ملخَّص
حكمت بنية الدولة المصرية الحديثة ذات الطابع الفوقي علاقة الانظمة المتعاقبة بالمجتمع المدني. وغالبا ما نظرت الدولة المصرية إلى المجتمع المدني باعتباره تشكيل للمكونات الاجتماعية للدولة وظيفته لعب دور محدد يوضع له في إطار هندسة فوقية للمجتمع، حيث تترك له مساحات تنسحب منها الدولة أو يوظف لخدمة أجندة تنموية أو حتى سياسية بعينها. ولم تنتج طبيعة الأنظمة الحاكمة والسلطة في مصر تفاعلات بين الهياكل المجتمعية تبلور نظام سياسي معبر عنها، بل أن السلطة في مصر، مثلها مثل العديد من دول العالم الثالث بعد الاستقلال، نتجت عن متغيرات خارجية مثل التغيرات الدولية وملابسات نيل الاستقلال، أو داخلية مثل الثورات والانقلابات العسكرية. وهنا تصطدم الأنظمة، في غياب المعارضة السياسية المقموعة عادة، بمنظمات المجتمع المدني، سواء التنموية أو الحقوقية، التي وإن كانت لا تستهدف الوصول إلى السلطة، إلا أنها تشكل خطرا على التنظيم المجتمعي الذي تسعى الأنظمة السياسية للحفاظ عليه. وتخوض الدولة الصراع من أجل السيطرة على تنظيم وحجم تأثير منظمات المجتمع المدني في المجتمع، فتصدر قوانين تضيق مساحات عمل المنظمات، أو تقيد الاجهزة الأمنية حرية عملها بينما تقاوم المنظمات مستخدمة استراتيجيات من أجل ضمان الحد الأدنى من القدرة على الحركة والعمل.
وجعلت هذه المقاربة من جانب الدولة المساحة المتاحة للمجتمع المدني في علاقة عكسية مع المساحات التي تشغلها الدولة ممثلة في المؤسسات البيروقراطية ولذا تراجع المجتمع المدني في فترة الناصرية بشكل كبير ليس فقط بسبب التضييق التشريعي أو القمع الأمني بل لان الدولة كانت تعتقد انها تقوم بدوره بنفسها. ومع التغير في بنية وطبيعة النظام السياسي في السبعينيات انفتحت مساحات عمل أوسع للمجتمع المدني وخاصة في القطاعين الخدمي والتنموي بينما كان لتغير طبيعة النظام الدولي وانتشار الدعاوي للديمقراطية دور ما – بالإضافة لا شك لنضال الحقوقيين داخل مصر – في فتح مجال محدود امام قطاع المجتمع المدني الحقوقي.
ونتيجة للبنية والهياكل الحاكمة وثقافة السلطوية المتأصلة في مؤسسات الدولة المصرية مثل المجتمع المدني عمومًا خطرًا محتملًا على الأمن القومي. بينما تعاملت المنظمات المدنية وخاصة الحقوقية بقدر عال من التشكك والريبة مع الدولة بشكل عام، وهي حالة تصل في بعض الأحيان لمستوى يعيق العمل الحقوقي وتقدمه ويحوله إلى مجرد عمل احتجاجي.
ولا يكمن حل هذه المعضلة في نصوص قانونية أفضل وأكثر تمكينا لعمل الحركة الحقوقية فحسب، بل في المجال السياسي ذاته والذي بدون فتح مساحات العمل والتنظيم فيه امام القوى المجتمعية لن يتوفر الحراك والطاقة اللازمة لإعادة صياغة بنية الدولة لتعبر عن مكوناتها المجتمعية المختلفة من أسفل لأعلى.
وفي هذا الإطار تتناول هذه الورقة العلاقة بين المنظمات الحقوقية والدولة في مصر، من خلال ثلاثة اقترابات أساسية، الأول متعلق بالبنية سواء الخاصة بالدولة أو تلك المتعلقة بالمنظمات والمرتبطة بالأساس بلحظة وطريقة النشأة. ثانيا التفاعل بين الطرفين خاصة من خلال التشريعات القائمة، وأخيرا الثقافة السياسية وانعكاساتها على ممارسات الطرفين.
اقرأ المزيدمقدمة
لا تنافس التنظيمات السياسية مثل الأحزاب في دول مثل مصر على السلطة، حيث تعاني من الضعف الشديد لأسباب داخلية تتعلق بالتنظيم والديمقراطية الداخلية والانتماء الحزبي، بالإضافة إلى عوامل خارجية تتمثل في استغلال الأنظمة لمؤسسات الدولة لإجهاض أي محاولة حقيقية لخلق منافس سياسي ينازعها سلطانها، وهكذا تُفرغ الأحزاب من قدراتها. وهنا تكمن أهمية المجتمع المدني ومنظماته، حيث أنه أكثر ديناميكية وقدرة على التأثير، فهو غير منافس على السلطة، كما أنه أكثر تحديدا في تناول القضايا التي يتبناها ويتعامل معها. ولكن هذه الأهمية تجعل منه أيضا هدفا لريبة وتوجس الأنظمة السلطوية التي تخشى التنظيم أو الحراك الشعبي الخارج عن رؤيتها وسيطرتها المباشرة.
ولم تنتج الأنظمة الحاكمة في مصر عن تفاعلات بين الهياكل المجتمعية تبلور عنها نظام سياسي معبر عنها، بل أن السلطة في مصر، مثلها مثل العديد من دول العالم الثالث، نتجت عن مجموعة من المتغيرات الناتجة عن عوامل إما خارجية مثل التغيرات الدولية وملابسات نيل الاستقلال، أو داخلية مثل الثورات والانقلابات العسكرية. ويتميز خطاب الأنظمة الحاكمة الناجمة عن تلك المعطيات بالشعبوية والكاريزمية التي تضمن لها ألا يخرج التنظيم المجتمعي عليها.
وهنا تصطدم الأنظمة، في غياب المعارضة السياسية المقموعة عادة، بمنظمات المجتمع المدني، سواء التنموية أو الحقوقية، التي وإن كانت بعيدة عن العمل السياسي ولا تستهدف الوصول إلى السلطة، إلا أنها تشكل خطرا على التنظيم المجتمعي الذي تسعى الأنظمة السياسية للحفاظ عليه وفق معادلات تضمن لها مصالحها وبقاءها. ويتمثل الصراع في شقه الأكبر في جهود السيطرة على التنظيم وحجم التأثير في المجتمع، فتصدر الأنظمة قوانين تضيق مساحات عمل منظمات المجتمع المدني، أو تلجأ إلى الأساليب الأمنية المقيدة للحريات، في مقابل استراتيجيات تستخدمها المنظمات من أجل ضمان الحد الأدنى من مساحة الحركة والعمل.
وبدأ وجود التنظيمات الأهلية الحديثة في مصر منذ النصف الأول من القرن العشرين، وعلى الرغم من التغيير الذي حل بكل منهما، سواء المنظمات وأهدافها وطريقة عملها، وكذلك النظم وطبيعتها وتوجهاتها، إلا أن العلاقة بين الطرفين وخاصة فيما يتعلق بالمنظمات الحقوقية والمعنية بتغيير السياسات نادرا ما كانت تكاملية، وكثيرا ما كانت تصادمية. وتأسست أول منظمة حقوقية في مصر على يد الصحفي محمود عزمي في 1931 تحت مسمى "الشعبة المصرية لحقوق الإنسان" مستفيدا بما جاء في دستور 1923 من سماح بحرية التجمع وتأسيس جمعيات أهلية. وشهدت الثلاثينيات والاربعينيات حراكًا عماليًا يمكن اعتباره بذرة العمل الحقوقي في جانبه الاقتصادي والاجتماعي في مصر.
وفي هذا الإطار تتناول هذه الورقة العلاقة بين المنظمات الحقوقية والدولة في مصر، من خلال ثلاثة اقترابات أساسية، الأول متعلق بالبنية سواء الخاصة بالدولة أو تلك المتعلقة بالمنظمات والمرتبطة بوقت وطريقة النشأة. ثانيا الهياكل في الطرفين وقدرتها على التفاعل خاصة من خلال التشريعات القائمة، وأخيرا الثقافة السياسية وانعكاساتها على ممارسات الطرفين. وذلك من خلال التعامل مع مجموعة من الأسئلة الأساسية:
- ما هو تاريخ العلاقة بين الطرفين؟
- هل تصرفت الدولة بشكل موحد أم كانت هناك اختلافات وسط مكوناتها إزاء المنظمات الحقوقية وهذه العلاقة؟
- ما هي أهم مخاوف الحكومة وأهدافها؟
- ما هو تاريخ القوانين والتنظيمات الخاصة بالمنظمات الأهلية، وتطور ردود أفعال تلك المنظمات ونضالها. من هم اللاعبون المحوريون في تلك النزاعات و/أو المفاوضات. ماذا قدمت المسودات المقترحة لهذه القوانين ولماذا لم يتم تبنيها؟
- تأسيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، ما دوره، وما أهميته وما يرمز اليه وما تأثيره؟
- ما هي حدود الهيمنة على المنظمات الأهلية وما هي ظاهرة ما يعرف بالمنظمات الحكومية غير الحكومية GNGOs؟
- كيف تتعامل المنظمات الأهلية مع القيود واستراتيجياتها المختلفة للتعامل مع الحكومة؟ وهل كان التنظيم في المهجر مفيدا؟
وسيتم ذلك من خلال دراسة للأدبيات المتوفرة والصحف ومواقع الأخبار والمنظمات والتغطيات الإعلامية، مدعمين ذلك بمجموعة لقاءات مع فاعلين في المجال الحقوقي وأعضاء في المجلس القومي لحقوق الإنسان وبعض الأطراف الأخرى من خلال ثلاثة أقسام أساسية:
- أولا: تاريخ العلاقة بين الدولة والمؤسسات الحقوقية.
- ثانيا: استراتيجيات الدولة تجاه المنظمات الحقوقية.
- ثالثا: استراتيجيات المنظمات الحقوقية في التعامل مع الدولة.
أولا - تاريخ العلاقة بين الدولة والمنظمات الحقوقية: بين الريبة والاحتياج
وضعت مصر أول تنظيم قانوني للمجتمع المدني في دستور 1923 الذي كفل في مادته رقم 21 حق تكوين الجمعيات. وكان العمل الأهلي قائما في مصر قبل ذلك الدستور وفق قانونين: الأول القانون المدني، الصادر عام 1875 والمعمول به أمام المحاكم المختلطة، أما الثاني فصدر عام 1883 وعُمل به أمام المحاكم الوطنية. ولم يتفق القانونان فيما يتعلق بالشخصية الاعتبارية التي يتم تمثيل الجمعيات والمنظمات بها أمام القضاء، حيث كفلت بعض المحاكم الشخصية الاعتبارية للجمعيات بينما رفضها البعض الأخر. وفي عام 1938 صدر المرسوم الملكي بالقانون رقم 17 ليحظر الجمعيات أو الجماعات، دائمة كانت أم مؤقتة، التي يكون لها صورة التشكيلات شبه العسكرية خدمة لحزب أو مذهب سياسي معين. ثم صدر القانون 49 لسنة 1945، والذي وضع شرطا للتأسيس إخطار وزارة الشئون الاجتماعية.
