انتخابات نقابة الصحفيين المصرية: الأهمية والقيود والآفاق

خالد البلشي © حسام الحملاوي / Flickr

"الهزيمة السياسية الأولى للنظام منذ 10 سنوات"، بهذه الكلمات صرح فتحي أبو حطب، المدير العام السابق لصحيفة "المصري اليوم" اليومية كبرى الصحف المصرية، في أعقاب فوز خالد البلشي في الانتخابات التي جرت لرئاسة نقابة الصحفيين بعد منافسة قاسية مع القوى الموالية للنظام.1فتحي أبو حطب، موقع تويتر، @fmhatab، 18 آذار/مارس 2023: https://twitter.com/fmhatab/status/1636911065203200001 . لم يكن أبو حطب وحده يشعر بمثل هذا الابتهاج. فقد تعالت الهتافات في أرجاء مبنى النقابة الواقع في قلب القاهرة ربما للمرة الأولى منذ احتجاجات عام 2016 ضد تسليم جزيرتين في البحر الأحمر إلى السعودية، بينما فاضت مواقع التواصل الاجتماعي بمنشورات من الصحفيين والمعارضين الذين أيدوا بحماس هذا النصر بوصفه إحياءً للنشاط الثوري.2على سبيل المثال،  انظر حساب بسمة مصطفى، موقع فيسبوك، 17 آذار/مارس 2023:https://www.facebook.com/Basma.mustafa2012/posts/pfbid0Vf5cLoB54MD7iCZptLPe1YTtX7Dc4cS1oH8ddCwZAKgjpkFwm2D9CSpBVvvJJCGYl.

ماذا حدث؟

تنافس ما يقرب من عشرة صحفيين على منصب رئيس النقابة، وجميعهم ينتمون إلى صفوف المؤسسات الإعلامية التي تديرها الدولة، باستثناء خالد البلشي، وهو صحفي يساري مخضرم يدير البوابة الإلكترونية لـ "حزب التحالف الشعبي الاشتراكي".3موقع "درب" الإلكتروني:https://daaarb.com/ وتنافس 40 مرشحاً آخر على ستة مقاعد في مجلس النقابة.4Gamal Essam El-Din, “Heated Press Syndicate Elections,” Al-Ahram Weekly, March 17, 2023, https://english.ahram.org.eg/News/491727.aspx.

تاريخياً، كان المرشحون من المؤسسات التي تديرها الدولة يترشحون عادةً بعد حصولهم على ضوء أخضر واضح من الأجهزة الأمنية ويعتمدون على صلاتهم بالبيروقراطية الحكومية لضمان فوزهم. ولم يكن مثل هذا الاعتماد على دعم الدولة سراً من قبل هؤلاء المرشحين. بل على العكس من ذلك، فقد اعتادوا تسليط الضوء عليه كجزء من مواطن قوتهم، لأن هذا يعني أنهم قادرون على ضمان بعض الامتيازات الاقتصادية للمجتمع الإعلامي، مثل زيادة المعاشات التقاعدية، ومزيد من البدلات المالية، وبعض الخدمات الاجتماعية، لمجتمع ينحدر أغلب أفراده من الطبقات المتوسطة الدنيا. فقد كان ذلك بمثابة حيلة لعقد تحالف مع الشيطان إلى حد ما، إذ يُتوقع من الصحفيين الابتعاد عن انتقاد النظام والقضايا المتعلقة بالحريات المدنية، في مقابل بعض الحراك الاجتماعي.

