اقرأ المزيد

خلفية عامة: تنوع مجموعات الشتات العراقي في المملكة المتحدة وتشرذمها

شهد العراق هجرة جماعية للملايين جراء احتلال قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأميركية عام 2003، والصراعات الطائفية التي أعقبت ذلك، إضافةً إلى القلاقل السياسية والاقتصادية المتواصلة. هناك حالياً بالفعل عراقيون في بلدان بعيدة كالولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة والسويد وكندا وفي بلدان متاخمة للوطن أيضاً كالأردن وتركيا وسوريا.¹Sassoon, J. (2009) The Iraqi Refugees: The New Crisis in the Middle East. London; New York: I.B. Tauris, available at http://site.ebrary.com/id/10456930 (Sassoon, 2009).

غير أن الشتات العراقي بدأ في وقت سابق لذلك بكثير، وتحديداً في منتصف القرن العشرين عندما هاجر العراقيون من اليهود والمسيحيين وأنصار الملكية إلى البلدان الأوروبية فراراً من الاضطهاد والاضطراب السياسي الذي يكتنف مجتمعاتهم المحلية. ولأن العراق كان خاضعاً في السابق للانتداب البريطاني، فقد حافظ على روابط استعمارية مع المملكة المتحدة، التي فتحت أبوابها للعديد من الأقليات الدينية وأنصار الملكية -الذين كانوا حلفاءَ لبريطانيا- من أجل الهجرة والإقامة في المملكة المتحدة. وعليه فقد تشكلت موجة المهاجرين الأولى من النخبة الملكية العراقية، والمسيحيين العراقيين الذين خدموا في سلاح الجو الملكي البريطاني، واليهود العراقيين من ساسة ومثقفين وتجار وصحفيين ومسؤولين حكوميين.²See Al-Rasheed, M. (1992) Political Migration and Downward Socio-Economic Mobility: The Iraqi Community in London 1. Journal of Ethnic and Migration Studies, 18(4), 537–549, available at http://dx.doi.org/10.1080/1369183X.1992.9976328 (Al-Rasheed, 1992); Batatu, H. (2004) The Old Social Classes and the Revolutionary Movements of Iraq: A Study of Iraq’s Old Landed and Commercial Classes and of its Communists, Baʻthists, and Free Officers. London: Saqi Books (Batatu, 2004); Farouk-Sluglett, M. & Sluglett, P. (2001) Iraq since 1958: From Revolution to Dictatorship. Rev. ed. London; New York: I.B. Tauris (Farouk-Sluglett and Sluglett, 2001); Morad, T. et al. (eds.) (2008) Iraq’s Last Jews: Stories of Daily Life, Upheaval, and Escape from Modern Babylon. Palgrave Studies in Oral History. 1st ed. New York: Palgrave Macmillan (Morad et. al., 2008).

جاءت موجة الهجرة الثانية إلى المملكة المتحدة عقب الانقلاب البعثي في عام 1963، الذي أطاح بحكومة عبد الكريم قاسم. لكن اختلفت خصائص المهاجرين نوعاً ما هذه المرة، فقد كان أغلبهم مهنيين ومتخصصين ينتمون للطبقة الوسطى، من أطباء ومحامين وفنانين ومفكرين (مضاوي الرشيد، 1992). إذ غادر كثيرون البلاد بعد حصولهم على منح دراسية وفرتها حكومة البعث لدراسة الطب وطب الأسنان والعمارة والهندسة في الخارج، وفي نهاية المطاف فضلوا عدم العودة ومارسوا تخصصاتهم المختارة في المهجر. وواصلت تلك العينة من المهاجرين المجيء إلى المملكة المتحدة بعد الانقلاب الذي قامت به قيادة حزب البعث في عام 1968، ومن بينها لمع نجم الشاب صدام حسين بوصفه زعيماً جديداً. وقد اشتملت تلك الموجة على أكراد وآشوريين مسيحيين من الطبقة الوسطى أيضاً، تزايَد شعورهم بالاضطرار إلى مغادرة البلاد بسبب تعصب النظام تجاه الهويات العرقية الأخرى في العراق وتجاه حركات المعارضة السياسية وبسبب مناخ القمع العام الذي ساد البلاد.³Al-Rasheed, 1992.

بعد موجة تدفق قادة اليسار السياسي وزعماء الأكراد إضافة إلى العراقيين الأكثر ثراءً إلى لندن، شهدت الثمانينيات موجة جديدة من المهاجرين العراقيين إلى المملكة المتحدة. إذ أدت الحرب العراقية الإيرانية، التي استمرت من عام 1979 إلى عام 1988، إلى هجرة عائلات شيعية في معظمها، كان أفرادها ناشطون في حزب الدعوة الإسلامية الشيعي، أو متعاطفون معه، أو متهمون بالتبعية الإيرانية (إذ لهم أصول إيرانية)، أو من سيُرحِّلهم النظام فيما بعد مع ارتفاع حدة التوترات مع إيران.⁴تريب، تشارلز (2005) صفحات من تاريخ العراق. بيروت: الدار العربية للعلوم (تريب، 2005). تشكلت تلك الموجة من المهاجرين العراقيين من مزيجٍ مختلط ضم تجاراً خسروا ثرواتهم، ومهنيين أصبحوا عاطلين، وعمالاً متوسطي المهارة، أو غير مهرة، يفتقرون إلى التعليم الجيد والكفاءة.⁵Al-Rasheed, 1992, p.539.

ثم وصلت موجة المهاجرين التالية في عامي 1990 و1991 وذلك خلال حرب الخليج الثانية وفي أعقاب الانتفاضات الشيعية والكردية.⁶تريب، 2005. وقد استطاع المقتدرون ومن يمتلكون الثروة المادية طلب اللجوء عبر القنوات الشرعية، أما ذوو الإمكانيات المحدودة ممن وصلوا إلى المملكة المتحدة فقد اعتمدوا على نظام الرعاية الاجتماعية فيها لإعالة أسرهم. وقد شكلت العائلات الشيعية المضطهدة جزءاً كبيراً منهم، بينما كان البقية مهاجرين اقتصاديين يبحثون عن سبل أفضل للعيش. وقد هاجر بعضهم بالفعل فيما مضى إلى بلدان الشرق الأوسط المجاورة أو إلى إحدى الدول التابعة للاتحاد السوفيتي، لكنها في ذلك الوقت كانت قد أصبحت غير مستقرة أو غير مرحبة باستقبال اللاجئين.

بعد احتلال العراق في عام 2003 وما تلى ذلك من صراعات وحرب أهلية، ثم التهديد الأخير الذي يشكله تنظيم الدولة الإسلامية، وجد عدد متزايد من العراقيين أنفسهم في الشتات. وقد اتبع بعضهم نفس نمط الهجرة التسلسلية والتحق بعائلته الممتدة في البلدان المضيفة التي كان من الممكن الهجرة إليها لجمع شمل الأسرة. في حين سلك البعض الآخر طريقاً أخطر وسافروا في رحلات غير شرعية إلى أوروبا.

