بدايات ومآل الاهتمام بقضية تغير المناخ في المنطقة العربية: نحو اعادة النظر بنموذج التنمية ومراجعة اقتصاد السوق

أثارت قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992 الاهتمام بتغير المناخ على الصعيد العالمي وكذلك في المنطقة العربية. تتتبع هذه الورقة تطور النشاط البيئي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ ذلك الحين، وتقدم مقترحات حول ما يمكن للمجتمع المدني العربي ووسائل الإعلام والحكومات القيام به قبل مؤتمرات القمة القادمة لمؤتمر الأطراف في مصر والإمارات العربية المتحدة.

origins-and-prospects-of-climate-change-activism-in-the-arab-region-rethinking-the-development-and-market-economy-model
نشطاء مغاربة ودوليون يحملون لافتات أثناء حضورهم مظاهرة ضد تغير المناخ خلال احتجاج في مراكش على هامش مؤتمر المناخ COP22 في تشرين الثاني/نوفمبر 2016. جلال المرشيدي -وكالة الأناضول

شكلت قمة الأرض التي عقدت في الريو (البرازيل) العام 1992، الشرارة الأولى لانطلاق الاهتمام بقضايا البيئة بشكل عام وقضية تغير المناخ بشكل خاص، في المنطقة العربية. في هذه القمة أقرت الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ للمرة الأولى، بعد سلسلة مؤتمرات وتقارير دولية تحدثت عن هذه المشكلة على مستوى العالم.  بعد هذا العام بدأ تأسيس الكثير من الجمعيات البيئية في المنطقة العربية، كما أدرجت حقيبة البيئة من ضمن حقائب الكثير من الحكومات آنذاك، بينها وزارة البيئة في لبنان التي أنشئت العام 1993. كما صدرت أول نشرة بيئية إعلامية في العالم العربي باسم "منبر البيئة"، في الفترة نفسها، تناولت موضوع تغير المناخ من ضمن تناول الكثير من القضايا البيئية المحلية الملحة (المرجع: مجلد "منبر البيئة" بين عامي 1997 و1999). لم تتأسس جمعيات متخصصة بقضايا تغير المناخ في تلك الفترة، بل ذهب الاتجاه نحو تأسيس الجمعيات المعنية بالمحميات الطبيعية في بلدان المنطقة، خصوصاً أن قمة الأرض في الريو المذكورة كانت قد أقرت أيضاً الاتفاقية المتعلقة بحماية التنوع البيولوجي، والتي أتبعتها بأجندة تمويلية تدعم إنشاء محميات (عرفت بأجندا  21).

في الخلاصة، لم يؤخذ موضوع تغير المناخ على محمل الجد في المنطقة العربية في بداية التسعينيات، لهذه الأسباب "التمويلية"، ولأسباب أخرى جعلت من هذه القضية على الهامش، إن على المستوى الرسمي أو على المستوى الأهلي والمدني، أو على المستوى الإعلامي. أول هذه الأسباب، أن الاتفاقية الإطارية نفسها لتغير المناخ ومن ثم إقرار البروتوكول التنفيذي الذي تبعها والذي عرف ببروتوكول كيوتو العام 1997، حمّلت البلدان المتقدمة صناعياً، "المسؤولية التاريخية" عن مشكلة تغير المناخ العالمي، إذ اعتبرت "الثورة الصناعية"، التي حصلت في الغرب، المسؤولة الأولى عن هذه الظاهرة، وحمّلت البلدان الصناعية مهمة أن تبدأ هي أولاً بخفض انبعاثاتها، وأعطت البلدان النامية مهلة عشر سنوات لكي تأخذ حقها من اعتماد النموذج التنموي نفسه، الذي اعتمد في الغرب وكان سبب تقدمه. هذا ما دفع البلدان النامية عامة، ودول المنطقة العربية خاصة إلى الاسترخاء، على اعتبار أن لا شيء مطلوباً منها دولياً، وأنها لا تساهم كثيراً بالانبعاثات والمشكلة (على المستوى العالمي)، بالمقارنة مع الدول المتقدمة صناعياً (مع انها قد توازيها أو تتجاوزها على مستوى انبعاثات الفرد). مع التمايز في مواقف حكومات ومنظمات المنطقة بين بلدان نفطية (حاربت قضية تغير المناخ وشككت بها بداية) وبلدان غير نفطية (لم تعتبر قضية المناخ بين الأولويات)، وذلك لأن المتهم الأول والرئيسي بتغير المناخ وبالانبعاثات، حسب التقارير الدولية ذات الصلة، هو احتراق الوقود الأحفوري في استخداماته كافة.