في الانتخابات السابقة، عادةً ما يتنافس المرشحون المدعومون من الدولة ضد الآخرين الذين دافعوا عن "تيار الاستقلال" - وهي تسمية عامة تستخدم لوصف الصحفيين الذين ينتمون إلى أحزاب المعارضة أو المرشحين الذين تدعوا برامجهم الانتخابية إلى "استقلال" وسائل الإعلام عن سيطرة الدولة. وتنتمي الفئة الأخيرة في الغالب إلى المنافذ الإعلامية التي يملكها رجال أعمال من القطاع الخاص وأحزاب المعارضة، ولكن ليس دائماً. على سبيل المثال، ضياء رشوان، نقيب الصحفيين السابق، وهو باحث وخبير ناصري في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، برز في أعقاب انقلاب 2013 كحليف قوي للنظام، ومع ذلك فقد كان مرشح تيار الاستقلال عام 2009 ضد مكرم محمد أحمد المدعوم من الدولة آنذاك. وفي حين تمكن تيار الاستقلال في كثير من الأحيان من انتخاب المرشحين لمجلس إدارة النقابة، إلا أنهم نادراً ما فازوا بالرئاسة.

أثار البلشي مفاجأة بفوزه بمقعد النقيب في 17 آذار/مارس، بينما فاز المرشحون الآخرون الذين كانوا جزءاً من تيار الاستقلال بأربعة من مقاعد مجلس إدارة النقابة الستة المتنافس عليها. ويضم مجلس النقابة ستة مقاعد أخرى لم تكن مطروحة للانتخابات هذه المرة، اثنان منها يشغلهما بالفعل تيار الاستقلال. وهذا يعني أن تيار الاستقلال يشغل الآن ستة مقاعد من أصل 12 مقعداً في مجلس إدارة النقابة، بالإضافة إلى منصب النقيب، مما يمنحها سيطرة الأغلبية على قيادة نقابة الصحفيين. ولم تتحقق مثل هذه الأغلبية إلا في مرات قليلة في السابق، قبل عام 2016.

من هم الفائزون وماذا يمثلون؟

خالد البلشي، هو أحد كبار الصحفيين اليساريين ويبلغ من العمر 50 عاماً. سبق له أن عمل كاتباً صحفياً في العديد من الصحف المعارضة البارزة ثم رئيس تحرير، من بينها جريدة "الدستور" (في نسختها القديمة النارية) وصحيفة "البديل" اليومية اليسارية. وأطلق عدد من المشاريع الصحفية عبر الإنترنت لاحقاً، والتي توقف معظمها لأسباب مالية و/أو الرقابة الحكومية.

يحظى البلشي بشعبية بين الصحفيين الشباب. فقد كان ناشطاً في السياسة النقابية في مرحلة مبكرة وانتخب في السابق عضواً في مجلس إدارتها. وهو معروف بدعمه النضالات العمالية، والحملات المناهضة لوحشية الشرطة، وشارك في احتجاجات الشوارع قبل وبعد ثورة 2011. وواجه حملات تشهير شنتها الدولة عليه في العديد من المناسبات ودعاوى قضائية.5Mahmoud Mostafa, “Arrest Warrant Issued for Press Syndicate Leader Khaled El-Balshy,” Daily News Egypt, April 4, 2016, https://www.dailynewsegypt.com/2016/04/04/arrest-warrant-issued-press-syndicate-leader-khaled-el-balshy/. علاوة على ذلك، استهدفت الدولة زملائه وأفراد عائلته.6"وسيلة ضغط شنيعة": السلطات المصرية تستهدف أقارب وزملاء الصحفي خالد البلشي، مراسلون بلا حدود، 14 تشرين الأول/أكتوبر 2020: https://rsf.org/en/egyptian-authorities-pressure-editor-jailing-his-brother-colleagues; Rūzā Fahmī  روزا فهمي، إدارة سجن ليمان طرة تتعنَّت مع كمال البلشي وترفض إدخال طعام وملابس ومستلزمات نظافة إلى محبسه،  14 تشرين الأول/أكتوبر 2020: https://revsoc.me/-42937

