انتفاضة الجزائر: هل تصلح الهتافات كنواة لمشروع سياسي جديد؟

جزائريون يلوحون بالعلم الوطني ويهتفون بالشعارات أثناء مسيرات احتجاجية قبل يوم من الانتخابات الرئاسية في الجزائر، 11 ديسمبر 2019. EPA-EFE/MOHAMED MESSARA © EPA-EFE/محمد مسارة

 

في الثاني والعشرين من فبراير/شباط، خرج آلاف الجزائريين إلى الشوارع احتجاجًا على ترشّح الرئيس بوتفليقة لولايةٍ خامسة. ويعدّ هذا الحراك غير المسبوق في الجزائر متفرّدًا على عدّة أصعدة؛ فهو سلمي ومتجذّر في الأحياء الشعبية ويقوده جيلٌ جديد من النشطاء الشباب. بعد سنوات من "حقرة" النظام للمهمّشين والشباب والمعارضين السياسيين، لاحت فجأةً وبشكلٍ عفوي وسلمي بارقة أمل. خلال  الاحتجاجات، أظهر الشباب الجزائري إبداعًا مذهلاً في التعبير عن مطالبهم السياسية على الرغم من استبعادهم من المجال السياسي الرسمي لعقود، وازدرائهم ورفضهم للسياسة. ألّف الشباب هتافاتٍ وأغاني مجازية مركّبة للتعبير عن سخطهم، إلا أنها ليست جديدة تمامًا عليهم؛ بل هي مستعارة من أغاني وهتافات "الألتراس" التي يتغنّون بها في الملاعب، والمستلهمة من الفولكلور الشعبي الجزائري؛ حيث شهدت عملية إعادة إحياءٍ في العقد الأخير، وبدأت في تضمين رسائل سياسية قوية.

تسعى تلك الورقة إلى تحليل وتفكيك وتفسير ثلاثة من الهتافات والأغاني التي وُلِدت في صفوف الألتراس في الملاعب الجزائرية وتبنّاها المتظاهرون كبديلٍ للمشروعات السياسية التقليدية. وتعكس تلك الهتافات استياءً كبيرًا من الوضع الراهن، وغالبًا ما تجد جذورها في الثقافة الشعبية وأهازيج المهمّشين والمنسيين في الجزائر.

من الاستاد إلى الشارع: ثورة الألتراس

ظل انتقاد نظام بوتفليقة بشكلٍ صريح من الممنوعات لسنواتٍ طويلة، ولم يكن هامش النقد المتاح سوى ظاهري؛ إذ كان العديد من الصحفيين والنشطاء يتعرّضون للقمع من السلطة إن أقدموا على كشف الحقائق. أما في الملاعب، حيث يجتمع الشباب والمتمرّدون والمضطّهدون، كانت الجماهير تتمتّع بمساحةٍ نسبية من الحرية للتعبير عن رفضها ومعارضتها للنظام، وهناك برع الألتراس في تأليف هتافاتٍ وأغانٍ غالبًا ما تكون معادية للنظام. وبفضل وجود قدرٍ من التضامن بين المشجّعين، شكّلت الملاعب "منطقةً آمنة" مؤقّتة لم تكن تجرؤ قوّات الشرطة على اقتحامها، بل كانت تنتظر انتهاء المباريات حتى تقوم بهجومها.

اعتاد المشجّعون هجمات قوّات الشرطة وصاروا على أتم استعدادٍ لمواجهتها. ولكن بشكلٍ عام، لم تكن الحكومة ترى في الألتراس وأغانيهم تهديدًا لسلطتها، ولم تتّخذ خطواتٍ تُذكَر لمعالجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردّية لتلك الفئات المهمّشة التي تعيش في بيئةٍ ينتشر فيها العنف وتداول المخدّرات. لا شك أن السلطات استهانت بقدرة الألتراس على حشد وتعبئة المزيد من الجماهير خارج صفوفها، والنضال من أجل الحصول على الاعتراف المجتمعي والعدالة الاجتماعية، ولم تكن تتصوّر أن تلعب مثل هذا الدور الحيوي في الحراك الشعبي القائم.