لم تتغير هذه النظرة إلا بعد ظهور البلدان التي صنفت ناشئة (أي بين المتقدمة وتلك النامية) مثل الصين، التي قررت اعتماد نفس النموذج التنموي الغربي وأحرقت الكثير من الفحم الحجري من أجل تقدمها ومنافستها... من دون الالتزام بشروط ومتطلبات خفض الانبعاثات... وأصبحت بعد العام 2007 الدولة الأولى في الإنتاج الاقتصادي والأولى في الانبعاثات العالمية، وقد سبقت الولايات المتحدة الأميركية في ذلك! وهذا ما دفع بالأخيرة إلى التراخي في تطبيق بروتوكول كيوتو والمطالبة بتعديله نهاية العام 2008، تحت ضغط مجموعات ضغط شركات النفط والصناعات الثقيلة وصناعة السيارات...الخ

لم تنجح الجهود في تعديل "بروتوكول كيوتو"، لا بل تراجعت بعض الدول الملتزمة به، وبدأت المطالبة باتفاقية جديدة وعالمية فعلاً، تطلب من كل دول العالم الالتزام بخفض انبعاثاتها، انسجاماً مع المقولة التي كانت الأمم المتحدة قد أقرتها لتحديد المسؤوليات بين الدول تحت عنوان "المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة". وهذا ما أنتج فيما بعد اتفاقية باريس العام 2015، التي اعتبرت أكثر شمولاً وأكثر عالمية... ولكن أقل طموحاً وإلزاماً للدول من "بروتوكول كيوتو"!

خرجت اتفاقية باريس المناخية بتسوية أرضت الجميع تحت عنوان رئيسي "المساهمات المحددة وطنياً"، أي أنها تركت الحرية لكل دولة أن تخفف ما تستطيع من انبعاثاتها، دون أن يكون هناك شيء ملزم ومعايير محددة أو موحدة... ولا سنة مرجعية! كما أنها نصت على تعابير مثل "مساهمات" بدل "التزامات"، بمعنى أن لا شيء ملزم ولا عقوبات إن لم تلتزم الدول الأطراف! وهذا ما سهل على الدول أن توقع على اتفاقية باريس بسرعة قياسية، ولكن سمح للمناخ أن يتراجع بنسب قياسية أيضاً، لأن النتائج والالتزامات كانت أقل من المطلوب!

وكانت الدول المجتمعة في قمة كوبنهاغن المناخية العام 2009 قد فشلت بإنتاج أسس اتفاقية جديدة وعالمية للمناخ. هذه القمة التي حشد فيها الكثير من المنظمات والناشطين والوفود الحكومية (قدرت بـ15 ألف مشارك) وما يقارب خمسة آلاف إعلامي لتغطية أعمال المؤتمر والضغط باتجاه تعهدات أكبر من الدول، بالإضافة إلى حشد كبير من الشباب المعترض الذي كان يضغط بالتظاهر من خارج أسوار المؤتمر (مرجع: كتاب "قضية تغير المناخ العالمي" الصادر عن دار الفارابي العام  2016).

وكانت الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية أثناء سعيها لإشراك الصين خصوصاً والدول النامية عموماً، في الالتزام بالإجراءات المطلوبة لخفض الانبعاثات العالمية، كانت تضغط أيضاً على البلدان النفطية الغنية، لاسيما العربية منها، لخفض انبعاثاتها وتسعى لتحميلها جزءاً من المسؤوليات عن تمويل التخفيف والتكيف. وتم تمويل شبكات غير حكومية من ناشطين من المنطقة العربية للعب هذا الدور الضاغط، بالإضافة إلى دخول شركات ناشئة تعمل بمشاريع الطاقة المتجددة ومشاريع حفظها وتوفيرها باعتماد تقنيات جديدة والترويج لها على خط الجامعات ومراكز الأبحاث والوزارات المعنية والإعلام…  والتي ساهمت في الحملات لإدخال الطاقات المتجددة بما يسمى "مزيج الطاقة".  وهذا ما يفسر أيضاً زيادة الاهتمام بقضية تغير المناخ، بشكل مباشر أو غير مباشر، في دول ومجتمعات المنطقة العربية.

