مُلخَّص
تسعىهذهالورقةإلىرصدديناميات العلاقة بين المنظماتالحقوقيةوالحركات الاحتجاجية المطالبة بحقوق اقتصادية واجتماعية في تونس قبلوبعد 14 يناير 2011؛يوم سقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي. وتتناولالورقةبالأساسالحركاتالاحتجاجيةالمطالبةبالتنميةوالتشغيلوكيفيةتعاطيالمنظماتالحقوقيةمعها.
وتركز الورقة على ثلاثحركاتاحتجاجيةكبرىشهدتهاثلاثمناطقمختلفةمنتونس من أجل تسليط الضوء علىطبيعةالعلاقاتبينفاعليالمجتمعالحقوقيومكوناتالمجتمعالمدنيالأخرى، وخصوصاً الحركات الاحتجاجية، وكيف حاولت منظمات ومدافعون عن حقوق الإنسان لعب دور الوسيط بين حركات افتقرت في أحيان كثيرة إلى وعاء سياسي من ناحية ونظام حاكم يفتقر إلى آليات مستقرة للتفاوض والصراع حول توزيع الثروة والسلطة من ناحية أخرى. وتبحث الورقة أيضًا مدى تمكن الفاعلين الحقوقيين من لعب دور مفيد بصفتهم رعاة أو مدافعين عن هذه الحقوق والتعبير عنها في صراع سياسي واقتصادي. وتقدم الأمثلة الثلاثة المشار إليها معًا مرآة عاكسة لتعقد العلاقات داخل المجتمع المدني ذاته، وبينه وبين الدولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
اقرأ المزيد
ترصد هذه الورقة الموقع المتغير للمنظمات الحقوقية داخل المجتمع المدني في تونس فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وخصوصًا بعد سقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي. وتتناول الورقة علاقة هذه المنظمات مع حركات احتجاجية مطالبة بالتنمية والتشغيل وهي اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين على العمل والحركة الاحتجاجية بالحوض المنجمي واحتجاج واحات جمنة واعتصام الكامور.
تميزت فترة ما بعد ثورة يناير 2011 في تونس بلعب منظمات المجتمع المدني دورًا بارزًا؛ حيث أصبح بعضها محركاً أساسيّاً لدفع الدولة إلى الالتزام بإعادة بناء الحياة السياسية والسياسات الاقتصادية على أسس ديمقراطية تمثل فيها حقوق الإنسان أحد القواعد الأصيلة. وساهم نشطاء حقوقيون في مسار البناء الديمقراطي، خصوصًا من خلال الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، في المرحلة الانتقالية الأولى التي امتدت حتى 23 أكتوبر2011، تاريخ إجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي. وتواصل دور المجتمع المدني بعد ذلك، طيلة فترة إعداد الدستور من خلال النقاش العام حول مختلف الحقوق والحريات الواجب تضمينها في الدستور الجديد.
ويمثل المجتمع المدني فضاء صراع بين فاعلين وقوى مختلفة حول نظام الحكم وتوزيع الموارد والقيم، ويتجاور في هذا الفضاء في شبكات متعددة ومتقاطعة فاعلون مختلفون في صورة تجمّعات غير حكومية وغير ربحية تمثل جوهر العمل المدني لإيجاد ومناصرة حلول لمشكلات تهم المصلحة العامة، والمجتمع المدني ليس تجمعًا متجانسًا يمكن تمثيله بصوت موحد كما أنه، في الوقت نفسه، لا يتمثّل في مجموعة من المواطنين يدافعون عن مصالحهم الشخصية بطريقة منعزلة.
وبفعل التصحر السياسي الذي عانت منه تونس معظم عقود بعد الاستقلال وحتى ثورة 2011، كان العمل في مجال حقوق الإنسان بما فيه من جمعيات ومنظمات يتمحور حول الدّفاع عن الحقوق السياسية والمدنيّة المفقودة بسبب قمع وتسلط الدولة والتضييق الذي مورس على النشطاء السياسيين والحقوقيين على حد سواء. وكانت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية حاضرة بشكل أقل بالنظر إلى توخي الدولة سياسة اجتماعية حذرة، كان فيها الاتحاد العام التونسي للشغل شريكًا مهمًّا للنخبة الحاكمة في الدولة.
وعرف المجتمع المدني بعد الثورة عدة تغيرات، أولها تغيير النظام القانوني للجمعيات عبر إصدار مرسوم 24 سبتمبر 2011، الذي نص في فصله الأول على ضمان "حرية تأسيس الجمعيات والانضمام إليها والنشاط في إطارها... وتدعيم دور منظمات المجتمع المدني وتطويرها والحفاظ على استقلاليتها". وصار للجمعيات أن تتأسس وفقًا لنظام أسهل بكثير عن ذي قبل أساسه دعم حق التنظيم. وتجاوز عدد الجمعيات 18 ألفا سنة 2016، حسب تصريح الوزير المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان وقارب العشرين ألف في عام 2017، وتنوَّعت الجمعيات لتشمل المجالات التنموية والنسائية والخيرية والدينية والعلمية والثقافية والحقوقية وتجاوز عدد هذه الأخيرة 400 جمعية عاملة في مجال حقوق الإنسان.
