النضال في سياق إعادة إعمار مخيم نهر البارد للاجئين: الدروس المستفادة لإعادة إعمار سوريا؟

جنود لبنانيون بجانب أنقاض المنازل في نهر البارد خلال إطلاق عملية إعادة إعمار مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في شمال لبنان 9 آذار / مارس 2009. هرب آلاف اللاجئين الفلسطينيين من نهر البارد في الصيف عام 2007 حين اشتباكات عنيفة بين الجيش اللبناني وجماعة فتح الإسلام الإسلامية المتشددة التي أسفرت عن مقتل حوالي 400 شخص © EPA-EFE/ADEL KARROUM

في بعض الأحيان، يُشار إلى جهود إعادة إعمار مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في شمال لبنان، الذي تعرض للدمار عام 2007 في أعقاب معارك ضارية بين الجيش اللبناني وجماعة إسلامية مسلحة، باعتباره دراسة حالة مفيدة يمكن الاسترشاد بها في عمليات إعادة الإعمار في سوريا. عادة ما تنشأ مثل هذه الانطباعات بسبب النجاح النسبي الذي حققه النشطاء المحليون (الذين نشأوا في مخيم للاجئين حيث يعيش السكان في مساكن عشوائية في ظل القليل من الحماية القانونية الرسمية) في مواجهة الرؤى الأمنية التي تتبناها الدولة اللبنانية والجيش لإعادة إعمار المخيم. تهدف هذه الورقة إلى مناقشة الفوائد المنبثقة من تجربة إعادة إعمار مخيم نهر البارد وكذلك القيود التي قد تشهدها في السياق السوري.

1) الدمار الذي شهده مخيم نهر البارد وظروفه الاستثنائية

تأسس مخيم نهر البارد للاجئين في كانون الأول/ديسمبر عام 1949 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين النازحين في عام 1948 بسبب المشروع الاستعماري الإسرائيلي وما رافقه من عمليات التطهير العرقي في فلسطين.1إيلان بابِهْ، "التطهير العرقي في فلسطين"، الطبعة الثانية (أكسفورد: منشورات ون وورلد، 2007). ويتألف هذا المخيم من منطقتين: المخيم "الرسمي" أو "القديم" الذي يقع تحت إشراف منظمة الأونروا منذ عام 1949، ومخيم "جديد غير رسمي" حيث وسع الفلسطينيون بنيتهم الحضرية خارج نطاق المخيم الرسمي إلى الأراضي المحيطة به لاستيعاب الزيادات السكانية لا سيما بعد حقبة السبعينيات. ويعيش حوالي 30 ألف فلسطيني في مخيم نهر البارد بمنطقتيه الرسمية/القديمة وامتداداته الجديدة/الحضرية. تتسم هاتان المنطقتان بطابع غير رسمي سواء فيما يتعلق بشكل البنية الحضرية الذي لا يتوافق مع القوانين اللبنانية لتقسيم المناطق أو من منظور الملكية نظراً لأن القوانين اللبنانية لا تسمح للفلسطينيين بتسجيل ممتلكاتهم. وعلى هذا فبرغم أن الفلسطينيين اشتروا الأراضي من مالكيها اللبنانيين للتوسع فيما أصبح المخيم الجديد وبنوا أحياء سكنية حضرية تؤوي ما يقرب من 30% من سكان مخيم نهر البارد، فإن هذه العقارات والشقق غير مسجلة بشكل قانوني وتعتبر غير رسمية.

في عام 2007، تعرض مخيم نهر البارد الرسمي للاجئين للتدمير بالكامل، وتعرضت توسعته لأضرار جسيمة. فقد كان مخيم نهر البارد موقعاً لمعركة طاحنة بين الجيش اللبناني ومجموعة فتح الإسلام، وهي جماعة إسلامية مسلحة كانت قد وصلت إلى المخيم قبل أشهر قليلة من اندلاع القتال.2للاطلاع على مزيد من المعلومات حول "مجموعة فتح الإسلام"، انظر على سبيل المثال؛ فداء عيتاني، "الجهاديون في لبنان: من قوات الفجر إلى فتح الإسلام" (بيروت، دار الساقي، 2008)؛ إسماعيل الشيخ حسن، وساري حنفي، "(انعدام) الأمن وإعادة البناء بعد انتهاء الصراع في مخيم نهر البارد"، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 40 رقم 1 (كانون الأول/نوفمبر 2010): صفحة 27 https://doi.org/10.1525/jps.2010.XL.1.027.-48. وقد أدى ذلك إلى تدمير المخيم الذي يُعد ثاني أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وكذلك أحد أهم المراكز الحضرية والاقتصادية في منطقة عكار الريفية التي تقع في شمال البلاد، بالكامل في غضون ثلاثة أشهر.