وظلت الجمعيات خاضعة لهذا الدستور حتى إلغاءه في عام 1952، وصدر إعلان دستوري عام 1953 إلا أنه لم يتعرض في مواده لتنظيم الجمعيات، إلى أن صدر دستور 1971، الذي كفل حق تكوين الجمعيات وفقا للقانون، مع عدد من القيود الفضفاضة مثل حظر معاداة نظام المجتمع. وأضاف دستور 2012 مبدأ التأسيس بالإخطار، في تأكيد لحق المواطنين دون وصاية الدولة في التجمع والتنظيم. وأخيرا أضاف دستور 2014 مبدأ حظر تدخل الجهات الإدارية الحكومية في عمل الجمعيات، وذلك بنص المادة 75 من الدستور.
وتتالت التشريعات منذ المرسوم الملكي رقم 17 لسنة 1938 لتتحكم في عمل الجمعيات تحت دعاوي مطاطة او غامضة مثل مخالفة الآداب العامة أو المساس بسلامة الوطن، لتشمل:
صدر قانون رقم 49 لسنة 1945 بعد ست سنوات من إنشاء وزارة الشئون الاجتماعية، والتي أسند إليها تنظيم أعمال البر والإحسان لتنفق في مصارفها الشرعية. ونص مرسوم انشاء الوزارة في مادته الأولى على أن تقوم الوزارة على الشئون والمصالح التي عددتها، ومنها بوليس الآداب ومصلحة السجون والمؤسسات المختلفة لتقويم المجرمين والأحداث وإصلاحهم. ويقف وراء المرسوم تصور لدور للوزارة قائم على التخطيط والتنسيق مع منظمات المجتمع المدني في القضايا التي حددها المرسوم كنطاق عمل للوزارة. واشترط القانون رقم 49 لقيام المنظمات إخطار وزارة الشئون الاجتماعية، وقبول الرقابة والتفتيش والإشراف على أموالها ومصادرها، والإخطار المسبق قبل تلقي التبرعات، ومنح الحق للوزارة في إبطال انتخابات مجلس إدارة المنظمات إذا تمت بالمخالفة لنظامها الأساسي. ويرى البعض أن هذا القانون قد صدر في ضوء الصراع السياسي بين الحكومة وجماعة الإخوان المسلمين، إذا أنه اشترط على المنظمات والجمعيات القائمة توفيق أوضاعها في فترة لا تتجاوز الثلاثة أشهر وإلا تعد لا وجود لها. وقيدت القوانين المتتابعة المواد التي وردت في الدستور فقد صدر قانون رقم 66 لسنة 1951 بهدف ضم التنظيمات التي لم ينطبق عليها قانون 1945، وظهرت فيه الدوافع الأمنية وتوجس الدولة من تلك المنظمات، حيث أوكل سلطة الإشراف وطلب الحل إلى وزارة الداخلية، مع قابلية الطعن أمام القضاء الإداري، مبقيا على سلطة الحل النهائي بيد محكمة ابتدائية، مع إجبار المؤسسات على إبقاء سجلاتها وصور أعضائها داخل مقراتها، وإضافة عقوبات تصل إلى السجن على المخالفين للقانون. وفي عام 1952 عزز القانون رقم 357 قبضة السلطة التنفيذية على المجتمع المدني، فأعطى وزارة الشئون الاجتماعية الحق في تعيين مجالس لإدارة المنظمات الأهلية في حالات معينة، مما يجعل تلك المنظمات فعليا خاضعة لمعطيات ورؤى النظام الحاكم. وزادت القبضة في 1964 بقانون رقم 32 حيث مُنعت منظمات المجتمع المدني من العمل في القضايا الدينية والسياسية، وقامت هيئة رقابية حكومية للإشراف على أنشطة المنظمات ومراقبة تمويلها. وأعطى القانون الدولة قوة حل المنظمات في حال عدم إبلاغ الهيئة بأعضاء المنظمات الأهلية، وهيئتها التنفيذية ومقر المنظمات. ونتج القانون 153 لسنة 1999 بعد مفاوضات مع منظمات المجتمع المدني توصلت إلى مشروع قانون جديد، إلا أن المنظمات فوجئت بقانون آخر يطرح في مجلس الشعب يعيد إنتاج قانون سنة 1964، دون ضمانات لاستقلال المجتمع المدني. ورأت المحكمة الدستورية أن القانون شابه خطأ إجرائي يفقده دستوريته وهو المتعلق بعرضه على مجلس الشورى وقتها وحكمت بعدم دستوريته.
ثم جاءت الفترة الناصرية لتشهد تأميم المجال العام بكامله، ولتسيطر الدولة على مختلف الهيئات والتنظيمات وتصبح هي المجال الوحيد للحركة أو التعبير على الصعيد العام. وبعد عودة التعددية الحزبية في النصف الثاني من السبعينيات تحت حكم الرئيس أنور السادات اكتشف شباب التحقوا بهذه الأحزاب ومعظمهم من أبناء الحركة الطلابية في نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات أن هذه التعددية شكلية وقام بعضهم بتأسيس عدد مهم من المنظمات الحقوقية في مصر في الثمانينيات وبعدها.
وكانت إحدى العلامات الرئيسية فيه هو تجربة المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، حيث ضمت صفوف المؤسسين تشكيلة من مثقفي مصر العلمانيين واليساريين والقوميين الناصريين. وقد اتجه الكثيرون من هؤلاء المؤسسين فيما بعد إلى إنشاء منظمات حقوقية مستقلة في النصف الثاني من التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة عقب منازعات داخلية حول طبيعة المنظمة المصرية، واستراتيجيتها وهيكلها. وتمحورت هذه النزاعات حول فتح عضوية المنظمة او اغلاقها ولكن هذه المسألة كانت التعبير العلني عن عدة قضايا خلافية تتعلق بالتمثيل (من تمثل المنظمة وباسم من تتحدث وبأي مسوغات) والتأثير (كيفية إحداث التغيير في المجتمع وفي الدولة). ورغم أن الفترة من 1989 إلى 1993 شهدت إنجازات كبرى للمنظمة المصرية، من حيث إضفاء الطابع المهني على العمل الحقوقي، وتحسين توثيق الانتهاكات، إلا أن التحديات كانت أكبر منها، فتشرذمت المنظمة بعد 1995 ورحل الكثيرون من قادتها لتكوين منظماتهم الخاصة. ومع ذلك فقد كان لهذا التشرذم جانبا إيجابيا وهو مولد عدد من المنظمات الحقوقية المحلية العاملة على قضايا مختلفة باستراتيجيات متباينة، رغم أنها ظلت تواجه نفس التحديات التي سبقت مواجهتها في أوائل التسعينيات، بالإضافة إلى تزايد الضغط الواقع من القيود القانونية الحكومية، مما اضطر العديد منها للبقاء في منطقة قانونية رمادية تحت التهديد.
وقد أدت نشأة المنظمات الحقوقية في هذه الظروف الى عدة ديناميات لها أبعاد مختلفة:
- بعد سياسي: رأت القوى السياسية بما فيها الشيوعيون والناصريون، منذ مطلع التسعينيات، وبفعل القيود طويلة الأمد المفروضة على المشاركة السياسية، في المنظمة المصرية لحقوق الإنسان وما تلاها من منظمات فرصة كمنبر للممارسة السياسية والتمثيل السياسي مع تصحر المجال السياسي.
- حذر وانغلاق وريبة من الدولة: واجهت المنظمة المصرية لكونها مفتوحة العضوية، ما اعتبره بعض المؤسسين تهديدا بالاستيلاء عليها من قبل جماعة سياسية أو أخرى. وبدأت محاولات مختلفة لتحييد التنافس فيما بين الفصائل السياسية منذ الجمعية العامة للمنظمة في مايو 1991. وهو ما أثر بشدة على اختيارات المؤسسين بعد ذلك خاصة مع تزايد عملية الاختراق الحكومي للمنظمات أو تشكيل منظمات حكومية غير حكومية.
- ضعف الثقافة الديمقراطية داخل المنظمات الحقوقية: ظل العامل الفردي للزعامات واحتكار بعضها للسيطرة على هذه المنظمات عاملا أساسيا في تاريخ هذه الجمعيات.
منذ انتهاء الحرب الباردة، شهد العالم ما يسمى بالموجة الثالثة من الديمقراطية حسب توصيف هنتنجتون وفي سنوات اجتاحت هذه الموجة معظم دول أوروبا الشرقية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر2001، تزايد الضغط الغربي من اجل إنجاز التحول الديمقراطي وخاصة في دول المنطقة العربية حيث نُظر إلى دمقرطة المنطقة بمثابة وسيلة لاحتواء الإرهاب ودرء خطره، إلا أن هذا التوجه اهتز بعد فشل إنجاز تحول ديمقراطي على أنقاض غزو العراق ثم فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية عام 2006. وأكد الحصار التالي على قطاع غزة موقف من يعتقدون أن دعم التحول الديمقراطي لم يكن سوى وسيلة لتحقيق الغرب لمصالحه المادية وأنه لو تعارض مع مصالحه سيتوقف الدعم. ولعل الموقف الأمريكي والاوربي المتغافل عادة عن انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية خير دليل على ذلك. وأظهر تحول الموقف الغربي من قضية الديمقراطية وحقوق الانسان ان دفاعها عن مثل هذه المبادئ والحقوق يخضع لاعتبارات عدة لا تقتصر فقط على مسألة القيم والمعايير الأخلاقية بل تشمل وأحيانا تنحني أمام المصالح الاقتصادية والسياسية الآنية والمستقبلية. هناك في الأغلب رؤية آداتية في تعامل بعض الدول الغربية مع ملف حقوق الإنسان، مع الاقرار بأنه لا يمكن النظر للغرب ككتلة واحدة أو إغفال أن النظم الديمقراطية لا يمكنها التراجع تماما عن اعتبارات حقوق الانسان في سياساتها الخارجية مع وجود ضغط من قطاعات من الرأي العام المحلي. ومن ناحية أخرى تنشط منظمات غربية غير حكومية مستقلة نسبيا ولا تعاني من الازدواجية المذكورة في السياسات الخارجية وتؤكد على القيم الإنسانية أو القانون الدولي او تناصر سياسة خارجية تدعم الحقوق من باب ربط المصالح المادية بالتحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان.