لقد عبّرت الأغاني التي كتبتها جماهير الألتراس، مثل مشجّعي نادي اتحاد العاصمة الجزائري "أولاد البهجة" أو مشجّعي مولودية الجزائر "الفاردي ليوني"، إلى جانب الهتافات الأخرى التي يتغنّى بها المشجّعون، عمّا أراد الشعب أن يبوح به منذ زمن؛ وهو أن الظلم لم يعد مقبولاً والتطلّع إلى الحرية حقٌّ  مشروع، وأن على الحكومة تحسين الأوضاع المعيشية وتأمين حياةٍ أفضل لكافة أفراد الشعب. تبنّى المتظاهرون باختلاف انتماءاتهم الفكرية والاجتماعية تلك الهتافات على نطاقٍ واسع منذ بدء الاحتجاجات في فبراير؛ لكونها تشير إلى تجاربٍ مؤلمة مشتركة، حديثة نسبيًا، صارت تشكّل جزءًا من الذاكرة الجمعية، وتسترجع روح المقاومة المستقاة من تاريخ الجزائر النضالي من أجل نيل الاستقلال. هكذا قادت الهتافات، بوصفها تعبيرًا عن مظالم مشتركة ورموزًا للاحتجاج الجماعي، إلى "مصالحةٍ" بين أكثر الفئات حرمانًا – والتي عادةً ما ينتمي إليها الألتراس – وأوفرها حظًّا، بعد أن كانت تفصلها سنواتٌ من اللوم المتبادل على الوضع الذي آلت إليه البلاد، وتبنّت كلا الفئتين نفس هتافات "المضطّهَدين" في مواجهة "الظالمين". صارت تلك الهتافات شعار الجماهير المتحمّسة، وقاد الألتراس المسيرات مردّدين أغانيهم الحماسية وسط آلاف المتظاهرين، الذين يحفظون الأغنية تلو الأخرى عن ظهر قلب. هكذا وحّدت الهتافات والأغاني المتظاهرين بتبنّيها استعاراتٍ جديدة، لتفسح الطريق أمام تحليلٍ مشترك لأسباب الاحتجاج وتشكّل رؤيةً جماعية لما يجب أن يكون عليه المستقبل.

الهتافات كأدواتٍ مؤطِّرة للحراك

"جيبو البياري وزيدو الصاعقة مكانش الخامسة يا بوتفليقة"

كان هذا أوّل هتافٍ ردّده المتظاهرون في الثاني والعشرين من فبراير/شباط، حين أعلن الموالون لبوتفليقة دعمهم لإعادة ترشّحه لولايةٍ خامسة، وفيه يتحدّى المتظاهرون الحكومة أن ترسل فرق البحث والتدخّل وقوّات الصاعقة، للتأكيد على عزمهم الحول دون ترشّح بوتفليقة مهما لزم الأمر، وعدم خوفهم من القمع. كما يعكس الهتاف كذلك إدراك المتظاهرين لقدرة النظام على استخدام العنف، وصمودهم واستعدادهم لمواجهته، معتبرين الحراك "فرصتهم الأخيرة" لإحداث تغييرٍ حقيقي. رغم ارتباطه بالأسابيع الأولى للحراك قبل تنحّي بوتفليقة في الثاني من إبريل/نيسان 2019، ظل هذا الهتاف من أقوى شعارات الحراك، وذلك لعدّة أسباب: أولاً، لأنه يبعث برسالةٍ واضحة وحاسمة للنظام، مفادها أن بوتفليقة لن يترشّح أبدًا لولايةٍ أخرى. وثانيًا، لأنه يعكس عزم المتظاهرين وإصرارهم على مواصلة الحراك رغم وعيهم بالعواقب المحتملة المتمثلة في لجوء النظام للعنف. وثالثًا، لأنه أرسى مبدءًا ثابتًا لتسير عليه كافة الاحتجاجات، ألا وهو الحفاظ على طبيعة الحراك السلمية مهما كان الثمن. هذا الهتاف الذي وُلِد معه الحراك يعكس نيةً واضحة في الالتزام بالسلمية، ويشجّع المتظاهرين على الصمود في وجه القمع المفرط. فلا شك أن الدعوة إلى التظاهر السلمي تحمل في طياتها هدفًا مزدوجًا؛ وهو خلق حراكٍ غير عنيف وبناء الصمود لمواجهة القمع.

"لاكاسا دي المرادية": نشيد الحراك

صدرت أغنية "لاكاسا دي المرادية" (قصر المرادية) لفريق "أولاد البهجة" في إبريل/نيسان 2018، و هو فريق موسيقي من أعضاء ألتراس مشجّعي نادي اتحاد العاصمة الجزائري. وقد استلهم الفريق عنوان أغنيتهم من مسلسل "لاكاسا دي بابل" الأسباني الشهير المذاع على  "نيتفليكس"، وفيها يقارنون بشكلٍ ساخر الرئاسة، التي يقع مقرّها في قصر المرادية بالجزائر العاصمة، بعصابةٍ من اللصوص. تعكس الأغنية روح الفريق الثورية، وتتناول قضايا الحرية والوعي السياسي للشباب ورفض نظام بوتفليقة والأوليجارشية المحيطة به بالإجماع.1من أبرزهم علي حدّاد، رئيس منتدى رؤساء المؤسسات ومالك نادي اتحاد العاصمة الجزائري.