انطلق البلشي في المعركة الانتخابية مستعيناً ببرنامج انتخابي مفصل ربط في طياته بمهارة بين النواحي الاقتصادية والأوضاع السياسية.7برنامج البلشي الانتخابي: https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=pfbid05ymLkRae1JJ4k6sTPnGNNvFHekrZeQX3czdBNxanQQwCshxLHxngCCfFZHVMghJLl&id=100090090952339. تناول برنامجه قائمة طويلة من المظالم المتعلقة بالرواتب والأمن الوظيفي والخدمات الطبية وظروف العمل. ودون رفع أي شعارات علنية مناهضة للسيسي أو مناهضة للنظام، أكد أنه يسعى بترشحه إلى استعادة دور النقابة كمساحة آمنة للصحفيين للتنظيم دفاعاً عن حقوقهم. واتخذ موقفاً واضحاً تضامناً مع الصحفيين المعتقلين، ودعا إلى تعديل القوانين التي تحد من حرية التعبير، وطالب برفع الحجب فوراً عن المواقع المحجوبة على الإنترنت. وفاز في النهاية بفارق ضئيل بلغ 2443 صوتاً مقابل 2211 صوتاً حصل عليها منافسه الرئيسي خالد الميري المدعوم من النظام.8  “Khaled El-Balshy elected new head of Egypt’s Journalists Syndicate,” Ahram Online, March 17, 2023, https://english.ahram.org.eg/News/491905.aspx.

أما الأعضاء الستة في مجلس النقابة، وهم من مؤيدي تيار الاستقلال، فهم جمال عبد الرحيم، ومحمد الجارحي، ومحمد خراجة، ومحمد سعد، ومحمود كامل، وهشام يونس.9"قائمة أعضاء مجلس النقابة"، موقع نقابة الصحفيين المصرية، تم الإطلاع عليها في آذار/مارس 2023: https://www.ejs.org.eg/page_view.php?id=48935. تختلف انتماءات هؤلاء الأعضاء، إذ ينتمي سعد للتيار الناصري، ويعتقد أن خراجة مقرب من الإسلاميين، على الرغم من أنه غير منتسب إليهم، وربما يكون الأقل انخراطاً في السياسية بينهم وينظر إليه عموماً على أنه أكثر توجهاً نحو تقديم الخدمات. والبقية ليس لديهم ميول أيديولوجية محددة ولكنهم بشكل عام من دعاة حرية الصحافة.

كيف حدث ذلك؟

لم يتخذ تدخل الدولة في انتخابات النقابة، على مدى العقود السابقة، شكل تزوير الأصوات. ويُعزى ذلك جزئياً إلى قلة عدد الناخبين، الذي يبلغ في المتوسط بضعة آلاف يدلون بأصواتهم في مبنى واحد، مقارنة بالانتخابات البرلمانية المشهود لها بالتزوير، إذ يُدلي الملايين بأصواتهم في العديد من اللجان الانتخابية في مختلف المحافظات. بيد أن الأمر الأكثر أهمية، وببساطة، هو أن الدولة لم تضطر قط إلى تزوير نتائج انتخابات نقابة الصحفيين من قبل.

فقد اتخذ التدخل في العملية الانتخابية أشكالاً أخرى "أقل حدة" أو "غير تدخلية" نسبياً. إذ اعتاد المرشحون المدعومون من الدولة على التأكيد على أن علاقاتهم الوثيقة مع النظام ستضمن حصول مجتمع الصحفيين الفقراء على امتيازات مادية، واستخدموا شبكات المحسوبية الخاصة بهم لتعبئة "مرؤوسيهم" للتصويت.

منذ تأسيسها، عانت نقابة الصحفيين من مشاكل هيكلية أعاقت قدرتها على الدفاع عن مصالح الصحفيين، ومكنت مثل هؤلاء الأشخاص المدعومين من الدولة من الهيمنة عليها. لماذا؟ النقابة بحكم تعريفها هي رابطة للعمال مكلفة بالدفاع عن مصالحهم في مواجهة الإدارة. تضم نقابة الصحفيين كلاً من العمال وأرباب العمل. وتمتد عضوية النقابة لتشمل كبار رؤساء التحرير والناشرين. وتضم أيضاً أعداداً كبيرة من "غير الصحفيين" مثل الموظفين الإداريين في المؤسسات الإعلامية التي تديرها الدولة والفروع غير الإعلامية التابعة لها. على سبيل المثال، نجد أن ضياء رشوان، نقيب الصحفيين السابق، ليس صحفياً، فهو باحث (ومدير سابق) لمركز الأبحاث التابع لجريدة الأهرام. وهذا يعني تاريخياً أن المرشحين المدعومين من الدولة (جميعهم تقريباً يشغلون مناصب إدارية عليا في مؤسساتهم) لديهم السلطة والقدرة المباشرة على تعبئة "موظفيهم"، ومعظم الناخبين من خارج مجتمع الصحفيين، من أجل ضمان وجود كتلة حرجة كافية تضمن نجاحهم.