وشهدت مصر عدة تغيرات ملحوظة منذ بداية الألفية الجديدة، مع انفتاح ديمقراطي حاول النظام المصري آنذاك إحداثه شكليا لمواكبة التغيرات الدولية والضغوط الداخلية عليه. وشملت الضغوط المحلية مئات الاعتصامات والإضرابات العمالية، وتبلور الاحتجاج السياسي لتظهر الحركة المصرية للتغيير (كفاية) عام 2005. وفي أعقاب ثورة 25 يناير، تغيرت محددات العلاقة بين النظام والمنظمات الحقوقية، واتسمت في جانب منها بالعداء الصريح ودخول أطراف عدة تنتمي لنظام مبارك من السياسيين والإعلاميين وغيرهم كمساندين لأجهزة الأمن في صراعها مع المجتمع المدني، حيث جرى نسج وترويح خرافة أن الثورة لم تكن سوى مؤامرة من بعض منظمات المجتمع المدني وخاصة المنظمات الحقوقية وانها كانت مدفوعة من قوى خارجية. ووقعت هجمة أمنية في نهاية 2011 حيث تمت إحالة 43 من العاملين بمنظمات مدنية اجنبية بينهم 19 أمريكيا وبعض الجنسيات الأخرى وعدد من المصريين إلى المحاكمة في القضية رقم 173 لسنة 2011، بتهمة إنشاء جمعيات أهلية والحصول على تمويل أجنبي بدون ترخيص.
وفي محاولة من الحكومة للدفاع عن وجهة نظرها وأنها ليست ضد عمل المجتمع المدني أعلن المستشار محمد الدمرداش، نائب رئيس مجلس الدولة، والمستشار القانوني لوزارة الشؤون الاجتماعية في مطلع أكتوبر 2012، أن الوزارة وافقت خلال السبعة الشهور الأولى في ذلك العام على طلبات 281 جمعية، بشأن تلقي تمويلات بلغت 600 مليون جنيه، ببنما رفضت طلبات أخرى بإجمالي 96 مليون جنيه. وقالت آن باترسون، السفيرة الأمريكية السابقة في مصر، أمام الكونجرس في واشنطن، أن بلادها أنفقت 40 مليون دولار دعمًا لمنظمات المجتمع المدني منذ ثورة 25 يناير. وعلى مدى نحو 34 عاما (منذ عام 1975حتى 2009) كان المتلقي الأكبر للمعونة الأمريكية هو الحكومة المصرية وليست المنظمات الأهلية ففي مقابل حوالي 27 مليار دولار للحكومة حصل المجتمع المدني وبرامج الحوكمة والديمقراطية على 1.13مليار، ذهب قسم ليس صغيرا منها إلى مؤسسات حكومية تعمل في مجالات التنمية والحوكمة مثل وزارات التنمية المحلية والتنمية الإدارية وغيرها، كما خصص جزء من هذا المليار أيضا لمجالات الصحة والتعليم التي قد تعمل فيها جمعيات أهلية ولكن من خلال اتفاقات تعاون وشراكة مع الحكومة المصرية.
وبالنظر إلى المؤسسات التي تم توجيه الاتهام لها، والانتماء السياسي لها، خاصة المعهد الجمهوري الدولي والمعهد الديمقراطي الوطني الأمريكيان، ومؤسسة كونراد أديناور الألمانية، وهي مؤسسات ذات صلة مباشرة وقانونية بالأحزاب والمؤسسات التي تمثلها، نستنتج أن هدف الحكومة المصرية وقتها كان تحجيم دور المجتمع المدني في مصر عن طريق مهاجمة المنظمات الأجنبية حيث غذى هذا خطاب داخلي محله يدعي أن تلك المؤسسات هي أذرع لمؤامرة دولية تستهدف مصر واستقرارها. وقد عبرت عن تلك الرؤية وزيرة التخطيط والتعاون الدولي آنذاك فايزة أبو النجا التي قالت أنه خلال 4 شهور من مارس حتى يونية 2011 مُولت المنظمات المدنية بمبلغ 175 مليون دولار بينما لم يتجاوز تمويلها في أربع سنوات (2006 إلى 2010) نحو 60 مليون دولار، من اجل "اختراق القوانين المصرية وممارسة أعمال سياسية وليست حقوقية لتفكيك المجتمع المصري وإثارة الفتن." ومع تصاعد الضغط الأمريكي والأوروبي على مصر، وخاصة الجانب الأمريكي الذي لوح أكثر من مرة باستخدام ورقة المعونات الأمريكية لمصر كوسيلة من وسائل الضغط، انفرجت ازمة المنظمات الأجنبية وسُمح للعاملين الأجانب المتهمين في القضية بالسفر وإن صدرت على معظمهم احكام تالية بعد أن ادانتهم المحكمة باتهامات متعددة.
وتتضح رؤية النظام لدور المنظمات الحقوقية في تقرير لجنة تقصي الحقائق عن ثورة يناير، التي قدمت تقريرها في أغسطس 2011 وقامت على أساسه قضية التمويل الأجنبي. وخلص التقرير إلى أن لتمويل الأجنبي للمجتمع المدني في عام 2010 ساهم في "الفوضى" التي حدثت في 2011. ويمكن أن نستنتج من الرؤية المضمرة في التقرير أن الدولة باتت غير راغبة في تكرار ما حدث مرة أخرى، حيث ذكرت اللجنة في توصياتها ضرورة ألا تتولى وزارة التضامن الاجتماعي وحدها الإشراف على التمويل الأجنبي، بل تشكل لجنة تراعي الأبعاد الأمنية والاجتماعية.
وتزايدت مخاوف منظمات المجتمع المدني مع تصعيد النظام للهجته العدائية ضد المجتمع المدني، واتهامه بتنفيذ أجندات أجنبية لزعزعة استقرار البلاد، أو ترويج قيم تتنافى مع المجتمع المصري ومعتقداته. وجرى التلويح بقضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني (القضية 173 لعام 2011) تحت حكم المجلس العسكري (2011-2012) أو في ظل رئاسة محمد مرسي (2012-2013)، فيما رأى البعض انه استمرار للضغط على المؤسسات والنشطاء العاملين في المجتمع المدني. وفي 2013، انقسمت قضية التمويل الأجنبي الى قسمين: الأول يخص المنظمات الأجنبية، وقد أحيل للقضاء، وفصلت فيه محكمة جنايات القاهرة في 4 حزيران/يونيو 2013، أما القسم الثاني من القضية فتم تخصيصه للمنظمات المحلية التي أشار اليها تقرير لجنة تقصى الحقائق حول التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني.
وظل هذا النهج من الضغوط حتى جرت الاطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي وازاحة جماعة الإخوان المسلمين من تصدر المشهد السياسي بالقوة في يوليو 2013. وتحت ذريعة العودة على الاستقرار اتخذ النظام الجديد عدة إجراءات لتضييق مساحات العمل العام وإعادة تأميمه مرة أخرى، وهي الإجراءات التي شلت الحراك الثوري وأضعفت المجتمع المدني.
وتفاقمت مخاوف المنظمات الحقوقية مع توالي المؤشرات السلبية مثل إعلان وزارة التضامن الاجتماعي في يوليو 2014 عن ضرورة تسجيل المنظمات غير الحاصلة على ترخيص والكيانات التي تمارس أنشطة وعمل الجمعيات الأهلية وفقا للقانون 84 لسنة 2002. وكررت الحكومة ان هذه المنظمات ليست مسجلة وفق قانون الجمعيات وتعمل بصفتها شركات ومكاتب قانونية في مجال حقوق الإنسان وتتلقى أموالا وأنشطتها غير خاضعة لرقابة الدولة. وفي 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 انتهت مهلة وزارة التضامن والتي تم تحديدها بثلاثة أشهر لتوفيق أوضاع المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان ولم تتخذ الحكومة إجراءات عقابية ربما نتيجة الضغوط الدولية وخضوع مصر آنذاك للمراجعة الدورية الشاملة لملف حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، إلا أن حالة العداء من الدولة للمنظمات الحقوقية لم تنته. وفي ديسمبر 2014، وقعت أول حالتين منع من السفر لشخصين عاملين في مجال حقوق الإنسان، وهما أحمد غنيم وحسام الدين علي من المعهد الديمقراطي المصري، وتوالت قرارات منع السفر منذ ذلك الحين.
وأدت تلك الإشارات المتعددة إلى تخوف المنظمات الحقوقية، من ان النظام قد أتخذ قرارا ضمنيا، لا يتعلق بالسماح لها بممارسة أعمالها من عدمه، أو نطاق عملها، بل لإنهاء وجودها تماما. وأرجع بعض الحقوقيين ذلك إلى اعتقاد نظام ما بعد يوليو 2013 أن الابقاء على مساحة عمل للمجتمع المدني قد يؤدي إلى زيادة نسبة تلك المساحة مستقبلا وبالتالي يصبح تهديدا للدولة والاستقرار من جديد وأن العائق الوحيد أمام النظام للقضاء على الحركة هو توجس من طبيعة ومدى رد الفعل الدولي على تحرك كهذا.
وشهدت الفترة (2014- 2015) تعبير عدد من المسئولين عن الرغبة في الانتقام من تجاه المجتمع المدني. وقال وزير العدل السابق أحمد الزند (في إشارة الى قضية 173 لسنة 2011): "قضية التمويل الأجنبي سيتم إعادة فتحها مرة أخرى، الكل جاي دوره ووقته وإحنا مش بننسى". وجاءت تصريحات الزند بعد أيام قليلة من إرسال خطاب من 16 منظمة حقوقية بمصر إلى المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة تعبر فيه عن قلقها البالغ إزاء ارتفاع وتيرة انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها السلطات المصرية. وقالت المنظمات أن السلطة تستخدم الحرب على الإرهاب ذريعًة للانتهاكات، في ظل حالة من الطوارئ غير معلنة. وفي نفس يوم ارسال الخطاب، أصدر البرلمان الأوروبي، بيانًا عاجلًا، أوصى خلاله دول الاتحاد الأوروبي، بحظر المساعدات إلى مصر، على خلفية مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني بالقاهرة في أوائل 2016. وأعرب البرلمان عن قلقه البالغ من أن حالة ريجيني ليست عابرة، ووضعها في سياق زيادة كبيرة في تقارير التعذيب والوفاة في مراكز الاحتجاز التابعة للشرطة المصرية، وحالات الاختفاء القسري في مصر.