يُعد التدمير الكامل الذي شهده مخيم نهر البارد في عام 2007 جزءاً من اتجاه جديد للحرب الحضرية والتدمير في الشرق الأوسط ظهر بعد عام 2001 حيث أطلقت الدول ما وصفته بالحملات العسكرية "الدقيقة" و"المضبوطة" ضد الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة في سياقات حضرية بدعم سياسي ومالي غربي كبير تحت شعار الحرب العالمية ضد الإرهاب (جنين 2004، الضفة الغربية 2004، بيروت 2006، العراق 2006، غزة 2007، اليمن 2010، وغيرها).3ديريك غريغوري. كتاب الحاضر الاستعماري (The Colonial Present): أفغانستان وفلسطين والعراق. الطبعة الأولى. مالدن، ماساتشوستس: وايلي بلاكويل، 2004. Derek Gregory, The Colonial Present: Afghanistan, Palestine, Iraq, 1 edition (Malden, MA: Wiley-Blackwell, 2004). ولذا، يُعتبر مخيم نهر البارد مثالاً مبكراً للحرب الحضرية والتدمير الذي ظهر بشكل أكثر وضوحاً بعد عام 2011 في سوريا وغيرها من السياقات في الشرق الأوسط حيث يتحقق التدمير الشامل للمناطق الحضرية من خلال القصف العشوائي بالقذائف والقنابل.

عندما طالب سكان المخيم في مظاهرة سلمية خلال الأيام الأولى من المعارك بعدم تدمير المخيم خلال الحرب التي شنها الجيش ضد مجموعة فتح الإسلام المسلحة التي عارضها السكان أيضاً، أطلق الجيش اللبناني أعيرة نارية على المتظاهرين، مما أسفر عن مقتل اثنين من اللاجئين وإصابة العشرات.4"لبنان: يجب التحقيق في إطلاق الجيش أعيرة نارية على المتظاهرين الفلسطينيين: على الحكومة إيقاف العنف الموجه إلى الفلسطينيين"، هيومن رايتس ووتش، 3 تموز/يوليو، 2007 https://www.hrw.org/ar/news/2007/07/03/232905# (تم الاطلاع على المقال في 2 آب/أغسطس/ 2018). وقد كانت هذه هي الحادثة الأولى من عدة حوادث وقعت في مخيم نهر البارد حيث استخدم الجيش اللبناني قوة قاتلة لا مبرر لها ضد المدنيين السلميين. وبعد انتهاء القتال، ظل المخيم منطقة عسكرية محظورة لأكثر من شهر، تعرض خلالها المخيم الرسمي وامتداداته الحضرية للنهب والحرق. ونظراً إلى أن الجيش كان قادراً على ارتكاب مثل هذه الأفعال دون التعرض لأي عواقب سياسية أو قانونية، فإن العديد من الأكاديميين يعتبرون التدمير الذي شهده مخيم نهر البارد شكل من أشكال حالات الطوارئ5("آدم رمضان. "التسكين المكاني لمخيم اللاجئين". مجلة معاملات معهد الجغرافيين البريطانيين 38، العدد 1 (1 كانون الثاني/يناير 2013): 65 – 77، هنا 72؛  آر كنودسن. "(انعدام) الأمن في حيز الاستثناء". انعدام الأمن والتنمية، حرره جون أندرو ماكنيش وجون هارالد ساند لاي. (نيويورك: بيرجهن، 2010)، 99-112، هنا 101. Adam Ramadan, “Spatialising the Refugee Camp,” Transactions of the Institute of British Geographers 38, no. 1 (2013): 65–77, here 72; Are Knudsen, “(In)Security in a Space of Exception,” in Security and Development, eds. John-Andrew McNeish and Jon Harald Sande Lie (New York: Berghahn, 2010), 99–112, here 101. التي تحدث عادة أيضاً في ظل النظم الاستبدادية.