برزت قضية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من خلال حراك الحوض المنجمي بداية من 2008 برعاية الاتحاد العام التونسي للشغل. وكانت هذه الانتفاضة في منطقة على هامش السلطة والثروة في تونس محاولة لإعادة التوازن في توزيع ثروات تونس الطبيعية ولكنها حققت نجاحًا سياسيًّا أكثر منه اقتصاديًّا واجتماعيّاً. وبعد ثورة 2011 أعادت احتجاجات الكامور ومسألة إدارة واحات جمنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى صميم النضال العام، مع تغيير في الاستراتيجية المتمثلة في إدارة الصراع دون غطاء من منظمات حقوقية مثلما حدث بدرجات متفاوتة في حراك الحوض المنجمي. وأصبح اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل علامة فارقة في النضال من أجل الحق في العمل أمام تفاقم ظاهرة البطالة قبل ثورة 2011 وبعدها.
أولاً: الحَراك الاحتِجاجي لانتزاع حُقوق اقتصاديّة واجتماعيّة
على الرغم من التركيز على الحقوق المدنية والسياسية طوال عقود من النشاط الحقوقي، عادت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لتأخذ حيّزاً مهماً في المجتمع المدني من خلال حراك اجتماعي احتجاجي تمحور أساساً حول البطالة التي بات واضحاً للعيان أن زيادتها نتيجة سياسات اقتصادية وتعليمية فاشلة، صاحبها أزمات متتالية في النظام الاقتصادي العالمي. وارتفعت نسب البطالة من حدود 13% سنة 2010 (491 ألف عاطل عن العمل) إلى 15,3 في 2017 (625 ألف عاطل عن العمل).
ولفتت أحداث الحوض المنجمي، التي اندلعت يوم 5 يناير 2008 أنظار المجتمع المدني إلى واقع اجتماعي واقتصادي متردّي في المناطق المهمّشة، وكشفت في نفس الوقت، عن تقصير المجتمع المدني (نقابات عمالية واتحادات طلابية ومنظمات حقوقية على سبيل المثال) الذي طالما ناضل من أجل الحقوق المدنية والسياسية. وفضحت الاحتجاجات البون الشاسع بين القيادات النقابية وقواعدها وتغاضي هذه القيادات عن الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمهمشين وخضوعها لتوازنات دقيقة مع السلطة.
لم تكن سياسة التنمية غير العادلة ضمن مشاغل منظمات ومؤسسات المجتمع المدني، ولا كانت هذه المنظمات نفسها قادرة هيكليّاً وإجرائيّاً على توقّع أو تأطير حراك اجتماعي أضف إلى ذلك كلّه مواقف محدودة النظرة لنطاق ضيق من المصالح فيما يتعلق بالسياسات العامة للدولة، فاتحاد الشغل على سبيل المثال كان يفضل الحلول الإصلاحية المؤقتة في هذا المجال وشاركت مؤسسات مجتمع مدني عديدة بشكل ما في "محاصرة" احتجاجات الحوض المنجمي خصوصاً وأنها اندلعت قبيل انتخابات 2009 الرئاسية.
وفي مقابل هذا الفشل يبرز نجاح الحركة الاحتجاجية من أجل التشغيل والتنمية التي قادها اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل. وكانت هذه الحركة في الصفوف الأولى للحراك الواسع الذي بدأ في الجهات المهمّشة والفقيرة في 17 ديسمبر كانون الأول 2010.
- اتحاد أصحاب الشّهادات المُعطَّلِين عن العَمل
أنتجت سياسات نظام بن علي أزمات سياسية في التسعينيات مع توجه النظام الحاكم أكثر نحو ليبرالية اقتصادية مع محاولة الحفاظ على طبقة وسطى مستقرة نسبيًّا. وكان ارتفاع نسبة البطالة وملف التشغيل برمته من بين هذه الأزمات التي عجزت الدولة عن تحقيق توازن فيها، وخصوصاً في العلاقة بخلق فرص عمل ووضع المنظومة التعليمية. فبينما تغيرت البنية الاقتصادية وسوق العمل لأسباب مختلفة منها خيارات النظام في السياسات، لم تتغير المؤسسات التعليمية فصار خرِّيجوها بين أحد أكبر فئات العاجزين عن العمل لأن شهاداتهم الدراسية لم تمنحهم الكفاءات التي يسعى لها سوق العمل أو لأن السوق بات عاجزاً -بفعل سياسات النظام - عن خلق ما يكفي من الوظائف في قطاعات معينة. ووفقاً للبيانات الرسمية فإن أكثر من 30% من بين حاملي الشهادات عاطلون عن العمل بينما تنخفض النسبة للنصف أو 3,15% عند قياس البطالة العامة في البلاد.
وعجزت سياسات الدولة الاقتصادية المتضاربة عن توفير الحد الأدنى من الوظائف، فقد واصلت الدولة سياساتها الحمائية بينما هي تسعى لفتح الاقتصاد أمام القطاع الخاص، وتعمقت الهوّة في التنمية بين المناطق، بينما قيّدت السياسات الحمائية والفساد الإداري والسياسي القطاع الخاص. وزاد الطين بلّة تفشي المحسوبية والزبونية واستيلاء عائلة الرئيس ومحاسيبها على جزء من ثروات تونس. ودفعت تلك الأوضاع بشباب تونسي متخرج من الجامعات للنضال الميداني دفاعاً عن حقوقهم كمواطنين في العمل باعتباره القاطرة الأساسية لتوفير العيش الكريم.
