المال والسياسة والانتخابات "تونس تنتخب"

أسفرت النتائج الاولية للانتخابات التشريعية، كما هو متوقع، عن تبلور قوتين برلمانيتين كبيرتين تتنافسان في حكم تونس. كما كان تراجع حزب حركة النهضة متوقعا أمام حزب نداء تونس. وهو ما أفرزته مختلف عمليات سبر الآراء التي اجريت سنة 2014. ما لم يفرزه سبر الآراء هو أن يصبح حزب “الاتحاد الوطني الحر” القوة الثالثة بالمجلس النيابي رغم الفارق في النسب الانتخابية بينه وبين العملاقين (النداء والنهضة).

© جريدة برس

ويعيدنا هذا الحدث الى انتخابات المجلس الوطني التأسيسي حين فازت قوائم "العريضة الشعبية" بالمرتبة الثالثة أيضا وذلك بحصولها على ست وعشرين مقعدا. وبرز تيار "العريضة الشعبية" بشكل مفاجئ كتحالف انتخابي يقوده هاشمي الحامدي من الخارج عبر قنواته التلفزية ويخاطب ناخبيه عبر سكايب. ولم تتجه أعين المراقبين إليه حيث كان الاهتمام مركزا على التيارات والاحزاب السياسية التقليدية اسلامية كانت أم علمانية.

وخلافا لتيار العريضة الشعبية الذي خاض انتخابات 2011 كتيار وتحالف انتخابي بين مجموعة من المستقلين، فإن الاتحاد الوطني الحر خاض انتخابات 2011 و2014 كحزب. والفرق في النتائج كبير بين انتخابات المجلس التاسيسي والانتخابات التشريعية. إذ مرّ من مقعد في الاولى الى حوالي سبعة عشر في الثانية (حسب النتائج الاولية). وخلافا للعريضة الشعبية التي تم تفسير نجاحها بعدة عوامل أهمها العامل العائلي والتحالف مع قواعد التجمع الدستوري المنحل وشبهة شراء الأصوات، فإن أصابع الاتهام توجهت إلى المال السياسي "الفاسد" كعامل أساسي في فوز قائمات الاتحاد الوطني الحر. فسليم الرياحي، رئيس هذا الحزب ومؤسسه، ورئيس النادي الافريقي، أحد أكبر وأعرق الفرق الرياضية في تونس، هو من بين رجال الأعمال التونسيين المتهمين بالفساد وتكوين ثروة مالية طائلة من مصادر غير مشروعة، من خلال علاقته الوطيدة بالنظام الليبي السابق وتبييض الأموال. ورغم تأكيده في العديد من التصريحات الصحفية على شرعية مصادر ثروته التي تعود لنشاطه في مجالات النفط والعقارات والاستثمار في بورصة لندن، فإن سعيه المتواصل الى التأثير على القرار السياسي من خلال ثروته لم يدفع عنه شبهة إغراق الساحة السياسية بالمال الفاسد.

وقد يكون لفوز "الاتحاد الوطني الحر" في الانتخابات التشريعية تأثير على الانتخابات الرئاسية نظرا الى أن سليم الرياحي هو أحد المتسابقين الى قصر قرطاج والذي تقدم الى الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها يوم 23 نوفمبر/تشرين الثاني القادم (الدورة الاولى) بقائمة تزكيات بلغت مائة وثلاث وعشرين ألف تزكية. وهذه نسبة عالية بغض الطرف عن الاتهامات التي وجهت اليه بتزوير جزء منها. وقد تعطينا النسبة التي تحصّل عليها الحزب في الانتخابات التشريعية فكرة أولية عن القاعدة الانتخابية في سباق الرئاسة.

من جهة أخرى، لم يقدم حزب "حركة النهضة" مرشحا للانتخابات الرئاسية ولم يعلن رسميا عن دعمه لاحد المرشحين السبع والعشرين قبل الانتخابات التشريعية. وهو ما يدل على ان الاختيار سيرتبط بنتائج هذه الانتخابات. عدد من الاسماء كان مطروحا كمنصف المرزوقي واحمد نجيب الشابي الذي لمّح وصرّح في أكثر من مناسبة أنه لن يرفض دعم النهضة له. لكن حزبي هاتين الشخصيتين السياسيتين حققا نتائج جد ضئيلة ومقاعد محدودة في المجلس النيابي. وهو ما يدفع الى التفكير في أن يكون سليم الرياحي المرشح المحتمل للاسلاميين مقابل تحالفه معهم داخل البرلمان، خاصة أنه لطالما سعى الى التقرب اليهم.

من المؤكد أن حزب "حركة النهضة" سيسعى الى عقد تحالفات داخل المجلس النيابي لكنه يبحث أيضا عن مرشح قادر على مزاحمة الباجي قائد السبسي. وتقتضي الحنكة السياسية أن لا يتم التحالف مع "الحزب الوطني الحر" ومرشحه للرئاسة بعد ما راج عنه من فساد. فتقف منه نفس الموقف الذي وقفته من "العريضة الشعبية" في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي رغم حصولها على المرتبة الثالثة. وليس من مصلحة حزب "نداء تونس" التحالف مع "الاتحاد الوطني الحر" رغم أنه قد يجد نفسه مرغما على التعامل معه وفتح المجال أمامه للمشاركة في الحكومة باعتباره الحزب الفائز بالمرتبة الاولى وأعلن أنه منفتح على جميع الاطراف. إلا ان زعيم النداء الباجي قائد السبسي ربط تحالفه مع القوى السياسية الاخرى بشرط مهم وهو الالتقاء حول نفس المبادئ الديمقراطية.

