العدالـــــة الانتقـاليــــــة في تونـــــــس: المســــار المــــنقوص

عرّف المشرع التونسي مؤخرا العدالة الانتقالية ضمن الفصل الأول من القانون الأساسي المتعلق بإرسائها كما يلي: " العدالة الانتقالية على معنى هذا القانون هي مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان "1القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، الرائد الرسمي عدد 105 المؤرخ في 31 ديسمبر 2013، ص 4335. .

ويبدو أن هذا المفهوم معقد الا أنه يلخص مسار العدالة الانتقالية كما وردت في الأدبيات الخاصة بها والتجارب التي جسدتها في العالم بما فيها التونسية. نشأ مفهوم العدالة الانتقالية في التسعينيات بعد سقوط الدكتاتوريات في الأرجنتين والشيلي واستعمل في تلك الفترة. ولعب المركز الدولي للعدالة الانتقالية دورا هاما لتأصيل مبادئ العدالة الانتقالية عبر شبكة تعمل في أكثر من ثلاثين بلد2انظر دور المركز على  موقع الواب  : International Center for Transitionnel Justice (ICTJ ). واستقرت عناصره في أربع الى خمس جوهرها انصاف المظلومين3  Neil Kritz editor, Transitional Justice, How Emerging Democracies Reckon with Former Regimes, Washington DC, United States Institute of Peace Press, 3 vol., 1995 & Ruti Teitel, Transitional Justice, Oxford University Press, 2000. . وهي التي أخذ بها القانون التونسي المؤسس للجنة الحقيقة والكرامة لفظا.

1. الحق في العدالة: وهو المحاسبة أي محاكمة الجناة عبر قوانين وهيئات تضمن محاكمة عادلة. يشمل الحق في المتابعة القضائية للجناة والمسئولين على انتهاكات حقوق الانسان عبر هيئات قضائية غير تقليدية (مثل المحكمة الجنائية الدولية) أو محاكم الحق العام أو مزج من هذا وذاك.

2. الحق في الحقيقة: معرفة ما حصل للمتظلمين ببعث لجان لتقصي الحقائق تبحث في الماضي وتطلع على الأرشيف وتستمع للمتضررين لتضميد جراحهم والمعتدين عليهم المطالبين بالاعتذار. وقد نشأ منها 30 لجنة في العالم4أنظر PROMOTION AND PROTECTION OF HUMAN RIGHTS, Study on the right to the truth,United Nations, Economic and Social Council, Commission on Human Rights,  E/CN.4/2006/91, 8 February 2006. .

3. الحق في التعويضات: جبر الضرر المادي (اعادة الضحية الى وضعه الأصلي وتعويضه ماليا)، كما يشمل اعادة الاعتبار للمتضررين عبر امتيازات كالتداوي المجاني والانتفاع بالضمان الاجتماعي. وجبر الضرر المعنوي عبر الاعتذار العلني والرسمي من الدولة واجراءات رمزية مثل بناء نصب تذكاري وتخليد ذكرى المعاناة5أنظر United Nations Basic Principles and Guidelines on the Right to Remedy and Reparations for Gross Violations of International Human Rights Law and Serious Violations of International Humanitarian Law1 (UN Basic Principles, 2005 ).

4. ضمان عدم تكرار الاساءة: وذلك بإصلاح المنظومة القانونية والمؤسساتية وإصدار قوانين "عزل" سياسي أو اداري للمورطين في المنظومة التسلطية وحل الميلشيات والأمن الموازي وتحصين حياد الأجهزة (الأمن والجيش والمخابرات). وتدعيم التحول بإصدار ترسانة قوانين تحمي حقوق الانسان من أي تجاوز.

5. المصالحة: اعادة بناء الرابط الاجتماعي بتضميد جراح الماضي لكي لا تتحول العدالة الى طلب ثأر ويمر ذلك عبر المطالبة بالعفو من طرف الأشخاص المعتدين وقبوله من طرف الضحية؛ وإصدار عفو (خاص أو تشريعي عام) يدمج الطرفين في عقد اجتماعي جديد.

