بعد أكثر من عامين على بداية الحراك الشعبي، وأكثر من عام ونصف العام على إجراء الانتخابات الرئاسية، شهدت الجزائر في 12 حزيران/يونيو 2021 أول انتخابات تشريعية في عهد الرئيس عبد المجيد تبون، لتجديد نواب المجلس الشعبي الوطني (الغرفة السفلى للبرلمان). وسوّقت السلطة في وقت سابق لهذه الانتخابات على أنها مفتاح سحري لأزمات الجزائر الهيكلية، وفرصة الحراك لاقتحام المؤسسات المُنتخبة. بيد أن المفارقة الصّادمة هي أن معظم الانتخابات التي نظّمتها السلطة سابقًا لم تقم سوى بتعميق أزمة الشرعية الملازمة لنظام الحكم في الجزائر، كونها لا تحترم في كل مرة الغاية من تنظيم الانتخابات: مُعاقبة المسؤولين الفاشلين وتجديد الطبقة السياسية بوسائل ديمقراطية. فالانتخابات في الحالة الجزائرية هي وسيلة من وسائل ضمان "المرونة التسلّطية"، التي تسمح للنظام بتجديد واجهة مؤسساته السياسية، من دون الحاجة إلى إعادة النظر جذريًا في الآليات الضابطة لعمل هذه المؤسسات. فما الذي يُميز الانتخابات التشريعية لهذه المرة، وما هي الخريطة السياسية الجديدة الممكنة بعدها؟
فشل إعادة البناء فوق حقل دمار سياسي
عمومًا، يحمل الجزائريون في مخيالهم الجمعي فكرة في غاية السّوء عن مؤسسة البرلمان، كونها كانت دومًا نتاجًا لانتخابات طالتها عمليات تزوير واسعة، وكوتّات (مُحاصصة انتخابية) تُحدّدها السلطة القائمة حسب معايير زبائنية خالصة. كما كانت هذه المؤسسة ملاذًا آمنًا لرجال الأعمال والسياسيين الفاسدين، سواءً بغرض التمتع بالحصانة البرلمانية، أو تعظيم نفوذهم ومصالحهم، من خلال تقرّبهم من دوائر اتخاذ القرار. زادت هذه الصورة قتامة في الفترة الأخيرة للرئيس بوتفليقة بسبب احتلال رجال أعمال فاسدين لهذه المؤسسة بشكل فجّ، وتمرير عدة تشريعات غير شعبية ومشبوهة في هذه الفترة، بغرض ترسيخ مصالح طبقة رجال المال المحاسيب، التي زاد نفوذها في السنوات الأخيرة لحكم بوتفليقة. وليس غريبًا أن البرلمان الجزائري صار يلقّب عند عموم الجزائريين ببرلمان "الشكارة" كناية عن تغوّل المال الفاسد داخل دواليبه.
لم تكن صورة البرلمان الجزائري سوى انعكاسٍ طبيعيٍّ لهشاشة الطبقة السياسية وتشرذمها – بما فيها تلك المحسوبة على المعارضة، نتيجة عقود من تصحير العمل السياسي وتقييده، بسبب تغوّل العقل الأمني والهوس بمراقبة الحياة الحزبية والمجتمع المدني ككل. علاوةً على العلاقة الزبائنية التي توطّدت بين معظم الفاعليات الحزبية والسلطة، والتي غذّاها الطابع الريعي للاقتصاد الجزائري.
عكس ما كان مأمولاً، لم يعمل نظام الرئيس تبون على محو هذه الصورة السوداء عن المؤسسة التشريعية. إذ تقتضي خطوة كهذه، أساسًا، توفير ظروف مناسبة لممارسة سياسية حُرّة وسليمة؛ تسمح ببروز أحزاب سياسية جديدة، تمثيليّة، وقادرة على الخروج تدريجيًا من حقل الدمار الحزبي الموروث عن عهد بوتفليقة. فعلى النقيض من ذلك، أبقى تبون على البرلمان نفسه لأكثر من عام ونصف العام، رغم اعترافه شخصيًّا بأنه برلمان فاقد للمصداقية وللطابع التمثيلي. بل أسوأ من ذلك، مُرِّرت من خلاله عدة تشريعات ذات طابع حسّاس، كالتعديلات التي طرأت على قانون العقوبات في نيسان/أبريل 2020.