المقطع الأساسي لأغنية "لاكاسا دي المرادية" عبارة عن شكوى تفطر القلب من شابٍ يعيش في ظروفٍ صعبة، وينعى في غضبٍ وضيق حياته الشاقة. ويعكس المقطع الاحتقان واليأس الذي يشعر به الشباب في الجزائر؛ فقد أعيتهم الحياة وأصبحوا لا ينامون (بمعنى آخر، يقضون لياليهم في تعاطي المخدّرات)، ولا يعلمون من المسؤول تحديدًا عمّا هم فيه. أما باقي كلمات الأغنية فتشير صراحةً إلى وقائع فعلية؛ حيث يعطينا "أولاد البهجة" نبذةً عن كل فترة من حكم بوتفليقة من خلال أبرز سلبياتها. ففي الفترة الأولى، لم يعارض أحد ترشّح أو انتخاب بوتفليقة لأن الجميع كان لا يزال يعيش في صدمةٍ عقب عقدٍ من العنف من جراء الحرب الأهلية. وفي الفترة الثانية، ظهرت نوايا بوتفليقة في الاستئثار بالحكم بتعيين مسؤولين جدد من المقرّبين له. وفي الفترة الثالثة ثبّت أواصر حكمه بأن عدّل الدستور لتمديد فترة ولايته، كما منح رجال الأعمال الفاسدين مزيدًا من النفوذ. أما في الفترة الرابعة، فيُشار إلى بوتفليقة باعتباره "دمية" بعد أن أصيب بالشلل وأصبح غير قادر على الكلام والحركة، ناهيك عن الحكم، وبالتالي كان يحرّكه أفراد حاشيته2يرى العديدون أن عبد العزيز بوتفليقة أجبِر على البقاء في الحكم من أخيه سعيد بوتفليقة، الذي كان يسيطر عليه ويحكم البلاد بدلاً منه من 2014 إلى 2019. .

كان المشجّعون يغنّون "لاكاسا دي المرادية" في الملاعب منذ عام 2018، وسرعان ما تبنّاها المتظاهرون في أسابيع الحراك الأولى. بكلماتها البسيطة ولحنها المؤثّر ورسائلها القوية عن وضع البلد، تعتبر تلك الأغنية نشيد الحراك، لكونها تصف بدقّة معاناة جيل كامل من الشباب. علاوةً على ذلك، تعكس الأغنية فهمًا جيّدًا للقضايا السياسية المعقّدة بصورةٍ تدعو إلى الدهشة.

"قولو للقايد نافيقي كارت شيفاء، والشعب راو فايق، حنا نحينا بوتفليقة"

عقب استقالة بوتفليقة في إبريل/نيسان 2019، أصبح أحمد قايد صالح، نائب وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش، أعلى سلطة في البلاد، واعتبره المحتجّون واجهةً جديدة للنظام3هذا بالرغم من أن عبد القادر بن صالح عُيّن رسميًا رئيسًا مؤقّتًا خلفًا لبوتفليقة. . يعتبر هذا الهتاف الأول الذي يُذكَر فيه اسم قايد صالح صراحةً باعتباره هدفًا أساسيًا للحراك، وفيه يدعوه المتظاهرون إلى استخراج بطاقة الشفاء، وهي طريقة ساخرة لمطالبته بالتقاعد (سن التقاعد للرتب العليا بالجيش 65 عامًا)، كما يذكّرونه بأن الشعب هو من أن أزاح بوتفليقة عن الحكم، وليس هو كما يردّد دائمًا4دعا قايد صالح في مارس 2019 إلى تطبيق المادة 102 من الدستور، والتي تنص على خلع الرئيس إذا استحال أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير و مزمن. . بهذا الهتاف، طالب المتظاهرون بالرحيل غير المشروط لقايد صالح، وقلّلوا من شأن دوره في ما حقّقوه من نجاحاتٍ سابقة. كما ألحق المتظاهرون بهذا الهتاف جملةً أخرى تؤكّد على رفضهم لاستمرار الحكم العسكري الذي تخضع له الجزائر منذ استقلالها عام 1962، وتطالب بحكمٍ مدني ("قولولو سبعة وخمسين سنة عسكرية، قولولو حنا حبيناها مدنية").