وبسبب حالة عدم الاستقرار المستمرة في العراق، من غير المرجح أن تتراجع كثافة الهجرة قريباً، وبالتالي سيستمر الشتات العراقي لسنوات عديدة قادمة. صحيح أنه لا يوجد رقم محدد لعدد العراقيين في المملكة المتحدة، لكن تشير بعض التقديرات إلى أن هذا الرقم يتراوح بين 350 ألفاً و450 ألفاً، وذلك وفقاً للسفارة العراقية في لندن؛ في حين يبلغ عددهم 200 ألف، وفقاً لتقديرات المنظمة الدولية للهجرة.⁷المنظمة الدولية للهجرة (2007) عملية مسح للعراق.

نتيجةَ موجات الهجرة وخلفيات العراقيين الذين هاجروا إلى المملكة المتحدة، نجد أن تركيبة الجالية العراقية في المملكة المتحدة شديدة الاختلاط والتفاوُت. فالغالبية من العرب الشيعة والأكراد السنّة، بينما هناك أقليات أخرى كثيرة تشكل جزءاً من خارطة الشتات العراقي، كالسنّة والآشوريين والكلدان والسريان والصابئة المندائيين والتركمان والأكراد الفيليين واليهود.

كانت الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية لمَن هاجروا في وقتٍ مبكر أكثر ثراءً، وكانوا ذوي مهاراتٍ وتعليم أفضل، وبالتالي وجدوا الاندماج في المملكة المتحدة أيسر ممن وصلوا إلى البلاد في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. فكثيرون ممن جاءوا لاحقاً، حتى ممن لديهم مؤهلات، واجهوا صعوبة في الحصول على فرص عمل، في حين أن صدمات النزوح والنفي والحرب خلفت وراءها مشكلات نفسية لدى الكثيرين، جعلتهم يعتمدون على برامج الرعاية الاجتماعية.⁸Great Britain & Department for Communities and Local Government (2009) The Iraqi Muslim Community in England: Understanding Muslim Ethnic Communities.

ومع أن العراقيين لا يتركزون جغرافياً في منطقة واحدة، تعيش غالبيتهم في لندن، مع تجمعات في مناطق برينت وإيلينغ وكينغستون. وباستثناء العراقيين العلمانيين، ذوي الخلفيات الليبرالية أو اليسارية، والجيل الثاني من العراقيين الذين التقوا عراقيين آخرين في المرحلة الجامعية، فإن معظم المجتمعات العرقية والطائفية للشتات العراقي لا تختلط بسهولة مع عوالم الشتات العراقي الأخرى خارج نطاق مجتمعاتهم الجغرافية أو العرقية-الطائفية.

الشتات العراقي والتنمية وإعادة إعمار العراق

كان لعدة عوامل دور في تشكيل صورة الدعم القادم من الشتات وتنمية العراق، منها الفترة التاريخية ومدى إمكانية الوصول المتاحة لهؤلاء في الشتات، والديناميات السياسية/الطائفية في الوطن، والخصائص الاجتماعية لأفراد الشتات، ومستويات العنف، إضافةً إلى الروابط والعلاقات مع وسطاء السلطة في العراق. وفي كل مرحلة كانت مساهمات الشتات إما تتحول لتلبية أحداث واحتياجات معينة أو تتشكل وفقاً للقيود والفرص المتاحة لبعض الأشخاص، بناءً على مواقفهم من أروقة السلطة في بغداد.

سنوات المعارضة قبل 2003

جرت تعبئة مختلف المجموعات والأفراد من داخل مجتمعات الشتات العراقي المتنوع عبر الحدود من أجل الوطن منذ ثمانينيات القرن الماضي. ومع استمرار تدفق النخب السياسية والمنفيين إلى لندن، في أعقاب الاضطهاد والقمع بسبب النشاط السياسي السري أو المحظور، سرعان ما أصبحت لندن -إلى جانب دمشق وطِهران- نواةً لنشاط المعارضة الذي تقوم به النخب السياسية العراقية. وشملت تلك النخب الأسَر الدينية الإسلامية، مثل أسرة الحكيم والخُوئي، وما عُرِف لاحقاً باسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وحزب الدعوة الإسلامية، إضافةً إلى الحزبَين الكرديين: الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. وكان هناك أيضاً الكثير من الجماعات الليبرالية الأخرى، بما في ذلك القوميون والاشتراكيون والشيوعيون العرب.⁹علّاوي، علي عبد الأمير (2009) احتلال العراق: ربح الحرب وخسارة السلام. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر (علّاوي، 2009).

ومع تصاعُد التوترات بين العراق والمجتمع الدولي، في أعقاب محاولة صدام حسين احتلالَ الكويت في العام 1990، رأت المعارضة العراقية في لندن في ذلك فرصةً للتأثير على صناع السياسات في لندن وواشنطن، والدفع باتجاه تغيير النظام في العراق. وهذا هو السياق الذي برز فيه المؤتمر الوطني العراقي بقيادة أحمد الجلبي، لتمثيل كامل أطياف جماعات المعارضة العراقية. وعملت مجموعة أخرى بقيادة إياد علّاوي، وهي الوِفاق الوطني العراقي، مع حكومتَي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة خلال تلك الفترة للدفع أيضاً باتجاه تغيير النظام. من الصعب التقليل من حجم تأثير شخصيات كأحمد الجلبي وإياد علّاوي على صناع السياسات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؛ فقد كانت مهمتهم هي العمل دون كلل لتشكيل سياسات البلدين إزاء العراق، ونجحوا إلى حد كبير في دفع أجندة تغيير النظام، التي أُدرِجَت في نهاية المطاف ضمن القانون الأميركي تحت مسمَّى "قانون تحرير العراق" للعام 1998.

وعلى الرغم من النجاح المبدئي الذي حققه المؤتمر الوطني العراقي في جمع المصالح المتنوعة لجماعات المعارضة التي اتحدت في هدفها لتغيير النظام، انفصلت في نهاية المطاف عدة مجموعات، منها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والأحزاب الكردية. إضافةً إلى ذلك، كانت لدى الجماعات المختلفة أفكار شديدة التبايُن حول كيفية تغيير النظام، بما في ذلك دور الجيش الأميركي وطبيعة انتشاره، ودور جماعات المعارضة العراقية في الداخل؛ الأمر الذي ساهم في زيادة تفكك المؤتمر الوطني العراقي. ومع بدء قرع طبول الحرب قُبيل اندلاعها فعلياً في العام 2003، كانت جماعات المعارضة تعمل على تعزيز علاقاتها مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة، تمهيداً لتشكيل جزء من الحكومة بمجرد حدوث التدخل العسكري. مثَّل تفكك المعارضة ومصالحها غير المتوافقة نُذُراً وبوادرَ للأحداث التي وقعت في أعقاب تغيير النظام عام 2003. ومن المهم أيضاً الإشارة إلى أن الأحزاب السياسية المعارضة لم تكن أبداً تمثل تنوع الشتات العراقي في لندن. فكثيرون في الواقع كانوا معارضين للتدخل، وشاركوا في المظاهرات التاريخية ضد الحرب في شباط/فبراير 2003.