ومن هذا المنطلق، يمكن أن نجد أوجه التشابه بين تعطيل سيادة القانون والحقوق المدنية للسكان اللاجئين في النظام السياسي اللبناني الطائفي، لا سيما أثناء فترات الصراع المسلح، وبين تعطيل الحقوق المدنية للسكان السوريين بالكامل في ظل النظام الاستبدادي في سوريا. ففي كلا هذين السياقين، تمكنت الأنظمة العسكرية والأمنية من ارتكاب دمار هائل في المناطق الحضرية دون مراعاة لسبل عيش سكان تلك المجتمعات المدنية وممتلكاتهم وأرواحهم في سبيل خلق واقع جديد بعد الحرب.

2) رؤى إعادة الإعمار المتضاربة: دور التنظيم المحلي

خلال القتال، كلفت الحكومة اللبنانية شركة استشارات معمارية وهندسية لوضع مخططات تتماشى مع أولويات الجيش اللبناني لإعادة إعمار نهر البارد. وتضمنت التعليمات التي أصدرها الجيش إلى الشركة إعطاء الأولوية لسهولة السيطرة الأمنية على البنية المعاد بناؤها في المخيم.6Ismae’l Sheikh Hassan, “On Urbanism and Activism in Palestinian Refugee Camps” (Phd Dissertation, belgium, KULeuven, 2015). قام المقترح الناجم عن هذه التعليمات على شبكة تتسم بشوارع واسعة ومباني غير متلاصقة قائمة بذاتها لتسهيل سيطرة الجيش على البنية الحضرية للمخيم ولزيادة صعوبة قيام الإرهابيين المتصورين في المستقبل بشن حرب عصابات مستغلين البنية الحضرية للمخيم. اتسمت جميع الشقق بأنها ذات حجم قياسي واحد ولم تأخذ المخططات في الاعتبار أحجام منازل اللاجئين في السابق. ولم يستشر أحد من نهر البارد بشأن الكيفية التي ينبغي أن تتم بها عملية إعادة الإعمار، وبالتالي تجاهلت الرؤية الحضرية في تصميم المخيم الجديد منشآت اللاجئين الفلسطينيين الذين يسكنون في المنطقة وممارساتهم الاجتماعية وحقوق الملكية.

على الرغم من استبعاد اللاجئين الفلسطينيين من عملية التخطيط والتصميم، بدأ النازحون في مخيم نهر البارد عمليات توثيق ممتلكاتهم وشرعوا في وضع رؤيتهم الخاصة لإعادة إعمار مخيمهم بعد الحرب. وقادت هذه الجهود منظمة تأسست مؤخراً تعرف باسم "هيئة العمل الأهلي والدراسات لإعادة إعمار مخيم نهر البارد. فقد تأسست تلك المبادرة في بداية المعركة من قِبل شبكات متنوعة من النشطاء المحليين في نهر البارد وغيرهم من النشطاء المختصيين بقضايا إعادة الإعمار والتخطيط المديني من خارج المخيم.

إنطلقت هذه الجهود المحلية بينما كان القتال لا يزال مستمراً. فقد أدرك السكان والنشطاء في مخيم نهر البارد أنهم عاجزون عن منع هدم مخيمهم ولكنهم مع ذلك أعدوا أنفسهم لمواجهة الرؤى المسقطة من االسلطات الرسمية على السكان المحليين، المثيرة للجدل التي قد تفرضها عليهم الدولة اللبنانية والجيش. وقد ساهمت عدة عوامل في التأثير على جهود التعبئة هذه وكانت مصدر إلهام لها وقدمت إليها العون:

  1. خبرة اللاجئين الفلسطينيين نتيجة التعرض لعمليات تهجير متعددة، والتدمير الحضري، والصراعات منذ ترحيلهم من قبل الصهاينة في فلسطين وخلال الحرب الأهلية اللبنانية؛
  2. انتقال أغلب النازحين من مخيم نهر البارد سوية أثناء المعركة إلى المنطقة نفسها -مخيم البداوي، وهو مخيم آخر للاجئين الفلسطينيين- مما سهل عمليات التنظيم والتواصل فيما بينهم؛
  3. إقامة تحالفات بين المجتمع المحلي والنشطاء في مجال التخطيط الحضري، فضلاً عن العديد من النشطاء اللبنانيين الذين أدوا أدواراً مهمة في نقل المعرفة فيما يتعلق بمواجهة التخطيط الرسمي الغير تشاركي الذي يتم إسقاطه على المجتمعات بعد الأزمات ، التي اكتسبوها خلال مشاريع إعادة الإعمار الأخرى في فترة ما بعد الحرب في لبنان، وتسليط الضوء على معاناة اللاجئين والجهود التي يبذلونها عبر وسائل الإعلام اللبنانية والأوساط الأكاديمية وأوساط النشطاء على نطاق أوسع.

نتيجة لذلك، تمكن المجتمع المحلي  وهيئة العمل الأهلي للدراسات لإعادة إعمار مخيم نهر البارد ، خلال فترة القتال التي استغرقت ثلاثة أشهر من إعداد خريطة تفصيلية توضح مواقع وأحجام جميع مباني المخيم البالغ عددها 1,697، فضلاً عن إنشاء قاعدة بيانات تحدد هوية السكان والملاك وأحجام الشقق المختلفة في المخيم. بيد أن هذه الخرائط وقاعدة البيانات تُعتبر وثائق غير رسمية، وبالتالي لم يكن لها قيمة رسمية أو قانونية. ومع ذلك، فقد اتسمت بشرعية محلية قوية للغاية، فضلاً عن أن عملية إعدادها ساهمت بدور هام في تنظيم أفراد المجتمع المحلي في النضال من أجل حقهم في العودة وإعادة إعمار المخيم في الوقت الذي بدا فيه أن هذه الاحتمالات شبه مستحيلة.

تمكنت هيئة العمل الأهلي للدراسات لإعادة إعمار مخيم نهر البارد أيضاً من إقامة شراكة مع وحدة تحسين المخيمات التابعة لمنظمة الأونروا، والتي كلفتها الأونروا بقيادة جهود التخطيط لعمليات إعادة الإعمار في مخيم نهر البارد الرسمي. ونظراً إلى أن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) هي وكالة تابعة للأمم المتحدة معنية بدعم جهود الإغاثة والتنمية البشرية للاجئين الفلسطينيين منذ عام 1949، فإن مثل هذا التحالف من شأنه أن يكون مؤثراً في تحقيق أولويات المجتمع في إعادة الإعمار. ولحسن حظ هيئة العمل الأهلي للدراسات لإعادة إعمار مخيم نهر البارد ، أن هذه الوحدة كان يقودها خبراء تقدميون من المدافعين بقوة عن مشاركة اللاجئين والقيام بدور قيادي في تنمية المخيمات، ويتمتعون بخبرات كبيرة في مشاريع الإسكان وإعادة الإعمار في مختلف المخيمات الفلسطينية في غزة ولبنان والأردن وسوريا. وقد تم تمكين هؤلاء الخبراء التقدميين التابعين للأونروا بفضل نشاط المجتمع المحلي، وتمكن كلا الكيانين من دفع الأونروا إلى اتخاذ مواقف أكثر حزماً تجاه الدولة، وبالتالي نأت بنفسها عن النُهج الأكثر حيادية التي ربما تتبعها الوكالات التابعة للأمم المتحدة.

وهكذا تبنّت منظمة الأونروا أولويات هيئة العمل الأهلي للدراسات لإعادة إعمار مخيم نهر البارد والتي تتعلق بإعادة إعمار المخيم وتسجيل الملكية غير الرسمية حسب قاعدة البيانات التي أعدتها اللجنة. وكان من شروط تأسيس هذه الشراكة أن تقوم الأونروا بإشراك لجنة إعادة إعمار نهر البارد في كافة المفاوضات الجارية مع الدولة اللبنانية، وأن تخضع أي اتفاقيات تُجرى مع الدولة بشأن إعادة الإعمار لموافقة اللجنة. وعليه، ستتمكن لجنة إعادة إعمار نهر البارد من الانخراط في المفاوضات والمناقشات الرسمية مع الفاعلين اللبنانيين الرسميين.