"يا علي عمار، بلادنا فل دنجي، نكملوا فيها لا باتاي دالجي، مكاش مارش اريير او دولة فوريير، اليد في اليد، ندوا الاستقلال"5الهتاف يتخلله كلمات فرنسية، ويعني: "يا علي عمّار بلادنا في خطر، لنواصل فيها معركة الجزائر، لا عودة إلى الوراء، يد بيد سنحصل على الاستقلال".

يعد هذا الهتاف الأخير  شديد الخصوصية لدلالته بين جماهير الألتراس؛ فهو بمثابة نداء استغاثة موجّه إلى علي عمّار، أحد أبطال حرب الاستقلال التي خاضتها الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، والذي يتشابه مع الألتراس من حيث الوضع الاجتماعي والسلوك تجاه السلطة؛ حيث عانى من الفقر في فترة مراهقته التي قضاها في القصبة (حي عتيق)، ولكن كان له دورًا هامًا للغاية في معركة الجزائر. في شبابه، اكتسب علي عمّار سمعة "الولد الشرير"، حيث زُعِم تورّطه في أعمال تهريبٍ وسرقة ضد شركاتٍ فرنسية، وممارسة المقامرة. عقب انضمامه إلى الحركة الثورية، اعتبره الاستعمار عنصرًا خطرًا بسبب إتقانه لتكتيكات حرب العصابات، وبسبب ميثاق الشرف الخاص به. لا عجب إذًا أن تم اختيار علي عمّار من بين جميع شهداء الثورة للاستشهاد به؛ فهو يمثّل المهمّشين والفقراء في حماسهم وتحدّيهم للسلطة وإعطاء الأولوية للشرف. أمّا الهتاف نفسه فهو  رسالة إلى علي لتذكيره (وتذكير الحراك) بأن المتظاهرين الشباب سيواصلون مسيرته ومعركة الجزائر، ولكن بشكلٍ سلمي. وأخيرًا يعتبر الهتاف دعوةً للتضامن وتذكيرًا للجميع بأن الحراك هو الفرصة الأخيرة الباقية أمام البلاد لتنال استقلالها "الحقيقي" عن الفساد.

حراكٌ شعبي أفقي يرفض التمثيل: ما بعد مثالية الحراك

منذ 22 فبراير/شباط، ألّف المتظاهرون وغنّوا أسبوعيًا عشرات الأغاني والهتافات الإبداعية، التي، على بساطتها، تحمل رسائل سياسية واضحة وقوية تطالب بحلّ النظام بأكمله، وتعبّر عن السخط والحاجة إلى التضامن والتوحّد لمواجهة النظام وتحدّيه. على غرار المظاهرات الحالية في لبنان والعراق، يرفض حراك 22 فبراير/شباط أن يمثِّله أشخاص، وباءت كل محاولات تنظيمه وهيكلته من أحزاب المعارضة أو منظمات المجتمع المدني بالفشل، كما رفض الانصياع إلى وجوهٍ كاريزمية أو توافقية ولكل أشكال السلطة. وقد دفع انعدام الثقة في النخب السياسية المتظاهرين إلى رفض الحوار مع النظام، واختاروا عوضًا عن ذلك توجيه الرسائل إليه عبر الهتافات والشعارات التي رفعوها، والرد على بعض التصريحات أو القرارات الرسمية بهتافاتٍ جديدة، أو  التعبير عن تجاهلهم التام للحكومة عن طريق الأغاني الساخرة. ساعدت الهتافات الحراك على انتزاع مكتسباتٍ هامة، بعد أن أظهرت التلاحم الاجتماعي والوعي السياسي للجماهير ووحّدتهم حول المطالب. لا شك أن الهتافات أبرزت مطالب مشتركة وساعدت على التمسّك بها، على رأسها استقالة الرئيس بوتفليقة وإلغاء ثلاثة انتخاباتٍ رئاسية واستقالة عددٍ من الوزراء، كما أسهمت في تعرية النظام وفقدان مصداقيته لدى الشعب الجزائري.