إلى جانب التعبئة السياسية للنخب المعارضة، عملت عدة جماعات في الشتات العراقي على تقديم الإغاثة الإنسانية خلال نظام العقوبات شديد الوطأة الذي امتد من 1991 إلى 2003. واستخدمت منظمات عديدة، منها "منظمة الرفاه العالمي" (World Wide Welfare)، وغيرها من المنظمات التي لم تعد قائمة اليوم، قنواتٍ عبر منطقة كردستان العراق التي كانت في تلك الآونة محمية بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لإنشاء منطقة حظر طيران في العام 1991. وقد منح هذا الأكرادَ درجةً معينة من الحكم الذاتي والحماية من سلطة بغداد، ووفر بوابة خلفية لدخول العراق. كانت التبرعات والأموال التي تُجمَع في الشتات تغطي تكاليف الأدوية والمستلزمات الطبية والأدوات المدرسية والملابس وغيرها من الأشياء الأخرى التي كان يتم تهريبها جميعاً إلى العراق عبر الحدود الكردية.¹⁰Kadhum, O. (2017) Diasporic Interventions: State-Building in Iraq following the 2003 Iraq War. Coventry: Warwick University (Kadhum, 2017).

إعادة تشكيل عراق ما بعد 2003

بعد التدخل العسكري واحتلال العراق في 2003، استطاع ملايين العراقيين المنفيين العودة إلى أرض الوطن جسدياً للمرة الأولى منذ عقود والمساهمة مباشرةً في إعادة تشكيله. كان الكثيرون متحمسين للمساعدة في إعادة إعمار العراق، وعادوا في السنوات الأولى من الاحتلال لتقييم الطرق التي يمكنهم من خلالها المساهمة في سياسات البلاد أو أنشطة المجتمع المدني.

تعبئة النخبة في الشتات

في السنوات الأولى من الاحتلال، وصولاً إلى الانتخابات العراقية الأولى في 2005، كانت معظم جهود التعبئة العراقية العابرة للحدود تتم بواسطة الأحزاب السياسية النخبوية في الشتات، التي بحلول ذلك الوقت كانت تتمركز بقوة في أروقة السلطة. كان حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والمؤتمر الوطني العراقي والوِفاق الوطني العراقي والحزب الشيوعي العراقي والعديد من الأفراد الآخرين في الشتات يستخدمون حينها شبكاتهم الاجتماعية اللندنية العابرة للحدود من أجل تجنيد أعضاء موالين لأفكارهم وجعلهم يشغلون المناصب السياسية في الوزارات والمحافظات وغيرها من المناصب الإدارية. ومن ثَمّ صارت لندن مركزاً للتعيين في كثير من المناصب السياسية والبيروقراطية التي أصبحت حينها تحكم الدولة العراقية. فقد كان خمسة من رؤساء الحكومة العراقية يقيمون سابقًا في الشتات، وهم إبراهيم الجعفري وإياد علّاوي ونوري المالكي وحيدر العبّادي ورئيس الوزراء الحالي محمد توفيق علّاوي؛ أربعة منهم أقاموا في المملكة المتحدة.

لا يزال هذا التوجه في استقطاب المغتربين من مجتمعات الشتات العابرة للحدود الوطنية مستمراً دونما هوادة حتى الآن. بيد أنه في السنوات الأخيرة، شهد تراجعاً مطرداً، نظراً إلى أن العديد من المنفيين السابقين قضوا بعض الوقت في العراق ثم عادوا إلى حياتهم في الشتات في حين يواصلون الهجرة الدائرية بين لندن والعراق.

إلا أنه منذ عام 2003، وخاصة على مدى السنوات الخمس الأخيرة، تراجعت حملات التعبئة السياسية لدعم الأحزاب السياسية في الشتات بسبب الاستياء العام وسخط المغتربين العراقيين تجاه نخب الشتات التي قدموا لها الدعم والتأييد عام 2003، والتي ساهمت في الفساد بدلاً من التصدي له، ولم تعمل على معالجة الخدمات العامة السيئة في العراق، وعززت السياسات الطائفية التي ابتليت بها البلاد. في حين شهد تمثيل الأحزاب وحضور المناسبات السياسية انخفاضاً كبيراً ووجهت جهود التعبئة بدرجة أكبر نحو الجهات الفاعلة غير الحكومية والمجتمع المدني وقطاع الأعمال الخيرية.¹¹Kadhum, O. (2020) Unpacking the Role of Religion in Political Transnationalism: The Case of the Iraqi Shi’a Diaspora Post 2003. International Affairs (Kadhum, 2020).

دور الشتات في التعبئة الشعبية

اشتغل المغتربون منذ عام 2003 بالعمل في الوطن على المستوى الشعبي لدعم مجتمع مدني جديد في العراق يختلف عن المجتمع المدني الذي تقره الدولة وتراقبه. فقد شارك العديد من العراقيين الذين يعيشون في الشتات في مجالات تتعلق بالصحة العقلية والدعم النفسي، وحقوق المرأة، والتعليم، والخدمات الصحية، وتقديم الرعاية الاجتماعية وإعالة الأرامل والأيتام العراقيين، وبناء الديمقراطية، والتدريب على إجراء الانتخابات، والحفاظ على التراث العراقي، والعديد من المبادرات الأخرى التي لا تقتصر على مكان بعينه لتلبية احتياجات المجتمع المحلي.

من بين أبرز الأمثلة على ذلك، توفير طبيب متجوّل لمساعدة العراقيين الذين يعيشون في المناطق النائية، وأخصائيين في مجال الصحة العقلية والدعم النفسي للمساعدة في إضفاء الطابع المهني على خدمات الصحة العقلية في العراق وتطويرها، وتدريب العاملين في مجال الصحة العقلية،¹²Author interview with Mental Health Professional in London, October 2019. وتوفير الكتب الجامعية والمناهج الدراسية لجامعة بغداد بالشراكة مع الجامعات الأميركية، والمبادرات المتعلقة بمرافق الصرف الصحي لتوفير المراحيض العمومية،¹³ Kadhum, 2017. وإعادة إحياء التراث الثقافي العراقي،¹⁴See work by Nahrein Network https://www.ucl.ac.uk/nahrein/ بما في ذلك الفنون والحرف اليدوية وقوارب "المشاحيف" التي تخدم الأهوَار الجنوبية في العراق، وغيرها الكثير.