كانت قد درجت العادة بأن تعقد قمم موازية لقمم المناخ الرسمية، تشارك فيها مجموعات من القوى المعارضة لنهج الدول في مقاربة قضايا تغير المناخ. صحيح أن الأمم المتحدة استوعبت لاحقاً بعض هذه القوى المعارضة، ولاسيما المنظمات والجمعيات الممولة، واستحدثت منصة للمتحدثين باسمها وباسم "الشباب" داخل مقر المؤتمرات الرسمية، إلا أن قسماً من المعارضين المتشددين بقي خارجاً. وهكذا كان آخر أكبر انقسام في المؤتمرات المناخية في قمة كوبنهاغن العام 2009، عندما انعقدت قمتان، واحدة رسمية نظمتها الأمم المتحدة (في البيلا سنتر) وأخرى أطلق عليها اسم قمة الشعوب (في كليما فوروم)، على مسافة 6 كيلومترات بينهما، تحت عنوان ركز على ضرورة تغيير الأنظمة المسيطرة لإنقاذ النظام المناخي. إلا أن هذا الاتجاه بدأ يتراجع في السنوات الأخيرة، إذ بات يتم الاكتفاء بتظاهر الشباب الناشطين أمام المقرات المخصصة لاجتماعات قمم المناخ. يعود سبب هذا التراجع إلى ضعف التمويل الدولي من جهة، ولأن اتفاقية باريس أوهمت العالم بأن كل دول العالم باتت ملتزمة باتخاذ إجراءات بتغير المناخ، من جهة أخرى. وباتت مهمة الأمم المتحدة والمنظمات المهتمة رصد ما تقدمه الدول من مساهمات، ومدى تحقيق أهداف اتفاقية باريس بأن لا تتجاوز حرارة الأرض1,5 درجات مئوية.

لم تكن دول المنطقة العربية ومنظماتها غير الحكومية ذات تأثير يذكر في المفاوضات المناخية السنوية تاريخياً إذاً، وقد بدأ الاهتمام يتصاعد، حين بدأ الحديث دولياً عن إشراك كل دول العالم في الالتزامات، وحين بدأت الظواهر المناخية المتطرفة بالظهور في المنطقة العربية فعلاً، خصوصاً في السنوات الأخيرة، مع زيادة الحرارة بدرجات قياسية إلى زيادة المتساقطات المتطرفة والفيضانات وزيادة  الجفاف وحرائق الغابات وشح المياه…الخ إلا أن زيادة الاهتمام، لم تكن تعني زيادة في صوابية تشخيص المشكلة وفي تحديد المطالب، التي كانت تتماهى تاريخياً مع مطالب الدول الـ77  النامية+الصين.

لم يعد كافياً اليوم، وبمناسبة انعقاد قمتين للمناخ في المنطقة العربية (نهاية هذا العام في مصر والعام المقبل في الإمارات العربية المتحدة)، أن يتم التأكيد من جديد على مسؤولية البلدان المتقدمة التي عليها أن تبادر أولاً وأن تتحمل المسؤولية التاريخية، بل يفترض أن تصبح المطالب الأكثر واقعية، بأن إنقاذ المناخ يتطلب التراجع عن النظام الحضاري المتقدم والمسيطر القائم على فكرة "التنمية" التي تعني الزيادة في الإنتاج والاستهلاك إلى درجات غير محدودة أو محددة. هذه "الزيادة" التي يدفع ثمنها العالم أجمع دون تمييز بين نوعيات الأنظمة والشعوب والطبقات والألوان والمعتقدات.

فلو طالبت البلدان النامية منذ البداية (أي منذ إقرار أول اتفاقية إطارية للمناخ العام 1992  وبعد أن انتزعت اعتراف الدول الصناعية المتقدمة والغنية بمسؤوليتها التاريخية عن تراكم الانبعاثات في الغلاف الجوي) البلدان المتقدمة بأن تتراجع عن نموذجها الحضاري المدمر أولاً والتعويض للبلدن النامية لتمويل الانتقال إلى نموذج بديل، أقل إبهاراً في التنمية، كما كان يطالب الكثير من فلاسفة البيئة، بدل أن يكون مطلبها بأنها تريد أن تأخذ فرصتها من التنمية، لما كان العالم قد وصل اليوم إلى نقطة اللاعودة في معالجة التغيرات المناخية المدمرة والتي ستطيح بكل مكتسبات التنمية التي عرفتها البشرية!