وكان لمرور أصحاب شهادات معطلين عن العمل بالجامعات التونسية واكتسابهم لخبرات نضالية داخلها أثَّر على شحذ قدراتهم التنظيمية في مواجهة سلطات لجأت إلى التسويف والقمع. وشبك أصحاب الشهادات المعطلين آليات عملهم مع فاعلين آخرين في المجتمع وتأسست لجان وتنسيقيات محلية وجهويّة موزعة على عدد من الجهات بداية من سنة 2006 من أجل التعريف بقضيتهم وتأطير نضالاتهم وتنظيم صفوفهم.
على الرغم من تواصل نضال اللجان والتنسيقيات ومع تزايد عدد المعطلين عن العمل من حاملي الشهادات العليا وعجز الدولة على توفير الحلول الناجعة، فإن عمل اللجان لم يحقق اختراقاً مهماً. وساهم في إضعاف اللجان وجود مشكلات داخلية نجمت عن الولاءات السياسية المختلفة للأعضاء وتحول النضال من اجتماعي/اقتصادي إلى سياسي على خلفية انتهاز الفرصة من جانب أحزاب سياسية معارضة لنظام بن علي التسلطي.
وظهرت ضرورة للتنظيم على المستوى الوطني لتنظيم اتخاذ القرار وتأطير الحراك، وبناء جبهة مطلبية تكون قادرة على تحقيق بعض مطالبها، أو في أدنى حد، التعريف بقضية البطالة التي أضحت تؤرق الشباب التونسي المتخرج من الجامعة. وفي 2006، أعلنت اللجان والتنسيقيات عن تكوين اتحاد وطني غرضه الأساسي مواجهة عجز النظام عن توفير الحلول لمشكلة البطالة التي تسبب فيها. وشبك الاتحاد علاقاته وعمله مع منظمات تعنى بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ومنها الاتحاد العام لطلبة تونس، والاتحاد العام التونسي للشغل، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
- ت- آليات النِّضال المَيداني
ساهمت هيكلة الاتحاد على المستوى الوطني في زيادة تأثير العمل النضالي حيث نوّعت الهياكل الجهوية من أساليب العمل كل وفقاً لخصوصيتها المناطقيّة وأثَّر هذا بدوره على تبني آليات نضالية في جهات أخرى وعلى الصعيد الوطني. وأغنى وجود كيان وطني ذا أفرع جهوية صياغة المطالب الاقتصادية والاجتماعية وعمّقها حيث ساهمت الفروع، مثلاً في تحدي استعمال النظام الحاكم المضلل للإحصاءات والبرامج، كما أن أعضاء الفروع الجهوية من حاملي الشهادات العليا ساهموا في ظهور بحوث عديدة أبرزت قصور النموذج الاقتصادي الذي تبنته الدولة بغرض توفير الشغل.
قبل الثورة، كان من المفيد سياسيّاً، بل والحتمي في بعض دوائر منتسبي اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل، أن ينخرط الاتحاد في تحالفات مع مختلف مكونات المجتمع المدني سواء من الأحزاب أو الجمعيات للتعريف بقضيتهم على الرغم من وعيهم التام بأنهم قد يُستَغلّوا ورقة للضغط على السلطة. اعتقد المؤيدون لهذا النوع من التشبيك داخل وخارج تونس أنه على الأقل سيمكنهم من رفع الوعي العام بمسألة البطالة في صفوف أصحاب الشهادات. وعانت هذه التحالفات والعلاقات من اختلاف الأولويات والخبرات لدى أعضاء الاتحاد، وخصوصاً المنحدرين من الجهات الداخلية المهمشة في تونس المعنيين أكثر بحقوق اقتصادية واجتماعية، من جانب، والمنظمات الحقوقية المتركزة في المدن والمعنية أكثر بالحقوق المدنية والسياسية. وعلى صعيد عملي كان هذا يعني تقدم أعضاء الاتحاد في المواجهة الميدانية مع قوات النظام القمعي وتقدم أعضاء المنظمات الحقوقية والمدنية الأخرى في مجالات المساندة والمناصرة والتأطير.
وعلى سبيل المثال، كان للاتحاد العام لطلبة تونس دور مهم في تأطير طلبة الجامعة الذين سيشكلون قاعدة أساسية لاتحاد أصحاب الشهادات بعد تخرجهم، كما أن التشبيك مع اتحاد الطلبة وفر رؤية مشتركة للصراع مع المنظومة التعليمية (وزارة التربية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي) العاجزة عن التغيير بشكل معين يساهم في تقليل مشكلة البطالة. وأخيرًا وفر اتحاد الطلبة مقار لاتحاد أصحاب الشهادات أمام رفض السلطة منحهم تأشيرة العمل القانوني.
وشكَّلت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سنداً حقوقيّاً للاتحاد ولكن اختلاف التيارات السياسية داخل الرابطة كان عاملاً رئيسيًّا في تشكيل موقفها وعلاقتها مع الاتحاد. كانت الرابطة موقع صراع سياسي بين التيارات المؤسسة لها بأيديولوجياتها المختلفة، )ومن أهمها مجموعة الديمقراطيين الاشتراكيين المنشقين عن الحزب الحاكم منذ 1978، وعدد من مستقلي اليسار، والقوميين، ومنتمين للحزب الاشتراكي الدستوري، ثم التحق بالرابطة منتسبون لحركة الاتجاه الإسلامي بعد تشكلها في بداية الثمانينيات. وظهر هذا الصراع للعيان عند وضع ميثاق الرابطة ثم عند انتخاب الهيئة المديرة، ولكن في نهاية المطاف هيمن ديمقراطيون اشتراكيون على الهيئة المديرة وعملوا على تأسيس فروع جهوية للرابطة.