نجحت بعض المبادرات في توفير الموارد أو الخدمات العامة التي تحتاجها الفئات أو المجتمعات المحرومة حاجة ماسة. في حين قوبلت بعض المبادرات الأخرى بالعداء والعنف بسبب عدم الاستقرار وثقافات الفساد والطائفية المهيمنة، مما حال دون قيام أولئك الذين لا صلة لهم بالأحزاب السياسية بعملهم. وقد وسم هذا التوجه نظام ما بعد عام 2003، حيث تغلغلت السياسات الطائفية والفساد الذي يدعمها في كافة جوانب المجتمع والحياة العراقية.

في حين وجهت بعض جهود التعبئة الأخرى التي بذلها المغتربون في الشتات نحو الضغط على الاتحاد الأوروبي وبرلمان المملكة المتحدة، وغير ذلك من المنظمات، مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة "هيومن رايتس ووتش"، من أجل التصدي للعنف، ومكافحة الاستيلاء على الأراضي، والتمييز على أساس الدين الذي تواجهه الأقليات العراقية مثل اليزيديين، والصابئة المندائيين، والمسيحيين العراقيين، والتركمان. وفي غضون ذلك، أثيرت في مناسبات عدة قضية حقوق المرأة وقانون الأحوال الشخصية والعنف ضد المرأة في الشتات من قبل رابطة المرأة العراقية والحركة الديمقراطية العراقية.

الشتات والانقسامات العرقية الطائفية

أما على المستوى الشعبي، فقد اتسمت جهود التعبئة المبذولة من قبل مغتربي الشتات بتشرذمها كذلك، إضافة إلى تشكلها وفقاً لديناميات السلطة. على سبيل المثال، بسبب تعاظم الهوية والسلطة الشيعية منذ عام 2003، حدثت زيادة في المنظمات الشيعية العراقية في الشتات التي تهدف إلى جمع الأموال للأيتام والأرامل والمعدمين في العراق.¹⁵Kadhum, 2020. من ناحية أخرى، فقد تضاءلت الحاجة إلى المنظمات الكردية العراقية في الشتات، بسبب تمتع كردستان العراق بالاستقلال الذاتي نسبياً وكونها آمنة للزيارة. علاوة على ذلك، فإن وجود تمثيل لحكومة إقليم كردستان العراق في المملكة المتحدة يعني أن هناك تضاؤل الحاجة إلى وجود منظمات في الشتات، حيث يعمل مكتب ممثلية حكومة إقليم كوردستان في لندن كجسر بين المغتربين وكردستان العراق.

في حين ظهرت بعض المنظمات الأخرى وما لبثت أن اختفت أو توقف نشاطها في الشتات بسبب نقص التمويل والموارد، فقد نجحت المنظمات الأقدم مثل "المنتدى العراقي" و"جمعية رعاية العراقيين" في إضفاء الطابع المؤسسي والمهني على أنشطتها، ومن ثَمّ تمكنت من مواصلة تقديم الخدمات للمجتمعات العراقية المعنية بها.

كذلك ظهرت في الآونة الأخيرة منظمات أخرى، من بينها "الحركة الديمقراطية العراقية" في عام 2011 ومنظمة "العمل الجماعي من أجل العراق" في عام 2019، وهي منظمات ناشطة تعمل على زيادة الوعي والتضامن مع الحركات المدنية والشبابية في العراق. وتعمل هذه المنظمات مع جهات بريطانية وعراقية على دعم المنصات المناهضة للطائفية التي تتبنى أجندة قومية عراقية لا تمارس التمييز على أساس العرق أو الطائفة أو الدين.

دور الشتات في جهود التعبئة ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية

كان استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل عام 2014 وفشل القوات العراقية في حماية الأراضي العراقية بمثابة نقطة تحول بالنسبة للكثير من العراقيين في الشتات. وفي حين شهد الاستياء من السياسات العراقية والسياسيين المغتربين الذين سبق لهم دعمهم تراجعاً مستمراً على مر السنين، فقد أفضت أحداث عام 2014 إلى فقدان الثقة بالكامل في الحكومة وقدرتها على حماية الأمة، والسيادة العراقية، وسلامة أراضيها.

فقد كانت الفتوى التي أصدرها آية الله العظمى السيد علي السيستاني عام 2014 هي التي أنقذت العراق بالنسبة للكثيرين في الشتات. والواقع أن هذه العبارة تكررت كثيراً خلال عدة مقابلات مع مراقبي المعلومات العراقيين والمغتربين من جميع الأجيال. فقد دعا السيستاني المواطنين العراقيين إلى الانضمام إلى قوات الأمن ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية. تمخض عن هذه الدعوة الدينية لحمل السلاح ولادة "قوات الحَشد الشعبي"، وهي مجموعة من القوات شبه العسكرية التي يتألف معظمها من الشيعة، بالإضافة إلى الجماعات المسيحية والسنّية التي انضمت إلى صفوف القتال. وبمساعدة قوات الحَشد الشعبي، تمكنت قوات الأمن العراقية من هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية بحلول عام 2017 واستعادة الموصل ووحدة الأراضي العراقية.

خلال معركة الموصل في الفترة من 2014 إلى 2017 انبثق عن جهود الشتات في التعبئة ظهور ثلاث اتجاهات هامة. أولها هو التوجه نحو التعبئة الدينية - السياسية، فقد تراجعت جهود التعبئة الموجهة للسياسيين العراقيين، واستعيض عنها بتعبئة تحركها جهات فاعلة غير تابعة للدولة، بما فيها السيستاني وقوات الحَشد الشعبي. فقد تلقت قوات الحشد الشعبي والسيستاني الكثير من الثناء خلال المسيرات والاحتجاجات ضد هجمات تنظيم الدولة الإسلامية التي نُظمت في لندن، باعتبارهما أبطالاً منقذين للعراق.¹⁶Kadhum, O. (2019b) “Where Politics and Temporality Meet: Change in Shi’a Political Transnationalism over Time, Identity and the Iraqi State.” in Conference paper. 4 May 2019, University of Chicago. فضلاً عن ذلك، خلال شهر محرم المقدس الذي يُحيي فيه المسلمون الشيعة ذكرى مقتل الإمام الحسين، حفيد النبي، في معركة كربلاء عام 680 ميلادية، رُفعت لافتات وملصقات أثناء مسيرات عاشوراء تربط بين مقتل الإمام الحسين وقتل الشيعة على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية. ساهمت جهود التعبئة العابرة للحدود في رسم الإسلام الشيعي في صورة مختلفة عن الإسلام السنّي، وتذكير عامة الناس بأن المسلمين الشيعة هم الضحايا الرئيسيون لتنظيم الدولة الإسلامية.