في الواقع لا تهم هذه المبادئ إلا جزءا من العدالة الانتقالية بالتحديد الجزء الخاص بانتهاكات الحقوق لضحايا القمع والاضطهاد. ولكن مفهوم العدالة الانتقالية أشمل. هو يطرح سؤال محوري حسب أول منظريها: "كيف ينبغي أن تتعامل المجتمعات مع ماضيها الشيطاني؟"6Ruti Teitel, Transitional Justice, op cit, p. 3 (How should soicieties deal with their devil pasts? ). مسائل مرتبطة بإحلال نظام ديمقراطي يحل محل نظام متسلط مهما كان نوعه. هنالك قواعد جديدة للحكم ولكن هنالك أيضا ارث يجب تصفيته مع المحافضة عل استمرارية دواليب الدولة. وأول مسألة تطرح في هذا الصدد هي: ما هو مصير الطاقم السياسي والذي يضم أصحاب القرار للنظام السابق؟ وثانيها: كيف التعامل مع الأمنيين والعسكريين المتورطين في ممارسة التعذيب والمسئولين عن التجاوزات وانتهاكات حقوق الانسان؟ والمسألة الثالثة: هل يجب انتزاع أملاك الأشخاص المقربين من السلطة والمرتشين والفاسدين الذين استغلوا نفوذ الدولة لمآرب شخصية؟ تنتسب هذه المسائل الثلاث الى العدالة الانتقالية بمفهومها الواسع أي عدالة تسمح بالانتقال وبطي صفحة الماضي وإعادة تشكل الرابط الاجتماعي عبر مبادئ وآليات غير التي تعتمد في احلال العدل بين المواطنين في ظل دولة ديمقراطية مستقرة. ولقد نظّر جون راولس في كتبه "نظرية العدل" لمفهوم العدل بأن يعطى لكل حق حقه اعتمادا على مبدأي الحرية والمساواة. هذا فكريا. أما العدالة القضائية فتستوجب العقاب وجبر الضرر. لكن العدالة الانتقالية تتوسع مبدئيا لتشمل المصالحة وحفظ الذاكرة وعدم التكرار واصلاحات قانونية ومؤسساستية.  وتضع إجرائيا أساليب غير معتمدة من القضاء الجزائي العادي مثل هيئات الحقيقة والتعويضات واللجان الخاصة. وهذا هو الفرق بين العدالة العادية والعدالة الانتقالية.

وفي هذا الإطار نعتبر أنه بقدر ما حقق المسار السياسي نجاحات عدة بقدر ما تعثر مسار العدالة الانتقالية من جراء العديد من الأسباب أهمها التجاذبات السياسية بين من يريد غلق الملف بأقل التكاليف ومن يسهر على استكمال المسار السياسي بعدالة انتقالية منصفة. وتتداخل في الملف محاولات الإفلات من العقاب ومصالح اقتصادية كبرى، فضلا عن تلكأ الإرادة السياسية في التعامل مع الأطراف الثلاث المسؤولة (الطاقم السياسي، المسؤولون عن الانتهاكات، والمرتشون).  ويمكن لنا أن نلخّص ادارة ملف العدالة الانتقالية بأنها مسقطة وارتجالية. وربما غير جادة. اتسمت المرحلة الأولى (2011) بازدواجية الآليات أي بعث لجان خاصة مع المحافظة على صلاحيات العدالة التقليدية (من محاكم حق عام ومحاكم عسكرية) واتخاذ إجراءات حول بعض الملفات مثل العفو التشريعي العام وملف "شهداء" الثورة ومصادرة أملاك العائلات المقربة من بن علي. لم تقطع المرحلة الثانية (2012-2014) مع هذا التمشي بالرغم من تغير الأغلبية السياسية مرتين (2011 و2014). وواكبت الحكومات المتعاقبة ادراة الملفات بنفس الانتقائية الى حد انشاء هيئة الحقيقة والكرامة (ديسمبر 2013) وتغيير الأغلبية الحكومية (ديسمبر 2014). وعلى امتداد الأربع سنوات تكاثرت الهيئات والمؤسسات المناط بعهدتها مهام العدالة الانتقالية وتداخلت الوظائف وتشعبت مما عقّد الأمور وأخّر الحلول.  هناك اذن نوع من الاستمرارية في تصور العدالة الانتقالية والتي تعكس بدورها التمشي السياسي المرن الذي توخاه التحول في تونس الى درجة أنه قد تضيع العدالة الانتقالية. وهذا ليس باتهام بعد ما لوح العديد بمصالحة وطنية بين أطراف النظام (من طاقم سياسي ورجال أعمال). وان كان هذا العرض محل جدل الا أنه قد يكون امتدادا للمصالحة السياسية بين العلمانيين والإسلاميين خاصة وأن البلاد تتخبط في أزمة اقتصادية أحد أسبابها تعطل الاستثمار وتحفظات الصناعيين.