إلا أن الصيغة الخبيثة المذكورة أعلاه فشلت هذه المرة في ضمان نجاح الميري، المرشح الرئيسي المدعوم من الدولة والذي خاض الانتخابات ضد البلشي، وذلك لعدة أسباب.

أولاً، يشغل الميري منصب رئيس تحرير جريدة "الأخبار" التي تديرها الدولة، لكنه لم يكن يحظى بالنفوذ نفسه الذي تمتعت به الشخصيات السابقة الموالية للنظام، مثل رشوان ومكرم محمد أحمد أو الراحل إبراهيم نافع. فقد اعتبر مجتمع الصحفيين هؤلاء من عمالقة الصحافة حتى عندما لم يلقوا قبولاً كبيراً. وبالنسبة للكثيرين، لم يكن الميري شخصاً ذو شأن كبير مقارنةً بهؤلاء. لدرجة أن بعضهم لم يسمع به قبل أن يعمل مع شخصيات أخرى موالية للنظام على تبرير وتمكين حملات القمع التي شنتها الدولة على النقابة في عام 2016. وبسبب افتقاره إلى الشهرة لم تبرز صورته بوصفه رجل قوي مدعوم من الدولة يمكنه جني بعض الفوائد المادية من النظام.

ثانياً، كان المعسكر الموالي للنظام منقسماً بالفعل بين عدد من المرشحين. وقد أسفر ذلك عن شعور بالارتباك بين الصحفيين وعمق الانطباع بأن الميري لم يكن "قوياً" بما يكفي للضغط من أجل مصالحهم.

ثالثاً، أثرت الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد على قدرة النظام على دعم مرشحه (مرشحيه) بحوافز مادية. فقد تضمنت الوعود الانتخابية التي قدمها الميري زيادة بسيطة في البدلات المالية التي تقدمها النقابة، من 3000 جنيه مصري إلى 3600 جنيه فقط، وهي زيادة تعادل سعر 1.5 كجم من اللحوم. وقد أثار ذلك سخرية الصحفيين الذين شعروا بمزيد من الإهانة من محاولات القائمين على حملة الميري الانتخابية لكسب دعمهم من خلال تقديم وجبة كباب من مطعم "أبو شقرة"، أحد مطاعم المشويات الشهيرة في مصر.

رابعاً، أكد القائمون على حملة البلشي الانتخابية الذين تحدثت معهم على العامل "التراكمي" في تحقيق مثل هذا النصر. فقد عكف البلشي على التنظيم بصبر على مدى سنوات لإنشاء قاعدة، من خلال الترشح سابقاً لانتخابات مجلس إدارة النقابة، والانخراط في القضايا الملموسة المتعلقة بظروف عمل الصحفيين وحياتهم اليومية، وكان في طليعة الحملات التضامنية مع الصحفيين المعتقلين. لم يكن البلشي غريباً عن أغلبية المجتمع؛ فقد كان المرشح المثالي للكثيرين ممن أرادوا الإدلاء بـ "تصويت احتجاجي".

خامساً، أثبتت محاولات تدخل الدولة لدعم الميري في المراحل الأخيرة من السباق الانتخابي أنها غير مجدية. فقد قام حزب مستقبل وطن الذي تديره الأجهزة الأمنية بنقل الصحفيين من المحافظات للتصويت لصالح الميري. وعندما أُعلن فوز البلشي، حاولت الشخصيات المؤيدة للنظام الضغط من أجل إعادة فرز الأصوات أو إلغاء النتائج استناداً إلى وقوع مخالفات فنية، لكنهم فشلوا. كما أوضحت سابقاً، من الصعب للغاية تزوير انتخابات النقابة. وحشدت حملة البلشي على الفور احتجاجاً حاشداً داخل وخارج مبنى النقابة وتمكنت من وقف مثل هذه المحاولات بنجاح.