أدى ارتفاع عدد الشهداء الذين يقاتلون ضد تنظيم الدولة الإسلامية وما نتج عنه من ارتفاع في عدد الأطفال اليتامى إلى زيادة جمع التبرعات الخيرية لصالح الأيتام العراقيين في الفترة من 2014 إلى 2017. وقد انهالت التبرعات على منظمات مثل "مؤسسة العين للرعاية الاجتماعية" ومنظمة "نور تراست"، من بين منظمات أخرى كثيرة، من المغتربين في الشتات الذين أرادوا المساعدة والتخفيف من وطأة الظروف على هذه الأسر التي يحارب أربابها لحماية بلدهم. جُمعت الملايين من الجنيهات الإسترلينية وحُوِلَّت إلى العراق من المملكة المتحدة بصفة رئيسية، وإن لم يقتصر ذلك فقط على المؤسسات الخيرية العراقية الشيعية في الشتات.

بالرغم من أن معظم جهود التعبئة العابرة للحدود التي يضطلع بها المغتربون في الشتات تقوم بها جماعات إثنية أو دينية، مع وجود عدد قليل من التحالفات المتعددة الأعراق أو التي تضم أعضاء من جميع الطوائف، فقد شهد هذا التوجه استثناءً واحداً خلال القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية. والواقع أن العراقيين من كافة الخلفيات العرقية والاجتماعية والسياسية شاركوا في الاحتجاجات ضد الإرهاب وفي الدعوة إلى حماية التراث العراقي، الذي دمره تنظيم الدولة الإسلامية في الموصل ومدينة نينوى. ونُظمت احتجاجات مختلفة في ميدان ترافالغار وأمام السفارة العراقية في لندن حضرها فنانون وكُتاب وموسيقيون عراقيون في الشتات وممثلون عن أحزاب سياسية مختلفة وطلاب.

الشتات والحركة الاحتجاجية في العراق عام 2019

في مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 2019، اتخذت الحركة المدنية والاحتجاجية في العراق منحى خطيراً بعد أن كانت تستجمع قواها منذ عام 2015 على أقل تقدير، فقد طالب الآلاف من الشباب العراقيين من كافة أرجاء البلاد بإصلاح الحكومة العراقية، وإنهاء النظام العرقي الطائفي، واجتثاث شأفة الفساد الذي جلبه في طياته، وتحسين الخدمات، واستشراف آفاق اقتصادية أفضل لكل العراقيين. استمرت احتجاجات أكتوبر -كما يُطلق عليها شعبياً- حتى شهر آذار/مارس 2020 رغم الأساليب القمعية للحكومة العراقية وعمليات الخطف والتعذيب، فضلاً عن المحاولات العديدة لأطراف خارجية ومحلية لإحباط حركتهم.

أما بالنسبة للعراقيين في الشتات، فقد نظموا العديد من المظاهرات التضامنية في بلدان عدة منها المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية وفي مختلف أنحاء أوروبا دعماً للمتظاهرين ومطالبهم. ففي المملكة المتحدة، نظم المنتدى العراقي والحركة الديمقراطية العراقية العديد من الاحتجاجات التضامنية أمام السفارة العراقية وفي ميدان ترافلغار للتوعية بالاحتجاجات التي يشهدها العراق ولإدانة الممارسات الحكومية وعدم توفير الحماية للمتظاهرين واحتواء مخاوفهم المشروعة. ومنذ ذلك الحين، ظهرت مجموعات شبابية جديدة ومنها منظمة "العمل الجماعي من أجل العراق" (كافي)، والتي نظمت العديد من الوقفات الاحتجاجية في لندن للتضامن مع إخوانهم المتظاهرين في العراق، كما تهدف المنظمة أيضاً إلى تسليط الضوء على ما يحدث داخل البلاد في ظل شح الأخبار المتواترة من العراق التي تُنشر في وسائل الإعلام الغربية.

بيد أن اغتيال الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في كانون الثاني/يناير 2020 في غارة بطائرة مسيرة نفذتها الولايات المتحدة، قد ألقى بظلاله على المشهد في العراق وأدى إلى تهميش حركة الاحتجاجات والتركيز على السياسات الداخلية وانشغال الحكومة العراقية بالتفكير في الرد المناسب لهذه الهجمة الأميركية على الأراضي العراقية. أدت هذه الأحداث إلى تهدئة أنشطة العراقيين في الشتات فيما يتعلق بالاحتجاجات مع تصاعد حدة التوتر بين واشنطن وطهران، وترقب تداعيات ذلك على العراق عن كثب.

على الجانب الآخر في مجتمع الشيعة العراقيين في الشتات في برنت، أُقيمت العديد من فعاليات الحداد والاحتفالات التذكارية للجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، واللذين باتت شرائح كبيرة من العراقيين الشيعة في الشتات يعتبرونها من شهداء الشيعة. وقد ذُكر أن أحد الفعاليات التي أُقيمت في الكلية الإسلامية حظيت بحضور كبير ضم أكثر من 300 مشارك من الجيلين الأول والثاني لتقديم تعازيهم في الشهيدين اللذين قتلا غيلة. غني عن القول أن اغتيال القادة الشيعة في العراق سيزيد من تعزيز الهويات الطائفية في الشتات ذلك بأنه يذكي جذوة سرديات الشعور بالاضطهاد والغبن للشيعة التي تضرب بجذورها في التاريخ والأساطير الشيعية. وبالتبعية، فإن الإسلام الشيعي وتسيسه ما فتئ ينتقل عبر الحدود من العراق وتتردد أصداؤه في الشتات الشيعي.

الديناميات الراهنة في الشتات والعوائق أمام جهود التعبئة

إن القضايا التي تواجه الشتات العراقي معقدة ومتشعبة. وثَمّة أربعة مسائل على وجه الخصوص تعيق قدرة الشتات على المساهمة بدور فعال في العراق: غياب الوحدة، وموقف الشتات، وعدم الاستقرار والعنف، وشح التمويل وغياب التأهيل المهني.

غياب الوحدة

لطالما كان الشتات العراقي متشرذماً بين فئات وطوائف عديدة ومختلفة من حيث العرق والمعتقدات الدينية والطائفية والأيديولوجية والموقع الجغرافي في المملكة المتحدة. ومن ثم، فإنه من الخطأ أن نتحدث عن الشتات العراقي باعتباره كيان واحد متجانس؛ بل هو بالأحرى مزيج من المجموعات المتنوعة التي يعيش كل منها وفق منظومة خاصة بها من التقاليد والذكريات وحتى تصورها للمجتمع وعلاقات الأفراد بوطنهم العراق عبر الحدود. ونادراً ما يكون هناك تداخل بين هذه المجموعات أو معرفة بالفعاليات والنشاطات والتجارب الي يعيشها الآخرون. وببساطة لا يوجد أي وحدة أو إحساس بهوية عراقية ينضوي تحت لوائها المهاجرين العراقيين في الشتات.