بيد أن الهتافات لا يمكن أن تظل إلى الأبد بديلاً للحوار السياسي. لقد نشأت حول العالم العديد من الحركات الاجتماعية الرأسية التي تشترك جميعها في رفض وجود ممثّلين عنها،  وهي تضرب لنا مثالاً للعزيمة والإصرار والسعي لتحقيق تغييرٍ جذري، من أجل إعادة ثقة الناس في السياسة. فاليوم، تتمثّل رؤية المحتجّين الجزائريين الوحيدة للتغيير في هدم النظام بالكامل، بممارساته التمييزية الفاسدة. ولكن في نهاية المطاف، هناك تساؤلٌ مشروع لا مفرّ منه: كيف يمكن إنهاء نظامٍ سياسي دام لعقود إذا لم يُطرَح أي مشروع سياسي بديل؟

بفضل شبابه، أظهر الحراك قدرةً مذهلة على التعبير عن مطالب واضحة بكلماتٍ بسيطة، مما ساعد على الحفاظ على تماسك مختلف الفئات الاجتماعية المشاركة فيه. وإذا كانت تلك الهتافات قد ولِدت في الملاعب، فإنها تلخّص ما يطمح إليه الجزائريون: دولة مدنية تضع نهايةً للحكم العسكري الذي يسيطر على البلاد منذ الأزل، ورحيل وجوه النظام السابق، ووضع حد للفساد، وزيادة المشاركة السياسية، وتحسين الظروف المعيشية من خلال استرتيجياتٍ اقتصادية معَدّة بعناية. وبالتالي، يمكن للمثقفين الذين يتّسمون بالمصداقية ومنظمات المجتمع المدني (المجالس المحلية أو المبادرات المستقلة) العمل على فهم الحركة الاجتماعية بشكلٍ أفضل واستخراج المضمون السياسي والمقترحات السياسية الرسمية من الهتافات. على سبيل المثال، يمكن تنظيم حلقات نقاشية تشاركية تشمل الجميع ومشاورات على المستوى المحلي بهدف صياغة مقترحات اجتماعية واقتصادية وسياسية منظَّمة تلبّي المطالب التي رفعها الحراك.

وأيًا كانت النتيجة، فإن مثل هذه المقترحات، إذا تحقّقت، تعتمد على وجود إرادة سياسية قوية لدى السلطة التي يجب أن تأخذ في الاعتبار الديناميات الجديدة القائمة منذ فبراير، والمتمّثلة في تطلّع الشعب، وخاصة الشباب، إلى لعب دور رئيسي في إدارة البلاد. وإذا كان من الصعب إقناع الشعب الجزائري بالاصطفاف خلف أشخاصٍ يمثّلونهم، فمن الضروري اختيار آلياتٍ للمشاركة تبدأ من المستوى المحلي. على الرغم من المعارضة الشعبية، يضغط النظام الجزائري بشدة لإجراء انتخابات رئاسيةٍ في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، الأمر الذي قد يثير غضب الحراك.

من الأهمية بمكان أن نفهم أن الجيل الجديد من الجزائريين، مثل أقرانهم في لبنان أو تشيلي أو الإكوادور، قد وعوا أن الدول لا يمكنها البقاء إذا لم يتم تبني أساليب جديدة للعمل، خاصةً  مع ظهور الشبكات الاجتماعية. فلا يمكن أن تستمر الأنظمة الاستبدادية المركزية إلى أجلٍ غير مسمى، ويجب تنفيذ إصلاحاتٍ عميقة قائمة على المشاركة، تستند إلى حلولٍ مجتمعية. في الواقع، عكس الحراك رغبة المجتمع في إعادة السلطة إلى الشعب والتحرّر من فساد المؤسسات شديدة المركزية التي تعمل من أجل مصالحها غير مكترثة بمستقبل الشعب. ونظرًا لنجاح الحراك الجزائري في خلق التماسك بين مختلف فئات وطبقات المجتمع، من الضروري أن نفهم أن الهتافات قد لا تكون مجرد وسائل ساخرة وبسيطة للتعبير عن الاستياء والمعارضة، وإنما يمكن أن تكون نواةً لمشروعٍ سياسي حقيقي.

Endnotes

Endnotes
1 من أبرزهم علي حدّاد، رئيس منتدى رؤساء المؤسسات ومالك نادي اتحاد العاصمة الجزائري.
2 يرى العديدون أن عبد العزيز بوتفليقة أجبِر على البقاء في الحكم من أخيه سعيد بوتفليقة، الذي كان يسيطر عليه ويحكم البلاد بدلاً منه من 2014 إلى 2019.
3 هذا بالرغم من أن عبد القادر بن صالح عُيّن رسميًا رئيسًا مؤقّتًا خلفًا لبوتفليقة.
4 دعا قايد صالح في مارس 2019 إلى تطبيق المادة 102 من الدستور، والتي تنص على خلع الرئيس إذا استحال أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير و مزمن.
5 الهتاف يتخلله كلمات فرنسية، ويعني: "يا علي عمّار بلادنا في خطر، لنواصل فيها معركة الجزائر، لا عودة إلى الوراء، يد بيد سنحصل على الاستقلال".

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.