وصارت قضية التمويل الأجنبي أحد أدوات الضغط بيد النظام، يستخدمها وقتما يريد التضييق على عمل المنظمات الحقوقية، فعلى الرغم من فتح القضية في عام 2011 إلا أنه لم يتم استدعاء أحد من العاملين المصريين في مجال حقوق الإنسان للتحقيقات حتى عام 2015، ثم بدأت السلطات في احتجاز بعض النشطاء العاملين في المجال الحقوقي، ومنعت 29 منهم على الأقل من السفر ومنعت عشرة منهم وسبع منظمات حقوقية من التصرف في أموالهم وأُعتقل بعضهم بعد عودتهم من الخارج. وافتقرت معظم هذه الاجراءات إلى أي مبررات قانونية معقولة. وصارت الخيارات محدودة أمام المنظمات الحقوقية في مواجهة تلك الهجمة، وكان أهمها إما تقليص النشاط أو العمل من خارج مصر.
ويمكن ارجاع تخوف الانظمة المصرية المتعاقبة من تحرير العمل في المجتمع الأهلي إلى خشيتها من مساهمته في دفع رياح وعوامل التغيير والكشف والتغير القيمي مما قد يقوض الأسس السلطوية لهذه الأنظمة. واضافة لهذا اعتنقت هذه الانظمة النظرة التآمرية التي تسود مقاربة الأجهزة الأمنية النافذة. وهذه هي العوامل الخمسة الرئيسية المسؤولة عن خوف الانظمة:
- التغيير: عانت كل الضمانات الدستورية الممنوحة لضمان حرية عمل المجتمع المدني من كونها شكلية تفرغها التشريعات القانونية من محتواها. ويرجع هذا أساسًا للخشية من تحول المواطنة حقا الى أساس للسياسة في مصر (فحتى التعديلات الدستورية على سبيل المثال عامي 2005 و2006 في مصر، والتي جعلت من المواطنة أساسا لنظام الحكم، لم تتعد كونها مجرد نصوص). وكما فعلت في المجالات السياسية والاقتصادية من تركيز للسلطة وتفادي للتغيير تعاملت الدولة مع المجتمع المدني بشكل يمنع تفعيل دوره وإعطاءه مساحة لازمة لعمله، لأن هذا من شأنه أن يساهم في قيادة قطاعات من المجتمع إلى تغيير حقيقي تخشاه الأنظمة المتتالية في مصر وتخشى تبعاته.
- الكشف: يهدد تفعيل دور المجتمع المدني بالكشف أخطاء النظام، سواء أمام الداخل أو الخارج. ومن شأن كشف الفشل الاقتصادي، والاجتماعي والسياسي، وكذلك كشف الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، أن تزيد حدة المعارضة للنظام سواء داخليا أو خارجيا، وما يترتب على ذلك من فقدان النظام لشرعيته السياسية والدولية.
- تغير القيم: وهي المخاوف التي تصيب الأنظمة المحافظة، سواء الدينية أو الفاشية الوطنية، والتي ترى في المنهج الليبرالي الغربي الذي يعزز من قيمة ودور المجتمع المدني وحقوق الإنسان والمواطنة خطرًا على قيم مجتمعية وعقائدية تظل المحافظة عليها أحد دعائم شرعية النظام وبقاءه، وبالتالي فإن العديد من الأنظمة ومنها المصرية، تنظر بتوجس إلى المجتمع المدني، وتعتبره بوابة يمكن ان تدخل عبرها منظومة قيمية مناوئة للسلطوية.
- المؤامرة: عادة ما تؤمن الأنظمة المغلقة بنظرية المؤامرة، أو تتبناها لإقناع شعوبها بأنها لا مناص من بقاءها للتصدي لمؤامرات العالم ضد وطنها. ونظرا لطبيعة عمل المجتمع المدني في مجالات التنمية، حقوق الإنسان، والديمقراطية، وكون أن الممولين الرئيسيين لعملها حكومات ومؤسسات مانحة غربية، لا ترى عقلية المسيطرين على القرار في الدول المغلقة سوى إشارات على مؤامرات تحاك ضدهم من عواصم غربية.
- المصالح: تهدد الحركة الحقوقية مصالح مباشرة لأطراف داخل الدولة وفئات متحالفة معها، حيث أن الدفاع عن وإقرار الحقوق الاقتصادية يمثل كابوسا لشبكات المصالح الاقتصادية القائمة.
ثانيا: استراتيجيات الدولة في التعامل مع المؤسسات الحقوقية بين التحكم القانوني والإرهاب الأمني
شهدت أواخر التسعينيات حركة ضغط من المجتمع المدني من أجل تغيير القانون 32 لسنة 1964، فأصدرت الدولة القانون 84 لسنة 2002، الذي يستمر فيه تمسك الدولة بسلطة الرقابة على المنظمات العاملة، حيث يلزمها القانون بالتسجيل في وزارة التضامن، وهو ما قامت به العديد من المنظمات من منطلق رغبتها في عدم ممارسة أنشطة تعتبرها الدولة غير قانونية، في حين فضل آخرون مواصلة العمل تحت اشكال قانونية أخرى. بدا وقتها أن الدولة تمارس استراتيجية ترك مساحة حركة ضيقة ومحكومة خاضعة للتدخل والمضايقات وفقا لرغبات وتفضيلات النظام. وشهدت تلك الفترة نموا في مجال حقوق الإنسان حيث ارتفع عدد المنظمات وتعددت أشكالها القانونية. وفيما يلي نستعرض اهم استراتيجيات الدولة المصرية في التعامل مع المنظمات الحقوقية.
- التشريعات
سمحت أجهزة الدولة الأمنية في عصر مبارك بالعمل العام من دون غطاء قانوني، مما يمكنها من ضرب أي من مظاهر ذلك العمل إذا تجاوز خطوط النظام الحمراء، وتجلى هذا في السماح للإخوان المسلمين بخوض الانتخابات بصفتهم مرشحين مستقلين وبشعار "الإسلام هو الحل"، رغم أن الجماعة محظورة رسميا. وعملت المنظمات الحقوقية في إطار مشابه تحت ظل قانون مقيد مع إعطاء مساحة لعملها، أحيانا بالتوافق أو بالتنسيق مع أجهزة الدولة المعنية وخاصة الأمنية.
لم يختلف القانون رقم 84 لسنة 2002 لتنظيم عمل الجمعيات الأهلية كثيرا عن سابقيه، فقد أعطى الجهة التنفيذية حقوقا شبه مطلقة، بداية من الموافقة على التأسيس أو وقف النشاط، وكذلك الموافقة على التمويل الأجنبي والانضمام لشبكات وتحالفات دولية، كما أفرط في تغليظ العقوبات، وعقاب المنظمات جماعيا بالحل إذا ما أخطأ شخص أو أكثر من القائمين عليها على الرغم من إمكانية تحديدهم بدقة وسهولة. وعاني القانون، مثل قوانين مصرية عديدة، من الصياغة المطاطة والغامضة غير القابلة للإثبات والتحديد الواضح فاستعمل مصطلحات فضفاضة مثل النشاط السياسي والنظام العام، بل زاد الغموض عبارات مثل "وما شبه ذلك"، مما مكنه من استعمال القانون بشكل انتقائي ضد من يريد استهدافه من المنظمات المدنية. وفي معظم عقود مبارك الثلاثة في السلطة خضعت مصر لحكم الطوارئ الذي عزز من قبضة الدولة، والزم منظمات المجتمع المدني بالحصول على إذن صريح من وزارة الشئون الاجتماعية للحصول على التمويل الأجنبي، مما قيّد عمل المنظمات وهدد استدامتها، حيث أن التمويل المحلي لعمل تلك المنظمات يكاد يكون منعدما. والزم القانون المنظمات بتقديم سجلات محاسبية لكل أموال التبرعات التي تتلقاها والمصروفات التي تنفقها، مع تعرض المخالفين المسؤولين في تلك المنظمات لعقوبة السجن و/أو الغرامة.
وبعد ثورة يناير 2011 شهد المجال العام حالة من الانفتاح استمرت عامين، وبدأ العمل العام يترسخ ظاهريا في المجتمع، سواء في صورة منظمات أو مبادرات شبابية. وترجع تلك الحالة الى حدوث خلخلة في مستويات السلطة، حيث سقط مبارك ورموز نظامه، وتم إقرار العزل السياسي على المنتمين للحزب الوطني، وحلت نخبة جديدة محلهم، تمثلت في رموز الثورة من مختلف ألوان الطيف السياسي، وهي التي ربطت بينها وبين المجتمع المدني العديد من الروابط خلال فترة الحراك الذي سبق يناير والممتد منذ عام 2005. وساهمت الثورة في نشر مفاهيم حقوق الإنسان وتوسيع نطاق عملها في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بدلا من تركيز معظم الفاعلين من قبل على الحقوق السياسية والمدنية، فظهرت دعوات لحقوق الإنسان (تنظم بعضها في الإحياء المعروفة بالعشوائيات في القاهرة) في السكن والتعليم والصحة.
وعلى الرغم من ذلك، فقد شهد اواخر 2011 هجمة على منظمات حقوق الإنسان، من جانب السلطة وتم طرح قانون قمعي لعمل الجمعيات الأهلية. وتصادمت جماعة الإخوان المسلمون عندما وصلت للحكم مع المجتمع الحقوقي، نظرا للتعارض بين رؤى الجماعة للدولة ورؤى عدد من المنظمات الحقوقية. وقد شهدت هذه الفترة مسودة قانون للجمعيات الأهلية لا يختلف كثيرا عن القائم سوى في تفصيل مواد تناسب جماعة الإخوان المسلمين واختراع ما يسمى اللجنة التنسيقية للسيطرة على بعض جوانب عمل المجتمع المدني وخاصة التمويل الأجنبي بتمثيل واضح للأجهزة الأمنية فيها. ورغم بعض جوانب مشروع القانون الايجابية إلا أنها كانت دون جدوى في ظل بعض نصوصه التي تفرط في الرقابة على العمل الأهلي، واشتماله على قيود عبر مصطلحات مطاطة مثل الوحدة الوطنية، النظام العام والآداب العامة، يمكن الادعاء بحمايتها من اجل رفض أو الاعتراض على تأسيس الجمعيات.
وبعد عدة مسودات ومفاوضات وأربع أنظمة حكم في ست سنوات (المجلس العسكري، الإخوان، الرئاسة الانتقالية المؤقتة، ونظام الرئيس السيسي الذي تولى الحكم في منتصف 2014) لا تختلف كثيرا مسودة القانون التي وافق عليها البرلمان في نوفمبر 2016 عن نفس الفلسفة. وتحولت اللجنة التنسيقية التي تشمل ممثلين عن أجهزة امنية للنظر في الموافقة على التبرعات المالية وخاصة الأجنبية إلى جهاز مستقل يتعين الحصول على موافقتها على بعض قرارات الوزارة ذاتها.