صارت الرابطة سنداً أساسيّاً لحراك أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل، حيث تبنّت قضاياهم وساعدت في بلورة المطالب الاقتصادية والاجتماعية عن طريق فروعها. وساهمت الرابطة في تسليط الضوء على هذه القضية عن طريق البيانات العامة مثلما فعلت عندما ساندت الإضراب عن الطعام الذي نفذه عدد من المعطلين عن العمل في ولاية سيدي بوزيد احتجاجًا على وضعهم الاجتماعي المتردي. وتعاون في هذا عدد آخر من الفاعلين الحقوقيين أهمهم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وعلى صعيد أخر ولعقود كان الاتحاد العام التونسي للشغل فضاءً وحيداً للدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بحكم هيكلته ووظائفه وقدرته على مواجهة النظام مستنداً في جانب ما إلى رصيده التاريخي في العمل الوطني واستقلال تونس وبناء دولة ما بعد الاستقلال، وتدخله سلبًا وإيجابًا عند أحداث تغيرات اقتصادية كبرى في الدولة مثل التخلي عن الاشتراكية بعد فشل تجربة التعاضد في آخر الستينيات، والتوجه نحو ليبرالية اقتصادية بداية السبعينيات.
ودعمت طبيعة التوزيع الجغرافي الواسع لهياكل الاتحاد وفروعه في مختلف جهات الجمهورية عمل وأنشطة مناضلي اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل، كما أن معظم قيادات الاتحاد العام للشغل كانت تنتمي إلى الحزب الاشتراكي الدستوري حتى عام 1978،عندما تباعدت عن النظام الحاكم ووقفت أكثر في صفوف النضال النقابي ضد سياسات الدولة الاقتصادية التي أثَّرت سلبًا على الطبقة العاملة. وفي فترة حكم بن علي، ومع الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته البلاد دخل فاعلون مثل الاتحاد العام التونسي للشغل في شبه شراكة مع النظام من خلال مفاوضات دورية. واضافة إلى هذا التزم اتحاد الشغل بمحاور الميثاق الوطني الذي تم توقيعه بين مختلف القوى السياسية والمدنية في البلاد في 7 نوفمبر 1988. ومن بين أهم هذه المحاور التوزيع العادل للثروات بين الجهات وبين جميع فئات المجتمع وتحسين مستوى عيش الأجراء وقطاع الوظيفة العمومية، فأصبح الاتحاد العام التونسي للشغل شريكاً للسلطة من أجل تحقيق تحرير التجارة مع المحافظة على استقرار اجتماعي.
ولعب الاتحاد العام التونسي للشغل دور المستوعب والمهدئ مع الأطراف الناقمة على النظام الحاكم محاولاً إيجاد حلول وسط مما جعل علاقته مع اتحاد أصحاب الشهادات أقوى على المستوى الجهوي أي بالاتحادات الجهوية والقطاعية ويرجع ذلك نوعاً ما إلى هامش الاستقلالية الذي يتمتعون به مقارنة بطبقة القيادة المركزية التي تلعب دور المفاوض الوحيد بين الحركات الاحتجاجية والسلطة. ويفسر هذا لماذا كانت مواقف وتحركات الاتحاد العام التونسي للشغل على قضايا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحركات سلبية وربما غير مفيدة خصوصًا في الجهات المهمشة مثل الحوض المنجمي حيث تفجرت الاحتجاجات في عام 2008.
ولم تلجأ حركة أصحاب الشهادات إلى كل جمعية أو فاعل مؤسسي على حدة بل شبكت ما بينها، خصوصًا في الأفعال الجماعية مثل إصدار البيانات المؤيدة للحركة وجمع توقيعات عليها من قبل كل الجمعيات والفاعلين الآخرين المتضامنين معها.
- حِراك الحَوض المَنجمي
- أ- هلْ فشِل الاتّحاد العَام التُونسي للشُغل؟
ترجم حراك الحوض المنجمي فشل سياسات الدولة في التشغيل وفساد عدد من القيادات النقابية التي كانت تمثل الوسيط والضمانة بين الدولة وآليات تطبيق سياستها التشغيلية في منطقة الحوض المنجمي من خلال إشرافه على نصيب الاتحاد في تعيينات لوظائف في مجمع الفسفاط شابتها محسوبية وفساد حيث سيطر بعض المقربين من السلطة ومن بينهم عمارة العباسي، عضو البرلمان والكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بقفصة آنذاك، على هذه التعيينات تحت حماية السلطات الجهوية والوطنية ومن قيادات المركزية النقابية.
لم يكن إعلان نتائج التعيينات في شركة فسفاط قفصة يوم 4 يناير 2008 والذي أصر الاتحاد على إقراره رغم المطالبة بإعادة النظر من قبل المرشحين لهذه الوظائف، سوى القطرة التي أفاضت الكأس لدى سكان الحوض المنجمي الذين عانوا من مظالم سابقة أهمها الخفض المستمر لعمال مجمع الفسفاط من 14 ألف عامل أواخر الثمانينيات إلى 5300 عامل سنة 2008. وخرج الأهالي إلى الشارع.