ولقد تفاقم هذا الوضع بفعل السياسة الداخلية في الوطن، والتي تتردد أصداؤها في الشتات، وتؤثر على شعور العراقيين وتخلق حالة من عدم الثقة بين المجموعات في الشتات. ونتيجة لذلك، لم يكن هناك سوى قدر ضئيل للغاية من التنسيق أو التعاون بين جماعات الشتات. باستثناء بعض الاحتجاجات التي سبق ذكرها ضد تنظيم الدولة الإسلامية ولحماية التراث الثقافي العراقي.

موقف الشتات

منذ عام 2003 تبوأت بعض المجموعات، لا سيما الشيعة العرب والأكراد، مراكز في السلطة بسبب مواقفهم السياسية في العراق. وكما ذكرنا آنفاً، تم الاستعانة بالعديد من الأشخاص من خارج الحدود لشغل مناصب وزارية وحكومية منذ عام 2003 لتكوين شبكة من النخبة السياسية في الشتات المرتبطة بلندن. ويندرج الأمر ذاته على صعيد المجتمع المدني، فقد سهَّل النفوذ القوي لكلا الطائفتين الأعمال الخيرية والتنموية حيث كان لثقافة الطائفية والفساد والمحسوبية القول الفصل بين القدرة على تنفيذ مشروع من المشاريع من عدمه.

فضلاً عن أن الاستقرار النسبي الذي شهده أقليم كردستان العراق، كان يعني أن العديد من المهاجرين العراقيين يمكنهم زيارة أقاربهم وأصدقائهم بانتظام مع مواصلة الشتات في ظل ما يعرف بالهجرة الدائرية. ومن ناحية أخرى، كانت قدرة الكثيرين في المجتمع الشيعي على السفر لزيارة أماكنهم المقدسة شديدة الحراسة في النجف وكربلاء وبغداد وسامراء وممارسة شعائرهم واحتفالاتهم الشيعية سبباً في إذكاء جذوة إيمانهم وساهمت في ترسيخ هويتهم الشيعية، الأمر الذي جعلهم أقرب إلى العراق ودينهم.

على الجانب الآخر، لاقت الأقليات العراقية سواء كانت أقليات عرقية او طائفية أو جنسية عنتاً شديداً في العلاقات العابرة للحدود بسبب عوامل عدة منها غياب الأمن وعمليات الخطف أو الهجمات بسبب نزاعات على الأراضي، فضلاً عن التطرف الإسلامي الذي اتسم بالعنف والذي دفع الكثير من هذه الأقليات إلى الكف عن اعتبار العراق بلدا آمناً يمكن الرجوع له. ولهذه الأسباب مجتمعة لجأت الأقليات العرقية والطائفية مثل اليزيديين والتركمان والأكراد الفيليين والصابئة المندائيين والمسيحيين المغتربين إلى العمل في الشتات إما للضغط نيابة عن طوائفهم أمام المجتمع الغربي وحكوماته أو لدعم مواطنيهم العراقيين من خلال جمع التبرعات، ومد يد العون لطلبات اللجوء ورفع الوعي. أخيراً بالنسبة للكثير من العراقيين السنّة في الشتات فإن إرث حكم صدام، وتهميش المجتمع السنّي العراقي في عراق ما بعد التدخل العسكري الأميركي قد أدت لاستبعاد الكثيرين منهم من المشاركة في إعادة إعمار العراق. فقد حدث تحول في الأدوار الطائفية، حيث قام الشيعة الذين كانوا في السابق مستضعفين وغير آمنين، بالإطاحة بالسنّة الذين كانوا في وقت من الأوقات على قمة السلطة والنفوذ في الشتات.

عدم الاستقرار والعنف

ومع ذلك، فإن الحرب الأهلية والعنف في الفترة ما بين عامي 2006 -2008، وتهديد تنظيم الدولة الإسلامية من عام 2014، واغتيال سليماني والمهندس، وحالة عدم الاستقرار وحملات القمع التي شهدها العراق مؤخراً ضد الاحتجاجات العراقية المدنية أثرت بلا أدنى شك على قدرة الشتات العراقي على التعبئة والعودة أو المساهمة في تنمية العراق. لذا، بالرغم من أن الروابط العابرة للحدود قد تشكلت بفعل موقف جماعات الشتات في مواجهة مواقع السلطة في العراق، فإنه من المهم أيضاً¹⁷Kadhum, O. (2018) Ethno-Sectarianism in Iraq, Diaspora Positionality and Political Transnationalism. Global Networks, available at https://onlinelibrary.wiley.com/doi/abs/10.1111/glob.12222. تسليط الضوء على أن مستويات الصراع والعنف في العراق كانت حجر عثرة في طريق أية روابط عابرة للحدود وتعبئة الجهود. وقد أثر ذلك حتماً على بعض المناطق أكثر من غيرها (كردستان العراق الأقل تأثراً)، وأعاقت وصول التحويلات المالية خلال أوقات الصراع. وكذلك أثرت أيضاً على الأبعاد الجنسانية للنزعة العابرة للحدود، مما أثر على المرأة العراقية التي كانت هدفاً للعنف القائم على الجنس تأثيراً سلبياً وبالتالي تثبيط عزمها على المشاركة.¹⁸Kadhum, O. (2019a) Assessing Co-Development Projects for Civil Society Building in Iraq: The Case of the Iraqi Diaspora and Swedish Institutions Following the 2003 Intervention in Iraq. British Journal of Middle Eastern Studies, 46(2), p. 222-241, available at https://doi.org/10.1080/13530194.2019.1569302.

شح التمويل وغياب التأهيل المهني

لا يخفى على أحد أن ثَمّة تفاوت واضح في المواقف التنظيمية والمالية لمنظمات الشتات العراقي في المملكة المتحدة. فالبعض يتلقى تمويلات خيرية ضخمة من جهات عدة من رجال دين وشخصيات مرموقة ورجال أعمال بريطانيين-عراقيين أو من حكومة المملكة المتحدة أو من تمويل تنظيمي من أجل استمرار عملهم. وفي الوقت ذاته، يعتمد البعض الآخر على التبرعات التي تقدمها الجماعات العرقية أو الطائفية في مجتمعات الشتات في المملكة المتحدة أو بعض المساهمات الصغيرة من الأعضاء لتغطية التكاليف التشغيلية والاعتماد على المتطوعين لمواصلة عملهم. يُفسر هذا الواقع سبب كون بعض المجتمعات أكثر نشاطاً عن غيرها ولديها منظمات أكثر بين ظهرانيهم، والسبب وراء ظهور منظمات المجتمعات الأخرى واختفائها أو أنها مازالت تصارع مادياً من أجل البقاء وهو ما يحد من قدراتها على إقامة الفعاليات والنشاطات.