ولكن خلال تلك السنوات الست كانت هناك حلول وسط ولعل أهمها ما تمخض عن عمل وزارة التضامن بقيادة الوزير أحمد البرعي واستشارة جمعيات أهلية عديدة في النصف الثاني من عام 2013 لوضع قانون جديد. وشكلت الوزارة لجنة شارك فيها عدد من المنظمات في يوليو 2013، ووضعوا سويّا مشروع قانون ينظم عمل الجمعيات الأهلية، عرضه البرعي على المفوضة السامية لحقوق الإنسان. ويرى البعض أن هذا القانون كان كفيلا بمعالجة جيدة وموضوعية لإشكاليات العمل الأهلي في مصر، ومخاوف الحكومات منه، إلا أن مشروع القانون الذي وصفه بعض العاملين في المجال بأنه الأفضل في تاريخ قوانين الجمعيات الأهلية، لم يرى النور، واستبدلته الحكومة بمشروع جديد عن طريق عدد من النواب، وصف بالأكثر قمعا منذ القانون 32 لسنة 1964. ويرى البعض أن مشروع القانون لم يكن إلا وسيلة للحكومة من أجل تحسين صورتها الدولية بعد عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، وذلك لتخلق انطباعا بأنها تقود في مصر تحولا ديمقراطيا، وبالتالي انتهت مهمته بعد اكتساب النظام الجديد للشرعية الدولية.
يصنف المركز الدولي للقوانين غير الربحية في واشنطن القيود على المجتمع المدني تحت ثمانية بنود، تنطبق سبعة منها على القانون والواقع المصري ظل مختلف العهود ما قبل يناير وما بعدها. ويتصدر هذه القيود عدم القدرة على التسجيل وتأمين مزايا الشخصية القانونية، وعدم القدرة على الحصول على تمويل أجنبي بيسر، إذ يُعتمد أسلوب الموافقة وليس الإخطار كما في الدول الديمقراطية. وتشمل القيود أيضا حق الحل التحكمي. وعلى الرغم من أن القاعدة والعرف القانوني يستوجب على من لديه دفوع إلى حل الجمعيات بصفته المتضرر، أن يلجأ إلى القضاء، إلا أن القانون المصري يعطي للوزارة حق حل الجمعيات بعد استشارة اتحاد الجمعيات وسماع دفوع الجمعية، كما أن لها أن تفوض حق الحل للجهات التنفيذية في المحافظات والمتمثلة في المحافظ. وتفرض القوانين ولوائحها التنفيذية عددا كبيرا من العراقيل البيروقراطية على الجمعيات حيث تعطي الحق للجهات الإدارية في رقابة دائمة على المنظمات من خلال كل تلك الموافقات التي يجب على المنظمات الحصول عليها. وكذلك دعمت الحكومات تأسيس جمعيات موازية، تعمل في نفس المجال أو نفس المنطقة، وتلقى دعما حكوميا، في محاولة لجذب التحويلات لمثل هذه الجمعيات. وأخيرا قيد توقيع عقوبات جنائية ضد الأفراد المنضمين للمنظمات.
- الأمن والتمويل الأجنبي
رغم ان وزارة التضامن الاجتماعي هي الجهة المنوط بها التعامل مع الجمعيات الأهلية في مصر فيما يختص بالتأسيس ومراقبة النشاط فإنها غالبا، ولاسيما في حالة المنظمات الحقوقية، تعمل كواجهة لأجهزة أمنية تدير المشهد فعليا بشهادة عاملين في وزارة التضامن. وفي مطلع القرن الحالي كانت الوزارة ترفق خطابات رفض الأمن للتأسيس بخطاب وزارة التضامن.
ولم يناهض منتقدي المنظمات الاهلية التمويل الأجنبي في المطلق بل خصوا بنقدهم واجراءاتهم الأمنية المنظمات الحقوقية او تلك التي تعمل على قضايا تهدف إلى رفع الوعي لدى فئات متنوعة في المجتمع أو توضيح أوجه القصور في الأداء الحكومي أو المناداة بالحقوق والحريات، وهي كلها أنشطة تسعى معظم حكومات العالم العربي لتحجيمها، وبالتالي صار التمويل الأجنبي ذريعة جيدة لمهاجمة تلك المنظمات من قبل الحكومات أو مؤيديها بحجة أن هذا التمويل تدخل في الشئون الداخلية.
وسمح القانون رقم 84 لسنة 2002، والقانون الحالي رقم 70 لسنة 2017 للمنظمات الحقوقية بتلقي تمويلات أجنبية، إلا أنهما احتويا على العديد من العقبات والقيود التي تمنح الحكومة سيطرة كاملة على تدفق التمويلات الأجنبية. ويجب الحصول على موافقة وزارة التضامن الاجتماعي ولجنة تنسيقية تُمثل فيها أجهزة الأمن من اجل الحصول على وإنفاق مثل هذه الأموال وتمنح تلك القوانين في نسخها المختلفة سلطة تقديرية واسعة لهذين الطرفين لمراجعة الطلبات والموافقة عليها، فعلى سبيل المثال هناك فقرات تمنح الوزارة او اللجنة التنسيقة 60 يومًا للبت في طلبات الحصول على التمويل، إلا أنه من غير الواضح ماذا يحدث إذا لم يتم الرد خلال تلك المدة. ويميز القانون إلى حد كبير بين التمويل الأجنبي والتمويل المحلي، فلا يتطلب التمويل المحلي الحصول على موافقة وزارة التضامن الاجتماعي، إلا أن الوزارة تشترط تقديم طلب للحصول على التمويل من الجهات الأجنبية العاملة في مصر، على الرغم من أن التمويل في تلك الحالة يعد تمويلا محليا.
واضافة للعوائق القانونية والإدارية، تمثل الممارسات الحكومية غير القانونية عائقا أكبر أمام تدفق التمويل وشفافيته وبالتالي عمل المنظمات. ومن تلك الممارسات تحكم أجهزة الأمن في قرارات التمويل الأجنبي حتى قبل صدور قانون 70 لسنة 2017 الذي كرس هذا الوضع علانيًة. وأشار عدد من ممثلي المنظمات الحقوقية إلى أن الموافقات على التمويلات غالبا ما كانت تنطوي على التنسيق مع واخذ رأي الاجهزة الأمنية، وأن موافقة هذه الأجهزة هي الضوء الأخضر للوزارة للموافقة رسميا على التمويل على الرغم من وضوح القانون في عدم الحاجة إلى مثل هذه الموافقة، وينظر البعض الى ما فعله القانون الجديد على أنه قنن هذا التحكم الأمني صراحة. ولا توجد معايير واضحة لمنح أو منع الموافقات على التمويل الأجنبي، فهناك منح يتم الموافقة عليها لمنظمات ما، يتم رفضها لمنظمات أخرى، على الرغم من إمكانية أن تكون الجهة المانحة واحدة، والمشروع المزمع تنفيذه أيضا.
وفي التحليل الأخير فان النظام واجهزته التنفيذية هو الطرف الذي يدير محددات علاقة الدولة بالمجتمع المدني، فيتم تطبيق القانون على المنظمات التي تمارس أنشطة قد تؤدي إلى زيادة حدة المعارضة للنظام السياسي، أو تلك التي من شأنها أن تزيد من المطالبة بالمسائلة والمحاسبة، أو التي يديرها أشخاص محسوبين على قوى المعارضة للنظام، أما إذا ما كانت أنشطة المنظمة في إطار التنمية بمعني تقديم الخدمات، أو خارج الإطار السياسي والحقوقي، فإن السلطة التنفيذية تبدي مرونة أكثر في التعامل والتعاون.
وعند الحديث عن علاقة الدولة بالمنظمات الحقوقية، يجب الأخذ في الاعتبار أن سياسات الدولة هي نتاج تفاعلات بين مؤسسات عدة، فلا يمكننا أن نستنتج موقف موحد للدولة بمكوناتها تجاه المجتمع المدني بتنوعاته. ولكن بالإمكان رصد بعض الشواهد واستخراج عدد من المؤشرات لتحديد أوجه العلاقة بين المنظمات الحقوقية ومكونات الدولة. وعلى سبيل المثال فأن النظام لا يتعامل بمعايير واحدة مع منظمات المجتمع المدني عامة، فالحقوقية منها ليست كالتنموية، والتنموية الاقتصادية ليست كالسياسية. ويجعل هذا طبيعة نشاط المؤسسة محدد هام لكيفية تعامل النظام مع المؤسسة، فنجد أن وزارات مثل البيئة أو الشباب والرياضة، لديها برتوكولات تعاون مع العديد من منظمات المجتمع المدني المعنية بشئون البيئة أو الشباب والرياضة، بل وتحصل تلك المنظمات على دعم مباشر من تلك الوزارات، بالإضافة إلى التكريم والتساهل في تطبيق القوانين عليها. ويمثل التوجه السياسي لأعضاء المنظمة محددا آخر لتلك العلاقة، فالأشخاص الذين يديرون منظمات للمجتمع المدني، ولكنهم ليسوا في صفوف المعارضة، قد يحظون بتسهيلات في تطبيق القانون على مؤسساتهم.
ولا شك ان هناك حاجة إلى إرساء قواعد الحكم الرشيد لدى منظمات المجتمع المدني وذلك لزيادة قدرتها على القيام بأعمالها بشكل أكثر فعالية وشفافية. والشفافية أمر حيوي للاحتفاظ بالمصداقية وزيادة المشاركة في دعم حملات المناصرة التي تقوم بها تلك المنظمات. إلا أن ما تفرضه تلك القوانين المقيدة من واقع يضع المؤسسات في مواجهة معضلة شيطانية: إما الالتزام بجميع القوانين واللوائح والتي تسمح بتدخل الجهات التنفيذية في أعمالها، وبالتالي فقدان فعاليتها، أو أن تتحايل على بعض هذه القوانين واللوائح (وبالتبعية تعجز عن اتباع كل قواعد الشفافية وإجراءات الحكم الرشيد) مما قد يضعف مصداقيتها وقد يترتب عليه أيضا تعرضها للعقاب أو أن تعمل في أطر قانونية خارج قانون الجمعيات الأهلية كشركات مملوكة لأشخاص مما يجعل نظم الحوكمة فيها طوعية في نهاية المطاف.