قبل التشريعيات الأخيرة، فشل النظام في رهانين انتخابيين حيويين. فلقد فُرضت الانتخابات الرئاسية في 12 كانون الأول/ديسمبر 2019 من طرف القيادة العليا للجيش، رغم الرفض الشعبي الواسع لها. وخلت هذه الانتخابات، تقريبًا، من أي عنصر للمفاجأة، بسبب طبيعة المترشحين المنحدرين كلّهم من النظام نفسه. أما الرهان الثاني، فقد تمثَّل في الاستفتاء على الدستور الجديد لعام 2020، الذي كان بمثابة حجر الزاوية السياسي في مشروع "الجزائر الجديدة" للرئيس تبون؛ نظرًا للوعود الكبرى التي حملها حول التغيير الجذري لعمل المؤسسات. لكن هذا المشروع تعرّض بدوره لنكسة كبيرة، بسبب المقاطعة الشعبية القياسية. علاوة على ذلك، خلا الدستور الجديد من أي تعديلات جوهرية تمسّ بالصلاحيات الواسعة جدًّا لرئيس الجمهورية، أو تمنح للبرلمان صلاحيات رقابية واسعة، عكس ما وعد به تبون في البداية.
على الرغم من الرسائل الواضحة التي أرسلها الجزائريون من خلال مقاطعتهم الواسعة لهذين الاستحقاقين، إلا أن السلطة أصرّت على تنظيم الانتخابات التشريعية في موعدها المحدد، وفي الظروف نفسها الموروثة عن عهد بوتفليقة. جرت هذه الانتخابات البرلمانية في سياق سياسي مضطرب للغاية، بسبب استمرار تظاهرات الحراك الشعبي في المقام الأول. بالإضافة إلى فشل حكم تبون في خلق ديناميكية سياسية قادرة على امتصاص غضب الشارع، والمرور نحو تنفيذ إصلاحات كبرى في الشق الاقتصادي، كما وعد في بداية عهدته.
على النقيض من ذلك، قامت سياسات السلطة القائمة بزيادة الاحتقان السياسي، وأعادت الوضع إلى ما كان عليه قبل 22 شباط/فبراير 2019 أو أسوأ. وكان مردّ ذلك إلى تشديد الإجراءات الأمنية تجاه المطالب السياسية التي رفعها قطاع واسع من الجزائريين؛ وتراوحت هذه السياسات بين تشديد القوانين السالبة للحريات، كمنع المسيرات في معظم المدن، وزيادة عدد الاعتقالات التعسفية، واستعمال جهاز القضاء كأداة قمعية لثني الجزائريين عن التظاهر. ورغم أن السلطة دعت الناشطين في إطار الحراك الشعبي للتهيكل داخل أُطر سياسية مُنظَّمة، إلاّ أنها تجاهلت فعليًا طلبات الاعتماد المُقدَّمة من طرف بعض الناشطين من أجل تأسيس أحزاب سياسية. بالتوازي مع الاحتقان السياسي المتزايد، لا تبدو الأوضاع السوسيو-اقتصادية أقل تعقيدًا، بسبب المنحى التراجعي لأسعار النفط منذ منتصف 2014، وكذلك تداعيات جائحة كوفيد-19 التي بدأت آثارها الاقتصادية تظهر بشكل محسوس.
ساهمت كل هذه العوامل مجتمعة في ثني الأحزاب المحسوبة على المعارضة عن المشاركة، بسبب تخوّفها من المقاطعة الشعبية من جهة، ومن فقدان ما تبقّى لها من رصيد سياسي من جهة أخرى.