ويتخلل مسار العدالة الانتقالية ثلاثة تجاذبات كبرى: الأول بين من يتصور أن الثورة انتهت وبين من ينادي بمواصلتها وبالتحديد بين من يريد غلق ملف العدالة الانتقالية عبر المصالحة وبين من يريد المحاسبة أولا. والتجاذب الثاني بين الحكومات المتعاقبة والمعارضة مع تبادل الأدوار بحيث ما تطالب به المعارضة اليوم لم تقم به عندما كانت في الساطة، وثالثا، التذبذب بين الاسلاميين والعلمانين الذين يساومون على القضية. ثلاثة تجاذبات اخترقت المسار من البداية الى الآن. ولإضفاء أكثر قيمة للدراسة فسنتطرق للملفات المطروحة الواحد تلو الآخر. ثم نقدم تداخل الهياكل والوظائف المخلة بالمعقولية. لنخلص في الدراسة بالتساؤل حول المصالحة. وذلك عوض أن نقسم المسار الى مراحل زمنية لها أيضا ما يبررها ولكنها قد تفقد تواصل إدارة الملفات حقيقتها.

أولا : تعدد ملفات العدالة الانتقالية

من أوكد ملفات التي العدالة الانتقالية في تونس نجد ملف الطاقم السياسي، المسؤولين عن الانتهاكات، وكذلك  المرتشين.

1- مسؤولية الطاقم السياسي

المنع الظرفي: تكمن احدى جوانب نجاح التحول الديمقراطي في كيفية التعامل مع الطاقم السياسي السابق. هل يعاقب الجميع أو البعض؟ وأي نوع من الزجر؟ لم تعمد الثورة التونسية الى استئصال النظام السابق بأكمله بل حرصت على أن تسير ضمن عملية انتقال ديمقراطي جزء منه براغماتي وجزء منه ارتجالي. ويمكن القول إننا تدرجنا سياسيا من المنع الظرفي من النشاط الى القبول. وجزائيا، لم نسطع ربط المسؤولية السياسية بالعقاب الجزائي لغياب آلية خاصة.

فبعد ستة ايام فقط من سقوط النظام، اعلنت الحكومة الانتقالية برئاسة محمد الغنوشي في 20 جانفي فصل الدولة عن الحزب ومصادرة “الممتلكات المنقولة وغير المنقولة" للحزب7ennaharonline.com . كما استقال العديد من المسؤولين السامين في قيادة التجمع الدستوري الديمقراطي الحزب الحاكم8استقال كل من الرئيس فؤاد المبزع والوزير الأول محمد الغنوشي ووزير الخارجية كمال مرجان ومستشار الرئيس منصر الرويسي . وكانت احدى مطالب المجتمع المدني استقالة الوزراء المنتمين للتجمع. وهذا ما حصل فيما يسمى بحكومة الغنوشي 2 (23 جانفي) حيث أصبحت الحكومة مكونة أساسا من غير المتحزبين باستثناء ممثلين عن أحزاب المعارضة. وفي يوم 6 فيفري 2011، تم تعليق جميع نشاطات التجمع الدستوري الديمقراطي، إذ أصبحت جميع اجتماعاته ممنوعةً قانونياً. وعلى  أساس عريضة قدمت من طرف وزير الداخلية يوم 21 فيفري 2011 أصدرت الدائرة المدنية الثامنة بالمحكمة الابتدائية بتونس يوم 09 مارس 2011 قرارا بحل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي وتصفية كافة أملاكه عن طريق وزارة المالية.