فآخر الإحصائيات التي تقدر كلفة معالجة 3 كوارث مناخية فقط (الفيضانات وحرائق الغابات وزيادة حرارة الارض درجة واحدة) كانت 150 مليار دولار العام 2020 وأكثر من 170 مليار دولار العام 2021، أي ما يشكل ضعف ما كان على الدول المتقدمة أن تجمعه في صندوق المناخ سنوياً ولم تفعل! إذ تنص اتفاقية باريس على أن تضخ الدول المتقدمة في صندوق المناخ مئة مليار دولار سنوياً مع البدء بتطبيق هذه الاتفاقية العام 2020. وها قد مرت سنتان على موعد تطبيق هذه الاتفاقية ولم يتم الوفاء بالتعهدات المالية، كما تبين في المؤتمر الـ26 للمناخ الذي انعقد نهاية العام الماضي في غلاسكو (سكوتلاندا)، في وقت تسجل الكوارث وأكلافها المادية والبشرية أرقاماً قياسية تصاعدية سنة بعد أخرى.

انطلاقاً من كل ذلك، ما الذي يمكن أن تحمله المجتمعات والمنظمات العربية والإعلام للضغط باتجاه قمة المناخ الـ27   للدول الأطراف التي ستنعقد في مصر (شرم الشيخ) قبيل نهاية هذا العام، مع العلم أن جامعة الدول العربية ووزراء البيئة العرب كانوا قد أصدروا ورقة مبادئ إرشادية للمفاوضين، إلا أن الغالب عليها هو تحديد ما هو مطلوب من الآخرين، لاسيما البلدان المتقدمة، أكثر مما هو مطلوب من دولنا نفسها؟ فما هو المطلوب من العالم المتقدم؟ وما هو المطلوب من دول المنطقة العربية ومن القوى المجتمعية الناشطة في مجال قضية تغير المناخ؟

أول المطالب المنقذة يجب أن تتركز على ضرورة تغيير النموذج الحضاري المسيطر، وضمنه نموذج التنمية المعتمد.

ثاني هذه المطالب، أن تعود الدول النامية إلى المطلب الأول الذي تخلت عنه بعد اتفاقية باريس، بضرورة نقل التكنولوجيا الصديقة للبيئة إلى البلدان النامية من دون أن تمر هذه التقنيات بقواعد منظمة التجارة العالمية ومن دون أن تتمتع بحماية قوانين حماية الملكية الفكرية، وأن تصبح العلوم الحديثة ونتائجها التقنية ملك البشرية جمعاء (لأنها هي بالأصل كذلك) كأهم تعويض مستحق على البلدان المتقدمة.

ثالث هذه المطالب، التخلي أو تعديل نظام اقتصاد السوق القائم على المنافسة. فالعالم الخاضع لاقتصاد السوق القائم على "المنافسة" بين الدول لا يمكن أن يحل قضية عالمية مدمرة مثل تغير المناخ تحتاج إلى "تعاون" هذه الدول.

بالإضافة أخيراً إلى ضرورة تغيير الأنظمة الاقتصادية في العالم وفي البلدان النامية في آن، نحو الحفظ والتوفير بدل "التنمية"، وتغيير الأنظمة الصحية، نحو تشجيع سياسات حماية  الموارد الطبيعية والوقاية والمحافظة على الصحة بدل سياسات الاستشفاء الخاضعة لسيطرة شركات الأدوية والتكنولوجيا الطبية، وتحرير الأنظمة التربوية والتعليمية من هيمنة السوق القائم على المنافسة، وإعادة النظر بالأنظمة الغذائية السريعة باتجاه تلك الأكثر نباتية، ودعم الزراعة العضوية بدل تلك الكيميائية، والسياحة المستدامة بدل تلك التقليدية، وترشيد استهلاك المياه وحماية مصادرها، وإعادة الاعتبار إلى سياسات دعم النقل العام بدل هيمنة النقل الخاص والتوسع في استخدام السيارات الخاصة، وتشجيع ودعم لامركزية الطاقة المتجددة والنظيفة، تحت شعار مركزي جديد ومتواضع: طاقة أقل ولكن طاقة للجميع، صديقة للبيئة والمناخ وأكثر استدامة…الخ

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.