واستفادت طبقة سياسية على الصعيد الوطني من هذا الحراك السياسي ولكنه لم يؤدي إلى نتائج جوهرية ملموسة على صعيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الحوض المنجمي؛ حيث ظلت إجراءات التشغيل بمجمع الفسفاط تخضع لنظام حصص موزعة بين الحزب الحاكم والاتحاد الجهوي للشغل، وخضعت هذه الحصص بدورها لتقسيم يعتمد على التوازن القبلي. وكانت مطالبات الأقلية القبلية برفع نصيبها في حصة الاتحاد العام للشغل سبباً رئيسيّاً لاندلاع الحراك خصوصاً وقد رفضت الأغلبية المسيطرة على اتحاد قفصة الجهوي للشغل هذه المطالب. فهل فشل اتحاد الشغل في إدارة هذه الأزمة؟ أم أنه نجح في الدفاع عن مصالحه الضيقة والاستمرار في دوره الزبائني لإدارة الأزمة لأعلى (لصالح النخبة الحاكمة) ولأسفل لصالح السيطرة على توقعات الفئات المهمشة وتوزيع الموارد (الوظائف) بالية زبائنية/قبلية؟
- ب- الدَّولة والمُجتمع: صِراع المَركز والجّهات، والقَبيّلة والمُوَاطنة
كان الحق في العمل جوهر حراك الحوض المنجمي في الظاهر، ولكن الصراع الرئيسي كان يتمحور حول تقسيم عطايا الدولة لأبناء المنطقة عبر وساطة الاتحاد العام التونسي للشغل. هذه "العطايا" أو "الزبائنية" كانت آلية الدولة لامتصاص وتحويل مسار أي حراك من شأنه أن يفتح النقاش والجدل حول السياسات الاقتصادية والتشغيلية التي تنتج أزمة متكررة وصراعات ثانوية، كان من بينها التشاحن القبلي الذي اصطفت فيه الدولة خلف معولها المتمثل في أغلبية نقابية وحزبية ترتكن بدورها على أغلبية قبلية لقمع حراك الأقلية (سواء كانت أقلية داخل مؤسسات تحمل لافتات حداثية من قبيل النقابات والأحزاب أو أقلية تنتمي لتكوينات تقليدية تغيرت كثيرًا مع الحداثة مثل القبيلة).
ودافعت الأقلية في الحوض المنجمي عن نفسها عن طريق "اعتصام السكة" والذي قاده عدنان الحاجي لوقف شحن إنتاج الفسفاط بالتالي تعطيل الإنتاج وإجبار الدولة للانصياع إلى مطالبهم. وقام اتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل بتأسيس خلية في الرديف، غرب ولاية قفصة، وتضمين مطالبهم في جملة مطالب أبناء الجهة من ناحية وقرروا الدفاع عن أبناء قبائل الأقليات.
ومن جهتها نظمت الأغلبية القبلية اعتصاماً في مقر الاتحاد الجهوي للشغل بقفصة مطالبين بزيادة حصتهم في التعيينات ورافضين مبدأ المساواة مع الأقلية القبلية، وطالبوا أن يرفع الحزب الحاكم يده عن المحاصصة الحزبية والنقابية.
وعلى الناحية الثالثة كانت الآلة القمعية للدولة تواجه الطرفين بعد أن بدت السياسة الزبونية للنخبة الحاكمة وكأنها تتهاوى في منطقة قفصة مما قد يستدعي اللجوء للعنف وفرض حل النخبة بالقوة في مسألة التشغيل مثار الجدل. ولكن الاتحاد العام التونسي للشغل تمكن، دون ترك الساحة تماماً لأدوات القمع العارية، من فرض حل دون تغيير في السياسات الاقتصادية العامة. وكان أحد جوانب الحل إحياء شركة الغراسة والبيئة لاستيعاب عدد من طالبي الشغل دون الخوض في جوهر الأزمة المتمثل في عجز نظام الدولة الاقتصادي عن خلق فرص العمل وخطط التنمية وإبقاء مسألة التشغيل كلها رهينة علاقة زبونية بين النخبة الحاكمة والمواطنين الطرف الأضعف فيها هو الطرف الثاني وخصوصًا المنتمين لفئات المهمشة.
- كَيف أثَّرت ثَورة 2011 على الحَراك الاحتِجاجي لاتّحاد أَصحاب الشَّهادات والحَوض المَنجمي
فتحت ثورة 2011 طرقاً جديدة أمام قوى سياسية واجتماعية متعددة لبلورة وترجمة مطالبهم بشأن تغيير النظام السياسي للدولة. وتمكنت قوى سياسية من تفعيل وحماية حقوق سياسية ومدنية في حين نالت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية اهتماماً أقل حيث انغمست معظم القوى السياسية المؤثرة في صراع على السلطة وتأمين قواعد التعددية وتبادلية السلطة، وكان بعض هذه القوى مؤيدًا للنمط الاقتصادي النيوليبرالي الموروث من النظام التسلطي باعتباره خيارًا يدعمه فاعلون دوليون والمنظومة الليبرالية العالمية.