قائمة الأحزاب المشاركة والمقاطعة في تشريعيات 12 حزيران/يونيو 2021 |
|
|
الأحزاب المقاطعة |
الأحزاب المشاركة |
جبهة القوى الاشتراكية |
القوائم الحرة (1438 قائمة لمترشحين مستقلين) |
حزب العمال |
جبهة التحرير الوطني |
التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية |
حركة مجتمع السلم |
الحركة الديمقراطية الاجتماعية |
التجمع الوطني الديمقراطي |
حزب العمال الاشتراكي |
جبهة المستقبل |
حزب الاتحاد من أجل التغيير والتقدم |
حزب جيل جديد |
|
جبهة الحكم الراشد، حركة البناء الوطني، حزب الحرية والعدالة، جبهة العدالة والتنمية، حزب الفجر الجديد، جبهة الجزائر الجديدة، حزب الكرامة، حزب طلائع الحريات، تجمع أمل الجزائر، حركة النهضة،
التحالف الوطني الجمهوري، حزب صوت الشعب،
اتحاد القوى الديمقراطية والاجتماعية، حزب التجديد الجزائري، جبهة النضال الوطني، حركة الإصلاح الوطني
حزب الشباب، الجبهة الوطنية الجزائرية، الحزب الوطني الجزائري، حركة الوفاق الوطني، الحركة الوطنية من أجل الطبيعة والنمو، الوسيط السياسي |
تأتي كل من جبهة القوى الاشتراكية، حزب العمال، والتجمع من أجل الثقافة الديمقراطية في صدارة التشكيلات السياسية المُقاطعة لهذه الانتخابات (انظر الجدول المُرفق). فرغم مقاطعة بعض هذه الأحزاب استحقاقات انتخابية سابقًا، إلا أنها المرة الأولى التي تغيب كلها مجتمعةً عن موعد انتخابي بهذا الحجم. بغض النظر عن تراجع حجم هذه الأحزاب داخل المجتمع، وكذا نتائجها المتواضعة في الاستحقاقات السابقة، إلاّ أن مشاركتها كانت لتضفي قدرًا من المصداقية على الانتخابات الأخيرة. إذ تُعتبر هذه الأحزاب من أقدم التشكيلات السياسية المحسوبة على المعارضة، وهي تُمثّل، إلى حدّ ما، التيار الديمقراطي في المشهد الحزبي الجزائري. علاوة على ذلك، ساندت هذه الأحزاب الحراك الشعبي رغم تفاوت درجة انخراطها فيه. على هذا الأساس، مثّلت مقاطعة هذه الأحزاب ضربة رمزية للمشروع السياسي للرئيس تبون، كونها قضت بشكل شبه كلي على عنصر التنافس؛ فمن بين كل الأحزاب السياسية المشاركة في هذه الانتخابات، لا يوجد حزب واحد يمكن تصنيفه في خانة المعارضة، وهو ما يُعطي صورة فريدة من نوعها للبرلمان الجديد.
فائز وحيد: المقاطعة
لم تُسفر نتائج التشريعيات الأخيرة عن أي مفاجآت سياسية، رغم توقع بعض المراقبين إمكانية حدوثها. فحسب الأرقام النهائية، فاز حزب "جبهة التحرير الوطني" بـ98 مقعدًا برلمانيًّا من إجمالي 407 مقاعد. واحتل المترشحون المستقلون ضمن القوائم الحرة المركز الثاني
بـ84 مقعدًا ؛ ثم الحزب الإسلامي "حركة مجتمع السلم'' بـ68 مقعدًا؛ وبعده التجمع الوطني الديمقراطي بـ58 مقعدًا. فيما توزّعت باقي المقاعد على عشرة أحزاب أخرى.
تُبيّن القراءة الأوّلية لنتائج هذه الانتخابات، أن الحزبين التقليدين للسلطة (جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي) ما زالا يحظيان بوعاء انتخابي يُصوّت بانتظام؛ رغم تراجع نتائجهما وعدم قدرتهما على تشكيل أغلبية برلمانية لوحدهما، مثلما عهدناه في مجمل الانتخابات السابقة. ويتركّز هذا الوعاء أساسًا داخل الأجهزة البيروقراطية، والأسلاك الأمنية، علاوة على دور الزبائنيات المحلية والعشائرية، وقوة تأثير العلاقات التقليدية في المدن الداخلية والأرياف على توجيه أصوات الناخبين. على غرار الاستحقاقات الانتخابية السابقة، كان لكل هذه العوامل دور حاسم في فوز جبهة التحرير الوطني، واحتلال التجمّع الوطني الديمقراطي مرتبة متقدمة في تشريعيات 2021. ورغم السخط الشعبي الذي واجهه هذان الحزبان منذ 22 شباط/فبراير 2019، بسبب مشاركتهما الحثيثة في مشروع العهدة الخامسة لبوتفليقة، وتورط العديد من قياداتهما في قضايا فساد، إلا أن قواعدهما الانتخابية لم تتآكل كثيرًا، حسب ما أظهرته النتائج المُحصّلة.