وفي حين كانت عملية التفاوض طويلة ومعقدة، تمكن تحالف منظمة الأونروا هيئة العمل الأهلي للدراسات لإعادة إعمار مخيم نهر البارد أخيراً من جعل الدولة تتبنى رؤيتهما الخاصة بإعادة الإعمار. وهكذا بدأت بعد ذلك العملية التشاركية في تصميم المنازل والأحياء للمخيم والأحياء ، والتي قادتها الشراكة بين الأونروا هيئة العمل الأهلي للدراسات لإعادة إعمار مخيم نهر البارد. وعليه جرى الاحتفال بنهر البارد كنموذج للتخطيط والتصميم التشاركي خلال فترة ما بعد الحرب وقدصُنّف المشروع كواحد من أفضل عشرة مشاريع مؤهلة للحصول على جائزة الآغا خان للعمارة في عام 2010.

3) الجانب الأكثر قتامة من إعادة إعمار نهر البارد

ولكن للأسف اقتصر النهج التشاركي لإعادة الإعمار في فترة ما بعد الحرب على تحديد التصميم المادي للمخيم وشكله الحضري. بينما سيطرت الأولويات العسكرية والأمنية على كيفية إدارة المخيم وحياة الناس اليومية وبقي المخيم تحط سيطرة الجيش حتى بعد انتهاء المعارك ومما قيض عودة الدور الاقتصادي الهام للمخيم في منطقة عكار بعد الحرب. وبعد انتهاء الحرب، حُرمت العائلات من نبش أنقاض منازلها لإنقاذ ما تبقى من ممتلكاتها الشخصية. وفُرض كردون أمني بمحيط المخيم المدمَّر، ولم تُمنح تصاريح إلا للعائلات لزيارة منازلهم لمدة 10 دقائق قبل هدم المخيم بالكامل. وظل الكردون الأمني مفروضاً بمحيط ​​الموقع الخالي- حتى أثناء عملية إعادة الإعمار.

وقد فُرض كردوناً أمنياً أكبر آخر حول الامتدادات الحضرية للمخيم الذي عاد إليه أغلب النازحين من مخيم نهر البارد بعد الحرب مستشرفين انتهاء عملية إعادة الإعمار. وخضع هذا المحيط الأكبر لسيطرة حواجز عسكرية، وتطلّب دخول كافة سكان المخيم أو الزوار إليه استخراج تصاريح أمنية يخضع إصدارها وتجديدها لإجراءات معقدة.

وهكذا ظل المدنيون في نهر البارد خاضعين لنظام عسكري يسيطر على حركتهم ويحول دون عودة نهر البارد كمركز اجتماعي واقتصادي في شمال عكار، وذلك بسبب الصعوبة الشديدة عند الدخول والخروج من المنطقة. وفي غضون ذلك، كانت الحواجز القائمة بمثابة أداة إذلال بسبب الطوابير الطويلة وطريقة معاملة بعض الجنود للاجئين.

وقد تدهور الوضع في عام 2012، بعد حادث تحرش خلاله بعض الجنود بأخ وشقيقته على امتداد مخيم نهر البارد (المخيم الجديد). واحتشد السكان المحليون في منطقة الحادث، وتوتر الجنود وبدأوا في إطلاق أعيرة النار في الهواء لتفريق الحشد. وفي غضون ذلك، أُصيب أحمد قاسم، البالغ من العمر 15 عاماً، برصاص الجنود عن طريق الخطأ ولقى إثر ذلك نَحْبه، رغم أنه لم يكن ضمن الحشد الغاضب وكان ينقل المياه كجزء من عمله اليومي. وبدأ الحشد في إلقاء الحجارة على المركبات العسكرية التي تقهقرت وعادت إلى محيط المخيم الأمني، وذلك ​​للمرة الأولى منذ صراع عام 2007.