وتمكن اتحاد أصحاب الشهادات العلمية المعطلين عن العمل من تجاوز المعوقات القبلية والسياسية والتركيز أكثر على عمل نضالي يقوم على عدة محاور منها تأسيس مركز أبحاث يعنى بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وإعادة هيكلة للاتحاد من خلال عقد مؤتمر تأسيسي سنة 2013 أمكن فيه تجاوز الاختلاف السياسي خصوصًا بين قوى اليسار التونسي الممثل في الاتحاد والعمل على التشبيك مع مختلف مكونات المجتمع المدني والتفاوض مع الدولة دون وسيط يفرض مطالبه وأولوياته.
ولم يتأثر الوضع في الحوض المنجمي كثيراً. فقد عجز النظام الجديد قيد التشكل عن توفير حلول اقتصادية واجتماعية وتظل ذكرى انتفاضة الحوض المنجمي مناسبة للتذكير بقضايا التنمية العادلة وتشغيل العاطلين عن العمل، على اعتبار أن حراك الحوض سنة 2008 كان أحد شرارات اشتعال ثورة 2011 التي اندلعت من الجهة نفسها. وليس هناك تحسن في معالجة نسب البطالة شبه الثابتة عند معدل مرتفع منذ عام 2011 بل وفاقم من أثرها السلبي غياب الحلول التجميلية والمسكنّة التي كان يسوقها النظام التسلطي قبل الثورة. ويظل التململ في الحوض المنجمي أسير الديناميات القبلية على صعيد الحشد والتنظيم. ولم يختلف في هذه الصورة سوى الحضور اللافت لناشطي المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذين يواصلون العمل والتشبيك في المنطقة ويدافعون عن الحركة الاحتجاجية ونشطائها.
وانضم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الحقوقي في عام 2011 مع إطلاق حرية تكوين الجمعيات. ولعب المنتدى دوراً أساسيّاً في تأطير الحراك لكنه تنافس بشدة في نفس الوقت مع الاتحاد العام للشغل حول من يلعب دور الوسيط مع السلطة مما زاد في عدم فاعلية وتشتت الحركات الاحتجاجية للحوض المنجمي والحراك الاحتجاجي عموماً. وباتت عدة حركات احتجاجية وناشطين يرون في الاتحاد والمنتدى وسيطين سياسيين غير حليفين حيث انشغل الأول بالفعل السياسي أمام أزمات متكررة في تونس، وحاول الثاني الانقضاض على مكانة الاتحاد العام للشغل في الوسطين الاجتماعي والاقتصادي.
وحاول المنتدى تنظيم الحركات الاحتجاجية في شبكة واحدة تُدعى تنسيقية الحركات الاجتماعية ولكن المشروع لم يحقق نجاحًا كبيرًا خلال مؤتمره الأول الذي انعقد بين 24 و26 مارس عام 2017. وادعى مشاركون في المؤتمر أن أحد أهدافه كان تحويل الحركات الاحتجاجية الاجتماعية الموزعة على أغلب جهات تونس من خلال تنسيقياتها إلى فروع حزبية لاحقاً.
ثانياً: إِعادة تَشكُّل الوَعي الاحتِجاجي وَطُرق النِّضال
كرّست ثورة 2011 وجود ومأسسة الحقوق السياسية والمدنية في الفضاء العام؛ مما أتاح لعدد من الفاعلين الحقوقيين أن يركزوا جهودهم، متمتعين بالحق في التنظيم والاحتجاج والتجمع، على دعم حقوق اقتصادية واجتماعية. وكانت الاحتجاجات والحراك الاجتماعي في الكامور وواحات جمنة ترجمة لهذا التغيير. وبمعنى آخر فتحت ثورة 2011 الطريق أمام مكونات المجتمع التونسي المؤمنة بأهمية النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتحرك ميدانيّاً دون إدماج كل حراك ميداني في صراع سياسي مركزي.
- حِراك واحات جَمنة
جمنة قرية بالجنوب التونسي تتبع ولاية قبلي ويبلغ عدد سكانها 7194 نسمة ويمتد مشروع جمنة الفلاحي على قرابة 400 هكتار، وهي أراض كانت الدولة تمتلكها من بعد الاستقلال. وبعد الثّورة استولى سكان في المنطقة على أراض منها وقاموا بتعهدها خصوصًا وأن 200 هكتار منها فقط كانت مستغلة لزراعة النخيل. وتمكن أهالي من إدارة تلك الأراضي بوسائل ذاتية عن طريق تشكيل جمعية حماية واحات جمنة التي أقاموها هيئةً مشرفةً على التسيير.
- أ- تَجاوز المَنطق السّياسي والأيديولوجي
قدمت تجربة جمعية جمنة مثالاً على نجاح مشروع اقتصادي تشاركي تجاوز أبعاد سياسية وأيديولوجية تسببت في فشل نماذج أخرى من الحراك الاحتجاجي من أجل نيل حقوق اقتصادية واجتماعية. وعلى الرغم من تنوع بل وتصادم انتماءات أعضاء الجمعية السياسية، فقد تمكنوا من التوافق على أهداف مكنتهم من تأسيس نموذج جديد وناجح مبدئيًّا وفق النتائج التي حققها المشروع.
ونجحت الجمعية في استصلاح أراض وزراعتها واستثمار الواردات في تنمية الجهة، سواء من ناحية البنية التحتية أو توفير فرص عمل لأبناء الجهة، لكن غياب الدولة لم يدم طويلاً وبعد استقرار نسبي عقب انتخابات 2014 طالبت الدولة بتفعيل حقها في ملكية الأرض، مما أجبر مسيري الجمعية على تنظيم احتجاجات عامة وعلنية.