في السياق نفسه، تُعطي نتائج هذه الانتخابات حُجيّة للأصوات المتعالية منذ بداية الحراك الشعبي، والمُطالبة بحلّ حزب "جبهة التحرير الوطني"، أو على الأقل تغيير تسميته والاحتفاظ بالتسمية الأصلية كإرث وطني مشترك. ولم يكن هذا المطلب حكرًا على المتظاهرين، بما أن طيفًا واسعًا من الطبقة السياسية طالب أيضًا بذلك. فمن شأن خطوة كهذه أن تُحوّل هذا "الجهاز" إلى حزب كغيره من الأحزاب، وتُفقده الامتيازات السياسية والمادية التي يحظى بها، والتي تمنحه دومًا خطوةً مُتقدّمة، مقارنة بباقي الأحزاب. لكن عدم الإقدام على هذه الخطوة، يوحي باستمرار بحاجة النظام - أو على الأقل جناح منه – إلى هذا الحزب الوظيفي، ما ينسف مصداقية أي استحقاق انتخابي حتى قبل إجرائه.
لكن إجمالاً، وفي غياب عنصر التنافس بسبب المقاطعة الواسعة، لا يمكن قياس القوة الحقيقية لهذين الحزبين وتجذّرهما داخل المجتمع. وينطبق هذا أيضًا على باقي الأحزاب المشاركة في الانتخابات.
في الواقع، ليست نتائج الأحزاب هي أهم ما يستدعي التأمّل في هذه الانتخابات، إذ إن حجم المقاطعة الشعبية لها كان أكثر ترقُّبًا. فحتى لو كان هذا السيناريو مُتوقّعًا، إلاّ أن نسبة المشاركة في هذه المرة كانت مفاجئة بسبب تدنيّها بشكل قياسي، حيث لم تتجاوز 23%. كما شهدت منطقة القبائل ــ على غرار الانتخابات السابقة ــ مقاطعة شاملة لهذه الانتخابات. فقد خاب رهان السلطة على المترشحين المستقلين، رغم الدفع بعدد هائل من القوائم الحرة، وتقديم حتى إعانات مالية للشباب المترشحين. ففي منظور السلطة، كان ترشُّح آلاف الشباب المستقلين، أو هؤلاء القادمين من جمعيات المجتمع المدني، كفيلاً بالرفع من نسبة المشاركة الشعبية، بالنظر إلى قدرتهم على النشاط الجواري، واستقطاب الفئات العمرية الشابة للانتخاب. لكن النتائج أبرزت، بما لا يدع مجالاً للشك، أن حجم القطيعة الشعبية مع السلطة أكبر بكثير مما كان مُتوقّعًا.
رغم تأكيد السردية الرسمية – على لسان الرئيس نفسه ــ على عدم أهمية نسبة المشاركة، إلّا أنه من غير المنطقي التصديق بذلك، بسبب السياق الذي تأتي فيه هذه الانتخابات. إذ تُعتبر هذه أول انتخابات برلمانية بعد اندلاع الحراك الشعبي، ومن الصعب فصلها عن تأثير هذا الأخير. بالإضافة إلى كونها واحدة من أحجار الزاوية في مشروع "الجزائر الجديدة"، الذي يُروَّج له كمرحلة تأسيسية جديدة؛ خاصة بعد فشل المشروع الأول المتمثل في الاستفتاء الدستوري لعام 2020 في استقطاب مشاركة شعبية مقبولة.