وكان هذا هو اليوم الذي ثار فيه سكان المخيم على الحكم العسكري لمخيمهم، واضطر الجيش حينها إلى العودة إلى الجدار الخارجي للمحيط الأمني بعدما رشقهم اللاجئون بالحجارة. وقد نُظّم اعتصام وإضراب مفتوح حتى رُفعت إجراءات الطوارئ العسكرية. وبعد شهر، ألغى الجيش نظام التصاريح، لكن الحواجز الأمنية والجدار الأمني ظلوا موجودين.

وفي غضون ذلك، لم يُسمح للاجئين بإعادة بناء المخيم بأنفسهم. وكانت عملية إعادة الإعمار تتطلب الحصول على موارد مالية دولية لدفعها للمقاولين مقابل بناء الكتل والأحياء الحضرية في المخيم. وبمجرد الانتهاء من بناء حي معين، كان الجيش يقوم بفتح الكردون الأمني للحي ما سمح للناس بالوصول إلى منازلهم المُعاد بناؤها. ومع ذلك، ومع تراجع حجم التمويل الدولي اللازم لإعادة إعمار نهر البارد بسبب تصاعد اندلاع الحروب والنزاعات المسلحة وتفاقم أزمات اللاجئين في منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة (كما هو الحال في سوريا واليمن والعراق وليبيا، على سبيل المثال)، تباطأت وتيرة إعادة إعمار نهر البارد في بعض الأحيان، بل وكادت تتوقف. وبحلول عام 2021، أي بعد 14 عاماً من تدمير المخيم، لم يُعاد بناء سوى ثلثي المخيم فقط.

4) الخاتمة: الدروس المستفادة من نموذج مخيم نهر البارد لإعادة إعمار سوريا

يعرض مخيم نهر البارد نموذجاً جيدا تمكن فيه المجتمع المحلي والناشطون الخبراء، ولا سيما من يتمتعون بخبرة في التصميم المعماري والتخطيط الحضري، من تحقيق بعض المكاسب للسكان المحليين في ظروف يفتقر فيها اللاجئون إلى الحقوق المدنية والسياسية. ولكن الحكم الاستبدادي للدولة على المخيم لم يكن مطلقاً – واضطلع الناشطون اللبنانيون بدور هام في زيادة الوعي بمحنة سكان مخيم نهر البارد في الأوساط الإعلامية والأكاديمية وأوساط صنع السياسات في لبنان. وعلى الرغم من أن قوة المؤسسة العسكرية في منطقة مخيم نهر البارد بدت استبدادية، إلا أن قوة الدولة اللبنانية في السياق اللبناني الأوسع نطاقاً تعد أمراً مختلفاً تماماً. تُعد لبنان "دولة ضعيفة" ومفكّكة وذلك يرجع إلى النظام السياسي الطائفي والأحزاب اللبنانية المتصارعة، فضلاً عن أنها تتأثر جزئياً بالمجتمع المدني اللبناني والبلدان المانحة والمنظمات الإنسانية/الدولية. وفي هذا السياق، أثبتت التحالفات بين مجموعة منظمة محلية في المخيم مع ناشطين خبراء عملوا في برنامج تحسين المخيمات الخاص بمنظمة الأونروا أو في مؤسسات رسمية أخرى، فعاليتها في التأثير على استراتيجيات إعادة الإعمار إلى حد ما. تمكنت هذه التحالفات من حشد مواردها وشبكات علاقاتها المختلفة على نحو فعال إذ اضطلع نشطاء المجتمع المحلي بحشد سكان مخيم نهر البارد عبر المظاهرات واضطلع الناشطون الخبراء بحشد شبكاتهم مع الجهات المانحة ووسائل الإعلام والمسؤولين المتعاطفين معهم في مختلف المؤسسات اللبنانية. وهكذا تمكنوا من التأثير جزئياً على تصميم عملية إعادة الإعمار ومن تحسين حركة تنقل السكان جزئياً و رفع بعض القيود الأمنية المفروضة على أرض الواقع.