مثل تهديد الدولة باستعمال القوة لانتزاع "حقوقها" من المواطن "المغتصب" لملكيتها تهديداً للمشروع الوليد. ورغم التشبيكات السّياسية لأعضاء المشروع إلا أنهم تبنوا آليات دفاعية معتمدة أساسًا على الجانب الإعلامي والتشبيك مع مختلف مكونات المجتمع المدني.
أعدت الجمعية ملفاً بحثيّاً حول المشروع ونظمت ندوات صحفية لإبراز الفارق بين سوء تصرف الدولة ونجاح الجمعية في إدارة الأراضي من أجل كسب التضامن المجتمعي معهم والرّد على "مغالطات" الدولة. وقدمت الجمعية بيانات إلى باحثين محليين وعرب نشرت وعياً عاماً بنجاح التجربة على المستوى الوطني والعربي الجمعية خصوصاً في أوساط المهتمين بالاقتصاد الاجتماعي التضامني.
أمّا على مستوى التشبيك، فاعتمدت استراتيجية المشرفين على الجمعية على أهميّة دور مكونات المجتمع المدني بما فيها الأحزاب السياسية. وساعدت البنية السياسية للمجموعة على تخطي تهديد السلطة بوضع يدها على المشروع برمّته، حيث إن انتماء الأعضاء المتنوع مكنهم من استغلال عدة قنوات اتصال وضغط منها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى الاقتصادي والاجتماعي التونسي والأحزاب السياسية على غرار حركة النهضة. وانتهزت الجمعية مناسبات مثل عمليات التعاقد على بيع المحصول لتحولها إلى مهرجان دعم لها من خلال حضور أغلب مكونات المجتمع المدني ووسائل الإعلام الوطنية والدولية، حيث نُظّمت رحلات مساندة للجمعية انطلقت من العاصمة ومن مختلف ولايات الجمهورية لحضور البت في العروض وللتعبير عن تضامن القوى السياسية والحقوقية مع المشروع في أكتوبر 2016. وتأسست لجنة مساندة للمشروع كان لها أثر ايجابي في حماية ودعم النضال الميداني وتراجع الدولة عن موقف ملتف بادعاءات حماية الملك العمومي. وفي أحد المحطات النضالية وبعد أن تعنتت الدولة مصرة على وضع يدها على مداخيل بيع المحصول، نظم الأهالي تحركاً جماعيّاً لسحب أموالهم من البنوك القائمة في تلك الجهة في تعبير عن رفضهم محاولة الدولة تجميد رصيد الجمعيّة.
اتهم البعض تجربة جمنة بأنها سعت لأن تعمل وكأنها دولة داخل الدولة، لكن التجربة ذاتها كرست ودعمت قيمة النضال من أجل الدفاع عن حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية (باعتبار أن الانتماء إلى الأرض هو ثقافة مجتمعية راسخة في المخيال الجمعي في جمنة). وتميزت طرق الاشتغال داخل الجمعية ذاتها بالديمقراطية واندماج ونشاط المنخرطين فيها، كما أظهرت تشكل وعي يعلي من قيم العيش المشترك في المنطقة. وعند تعقد الأمور في منتصف 2017 قررت إدارة الجمعية العودة إلى الأهالي لاتخاذ ما يرونه مناسبًا من خطوات سواء من خلال إعادة انتخاب هيئة إدارة جديدة أو مواصلة النضال ضد موقف الدولة وإصرار مسؤولين فيها على نموذج اقتصادي لا يمثلهم وإنما يعمل على طردهم وتمكين مستثمرين دخيلين على الجهة، غايتهم الأساسية ومن خلال هياكل الدولة الاستفادة منها وتحقيق أرباح دون مشروع تنموي واضح يأخذ بعين الاعتبار تنمية الجهة ومواطنيها ووجهات نظرهم واحتياجاتهم.
وعلى مستوى التشبيك، عقدت الجمعية اتفاقية مع منظمة "أنا يقظ" التونسية لتمكينها من الوثائق المالية الخاصة بالجمعية لإثبات مدى حسن تصرفها في الموارد المالية وفي إطار ترسيخ مبدأ الشفافية ولصد أي اتهامات بسوء التصرف. وطورت الجمعية طرق نضالها من خلال استغلال المهرجان الثقافي بجمنة الذي صار تجمعًا للتعبير عن المحنة التي تمر بها المنطقة من خلال عروض فنية وثقافية متنوعة.
- حِراك الكَامور
شَكّل حراك الكامور واجهة أخرى من نجاحات النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، واختلف بوضوح عن احتجاجات أخرى من الناحية التنظيمية والوظيفية فيما يتعلق بتوزيع الأدوار وأخذ التوازنات السياسية والخصوصية المجتمعية (التوزيع القبلي) بعين الاعتبار.