إن المعاينة الأولية لهذه الانتخابات، لا توحي بوجود عمليّات تزوير واسعة، رغم رصد بعض الحالات التي أكّدتها التغييرات التي طرأت على النتائج الأولية. لكن هذه المعاينة لا تعني بالضرورة وجود عملية انتخابية سليمة وقواعد لعبة واضحة، إذ يمكن الحديث عن عملية تزوير قَبْلي بأدوات غير تقليدية، تُشوّه عمليّة الانتخابات برمّتها، وتُعفي السلطة من اللجوء إلى التزوير بالطرق التقليدية الفجّة. فعلى سبيل المثال، مازال التسيير الأمني لملفات المترشحين قائمًا، بشكل يمنح للسلطة حرية إقصاء أي مترشح غير مرغوب فيه، بناءً على التقارير الأمنية الصادرة عن مصالح الاستعلامات، وعلى المواد الفضفاضة الواردة في قانون الانتخابات الجديد. يوحي هذا باستمرار التأطير الأمني للمجتمع واستمرار تدخل الجناح الأمني للجيش في الحياة السياسية، رغم نفي الرئيس تبون لهذا الدور في عديد المرات. علاوة على ذلك، عمدت السلطة إلى إغلاق وسائل الإعلام العمومية أمام كل خطاب يخالف ورقة طريق النظام، وركزت على نشر خطاب دعائي أتى بنتائج عكسية. وبالمثل، أُجبرت معظم وسائل الإعلام الخاصة على تبني النهج نفسه، من خلال ابتزازها بقطع الإشهار العمومي عنها، والذي يُعد مصدر مداخيلها الأول.
برلمان بدون مُعارضة: أي خارطة سياسية ممكنة؟
بالنظر إلى نتائج الانتخابات، لم يجد الرئيس تبون أي مشكلة في تشكيل أغلبية برلمانية في صفّه، إذ سارع كل من جبهة التحرير الوطني، التجمع الوطني الديمقراطي، حركة البناء الوطني، وكتلة النواب المُستقلين، إلى إصدار بيانات المساندة لمشروع الرئيس، رغم غياب أي مشروع واضح المعالم. وأبدت هذه التشكيلات استعدادها للدخول في تكتل برلماني في صالح الرئيس، رغم ترشحه كمرشح حر في انتخابات الرئاسة لعام 2019، وتصريحه في عديد المرات على أنه مُرشح المجتمع المدني.
أعفت هذه الأغلبية البرلمانية المُريحة تبون من ضرورة اللجوء إلى تعيين رئيس حكومة، واتجه، كما كان مُنتظرًا، نحو خيار تعيين وزير أوّل بصلاحيات محدودة. كان على الرئيس الاحتكام، ولو جُزئيًا، إلى نتائج الانتخابات عند اختياره الطاقم الحكومي، ما يعني الاستعانة بوزراء مُنتمين إلى الأحزاب التي ستُشكل الأغلبية البرلمانية الموالية له. لكن تبون اكتفى بمنح حقائب وزارية غير حسّاسة لهذه الأحزاب؛[23] فمن مجموع 34 حقيبة وزارية، لم يكن نصيب الأحزاب الفائزة في الانتخابات سوى 9 وزارات. في حين أُسندت الحقائب الحسّاسة إلى بيروقراطيين من داخل النظام. قد يكون هذا الخيار راجعًا، في جزء منه، إلى تخوف السلطة من إعادة استنساخ مشهد سياسي قديم منبوذ شعبيًا. إذ إن اللجوء إلى حكومة تتشكّل أغلبيتها من وزراء منبثقين عن جبهة التحرير الوطني، التجمع الوطني الديمقراطي، والإسلاميين، كان من شأنه أن يعني حرفيًّا العودة إلى برلمان نسخة بوتفليقة.