في السنوات العشر الأخيرة في المملكة المتحدة، وجه التقشف الحكومي ضربة قاصمة لقطاع الأعمال الخيرية وغير الربحية. حيث جعلت الاستقطاعات المالية الأمر أشد وطأة على منظمات الشتات للاستمرار. ونتيجة لذلك، حال شح التمويل دون توظيف طواقم عمل ووضع الاستراتيجيات ووجود مكتب لهم والتواجد الفعلي، ومن ثَمّ إضفاء الطابع المهني والمؤسسي على عمل المنظمات على الصعيدين المحلي والدولي.

الفرص المتاحة أمام الشتات العراقي

يبدو جلياً أن حالة عدم الاستقرار التي تسود العراق والديناميات السياسية في الوطن قد أثرت على وحدة مجتمعات الشتات العراقي وأنشطتها العابرة للحدود. يعني الإقرار بالانقسامات الحتمية التي يسببها ذلك -ناهيك عن عدم تكافؤ الفرص أمام أنشطة الشتات العابرة للحدود- أننا ندرك أن من غير المعقول توقع حدوث تعبئة عابرة للحدود تشمل كافة الأعراق أو الطوائف الدينية فيما يخص السياسات العراقية العليا. لكن، وكما أظهرت حالة التعبئة ضد إرهاب داعش والدعوات بحماية التراث الثقافي العراقي، فإن فرص تعاون وتعاضد الشتات ممكنة في حالة القضايا التي تمس جميع العراقيين. وبالتالي لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن مجتمعات الشتات لا يمكنها التعاون أيضاً في القضايا التي تتعلق بالمجتمع المدني والرعاية الاجتماعية والبيئة والصحة وغيرها من المجالات المهمة التي تتطلب مساعدة ودعماً ويمكن تجنب الأبعاد السياسية فيها.

لكن نظراً إلى أن الثقة بين مجتمعات الشتات هي حجر الزاوية لنجاح الشراكات، ربما تكون هناك حاجة لإجراء مبادرة مسبقة لبناء الثقة بين مجتمعات الشتات العراقي كخطوة أولى لتسهيل أيّ تعاون من هذا القبيل. كما ذكرنا من قبل، فإن التواصل بين مختلف المجتمعات يكاد يكون منعدماً، وليس لديهم معرفة بأنشطة بعضهم البعض. ولا يوجد حالياً منصة أو منظمة أو شبكة يمكنها توحيد الجهود أو بناء رصيد اجتماعي بين مختلف المجموعات المتباينة. ولتوضيح ذلك دعونا نستعرض تجربة الجالية العراقية في السويد. في عام 1995، أسست الجالية "اتحاد الجمعيات العراقية في السويد"، وهو منظمة جامعة لتوحيد العدد المتزايد من منظمات الشتات العراقي التي يجري تأسيسها مع زيادة الهجرة إلى السويد. وهكذا، ساعدت هذه المنظمة الجامعة في التعريف بالجهود والأعمال التي تقوم بها الجالية العراقية في المجتمع السويدي، وأضفت صبغة مهنية على أعمال الجالية، وسهلت إجراء شراكات مع المنظمات السويدية. تقوم هذه المنظمة الجامعة أيضاً بتنسيق الرسائل الإعلامية فيما يتعلق بالسياسات العراقية والجالية العراقية في المجتمع السويدي، والأهم هو أنها ساعدت مجتمعات الشتات على العمل معاً بصورة أكثر فاعلية وعلى دعم أعمال ومجهودات بعضهم البعض.

خاتمة

من خلال تقييم مساهمات الشتات العراقي في السياسات وتنمية البلاد قبل 2003 وبعدها، يتضح أنه مع نجاح بعض المشاريع، تعرقَل البعض الآخر بسبب الصراع والفساد وثقافة الطائفية والمحسوبية؛ ويتضح أيضاً أن النظام القائم على أسس طائفية وعرقية، الذي ترسخ في المؤسسات في ظل الاحتلال، قد انعكس على الأنشطة العابرة للحدود التي يقوم بها الشتات العراقي وأصبح يشكلها، من خلال تهيئة الفرص لمن تربطهم صلات بأروقة السلطة وعرقلة جهود المهمشين من قبل هذا النظام الإقصائي [الخاص بمجموعة أو طائفة بعينها].

تبرهن المحاولات الكثيرة لإطلاق مشاريع ومبادرات على وجود الرغبة والاستعداد لدى كثير من العراقيين في الشتات، الذين أرادوا في 2003 العودة والمساعدة في إعادة إعمار وطنهم الأصلي. لكن ديناميات الوطن أثّرت حتماً على المهاجرين وأنشطتهم العابرة للحدود، ولم تحدد فقط هوية من يقوم بالتعبئة والكيفية التي تتم بها، بل ولَّدت أيضاً روح الفرقة وعدم الثقة بين مختلف جماعات الشتات العراقي. وقد تعرقلت جهود التعاون مع قيام بعض المجتمعات بالاحتشاد على أسس عرقية أو طائفية، لا على أساس الهوية الوطنية العراقية. على سبيل المثال، أدى التهديد الإقليمي من قبل تنظيم الدولة الإسلامية ومقتل أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني إلى تصاعد سياسات الهوية لدى بعض أبناء الطائفة الشيعية في الشتات. كذلك الحال مع الأكراد، فقد ساهم موقف بغداد تجاه استقلال الأكراد وقضية كركوك وتوزيع عوائد النفط في زيادة تباعد الأكراد العراقيين عن باقي مواطني بلادهم.

بالنسبة إلى أقليات العراق العرقية والدينية، فإن انشغالهم باستعادة الأراضي وحرية ممارسة عقائدهم في سلام وضمان حماية الدولة لهم والشعور بالأمان في خضم تلك المخاطر التي تهدد وجودهم، كلها تمثل معارك سيواصلون خوضها وسيواصل أبناء الشتات دعمها ما دام هناك عدد كافٍ من أفراد الطائفة أو العرق داخل البلاد. بالنسبة لكثير من تلك الأقليات، بما في ذلك اليهود والصابئة المندائيين، فإن غالبية الأفراد يقيمون في الشتات، ومستقبل مَن في الوطن يظل -في أحسن الأحوال- محل شك.