- التشويه
هناك حالة من الترابط والتماهي بين الأداء الإعلامي وأداء النخب الحاكمة عادة ما يصاحب مراحل التحول في مصر. وحسب ميول النخبة الحاكمة يتهم الاعلاميون المؤيدون للسلطة المنظمات الحقوقية بالعمالة للغرب الصليبي في حربه على الإسلام، أو بالتبعية والعمالة للغرب لإضعاف مصر واختراق امنها القومي. ولعل النزعة الأمنية التي تغلب على تفكير الأجهزة الرسمية في علاقتها بالمجتمع المدني تدفع أجهزة الاعلام التي تتبع خط الدولة لترويج مثل ذلك الخطاب الديماغوجي غير القائم على ادلة. ومن أهم ملامح هذا الخطاب:
الأريحية في الأداء الإعلامي في مهاجمة المنظمات الحقوقية، من دون أسانيد أو معلومات موثقة.
انتقال تلك الحالة من التشويه والتخوين إلى البرامج الحوارية المذاعة تليفزيونيا، وتوجيه الاتهامات بتلقي تمويلات أجنبية، رغم عدم تجريم القانون لتلقيها.
التحولات الحادة في المواقف الإعلامية لبعض العاملين في قطاع الإعلام، من قبيل أن يمتدح إعلاميون المنظمات الحقوقية أثناء حكم الإخوان المسلمين بوصف الحقوقيين بالوطنيين المتصديين للتطرف واستخدام تقاريرهم في نقد النظام القائم، ثم يحول بعض نفس هؤلاء الإعلاميين نفس هؤلاء الحقوقيين إلى عملاء وخونة وطابور خامس إذا عارضوا النظام بعد سقوط الاخوان المسلمين.
انتقال تلك الحالة من الهجوم على المنظمات الحكومية إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ويتبناها عادة عدد من المستخدمين لتلك الوسائل والذين لهم قدرة على الوصول إلى عدد كبير من المتابعين.
- الهيمنة: المجلس القومي نموذجًا
اتبعت النظم المصرية المتعاقبة سياسة الترهيب والترغيب في تعاملها مع المنظمات الحقوقية، أي إما الرضوخ لشروط ومطالب الجهات الحكومية والالتزام بالحدود التي تسمح بها في مقابل السماح لها بالقيام بأعمالها، أو الدخول معها في مواجهة غير متوازنة، نظرا لما بيد الجهات التنفيذية من سلطات تتحكم في عمل المنظمات ويمكنها عرقلته.
وفي محاولة الدولة لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي، خاصة بعد المتغيرات الدولية التي نتجت عن أحداث 11 سبتمبر 2001 وتسييد خطاب عالمي حول إعلاء قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في إطار الحرب متعددة المستويات على الإرهاب، اتجهت مصر لتأسيس مجلس قومي لحقوق الإنسان يتماشى مع معايير باريس الداعية لانشاء مثل هذه المجالس.
في هذا السياق وفي العام 2003، صدر القانون رقم 94 الخاص بإنشاء المجلس القومي لحقوق الإنسان، والذي نص في مادته الأولى على أن يهدف المجلس "إلى تعزيز وتنمية حماية حقوق الإنسان، وترسيخ قيمها، ونشر الوعي بهـا، والإسهام في ضمان ممارستها، وتكون للمجلس الشخصية الاعتبارية، ويكون مقره الرئيسي في مدينة القاهرة، وله الحق في فتح فروع وإنشاء مكاتب في محافظات الجمهورية ويتمتع المجلس بالاستقلال في ممارسة مهامه وأنشطته واختصاصاته". وفي مادته الثانية نص القانون على أن يتشكل "المجلس من رئيس ونائب للرئيس وخمسة وعشرين عضوا من الشخصيات العامة المشهود لها بالخبرة والاهتمام بمسائل حقوق الإنسان، أو من ذوي العطاء المتميز في هذا المجال... ويصدر بتشكيل المجلس قرار من مجلس الشورى لمدة ثلاث سنوات". ووفقا للقانون يتبع المجلس القومي ويخضع تشكيله لمجلس الشورى، أحد غرفتي البرلمان إبان الحقبة المباركية، وهو ما ينتقص من استقلالية المجلس القومي وحدود ونطاق عمله.
وكان من المفترض أن يتبع تأسيسه صدور قانون يسهل عمل المجلس، مثل زيارة السجون بالإخطار على سبيل المثال، إلا أن ذلك لم يحدث. ولا يتخطى دور المجلس النطاق الاستشاري وليست لديه قدرة إلزامية حيال الحكومة أو مجلس الوزراء على العمل بتوصياته أو طلب استشارته في الأساس أو حتى تقديم المعلومات التي يتطلبها عمله. ويرى البعض أن المجلس بات يعاني من ضعف الاستجابة له خاصة من وزارة الداخلية التي كانت تقدم استجابة أفضل في بداية عمله وذلك للرغبة في تحسين صورة الدولة أمام الرأي العام العالمي.
وعلى الرغم من ضعف الدور الذي تقوم به المجالس القومية لحقوق الانسان في المنطقة وفقا لطبيعة وخصائص وقوانين إنشائها، إلا أن البعض يرى أنه لا بد من وجودها كآليات وطنية، ولا بد أن يكون لها صلاحيات، رغم ان الوضع الحالي في مصر يجعل هذه الآلية مجرد كيان استشاري دون صلاحيات حقيقية. وهناك خلاف داخل الحركة الحقوقية المصرية على عضوية المجلس القومي فبينما استقال منه او رفض عضويته عدد من المناضلين مثل نجاد البرعي او حسام بهجت فقد قبل اخرون لهم مصداقية داخل الحركة عضوية المجلس من منطلق ان الدخول في المجلس لا يعني ان المنظمة او الحركة الحقوقية التي ينشط فيها هذا العضو ستسير في فلك المجلس.
ودائما ما يعكس تشكيل المجلس في كل مرة صورة وطبيعة النظام السياسي الحاكم والاطراف المختلفة داخله وتوازناتها. ومنذ تأسيسه في 2003، تغير تشكيل المجلس عدة مرات، إلا أن التشكيل الذي اختير إبّان ثورة 25 يناير 2011 كان أكثر التشكيلات فاعلية، من حيث نسبة المدافعين المستقلين عن حقوق الانسان وتنوع طيف الشخصيات المشاركة، وهو ما ظهر جليا في مجموعة من التقارير التي أصدرها، كان أكثرها قوة وأوسعها صدى التقرير الذي أصدره بخصوص أحداث ماسبيرو والذي تحدى بشكل كبير الرواية الرسمية للأحداث. وفي 2012 وقع صراع داخل المجلس بين تيارين أساسيين: ما يمكن تسميته بالتيار "العلماني" في مقابل التيار اﻹسلامي. وانفجر الخلاف في ديسمبر 2012 بعد إصدار الرئيس الأسبق محمد مرسي لإعلان دستوري اثار جدلا واسعا وتسبب في استقالة عدد من أعضاء المجلس منهم الحقوقي الراحل أحمد سيف اﻹسلام بعدما "قرر اﻹسلاميون أن على المجلس أن يلعب دورا سياسيا أكبر من الدور الحقوقي المقرر له".
لكن المجلس تغير مرة أخرى بعد الاطاحة بمرسي بأقل من شهرين، حيث أصدر حازم الببلاوي -رئيس مجلس الوزراء وقتها- قرارا بتشكيل جديد للمجلس استبعد أعضاءه اﻹسلاميين واستبدلهم بخليط من الحقوقيين واﻹسلاميين السابقين. ورفض بعض هؤلاء الانضمام للمجلس منذ البداية، بينما قرر آخرون أن اﻷمر يستحق التجربة. لكن بعض هؤلاء قرر الانسحاب بعدها بشهور قليلة كما حدث مع المحاميين نجاد البرعي ورجائي عطية لأسباب مختلفة، في حين بقي آخرون في المجلس الذي رأسه محمد فائق -وزير اﻹعلام اﻷسبق في عهد عبد الناصر- وشغل منصب الأمين العام له السفير مخلص قطب، الذي كان أمينا عاما سابقا للمجلس منذ تأسيسه، واستمر فيه طوال فترة حكم الرئيس السابق مبارك. ولا يعمل جميع أعضاء المجلس -بمن فيهم الرئيس ونائب الرئيس- بدوام كامل، بينما تدير عجلة العمل اليومي أمانة عامة مكونة من موظفين وباحثين يقوم بتعيينهم وإدارتهم الأمين العام الذي يتولى أيضا مسئولية التمويل وإصدار البيانات وتنظيم الفعاليات والإشراف على إصدار التقارير بعد كتابتها من أعضاء بالمجلس أو بعثات لتقصي الحقائق من العاملين بالأمانة العامة.
وقد واجه المجلس العديد من الانتقادات، لعل أهمها كان عام 2013، حيث شهد هذا العام مقتل المئات على يد قوات الأمن في فض اعتصامي رابعة والنهضة، والاعتداء على عشرات الكنائس والمباني المسيحية، وكذلك مواجهات عنيفة بين قوات الأمن ومتظاهري جماعة الإخوان المسلمين، إلا أن التقرير السنوي للمجلس بدأ وكأنه تبرير منحاز لممارسات النظام وأجهزة الأمن. ووجهت انتقادات واسعة إلى تقرير أصدره المجلس في أعقاب زيارة وفد منه لسجن العقرب شديد الحراسة، بناء على عدد من شكاوى تقدم بها مواطنون تفيد بالمعاملة السيئة والانتهاكات التي يتعرض لها المساجين، وكذلك ادعاءات الاختفاء القسري لعدد من المواطنين. وخلص تقرير وفد المجلس إلى أن الاوضاع في السجن كانت جيدة.
وتصدى المجلس لقرار الحكومة بضرورة توفيق الأوضاع للمؤسسات العاملة في المجال الحقوقي، وضرورة التسجيل في وزارة التضامن الاجتماعي وإلا تم غلقها. ويعتقد أن جهود المجلس ساهمت في إيقاف تنفيذ ذلك القرار، كما تصدى المجلس أيضا لقضية الاختفاء القسري، في مواجهة وزارة الداخلية، وأصدر تقريرا ربما يكون قد ساهم في أن وزارة الداخلية بدأت في الإعلان عن أسماء بعض الموقوفين لديها بالفعل.
- السيطرة عبر منظمات غير حكومية تابعة للحكومة
وهي منظمات تتشكل إدارتها بقرارات تصدر من السلطة التنفيذية وتتولى القيام بمهام تقوم بها منظمات المجتمع المدني، وهي كذلك مؤسسات يقوم بتأسيسها أشخاص مواليين للنظام الحاكم، ومنهم مسئولون سابقون في مؤسسات الدولة. ويتفق وجود مثل هذه المنظمات مع رؤية الدولة المصرية للمجتمع المدني كأداة من أدوات الدولة لتحقيق خططها أو لبناء ما قامت هي بهندسته من أعلى.