سادساً، وصل غضب الصحفيين من التهديد بالاعتقال بتهم وهمية إلى مرحلة محتدمة. بينما كانت "الخطوط الحمراء" في عهد مبارك واضحة، ويمكن للصحفيين توخي الحذر والحيطة إذا التزموا ببعض القواعد، أو خاضوا مخاطر محسوبة من أجل الارتقاء بعملهم ودفع عجلة التطوير مع العلم بالعواقب التي قد تترتب على ذلك، فقد بات الوضع في عهد السيسي فوضوياً وعشوائياً للغاية. فقد تعرض عشرات المراسلين للاعتقال منذ انقلاب عام 2013، بما في ذلك صحفيون مؤيدون للنظام، بتهمة سيئة السمعة محددة بشكل فضفاض، ألا وهي "نشر أخبار كاذبة". وقد خلق هذا شعوراً بالخوف وانعدام الأمن يمتد عبر جميع مستويات القطاع، الذي أصبح الآن بالكامل تقريباً تحت سيطرة جهاز المخابرات العامة. أدى البلشي دوراً محورياً في جميع أنشطة التضامن تقريباً مع الزملاء المعتقلين من جميع الأطياف السياسية. وقد وضعت حملته الانتخابية هذه القضية على رأس قائمة اهتماماتها ومطالبها. ولمس ذلك وتراً حساساً لدى الكثيرين.

لماذا هذا الانتصار مهم؟

أدت نقابة الصحفيين (وفي بعض الأحيان نقابة المحامين) من الناحية التاريخية دور "قاعدة الانطلاق" لجميع القوى السياسية. ووفرت في عهد مبارك مساحة آمنة نسبياً، حيث يمكن للمعارضين عقد اجتماعات وتنظيم الفعاليات وتنسيق الاحتجاجات في محيطها.

في أعقاب انقلاب 2013، كان النظام الذي انبثق من حمام الدم الذي أطلقته الثورة المضادة مختلفاً نوعياً عن أسلوب مبارك الاستبدادي. وبدلاً من إدارة المعارضة على غرار سلفه قبل 2011، سحق السيسي المعارضة في مهدها. وبدلاً من نزع فتيل الغضب السياسي من خلال شبكة معقدة من الوسطاء في مشهد سياسي نابض بالحياة، والذي شمل برلماناً، وأحزاباً، وجماعات شبابية، وجمعيات مجتمعية، ونقابات عمالية، وما إلى ذلك، قضى نظام ما بعد عام 2013 على ما كان قائماً في السابق بوصفه مجتمعاً مدنياً بالمعنى الغرامشي (الأفراد لا يُحكَمون بالقوّة فحسب، بل بالأفكار أيضاً). فلم يعد هناك أي حاجز فاصل بين الدولة والمجتمع في مصر في عهد السيسي. بل بات بعض الضباط من مؤسسات الأجهزة القمعية (سواء كانت الشرطة أو الجيش أو المخابرات العامة) يتولون مسؤولية هذا أو ذاك. ويدير الضباط شؤون الشعب يومياً بشكل دقيق، بدلاً من الاستعانة بمصادر خارجية لفرض الرقابة الاجتماعية وتفويضها إلى مسؤولين تنفيذيين مدنيين، الذين اعتادوا ضمان الانضباط دون الحاجة إلى تدخل مفرط من جانب الأجهزة الأمنية.