في الوقت نفسه، تمثل حركة الاحتجاج المدني العراقي لدى آخرين محاولة لتحقيق الوحدة الوطنية العراقية، التي تمنح أملاً في تجاوُز الولاءات العرقية أو الطائفية، ويدعمها كثير من العلمانيين العراقيين في الشتات. وما تزال هذه المواقف المتناقضة، في الوقت الحالي على الأقل، سائدة وتحل محلّ أيّ رؤية وطنية موحدة، الأمر الذي أبعدَ الفجوة بين جماعات الشتات بدلاً من التقريب بينها.

ومع شدة تبايُن علاقتهم بالوطن واختلافها، كان لمفهوم التنمية معانٍ مختلفة لدى كل مجموعة من مجموعات الشتات العراقي. وهذا الواقع يوجه التركيز نحو مزيدٍ من الأجندات، مما يَزيد من صعوبة العمل المشترك بين مجموعات الشتات العراقي المتباينة. ففي نهاية المطاف تشتمل جهودُ تعبئة الشتات العراقي من أجل التنمية، في معظمها، العديدَ من المطالب والمواقف والمشاريع العرقية والطائفية والدينية، وليست مجرد جهد تعاوني موحد لتنمية البلاد وتطويرها.

نتيجةً لحالة التشرذم والصراعات وانعدام الاستقرار، فهناك افتقار إلى المؤسسية والمهنية في منظمات الشتات العراقي. يقدِّم هذا التقرير توصيات رئيسية متصلة بالسياسات العامة، من أجل دعم جهود الشتات العراقي وأنشطته العابرة للحدود من أجل العراق. نستعرضها فيما يلي:

• قد يركز العمل في الشتات أولاً على بناء الثقة بين مختلف الجاليات من أجل تقريب المجموعات في حوارٍ بين بعضها البعض، تحت رعاية منظمة دولية مستقلة وغير متحيزة ولها خبرة في العمل مع أبناء الشتات. يمكن لتلك المنظمة التي يقع عليها الاختيار أن تسهل عقد منتدى لقادة الشتات العراقي تظلّله روح لجان الحقيقة والمصالحة، (انظر مثالاً مهماً في لجنة الحقيقة والمصالحة الليبيرية التي شكل الشتات الليبيري جزءاً منها [يونغ وبارك، 2009]¹⁹Young, L. A. & Park, R. (2009) Engaging Diasporas in Truth Commissions: Lessons from the Liberia Truth and Reconciliation Commission Diaspora Project. International Journal of Transitional Justice, 3(3), p.341–361, available at https://academic.oup.com/ijtj/article/3/3/341/2888399. )، مع الأخذ في الاعتبار الحساسيات السياسية الخاصة وديناميات المجتمعات العراقية الدينيّة والعرقية المختلفة. قد يؤدي منح مجتمعات الشتات المختلفة فرصةً للتعبير عن حقائقها وواقعها إلى مزيدٍ من التعاطف والتفاهم كخطوة أولى نحو التعاون والتعاضد في المستقبل. ثانيًا، قد يفتح مثل هذا الحوار طريقاً للتوافق على أولويات العتبئة من أجل العراق يشمل أيضاً المصالح العرقية والطائفية.
• من أجل التقريب بين أطياف الشتات وبناء جالية أكثر وحدةً لدعم منظمات الشتات العراقي، فإن من المفيد إنشاء منظمة جامعة أو حتى منصة رقمية، كما هو الحال لدى منظمات الشتات العراقي في السويد. فهذا قد يتيح لمجموعات الشتات فرصةً للترابط والحوار وتنسيق العمل مع الجماهير الغربية والمنظمات العراقية داخل البلاد إضافةً إلى أبناء الشتات العراقي في الدول الأخرى. على أن تكون المشاركة والعضوية في تلك المنظمة طوعية وقائمة على القيم الديمقراطية.
• من الواضح أن إحدى أكبر العوائق أمام دوام عمل منظمات الشتات هي التمويل، الذي يحول دون تحقيق المهنية والمؤسسية اللازمتَين للاستمرارية والتطوير. فبناء القدرات، من خلال جمع التبرعات وكتابة العطاءات وتنشيط التواصل الاجتماعي، سيساهم كثيراً في عملية تدريب أبناء الشتات العراقي على إدارة الموارد المالية باستدامة واستبقاء طاقم العمل والتعبئة بكفاءة.
• قد تكون إحدى الأفكار الملائمة في هذا السياق هي تنظيم ورشة لأفراد يتم انتقاؤهم من الأشخاص الناجحين في الشتات العراقي المنخرطين فعلياً في العمل داخل العراق. إذ إن هذا سيكون مفيداً في جمع البيانات حول أفضل الممارسات المتعلقة بالعمل عبر الحدود بين أوروبا والعراق. وربما كان مفيداً إعقابها بورشة ثانية بين المتخصصين العراقيين العاملين عبر الحدود ومنظمات الشتات العراقي الأخرى الراغبة في القيام بالأمر نفسه ولكنها تفتقر إلى الخبرة المهنية وسبل تحقيق الامتثال وتقييم المخاطر، وهي المهارات اللازمة للعمل في البيئات المضطربة.
• بالنسبة لبعض مجموعات الشتات المهتمة بالتعبئة من أجل العراق، قد يكون من المفيد ببساطة بناء شراكة مع منظمات كبرى، بدلاً من إنشاء منظمات جديدة من الصفر. وهذا قد يساعد مجموعات الشتات أيضاً على اكتساب الخبرة والمهنية وبناء الشبكات والقدرات إذا رغبوا مستقبلاً في إنشاء منظماتهم الخاصة.
• بسبب الحساسيات السياسية، يجب تجنب القضايا السياسية في مجالات التعاون، ومن ثَمّ التركيز على المشاريع الوطنية التي تعالج قضايا أكثر دفعاً باتجاه الوحدة، كالثقافة والتراث العراقيَّين والمجتمع المدني والتعليم والصحة والبيئة، وغيرها مما تلعب فيه المهارات والخبرات، لا السياسة أو الأيديولوجيا، دورَ توجيه المشاريع.
• نظراً لعدم الاستقرار الذي تواجهه البلاد اليوم، لا بد أن تركز المشروعات وجهود التعبئة على المبادرات المحلية صغيرة النطاق التي يمكن أن تُحدِث فرقاً في المستوى المجتمعي عبر ما هو قائمٌ من شبكات عابرة للنطاق المحلي.
• يُعَدّ التعاون الرقمي من طرق التحايُل على الصراع في زمن العنف وانعدام الاستقرار. فأبناء الشتات العراقي يستخدم بالفعل مكالمات الفيديو وواتساب ووسائل التواصل الاجتماعي. وبإمكان المهنيين ذوي المهارات، كالأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين والمعلمين والأكاديميين والمختصين بالصحة النفسية وكثيرون غيرهم، أن يُقيموا مؤتمرات بالفيديو على الإنترنت وجلسات تدريبية في أوقات الصراع المتفاقم.

and Safina Projects https://www.safinaprojects.org/