لم تعد المنظمات غير الحكومية التابعة للحكومة تقتصر على الأدوار الدفاعية أو المناصرة، وإنما باتت الدول تعتمد عليها في أداء أدوار متعددة تنموية واجتماعية وخدمية ودبلوماسية، خاصة في ظل قدرة هذه المنظمات على اختراق نطاقات مجتمعية ودولية قد لا تتمكن المؤسسات الحكومية من الوصول إليها، وتمكنها من التشبيك مع المنظمات غير الحكومية العالمية، واجتذاب مصادر جديدة للتمويل، والتواصل الشعبي في دول أخرى. ونمى الدور الخارجي لهذه المنظمات التي باتت الدول تقوم بتوظيفها كأدوات لتنفيذ سياستها الخارجية في إطار الدبلوماسية الشعبية Public Diplomacy، ودبلوماسية المسار الثاني Second Track Diplomacy، والدبلوماسية المتعددة Multiple Diplomacy، والتي تعتمد جميعها على قيام فواعل غير رسمية -وفي صدارتها المنظمات غير الحكومية- بأداء أدوار خارجية بهدف دعم السياسة الخارجية للدول في نطاقات معينة، وهو اتجاه صاعد في الدول النامية والمتقدمة على السواء.
وتفتقر معظم تلك المنظمات للمهنية، ومبادئ الحكم الرشيد داخليا مثل الشفافية، وهو ما ينعكس على أدائها ورد فعل المتعاملين معها، فهي مكونة في الأساس من مسؤولين سابقين أو حاليين أو أشخاص محسوبين على السلطة، وتنعكس تلك السمات على مصداقية تلك المؤسسات، وهو ما يتجلى حين مشاركتها في فعاليات دولية، حيث ينخفض الاهتمام بتقاريرها وانشطتها بشكل واضح. وتبرر تلك المنظمات سياسات وممارسات الحكومة في مجال حقوق الإنسان بحجج واهية، مثل تبريرها انتهاكات حقوق الإنسان بدعوى متطلبات الوضع الأمني الصعب. وتفتقد هذه المنظمات للمصداقية حيث يعاني خطابها من الجهل بقواعد خطاب حقوق الإنسان العالمي ومواثيقه المختلفة، كما يعكس ذهنية النظم السلطوية وثقافتها. ويرى البعض أن المنظمات غير الحكومية التابعة للحكومة غير مؤثرة في الواقع المصري أو الدولي وخاصة على الصعيد الحقوقي، وان افتقارها للمصداقية الضرورية للعب دور في بناء الرأي العام يجهض الهدف الرئيسي الذي سعت الدولة من أجله لتأسيسها. وفي الاستعراض الدوري الشامل الأخير لمصر في مجلس حقوق الانسان عام 2014 أعلنت 10 منظمات أهلية مستقلة أنها لن تحضر خشية من رد فعل انتقامي من جانب الدولة بينما حضرت إلى جنيف إحدى المنظمات التابعة للحكومة وأرادت أن تنظم مؤتمرا على هامش فعاليات المجلس فلم يحضره سوى شخصين اثنين فقط.
ثالثا - استراتيجيات المؤسسات الحقوقية في التعامل مع الدولة بين الفعل ورد الفعل
اتسمت العلاقة في بين المنظمات الحقوقية والدولة في ظل حكم مبارك وسلطويته المشروطة بوجود هامش للعمل تحاول السلطة أحيانا تضييقه وتحاول المنظمات دائما توسيعه، أي أن الصراع كان يدور حول مساحة العمل وسقف الحريات المتعلق به. وفي ظل تشدد النظام القائم منذ يوليو 2013 واجراءاته القمعية الصارمة والتضييق المستمر تنتهج المنظمات استراتيجية البقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.
ويمكننا رصد أهم استراتيجيات المجتمع المدني للتعامل مع القيود المفروضة على عمله في الآتي:
- الخروج من عباءة الدولة (العمل في إطار الشركات)
والمقصود هنا الخروج عن النسق القانوني المتوقع، وهو قانون الجمعيات الأهلية، والعمل في ظل نسق قانوني آخر، يتيح لمجموعة من الفاعلين في مجال حقوق الانسان مساحة مشروعة للقيام بعملها في إطار منظم، دون القيود الواقعة على المنظمات المسجلة في إطار قانون الجمعيات. وصارت معظم الجمعيات الحقوقية المستقلة هكذا مسجلة كشركات خاصة او مكاتب محاماة. وعلى الرغم من الهجمة الحادة في عامي 2016 و2017 والتي شملت قرارات عديدة للمنع من السفر والتحفظ على الأموال إلا أن هذه المنظمات بدت عازمة على الاستمرار في هذه الاشكال التنظيمية البديلة. ومن ناحية أخرى يرى البعض أن النضال الحقوقي لم يعد يحتاج الى هياكل تنظيمية في بعض الأحوال تستلزم تسجيلا قانونيا. وكما تقول راجية عمران عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان فان العمل الحقوقي قد يكفيه بريد إليكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي.
- الجبهات والتشبيك:
يعد التشبيك وظيفة أساسية تهدف إلى الشراكة والتعاضد والتنسيق كوسيلة للوصول الى غاية أو هدف ما. ولذلك رأت عدة منظمات ضرورة لإعادة النظر بأهمية التشبيك كمفهوم وضرورة إنشاء الشبكات والتحالفات وتحديدا في المجتمع الأهلي، ولاسيما مع ازدياد عدد منظمات المجتمع المدني.
وتعد جبهة الدفاع عن متظاهري مصر نموذجا لجدوى التشبيك وفعاليته. وقد ظلت الجبهة تتمتع بمزايا حركية وتنظيمية قبل ثورة يناير وبعدها بفضل المرونة في التشبيك. وتعرف الجبهة نفسها بأنها جبهة تلاقت إرادة أعضائها على التطوع من أجل توفير الدعم القانوني والمعلوماتي للمصريين الذين يشتركون في التجمعات السلمية مثل الإضراب والاعتصام والاحتجاج والتظاهر. وتشكلت الجبهة من افراد ينتمون إلى منظمات حقوقيه وقانونيه مثل مركز هشام مبارك ومركز النديم ولجان الحريات بالنقابات المهنية مثل نقابة الصحفيين والمحاميين والأحزاب مثل التجمع والوفد قبل ثورة يناير، وأحزاب التحالف الشعبي، العيش والحرية، والمصري الديمقراطي الاجتماعي بعدها، ونشطاء بالمجتمع المدني. وقدمت الجبهة الدعم القانوني العاجل لمن يتعرضون لانتهاكات بسبب ممارستهم لحقوقهم المشروعة الخاصة ولا سيما التجمع السلمي، بالإضافة الي تقديم الدعم المعلوماتي والتوثيق لأي انتهاكات من جانب اجهزة الدولة. ورحبت الجبهة عادة بانضمام كافة المحامين والافراد الراغبين في التطوع والمساهمة في العمل حتى باتت تضم أعضاء من حوالي 34 منظمة حقوقية وقانونية بالإضافة إلى عدد يصعب حصره من المتطوعين والناشطين.
- التقاضي
ويعد التقاضي أحد أهم استراتيجيات منظمات المجتمع المدني في صراعها مع الحكومات المتعاقبة حتى قبل ثورة يناير، فالقضاء هو الذي حكم بعدم دستورية قانون الجمعيات الاهلية رقم 153 لسنة 1999، وهو الذي أفرج عن نشطاء وعاملين بتلك المنظمات اعتقلتهم الحكومة أثناء عملهم. ورغم انتقادات منظمات حقوقية عديدة لعدد من الاحكام في قضايا خالفت الحد الأدنى من ضمانات المحاكمة العادلة وخاصة بعد عودة السلطوية بوجه جديد في نهايات ٢٠١٣ إلا انها طالبت المجلس الأعلى للقضاء، مثلًا، بالانخراط في كل مراحل تحقيق قضية التمويل الأجنبي، بدءا من كيفية اختيار أسماء بعينها كقضاة للتحقيق في القضية، وتسرب معلومات بعضها مغلوطة أو منتزعة من سياقها، من ملف التحقيقات الذي يفترض سريته الى منابر إعلامية معروفة بقربها من النظام الحاكم وتوظيف هذه المعلومات في حملات تشهير بالمتهمين وبالمنظمات الحقوقية واتهامها بالتآمر على استقرار البلاد.
وما زال القضاء والقانون رغم الانتقادات السابقة في هذه الورقة ملجأ للجمعيات الاهلية المستقلة مثلما فعلت جمعية كاريتاس مصر الخيرية التي تمكنت من نيل حكم ضد وزارة التضامن الاجتماعي في المحكمة الإدارية بعد ان رفضت الوزارة البت في أحد التمويلات القادمة إلى الجمعية من الخارج مما عطل أعمال الجمعية. ورفضت المحكمة الإدارية ادعاءات وزارة التضامن أنها رفضت تلك المنحة لانها تضر بالمصلحة العليا للبلاد وأمنها القومي، مؤكدة أن "ما أوردته الجهة الإدارية هو كلام مرسل لا دليل على صحته".
- التنسيق الدولي
في ظل العولمة، التي جعلت حدود الدولة القومية أحيانًا مجرد خطوط على خرائط، لم يعد بمقدور الدولة رقابة وتسيير كل الأعمال التي تمتد عبر حدودها إلى دول أخرى. ونتيجة لذلك ازداد التنسيق بين المنظمات الوطنية ومثيلاتها على المستوى العالمي وتفرع من أجل تبادل الخبرات والاطلاع على التجارب والحصول على الدعم المادي وغير المادي. وطورت المنظمات الدولية عدة آليات للتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني. ويتخذ هذا التعاون أشكالا متعددة حيث يمكن أن يكون رسميًا أو غير رسمي، تشغيليًا ومركزًا على العمل الميداني أو يركز أكثر على وضع السياسات... الخ، مما يتيح لتلك المنظمات عدة بدائل منها التعاون مع منظمات الأمم المتحدة المختلفة، والتسجيل كمنظمة أهلية في الأمانة العامة للمنظمة الدولية، او التعاون مع منظمات دولية غير حكومية. وينظر الى هذا التعاون أحيانا كإحد الآليات التي تنتهجها المنظمات المحلية من أجل الحصول على قدر من الحماية، لما لشركائها من صفة دولية.