في ظل مثل هذه البيئة القمعية، تعرضت نقابة الصحفيين لأضرار جسيمة. إذ لم ينتهي دورها فحسب بوصفها مركزاً حيوياً للتنظيم السياسي وقاعدة انطلاق انطلقت منها الاحتجاجات والحملات في الشوارع التي تتردد صداها في جميع أنحاء البلاد، بل أصبحت أيضاً، على حد قول أحد الصحفيين اليساريين الذين قابلتهم، "بيت أشباح فارغ". ولأول مرة في تاريخها، اقتحمت الشرطة النقابة عام 2016 لاعتقال صحفيَين اثنين كانا باشرا اعتصاماً في مقر النقابة بتهمة التحريض على التظاهر.10  عاطف عبد العزيز، ومحمد طارق، وهبة الحنفي، "الأمن يقتحم نقابة الصحفيين.. ويلقي القبض على عمرو بدر ومحمود السقا"، صحيفة "المصري اليوم" 1 أيار/مايو 2016: https://www.almasryalyoum.com/news/details/940155. ومنذ ذلك الحين، لم يُسمح بإقامة أي تجمعات من أي نوع في المبنى، لدرجة أن النقيب السابق عبد المحسن سلامة أزال الكراسي من بهو النقابة عام 2017، حتى لا يسمح لأي صحفي بالجلوس أو الاجتماع أو التواصل مع زملائه الآخرين. وأصبح وجود الصحفيين في النقابة أمر نادر الحدوث، ولم يحضروا إلا إذا احتاجوا إلى إصدار بعض أوراق المعاملات الرسمية.

أعطى فوز البلشي إحساساً عاماً للصحفيين بأن نقابتهم قد عادت إليهم. وفي لفتة معبرة، كان المرسوم الأول الذي أصدره البلشي في 21 آذار/مارس بعد أن تولى منصبه هو إعادة الكراسي إلى المبنى، معلناً أن مبنى النقابة مفتوح الآن أمام الصحفيين للاجتماع.

عزز الانتصار أيضاً معنويات الناشطين في صفوف الصحفيين. فقد شعروا لسنوات بالحصار، وتكبد الكثيرون منهم أحكام بالسجن. بحلول نهاية عام 2021، وصفت لجنة حماية الصحفيين مصر بأنها ثالث أسوأ دولة تسجن أكبر عدد من الصحفيين في العالم، بعد الصين وميانمار.11"عدد الصحفيين السجناء في العالم يبلغ مستوى قياسياً"، (تقرير صادر عن لجنة حماية الصحفيين في 9 كانون الأول/ديسمبر 2021): https://cpj.org/reports/2021/12/number-of-journalists-behind-bars-reaches-global-high/. وجاءت مصر في المرتبة 168 من بين 180 دولة في مؤشر منظمة مراسلون بلا حدود العالمي لحرية الصحافة لعام 2022.12“مصر” (باريس: مراسلون بلا حدود)، تم الاطلاع في  9 كانون الثاني/يناير 2023: https://rsf.org/en/country/egypt. وقد وضعت حملة البلشي الانتخابية قضية الاعتقالات على رأس أولوياتها. وسيؤدي فوزه حتماً إلى زيادة التكلفة التي يتكبدها النظام لمتابعة مثل هذه الحملات القمعية (وإن لم يكن مستحيلاً بعد)، الآن بعد أن استبدل مجلس النقابة الذي كان في السابق يسير على خطى النظام في كل قضية.

لفترة طويلة، سيطر الناصريون على تيار الاستقلال في نقابة الصحفيين. وفوز البلشي، بالرغم من أنه تلقى دعماً غير حاسم من الناصريين في النهاية، لا بد أن يعزز نفوذ هؤلاء المعارضين إلى التيار اليساري بعيداً عن الناصريين.