وتشابهت أسباب الحراك الاحتجاجي بتطاوين مع بقية الاحتجاجات في تونس في المطالبة بتنمية المنطقة وتشغيل أبنائها، إلا أنها بالأساس نبعت من حالة وعي بأهمية التحرك النضالي من أجل تأمين حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية من سلطة سياسية اعتمدت التسويف وتركز بهوس على المشاكل السياسية الفوقية على الصعيد الوطني مهملة علاقتها العمودية مع الفئات المهمشة (جغرافيا او فيما يتعلق بقدرتها على مراكمة الثروة ورأس المال الاجتماعي). وصار غياب التنمية والفوارق المتزايدة جغرافيا وطبقيا أهم دوافع الحراك الثوري في تونس منذ 17 ديسمبر 2010.
وتشكَّل هذا الوعي من خلال تشخيص واقع الجهة وما تزخر به من ثروات ومدى انتفاع المقيمين بالجهة منها بعد مرور عدة سنوات على الثورة في تونس. وانتظمت احتجاجات في البداية في البداية أمام مقرّ ولاية الجهة باعتبارها أعلى سلطة تمثل الدولة، إلا أن المحتجين سرعان ما أدركوا عدم نجاعة هذه الآليات الاحتجاجية. ولجأ مسؤولون محليون للتسويف والحلول الأمنيّة واستفزاز المحتجين من أجل جرّهم إلى مربع العنف المادي، وهو أمر كان يمكن أن يخسروا معه تعاطف المنظمات الحقوقية والمجتمع التونسي عمومًا. وتحوَّل الاحتجاج التلقائي إلى تنظيم محكم من خلال استنباط آليات تنظيمية قادرة على غلق المنافذ أمام السلطة المتحفزة وامام الجماعات السياسية الراغبة في استغلال من جهة وفتحه بشكل ما في نفس الوقت أمام المنظمات الحقوقية الساعية إلى توفير غطاء حقوقي.
حمل اختيار منطقة الاعتصام دلالة مهمة، إذ أن الكامور هو مسلك تستعمله الشركات البترولية لنقل منتجاتها الاستخراجية، وبالتالي كانت الحركة في أولها تنبيهاً إلى أن المحتجين أخذوا في التصعيد تدريجيّاً وسلميّاً وانتقلوا بها إلى منبع ثروات الجهة. وكانت الخصوصية الجهوية من الناحيتين الاجتماعية والسياسية العمود الفقري للبنية التي عمل من خلالها المعتصمون حيث تألفت تنسيقية للاعتصام ضمت عناصر تراعي التوازنات السياسية والقبلية بالجهة كما توزع المعتصمون على خيام تمثل كل واحدة منها أحد معتمديات الجهة.
ولجعل الاعتصام أكثر تأثيراً، شاركت مكونات أخرى من المجتمع المدني من خارج المنطقة، فقامت أغلب الأحزاب السياسية بتنظيم زيارات دورية للتنسيقية وحضور ندوات الاعتصام الصحفية وإصدار بيانات وتنظيم الوقفات الاحتجاجية في العاصمة وفي الخارج، إلى جانب تنظيم التمويل المادي للاعتصام.
خاتمة
رغم المساندة التي حظيت بها الحركات الاحتجاجية في تونس من جانب المنظمات الحقوقية إلا أنها لم ترتق إلى حدود التشبيك والتفاعل الايجابي الذي يؤدي إلى مخرجات عملية، حيث انحصر التعاون في حدود التضامن مع الاحتجاجات سواء بالبيانات والوقفات الاحتجاجية التضامنية وزيارة المعتصمين أو المحتجين.
وعوَّلت الحركات الاحتجاجية على قدراتها الذاتية بشكل أساسي، وذلك وعياً منها بعدم قدرة المنظمات الحقوقية على تقديم الدعم الناجع إما بسبب محدودية قدراتها أو بسبب انتماءاتها السياسية. وعلى سبيل المثال، تواجه الاتحاد العام التونسي للشغل والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في صراع مضمر على الساحة الاجتماعية والنقابية حول حيازة صفة المفاوض الرئيسي مع الدولة، بينما اقتصر دعم الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان على إصدار البيانات العامة.
لقد شهدت الحركات الاحتجاجية المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تونس تطوراً كبيراً على مستوى الوعي بالتغيرات الهيكلية الضخمة التي أثَّرت على آليات وطرق الصراع واختيار الحلفاء فيه. واستدعى هذا كله ضرورة التدقيق في خيارات الحشد والتنظيم وطرق الاحتجاج لضمان مكاسب مقبولة دون الوقوع في مزايدات الوسطاء. وكما لاحظنا من خلال تجربتي الكامور وجمنة اللذين يعتبران مرحلة تدريب على استخلاص الحقوق دون وساطة بعد أن كانت حركات اجتماعية مشابهة في السابق قد خاضت تجارب أخرى احتاجت فيها إلى وسطاء للتعبير عن نفسها ومفصلة مطالبها مع المؤسسات السياسية والاجتماعية. ويطرح هذا تحديات مهمة أمام الفاعلين الحقوقيين حول آليات عملهم في مسائل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وطبيعة علاقاتهم وتعاونهم مع الحركات الاجتماعية وحول قدرتهم على الخروج من أدوار الوساطة التي تتأكل مساحاتها المتاحة بسرعة واستكشاف مساحات أخرى يمكن ان تتعامل بوضوح مع معضلات التمثيل والوساطة بين المدافعين عن حقوق الانسان وخاصة في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، من جهة، والبشر الذين هم ذاتهم أصحاب هذه الحقوق ويدافعون عنها بأشكال تنظيمية مختلفة ومتبدلة، من ناحية أخرى.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.