وكان المال السياسي خلال الحملة الانتخابية وإمكانية شراء الأصوات هما موضع جدل بين مختلف الاحزاب. حيث تبادل حزبا "نداء تونس" و "حركة النهضة" الاتهامات في هذا الشأن. كما عبّر عدد من الاحزاب الصغرى، كحزب "العدل والتنمية" وحركة "وفاء" عن مخاوفهم من مدى تأثير هذا المال على نتائج العملية الانتخابية. وشككت الأطراف المنهزمة في نزاهة الانتخابات ومصداقية النتائج متهمة الاحزاب الفائزة بشراء الاصوات.

وإن أكدت بعض منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال مراقبة الانتخابات، كجمعية "مراقبون"، على أن شبهة استخدام المال السياسي موجودة، إلا أن الاصرار على تضخيم الظاهرة والتأكيد على أن المال السياسي كان العامل الأساسي والمحدد في فوز الاحزاب الكبرى وغيرها يشكل احتقارا للناخبين وتشكيكا في حس المواطنة لديهم. وقد يقوض كامل العملية الانتخابية كأساس للانتقال الديمقراطي لانها أسست للتداول على السلطة.

وبعيدا عن الجدل السياسي حول هذه الظاهرة، لابد من محاولة فهمها وتفسيرها، لأن ما حدث خلال الحملات الانتخابية وما قبل الانتخابية لم يكن إلا إفرازا لعوامل سابقة وتواصلا لممارسات لم تلق ردعا. فالمال السياسي كان حاضرا في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011، خاصة قبل بداية الحملة الانتخابية. وكان ذلك خصوصا عن طريق جمعيات دينية خيرية تدور في فلك بعض الاحزاب السياسية. ولم تبدأ مراقبة هذه الجمعيات إلا مؤخرا في إطار محاربة الارهاب. فتم حضر اكثر من مائة جمعية دينية وخيرية ثبت تلقيها لاموال مشبوهة من الخارج.

ومن من بين العوامل التي يمكن أن تفسر انتشار هذه الظاهرة يمكن أن نذكر:

  • عف الاطار القانوني : وهذا يحيلنا الى مسألة التمويل في قانون الاحزاب وقانون الجمعيات. وللتذكير فإن هذه المسألة كان سبب الازمة السياسية داخل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي برئاسة الاستاذ عياض بن عاشور، والتي أدت الى انسحاب بعض الاحزاب من الهيئة.
  • صعوبة تطبيق القوانين الموضوعة او القرارات المتخذة في هذا الشأن وذلك إما لضعف المؤسسات أو صعوبة الاثبات : فنذكر على سبيل المثال أنه تم اتخاذ الاجراءات القانونية للحيلولة دون هذ الظاهرة بأن أوكل القانون لدائرة المحاسبات (جهاز رقابي حكومي) مهمة مراقبة تمويل الحملة الانتخابية للمرشحين. وأعطت الإمكانية لهيئة الانتخابات كي تلغي فوز قائمة انتخابية إذا بينت دائرة المحاسبات أنها تجاوزت سقف الإنفاق الذي يخوله قانون الانتخابات. لكن نجاعة هذه الاجراءات تبدو في مدى القدرة على تطبيقها أولا ثم في امكانية اثبات التجاوزات المتعلقة بشراء الاصوات حتى يتمكن الهيئة من المحاسبة. وقد توعدت الهيئة بمحاسبة القائمات التي ثبت تورطها.
  • تعطل مسار العدالة الانتقالية أدى عدم محاسبة رجال الأعمال الفاسدين. فانخرط عدد من منهم في الحياة السياسية وحاولوا التأثير في المشهد السياسي والإعلامي ومواقع القرار. وما فضيحة شراء بعض النواب في المجلس الوطني التأسيسي إلا دليل على ذلك. وكان ذلك حين كشف البحري الجلاصي رئيس حزب "الانفتاح والوفاء" على مجموعة من الوثائق تثبت تلقي بعض النواب لاموال من قبله مقابل الانضمام الى حزبه.

ولتلافي تنامي هذه الظاهرة مستقبلا، وحتى لا تؤثر سلبا على المسار الديمقراطي، لابد من العمل على مراجعة النصوص القانونية وخلق مؤسسات قادرة على الرقابة أو دعم الموجودة. ولا ضير من انخراط رجال الأعمال في العمل السياسي لكن بشرط ان تتم محاسبة الفاسدين من بينهم. ولا ننفي وجود تفاعل بين المال والسياسة والانتخابات في الديمقراطيات الغربية والعريقة لكن لا ننسى ان هذا التفاعل هو احد اسباب دخولها في ازمة ووضعها موضع النقد اللاذع. ويجب الوعي بخطورة هذه الظاهرة على ديمقراطية ناشئة لانها تشوه قواعد اللعبة وتخلط الاوراق وتقطع الطريق أمام نشوء وعي مواطني.

الصورة: جريدة برس

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.