من المؤكد أن الزلزال الذي ضرب نقابة الصحفيين سيكون له آثار مضاعفة. فقد كان أعضاء النقابات المهنية الأخرى يراقبون الوضع عن كثب. وأعاد فوز البلشي إحياء آمالهم في أن يتمكنوا من الحشد حول القضايا المتعلقة بقطاعاتهم، بما في ذلك استعادة نقاباتهم من سيطرة النظام. فقد اضطرت نقابة المحامين، تحت ضغط من القاعدة الشعبية، إلى تأييد احتجاجات قوية شارك فيها آلاف الأشخاص من أعضاء النقابة في كانون الأول/ديسمبر 2022، ضد فرض زيادة على الضرائب بحكم الأمر الواقع.13  “Fearing de Facto Tax Hike, Lawyers Strike to Protest New Digital Billing System,” Mada Masr, December 1, 2022, https://www.madamasr.com/en/2022/12/01/news/u/fearing-de-facto-tax-hike-lawyers-strike-to-protest-new-digital-billing-system/. وهدد المحامون بالإضراب في الشهر التالي بسبب تعرض ستة من زملائهم للسجن إثر مشاجرة نشبت بينهم وبين موظفين فاسدين بديوان المحكمة.14Beesan Kassab, “Lawyers Strike to Protest Imprisonment of Colleagues after Quarrel at Court,” trans. Ahmed Bakr, Mada Masr, January 19, 2023, https://www.madamasr.com/en/2023/01/19/news/u/lawyers-strike-to-protest-imprisonment-of-colleagues-after-quarrel-at-court/. وأفرج عن المحامين على الفور.

قوبلت هزيمة القوات الموالية للنظام في نقابة الصحفيين بترحيب حار من قبل المحامين المعارضين، الذين بدأوا على الفور بعقد اجتماعات وتبادل الأفكار حول كيفية تكرار انتصار البلشي. وأعربت مصادري من الناشطين في النقابات المهنية الأخرى مثل تلك الخاصة بالأطباء والمهندسين عن مشاعر مماثلة. ولا يزال من غير الواضح إلى أي مدى قد يؤدي هذا الانتصار إلى بدء عملية تغيير ذات تأثير جماعي، ولكن يبدو أن هذا أمر حتمي.

وبعيداً عن دوائر النقابات المهنية، كانت هزيمة النظام الصغيرة سبباً في دفع المعارضين إلى التفكير على الفور في سبب عدم محاولة إلحاق الهزيمة بالنظام في "نقابة المصريين" وهو تعبير مجازي كناية عن الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها عام 2024. ففي خضم الوضع الاقتصادي المتدهور وفقدان النظام لشعبيته، فإن مثل هذه الانتصارات الصغيرة مثل فوز البلشي لا بد أن تشجع المعارضة على جبهات أخرى.

القيود والتوقعات

على المدى القصير، من غير المحتمل أن يلبي فوز البلشي بعض التطلعات الكبيرة التي أعرب عنها بعض المعارضين الذين يعتقدون أن النقابة ستستضيف على الفور الاحتجاجات من جديد في محرابها أو تحرر قطاع الإعلام من سيطرة النظام. وأفضل ما قد يتمناه المرء، في الأشهر القليلة المقبلة على الأقل، هو تأمين الإفراج عن بعض الصحفيين، وربما وقف أو إبطاء زخم اعتقال الصحفيين. ويمكن أيضاً توقع أن يستأنف مبنى النقابة، ولو ببطء، موقعه كمركز يلتقي فيه الصحفيون (وليس مجتمع الناشطين بأكمله كما كان الحال في الماضي) ويناقشون المظالم المتعلقة بمهنتهم والسبل الممكنة لمواجهتها.

لا يجب أن ننسى أن البلشي هو رئيس تحرير صحيفة "درب" الإلكترونية، وهي من بين مئات المواقع الإلكترونية التي حجبها النظام. يمكن أن نتوقع مزيد من الضغوط من قيادة النقابة على النظام من أجل رفع الحجب عن المواقع المحجوبة على الإنترنت. ولا يزال مدى نجاح هذه المحاولات موضع شك. ولكن على الأقل لن يحظى النظام بسلطة مطلقة لفرض مثل هذه القيود.

البلشي خبير بارع في التخطيط وسياسي محنك. ومن المستبعد أن يقود النقابة إلى مواجهة كاملة سابقة لأوانها مع قوات النظام، والتي من المحتم أن تنتهي بهزيمة كارثية. بل إنه سيستمر بدلاً من ذلك في نهجه التدريجي لمحاولة زيادة المساحة الآمنة على الهامش، أو لكي نكون أكثر دقة، إعادة إنشائها ببطء حيث يمكن توجيه المعارضة إلى عمل منظم.

