعدة أسباب، أهمها الأزمة الاقتصادية وتدهور الأوضاع المعيشية للمصريين.

علاوة على ذلك، فهناك مشاكل هيكلية تنخر في أسس نظامه، الأمر الذي من شأنه أن يجعل مثل هذه التعبئة التي ترعاها الدولة مخاطرة كبيرة. إن نظام السيسي يعاني من رهاب الجماهير، وقد انبثق هذا النظام عن ثورة مضادة كان هدفها الأساسي القضاء على جميع أشكال العمل الجماعي، ويرتكز جوهرها على المراقبة والسيطرة الاجتماعية والقضاء على المعارضة (وليس إدارتها). وهذا جزء من سياساتها اليومية، وهو ما سمح لجهاز النظام القمعي بإدارة كافة مفاصل المجتمع. ومن ثم فإن هذا النظام يفتقر إلى الأدوات الأساسية لإدارة الحشود الكبيرة، وهي الأدوات التي كانت تمتلكها حكومة حسني مبارك.

أولاً: كان لدى مبارك الحزب الوطني الديمقراطي الذي كانت له جذور في كل حي في مصر، وشبكات محسوبية قوية. وكان بوسع الحزب الوطني الديمقراطي أن يحشد قواه على المستوى الوطني ويُحكِم سيطرته على الحشود التي أخرجها إلى الشوارع، بيد أن هذا الحزب حُلّ في عام 2011. أما حزب مستقبل وطن - الذي تديره الأجهزة الأمنية الحالية، والذي ورث بعض شبكات الحزب الوطني الديمقراطي - فهو يكافح فقط ليبقى على حالته من مستوى التنظيم أو التأثير، ويتجلى ذلك في سوء إدارة هجوم البلطجية على نقابة المهندسين، أو فشل إدارة احتجاجات مطروح، عندما جمعوا الحشود لإعلان دعمهم لترشيح السيسي للرئاسة، ليشاهدوا الجمع نفسه يتحول إلى احتجاج مناهضٍ للنظام.

ثانياً: كان مبارك يضم جماعة الإخوان المسلمين تحت جناحيه؛ فهي جماعة معارضة كان لها حضور في كل حرم جامعي، وفي كل نقابة، فضلاً عن فروع لها في كل المحافظات تقريباً. وفي الأوقات العصيبة، عندما وقعت فظائع في فلسطين كان من شأنها أن تؤدي إلى احتجاجات في مصر، كان بإمكان النظام الاعتماد على جماعة الإخوان المسلمين لنزع فتيل الغضب من خلال تعبئة محدودة لا تغادر المساجد أو الجامعات أو مداخل النقابات أبداً. والأهم من ذلك، أنهم لن يهتفوا أبداً ضد مبارك. أما اليوم فلا توجد جماعة إخوانية ولا جماعة معارضة أخرى قادرة على القيام بهذا الدور؛ لقد قطع السيسي دابرهم أجمعين.

وبالفعل، جاءت مغامرة السيسي المحفوفة بالمخاطر بنتائج عكسية يوم الجمعة الماضي؛ ففي الوقت الذي شرعت فيه الدولة وحزب مستقبل وطن في التعبئة الوطنية، أعلن المنشقون عن نقاط تجمع احتجاجية بديلة، وانضم الآلاف في القاهرة والإسكندرية إلى احتجاجات المعارضة. وسار المتظاهرون في القاهرة إلى ميدان التحرير وكسروا الطوق الأمني ورددوا هتافات 25 كانون الثاني/يناير 2011: "عيش! حرية! عدالة اجتماعية!"، وندد آخرون بالحكومة، قبل أن تقوم الشرطة بقمعهم، واعتقال أكثر من 100 شخص في القاهرة والإسكندرية. وتلا ذلك معارك مع قوات الأمن المركزي في باب اللوق وعابدين في قلب القاهرة، حيث مزق المتظاهرون لافتات السيسي.

وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ظهر سيل من مقاطع الفيديو للاحتجاجات العفوية التي تحدث إلى جانب الاحتجاجات التي ترعاها الدولة؛ ومن بينهم أطفال خرجوا في مسيرة وسبّوا إسرائيل، فيما ندد آخرون بالنظام المصري.

ولا تزال هذه الصور المعارِضة تُتداول مرة أخرى على وسائل التواصل الاجتماعي المصرية. وفي وقت كتابة هذا التقرير، كان وسط القاهرة ومعظم الميادين العامة في المراكز الحضرية الكبرى في البلاد يشهد تواجداً أمنياً مكثفاً، ويمكن ملاحظة مركبات وشاحنات CSF المدرعة بشكل واضح، وكما يتم توقيف الكثير من المواطنين بشكل عشوائي وتفتيشهم. ورغم ذلك، بدأت الحركة الشعبية في الشوارع تعود ببطء إلى طبيعتها مرة أخرى، وهذا أمر سيحرص النظام المصري على ضمان عدم حدوثه.

خاتمة: بين المطرقة والسندان

ستؤثر العوامل الثلاثة الموضحة أعلاه على كيفية تعامل النظام المصري خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، وعلى دوره في الحكم المستقبلي لقطاع غزة. إن الحملة التي تبذلها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون للقضاء على حماس في غزة من المحتم أن تؤدي إلى غزو بري طويل ودموي، رغم أن هذا التوغل لن ينجح على الأرجح في سحق المقاومة؛ استناداً إلى العمليات السابقة.

كل يوم من القتال المستمر في غزة والضفة الغربية سوف يضع المستبد في القاهرة تحت عبء إدارة الضغوط المتزايدة من الجمهور المصري الأكثر تعبئة، والأشد ضغطاً لفتح الحدود أمام الفلسطينيين للهروب من غزة. يذكّرنا الإحياء الحالي لحركة الشارع في مصر بما حدث في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بيد أن الاحتجاجات هذه المرة تحدث في وضع أكثر اضطراباً بسبب الأزمة الاقتصادية. وفي مثل هذا السياق، يمكن أن تكون الحرب حافزاً لمزيد من المعارضة الاجتماعية.

يواجه نفوذ القاهرة الإقليمي والدبلوماسي - الذي تآكل بشكل مطرد منذ عام 2013 - تحدياً آخر في هذه الحرب؛ وذلك في ظل عجز السيسي عن الضغط – فضلاً عن  الوساطة – على الأطراف المؤثرة، مقارنة بدول أخرى مثل قطر. إن الكيفية التي قد يتطور بها هذا الأمر من حيث الدعم الذي يحظى به في واشنطن هي قضية تحتاج إلى متابعة وثيقة، وخاصة بعد أن تلطخت سمعته بالفعل بسبب فضيحة بوب مينينديز.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.