لكن المتتبع للشأن السياسي التونسي يلاحظ أن حل حزب التجمع الدستوري التونسي لم يغير الكثير في الخارطة السياسية حيث استعاد هذا الاخير وجوده ونشاطه بعد قرار حله قضائيا من خلال اعتراف السلط العمومية بما يقارب عشرين حزبا منبثقا من التجمع، حسب أحد الباحثين، اعتمادا اما على اعتراف مؤسسيه أو حسب انتسابهم سابقا للتجمع9انظر حول الأحزاب الدستورية شكري خمير: La recomposition du mouvement destourien, in La transition démocratique en Tunisie, OTTD, Diwen Editions, 2012, pp. 35-70. . وان اندرج الاعتراف ضمن السياسة الليبرالية المنتهجة من طرف حكومة الغنوشي فان مسألة المشاركة في الانتخابات بقيت رهن ميزان القوى بين الأطراف المتنازعة.

أول صيغة لها كانت اقصاء التجمعيين من المشاركة في انتخابات 2011 إثر "تنظيم انتخابات لتكوين مجلس وطني تأسيسي، يتولى إعداد دستور جديد للبلاد، يحترم إرادة الشعب التونسي" أعلن عنها الرئيس المؤقت (فؤاد المبزع) في كلمة توجه بها إلى الشعب التونسي بتاريخ الخميس 3 مارس 2011.ونوقشت في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والاصلاح السياسي من خلال تضمين قانون انتخابات المجلس الوطني التأسيسي لفصل يمنع المسؤولين في النظام السابق من المشاركة في الانتخابات وتحمل مسؤوليات في الدولة. وهو ما أثار جدلا كبيرا. فالمناخ العام كان ثوريا وهو ما اسس لفكرة العزل السياسي. وأقر المـرسـوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 والمتعلق بانتخاب المجلس الوطني الـتأسيسي في فصله 15 أنه: " لا يمكن أن يترشح :  - كل من تحمّل مسؤولية صلب الحكومة في عهد الرئيس السابق باستثناء من لم ينتم من أعضائها إلى التجمع الدستوري الديمقراطي، ومن تحمل مسؤولية في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي في عهد الرئيس السابق.- من ناشد الرئيس السابق للترشح لمدة رئاسية جديدة لسنة 2014. وتضبط في ذلك قائمة من قبل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"10المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي — أمر عدد 1089 لسنة 2011 مؤرخ في 3 أوت 2011 يتعلق بتحديد المسؤوليات صلب هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي طبقا للفصل 15 من المرسوم عدد المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي. . وتحدّد المسؤوليات المعنية بأمر وأوكل تحديد المسؤوليات الى أمر رئاسي صدر في 3 أوت 2011 وتوسع في الاقصاء ليشمل من أعلى الهرم (رئيس الحزب) الى الأسفل (من رؤساء الشعب المهنية والترابية) مرورا بالإدارة المركزية والجهوية11رئاسة أو عضوية الديوان السياسي،عضوية اللجنة المركزية، الأمناء القارون،الأمناء المساعدون،مدير الديوان،الأمين العام للإتحاد التونسي لمنظمات الشباب، مدير مركز الدراسات والتكوين، رؤساء الدوائر، الانتماء إلى المكتب الوطني لطلبة التجمع الدستوري الديمقراطي،عضوية لجان التنسيق،عضوية الجامعات الترابية والمهنية، رئاسة الشعب الترابية والمهنية. — انظر أمر عدد 1089 لسنة 2011 مؤرخ في 3 أوت 2011 يتعلق بتحديد المسؤوليات صلب هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي طبقا للفصل 15 من الرسوم عدد 35 لسنة  2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخبات المجلس الوطني التأسيسي . ولم يمنع هذا الاقصاء من مشاركة الأحزاب التجمعية والدستورية في الانتخابات بعناصر شابة أو غير معنية بالقصاء وان لم يتحصل جلها على أي مقعد الا أن حزب "المبادرة" برئاسة مرجان الوزير السابق تحصل على خمس مقاعد بفضل أكبر البقايا.