من الجلي أن هذا النوع من الاستراتيجيات النضالية  سوف يكون أقل فعالية في سياق استبدادي شامل مثل سوريا ذات الأجندات السياسية التي تهدف إلى النزوح الدائم للسكان في مجتمعات محلية معينة من أجل تهيئة ظروف ديموغرافية أو اجتماعية اقتصادية جديدة على أرض الواقع.  ولكن على الرغم من ذلك تبقى الجهود التي يبذلها السكان لإنشاء سجلات محلية وغير رسمية للأراضي/الممتلكات أدوات فعالة لتنظيم السكان للدفاع عن حقوقهم. إن الشروع مبكراً في جهود تأسيس سجلات محلية غير رسمية أمر مفيد لأنها تتطلب بذل جهد كبير ووقت طويل من جانب السكان ولأنه بمرور الوقت قد تضيع الوثائق الأصلية وقد تتلاشى الصلات الاجتماعية والذكريات. تُقدِّم هذه السجلات أدلة على المطالبات والحقوق المحلية، كما تكشف عن مأساة وحجم الدمار/التشريد الذي حدث إلى جانب توجيه انتقاد لاذع بشأن المخططات والمشاريع الجديدة التي تحضر النظم الاستبدادية لتنفيذها. تُشكِل عمليات إنشاء هذه السجلات أيضاً أدوات قوية لتنظيم المجتمعات المنفية. وبالتالي، حتى في ظل الأنظمة الاستبدادية، فإنها تشكل مصادر كامنة للقوة والمعرفة المجتمعية التي يمكن استخدامها إذا ما تغيرت أو تحولت الحقائق السياسية على أرض الواقع، ولو جزئياً.

Endnotes

Endnotes
1 إيلان بابِهْ، "التطهير العرقي في فلسطين"، الطبعة الثانية (أكسفورد: منشورات ون وورلد، 2007).
2 للاطلاع على مزيد من المعلومات حول "مجموعة فتح الإسلام"، انظر على سبيل المثال؛ فداء عيتاني، "الجهاديون في لبنان: من قوات الفجر إلى فتح الإسلام" (بيروت، دار الساقي، 2008)؛ إسماعيل الشيخ حسن، وساري حنفي، "(انعدام) الأمن وإعادة البناء بعد انتهاء الصراع في مخيم نهر البارد"، مجلة الدراسات الفلسطينية، المجلد 40 رقم 1 (كانون الأول/نوفمبر 2010): صفحة 27 https://doi.org/10.1525/jps.2010.XL.1.027.-48.
3 ديريك غريغوري. كتاب الحاضر الاستعماري (The Colonial Present): أفغانستان وفلسطين والعراق. الطبعة الأولى. مالدن، ماساتشوستس: وايلي بلاكويل، 2004. Derek Gregory, The Colonial Present: Afghanistan, Palestine, Iraq, 1 edition (Malden, MA: Wiley-Blackwell, 2004).
4 "لبنان: يجب التحقيق في إطلاق الجيش أعيرة نارية على المتظاهرين الفلسطينيين: على الحكومة إيقاف العنف الموجه إلى الفلسطينيين"، هيومن رايتس ووتش، 3 تموز/يوليو، 2007 https://www.hrw.org/ar/news/2007/07/03/232905# (تم الاطلاع على المقال في 2 آب/أغسطس/ 2018).
5 ("آدم رمضان. "التسكين المكاني لمخيم اللاجئين". مجلة معاملات معهد الجغرافيين البريطانيين 38، العدد 1 (1 كانون الثاني/يناير 2013): 65 – 77، هنا 72؛  آر كنودسن. "(انعدام) الأمن في حيز الاستثناء". انعدام الأمن والتنمية، حرره جون أندرو ماكنيش وجون هارالد ساند لاي. (نيويورك: بيرجهن، 2010)، 99-112، هنا 101. Adam Ramadan, “Spatialising the Refugee Camp,” Transactions of the Institute of British Geographers 38, no. 1 (2013): 65–77, here 72; Are Knudsen, “(In)Security in a Space of Exception,” in Security and Development, eds. John-Andrew McNeish and Jon Harald Sande Lie (New York: Berghahn, 2010), 99–112, here 101.
6 Ismae’l Sheikh Hassan, “On Urbanism and Activism in Palestinian Refugee Camps” (Phd Dissertation, belgium, KULeuven, 2015).

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.