في السياق نفسه، وفي ظل وجود أغلبية برلمانية مُريحة في صف الرئيس تبون، لم تكن السلطة مُتخوّفة من سيناريو غياب الإسلاميين عن الحكومة. إذ ساهم انقسام التيار الإسلامي الإخواني ــ المتعود على المشاركة ــ في منح السّلطة ترف الاختيار بين حركة مجتمع السلم وحركة البناء الوطني. لكن في الواقع، لا تعدو هذه الأخيرة أن تكون سوى نسخة مطابقة عن الأولى، كونها خرجت أساسًا من رحمها السياسي، بعد حدوث انشقاقات داخلية. رجّحت السلطة خيار استقطاب حركة البناء الوطني داخل الحكومة، خاصة وأنها أبدت استعدادًا للمشاركة في الحكومة، ودعم برنامج الرئيس تبون حتى قبل إجراء الانتخابات. كما أن رئيس هذه الحركة، عبد القادر بن قرينة، أدّى دورًا مُساعدًا للنظام، بفضل ترشحه لانتخابات الرئاسة عام 2019، في حين قاطعتها حركة مجتمع السلم. ساهمت هذه العوامل مجتمعةً في جعل حركة البناء الوطني خيارًا أفضل وأكثر أمانًا، لتشغل بالتالي الدور نفسه الذي شغلته حركة مجتمع السلم في السابق. في المقابل، تحجّجت هذه الأخيرة بهزالة العرض السياسي المٌقدّم لها لدخول الحكومة، وعن عدم استعدادها لأداء دور ثانوي كالذي أدّته في إطار ''التحالف الرئاسي''، الذي شاركت فيه في عهد بوتفليقة، وأعلن رئيسها في النهاية عن عدم الالتحاق بكتلة الموالاة.
بالنظر إلى التشكيلة النهائية للحكومة الجديدة التي طغى عليها التكنوقراطيون، قد يكون العرض المقدم لحركة مجتمع السلم هزيلاً بالفعل، لكن هناك قراءة أخرى محتملة، مفادها دفع السلطة لهذه الحركة بطريقة ضمنية للقيام بدور المعارضة من داخل البرلمان. فحتى لو كان تحكّم النظام في البرلمان مضمونًا، إلاّ أن خلوّ هذا الأخير من أي صوت مُعارض يشكّل مصدر حرج كبير له، ولو على المستوى الشكلي. ومن شأن دفع جزء من الإسلاميين للقيام بهذا الدور من داخل البرلمان، إعطاء الانطباع على وجود ديناميكية تنافسيّة داخل هذه المؤسسة.
خــــــــــاتمة
بصرف النظر عن الخيارات التي لجأ إليها تبون لتشكيل حكومته، فإن الانتخابات التشريعية الأخيرة لا تعدو أن تكون سوى فرصة ضائعة أخرى، زادت من تغذية الشكوك القائمة حول مستقبل الجزائر، عوض تبديدها. إذ بإمكان السلطة التباهي بالتنظيم المنتظم للانتخابات، واحترام آجالها القانونية، لكن نجاحها في هذا الرهان القانوني ــ التقني، لا يمكن أن يحجب فشلها الذريع في الرهان السياسي. فمن المحتمل جدًّا أن تُعيد هذه الانتخابات الخارطة السياسية إلى ما كانت عليه قبل 22 شباط/فبراير 2019، وهي مُرشحة لأن تُعمّق أزمة الشرعية السياسية لنظام الرئيس تبون؛ الذي يسعى إلى ترميم الإرث السياسي الكارثي لبوتفليقة عوض هدمه والبناء على أنقاضه. فمعضلة الانتخابات بدون ناخبين في سياق تسلّطي، تكمن في أنه "كلّما زاد إحساس العامّة بأن الانتخابات مُجرّدة من أي معنى، كلّما تراجعت فعالية المؤسسات الشكليّة بصفتها أداةً للحكم".
بفشل مشروع إعادة بناء المؤسسات السياسية، وإسباغها بقدر مقبول من الشرعية الشعبية إلى غاية اليوم، يتبين أن الرهان على الرئيس عبد المجيد تبون في شغل الواجهة المدنية للنظام، محفوف بكثير من المخاطر. فمن شأن هذا الفشل أن يٌعرّض الدور السياسي للجيش ــ بصفته قَلبَ النّظام ــ إلى الانكشاف أكثر؛ في حين أن الجيش في حاجة ماسّة إلى واجهة مدنية أكثر متانةً وقدرةً على احتواء الحراك الشعبي وتبعاته. فقد عبّر هذا الأخير، عن وجود ديناميكية مجتمعية عميقة واعية بالدور السلبي للجيش داخل الحقل السياسي، ومُطالبة بإعادة التفاوض حول العقد الاجتماعي القائم منذ الاستقلال.
Louisa Dris-Aït Hamadouche, ’’La société civile vue à l’aune de la résilience du système politique algérien’’, L’Année du Maghreb. No.16, 2017. pp.289-306.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.