 

Endnotes

Endnotes
1 فتحي أبو حطب، موقع تويتر، @fmhatab، 18 آذار/مارس 2023: https://twitter.com/fmhatab/status/1636911065203200001 .
2 على سبيل المثال،  انظر حساب بسمة مصطفى، موقع فيسبوك، 17 آذار/مارس 2023:https://www.facebook.com/Basma.mustafa2012/posts/pfbid0Vf5cLoB54MD7iCZptLPe1YTtX7Dc4cS1oH8ddCwZAKgjpkFwm2D9CSpBVvvJJCGYl.
3 موقع "درب" الإلكتروني:https://daaarb.com/
4 Gamal Essam El-Din, “Heated Press Syndicate Elections,” Al-Ahram Weekly, March 17, 2023, https://english.ahram.org.eg/News/491727.aspx.
5 Mahmoud Mostafa, “Arrest Warrant Issued for Press Syndicate Leader Khaled El-Balshy,” Daily News Egypt, April 4, 2016, https://www.dailynewsegypt.com/2016/04/04/arrest-warrant-issued-press-syndicate-leader-khaled-el-balshy/.
6 "وسيلة ضغط شنيعة": السلطات المصرية تستهدف أقارب وزملاء الصحفي خالد البلشي، مراسلون بلا حدود، 14 تشرين الأول/أكتوبر 2020: https://rsf.org/en/egyptian-authorities-pressure-editor-jailing-his-brother-colleagues; Rūzā Fahmī  روزا فهمي، إدارة سجن ليمان طرة تتعنَّت مع كمال البلشي وترفض إدخال طعام وملابس ومستلزمات نظافة إلى محبسه،  14 تشرين الأول/أكتوبر 2020: https://revsoc.me/-42937
7 برنامج البلشي الانتخابي: https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=pfbid05ymLkRae1JJ4k6sTPnGNNvFHekrZeQX3czdBNxanQQwCshxLHxngCCfFZHVMghJLl&id=100090090952339.
8   “Khaled El-Balshy elected new head of Egypt’s Journalists Syndicate,” Ahram Online, March 17, 2023, https://english.ahram.org.eg/News/491905.aspx.
9 "قائمة أعضاء مجلس النقابة"، موقع نقابة الصحفيين المصرية، تم الإطلاع عليها في آذار/مارس 2023: https://www.ejs.org.eg/page_view.php?id=48935.
10   عاطف عبد العزيز، ومحمد طارق، وهبة الحنفي، "الأمن يقتحم نقابة الصحفيين.. ويلقي القبض على عمرو بدر ومحمود السقا"، صحيفة "المصري اليوم" 1 أيار/مايو 2016: https://www.almasryalyoum.com/news/details/940155.
11 "عدد الصحفيين السجناء في العالم يبلغ مستوى قياسياً"، (تقرير صادر عن لجنة حماية الصحفيين في 9 كانون الأول/ديسمبر 2021): https://cpj.org/reports/2021/12/number-of-journalists-behind-bars-reaches-global-high/.
12 “مصر” (باريس: مراسلون بلا حدود)، تم الاطلاع في  9 كانون الثاني/يناير 2023: https://rsf.org/en/country/egypt.
13   “Fearing de Facto Tax Hike, Lawyers Strike to Protest New Digital Billing System,” Mada Masr, December 1, 2022, https://www.madamasr.com/en/2022/12/01/news/u/fearing-de-facto-tax-hike-lawyers-strike-to-protest-new-digital-billing-system/.
14 Beesan Kassab, “Lawyers Strike to Protest Imprisonment of Colleagues after Quarrel at Court,” trans. Ahmed Bakr, Mada Masr, January 19, 2023, https://www.madamasr.com/en/2023/01/19/news/u/lawyers-strike-to-protest-imprisonment-of-colleagues-after-quarrel-at-court/.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.