- تقليص النشاط أو نقله للخارج
أمام الملاحقة القضائية والإجراءات الاستثنائية التي تتخذها الأجهزة الأمنية في التعامل مع المجتمع المدني وخاصة منذ صيف 2014 ومنها اقتحام المقار، والاحتجاز التعسفي المخالف للقانون لنشطاء وعاملين بتلك المؤسسات، والمنع من السفر وتجميد الأصول، بدأت بعض المنظمات العاملة في مصر تقلص نشاطها إلى الحد الذي يضمن البقاء، وفي نفس الوقت لا يثير ضدها الأمن المتحفز ضد أي عمل حقوقي أو تنموي في مصر. ولجأ عدد اقل بكثير من المنظمات الى نقل مقرها أو بعض أنشطتها خارج البلاد مثلما فعل مركز القاهرة لحقوق الإنسان، الذي نقل عملياته الأقليمية الى تونس. وإن كان للعمل في المهجر مزايا، فبالتأكيد أيضا لا يخلو من العيوب:
مزايا العمل في المهجر: وتعد الميزة الأكبر هي العمل بعيدا عن ضغط المطالبات الأمنية، وكذلك بعيدا عن تدخل السلطة التنفيذية في العمل وممارستها للرقابة على الأنشطة، كما أن حرية وسهولة انتقال الأموال من شأنه تعزيز قدرات المنظمات على العمل والإنجاز.
عيوب العمل في المهجر: يبعد الانتقال إلى المهجر المنظمات عن الواقع المرغوب دراسته والعمل على تغييره. ومن عيوب العمل من المهجر أيضا سهولة استغلاله للتخوين والتشهير، بالإضافة إلى رؤية بعض العاملين في المجتمع المدني بأن العمل في هذا الحقل هو عمل نضالي يتطلب البقاء داخل البلاد لا الخروج منها.
تتسم كل هذه الاستراتيجيات بثلاث عناصر أساسية:
- راديكالية في التعامل مع الدولة: حيث تعتمد على فضح النظام أكثر من محاولة التواصل مع عناصر الإصلاح المحتمل وجودها بداخله.
- عدم الفصل بين الدولة والحكومة: حيث أن مؤسسات التي يفترض استقلالها وحيادها عن الحكومة تتصرف باعتبارها جزء من النظام.
- التشابه بين الاستراتيجيات رغم تغير الظروف: فلم يحدث تطوير واضح أو جوهري يوازي حجم الثورة والتغيرات الناتجة عنها.
الخاتمة
حكمت بنية الدولة المصرية الحديثة الفوقية علاقة الانظمة المتعاقبة بالمجتمع المدني منذ نشأته التاريخية. وغالبا ما نظرت الدولة المصرية إلى المجتمع المدني باعتباره تشكيل للمكونات الاجتماعية للدولة وظيفته لعب دور محدد يوضع له في إطار هندسة فوقية للمجتمع، حيث تترك له المساحات التي تنسحب منها الدولة أو يوظف لخدمة أجندة تنموية أو حتى سياسية بعينها. وجعلت هذه المقاربة المساحة المتاحة للمجتمع المدني في علاقة عكسية مع المساحات التي تشغلها الدولة ممثلة في السلطة أو المؤسسات البيروقراطية ولذا تراجع المجتمع المدني في فترة الناصرية بشكل كبير ليس فقط بسبب التضييق التشريعي أو القمع الأمني بل لان الدولة كانت تعتقد انها تقوم بهذا الدور بنفسها وأنها صوت الشعب كله. وفي عهدي السادات ومبارك ومع التغير في بنية وطبيعة النظام السياسي وعلاقته بالاقتصاد انفتحت مساحات عمل أوسع للمجتمع المدني وخاصة في القطاع الخدمي والتنموي بينما كان لتغير طبيعة النظام الدولي وانتشار الدعاوي للديمقراطية دور ما – بالإضافة لا شك لنضال الحقوقيين داخل مصر – في فتح مجال محدود امام قطاع المجتمع المدني الحقوقي.
لقد جعلت بنية الدولة من ناحية وبنية منظمات المجتمع المدني في مصر من ناحية أخرى هذه المنظمات جزء من الدولة في الفترة الناصرية ولكن مع التحولات السياسية التالية صارت المنظمات الحقوقية النشطة بعد ولادتها في مطلع الثمانينيات أكثر راديكالية ومهنية بل وفاق اداؤها في هذا المضمار، في بعض الأحيان، أداء الأحزاب السياسية، وهو ما أهل بعضها لتكون شريكا ولو حتى بشكل غير رسمي في تكتلات وتحالفات في ثورة 25 يناير وجعلها بعدها أحد أهداف الثورة المضادة المباشرة.
وعلى صعيد التشريعات ورغم أن الدساتير في أغلبيتها جاءت جيدة، ارتكزت القوانين دائما على فلسفة مركزية سلطوية، وهي أن القانون هدفه ليس تنظيم العلاقات أو حماية الحقوق، إنما بالأساس الهيمنة والسيطرة، وضمان تحكم الدولة في العمل الأهلي والقدرة على مراقبته وشل قطاعات او منظمات فيه إذا تطلب الأمر. ونجم عن هذا الوضع محاولات للتحايل من عدد كبير من الجمعيات والمنظمات على هذه القوانين والقواعد لتمكين عملها وهو الامر الذي يتعارض في حالات كثيرة مع قواعد الحوكمة والشفافية الرشيدة داخل هذه المنظمات. وحتى لو سعت بعض هذه المنظمات (المسجلة تحت اطر قانونية أخرى كشركات مثلا) لتطبيق قواعد طوعية للحوكمة فإنها تظل رهن إرادة المؤسس (او المؤسسين) الذي يمكن ان يتجاهل هذه القواعد إذا استشعر الخطر على نفسه بصفته المسئول أمام القانون عن المنظمة. وبالتالي يستحيل تقريبا أن تمثل قواعد الحوكمة ركنا أساسيا في المنظمات في ظل هذه البنية التشريعية: أولًا لأنها تستخدم الشفافية كأداة للرقابة على المنظمات وليست كأداة لتداول المعلومات والمحاسبة المجتمعية، وثانيًا لأنها تجعل المنظمات والقائمين عليها بل والعاملين فيها تحت تهديد دائم.
ونتيجة للبنية والهياكل الحاكمة وثقافة السلطوية المتأصلة في مؤسسات الدولة المصرية فمن الطبيعي أن ترى دولة كهذه المجتمع المدني، على حد تعبير أحد المسئولين، بمثابة "خطر". فالخروج على النص المكتوب من جانب مؤسسات الدولة خطر على الأمن القومي بل قد يصل لحد ان يصبح خيانة. وبالتالي يمكن فهم حالة التشكك والريبة العالية لدي المنظمات الحقوقية تجاه الدولة بشكل عام، وهي حالة تصل في بعض الأحيان لمستوى قد يعيق العمل الحقوقي وتقدمه ويحوله إلى مجرد عمل احتجاجي.
قادت هذه الحالة البنيوية في ظل ضغط داخلي يسعى لفتح مساحات للحرية ويناضل من أجلها وسياق دولي يضغط نحو قدر من الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، مصر إلى أن تصبح دولة تسمح بالنشاط الحقوقي بشكل تحكمي يجعلها قادرة على السيطرة عليه وتوجيهه أو الانقضاض عليه إذا استعصى أمره على الدولة، كما أوضحت تحليلات التشريعات في هذه الورقة. وفي المقابل أظهرت المنظمات الحقوقية درجة عالية من التماسك والمرونة وهو ما مكنها من الصمود والحفاظ على قدر عال من الاستقلالية، وإن كانت لم تستطع نقل المعركة إلى داخل مؤسسات الدولة وظلت في مواجهتها بدلا من أن تتمكن من بناء شبكات حليفة لها داخل المؤسسات على غرار ما تفعله منظمات غربية في دولها او منظمات اسيوية وافريقية وفي أمريكا اللاتينية في بلدان ديمقراطية.
وفي مواجهة هذه الاستراتيجيات السلطوية المتأصلة من جانب الدولة التي ترى المنظمات الحقوقية "خطر على مصر" يجب وضع قواعد وأسس لحمايتها منه، اتخذت كثير من المنظمات موقفا به درجة من العدائية تجاه الدولة مما قد يعيق أحيانًا تحقيق أهداف المنظمة ذاتها. ومثلًا لم تسعى معظم المنظمات لبناء تحالفات او العمل مع آليات داخل الدولة من ضمنها المجالس القومية الحكومية فتركتها فريسة وأداة طيعة في يد السلطة تستخدمها أحيانا ضد المنظمات الاهلية.
وربما ستكون بداية الخروج من مثل هذا الطريق المسدود، اذا توفرت الظروف السياسية الملائمة، ان يتم سن قانون فعال ينظم عمل الجمعيات، بحيث يضمن التوازن بين الرقابة الحكومية وإجراءات الحوكمة الداخلية، بداية من حرية الجمعيات في تنظيمها الداخلي وإدارتها دون تدخل من الحكومة، وصولا إلى حرية تلقي التمويل والمنح من الخارج، ومرورا بحرية التصرف في تلك الأموال، في مقابل رقابة حكومية معقولة على أعمال تلك الجمعيات. وسيسهم تغيير تشريعي كهذا في تعزيز الحوكمة الداخلية لدى المنظمات من خلال اجراءات وهياكل تضمن الإدارة الرشيدة بما تتضمنه من معايير الشفافية والمسائلة والمحاسبة. ووجود قانون واضح يمكن المنظمات الحقوقية من العمل بحرية ويدفعها لتبني قدر اقصى من الشفافية سيكفل دحض الادعاءات التي دائما ما توجه للمجتمع المدني بشكل عام، ومنها العمالة للخارج، وخاصة الغرب، أو تقديم غطاء للإرهاب الى اخر هذه القائمة المستهلكة من الاتهامات.
ولكن لا شك ان جذور الحل ليست في نصوص قانونية فحسب، بل في المجال السياسي ذاته والذي بدون فتح مساحات العمل والتنظيم فيه امام القوى المجتمعية لن يتوفر الحراك والطاقة اللازمة لإعادة صياغة بنية دولة تعبر عن مكوناتها المجتمعية المختلفة من أسفل لأعلى. والخطر في واقع الامر على مصر ودول مماثلة أخرى لا يكمن فيما تطرحه نظم قائمة حول مؤامرات خارجية وتهديدات عسكرية بل هو في استمرار الوضع الراهن الذي لا يمكن بناء دولة ديمقراطية حديثة في ظله. ومن ناحيتها ربما يتعين على المنظمات الحقوقية ان تبني شبكة أوسع بينها وبين منظمات المجتمع المدني الأخرى، تضع على عاتقها مواجهة القمع، وبناء تحالفات سياسية واجتماعية تمكنها من التأثير على عملية اتخاذ القرار في مؤسسات الدولة، والأهم ان تمكنها من ان يكون لها ثقل على الأرض من خلال تمثيلها لفئات اجتماعية واضحة وتبنيها لقضاياها.
[58] "لماذا تصاعدت أدوار المنظمات الحكومية "غير الحكومية" في الإقليم؟"، المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، 12 كانون الثاني/يناير 2016، متاح على goo.gl/q6XvcY
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.