-اسقاط قانون العزل السياسي: لم ينته الجدل بعد انتخابات 2011. ذلك أن بعض الأطراف راودها تمديد الفصل 15 أو اصدار قانون جديد. ومن هنا كان منطلق فكرة مشروع قانون العزل السياسي. انتهت لجنة التشريع العام بالمجلس الوطني التأسيسي من مناقشة مشروع "قانون أساسي متعلق بالتحصين السياسي للثورة" الذي تقدّمت به حركة "النهضة" و"حركة وفاء" وحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية"، حيث ينص مشروع هذا القانون على منع كل من عمل مع النظام السابق من يوم 7 نوفمبر 1987 إلى غاية 14 جانفي 2011، من النشاط السياسي لمدة سبع سنوات. وقد حدّد المشروع المعنيين بالعزل، وهم كل من تحمل مسؤولية في صلب حكومة الرئيس الأسبق بن علي أو ترشح لعضوية مجلس النواب، وأيضا كل من تحمل مسؤولية في هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي كما حددها أمر 3 أوت 2011 السالف الذكر. ويهدف القانون إلى عزل رموز النظام السابق من المشاركة السياسية (بما فيها الانتساب الى حزب) وتحمل أي مسؤولية حكومية او ديبلوماسية أو عليا في صلب الدولة. وأوكل للهيئة العليا المستقلة للانتخابات ضبط القائمة وللمحكمة الإدارية البت في الطعون12أنظر الفصلان الثاني والثالث من مشروع قانون أساسي متعلق بالتحصين السياسي للثورة تم نشر بموقع المجلس الوطني التأسيسي في 03 جوان 2013. .

لا يشكل هذا الاجراء "بدعة" في مجال التحولات الديمقراطية. فالعديد من البلدان التي خرجت من الشيوعية ووضعت قوانين أكثر صرامة البعض منها وقع الغاها من طرف المحاكم لعدم احترامها لبعض الإجراءات 13أنظر: Brian K. Grodsky, The Costs of Justice: How New Leaders Respond to Previous Rights AbusesNotre Dame, University of Notre Dame Press, 2010 وتقرير لجنة البندقية venice.coe.int . ولاقى مشروع قانون تحصين الثورة معارضة شديدة من أغلب الكتل داخل المجلس الوطني التأسيسي لأسباب عديدة. فهناك من يرى أن العدالة الانتقالية وحدها هي المخوّلة للنظر في الأمر وتحديد المسؤوليات حول من ارتكب تجاوزات خلال مرحلة الديكتاتورية السابقة، وهناك طرف آخر يعتقد أن القضاء العادي هو الإطار الأسلم. واعتبر الأستاذ الحقوقي قيس سعيد الذي بيّن أنّ الشعب وحده هو المُخوّل للمعاقبة والحكم على من عمل في النظام السابق عن طريق الانتخابات واقترح أن يكون الانتخاب على الأفراد لا على القائمات حتّى لا يحصل ما حصل في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي.

ومن جهته غيّر حزب حركة النهضة (الحزب الفائز بالأغلبية حينها) موقفه وأكد رئيس حركة راشد الغنوشي في 13 مارس 2014 أن حزبه سيصوت ضد قانون تحصين الثورة باعتبار ان الحركة ضد اي اقصاء مهما كان وأن هذا القانون فيه نوع من العقوبة الجماعية والجريمة بطبيعتها فردية14جريدة المصدر 32014/03/1 .هذا الموقف الجديد للحركة الاغلبية ساهم في اسقاط المشروع من قبل المجلس الوطني التأسيسي. واعتبر المجلس ان تحصين الثورة يحتاج إلى بلورة مشروع مجتمعي قادر أن يحقق أهداف الثورة عبرالعدالة الانتقالية، وتفعيل العفو التشريعي العام، ومعالجة ملف رجال الأعمال الممنوعين من السفر والمئات من ملفات الفساد التي ضبطتها لجنة "تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد" والتي رُحّلت اليوم إلى القطب القضائي وهي تنتظر الحسم والمعالجة القضائية على صعوبتها وتعقّدها.

وبذلك أصبح باب المشاركة السياسية مفتوحا أمام الجميع ودون استثناء، بما في ذلك رموز النظام السابق والآلاف ممن كانوا يتقلدون مسؤوليات ضمن حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحلّ، بما فيها الحوار الوطني والمحادثات الواسعة بين الأحزاب والانتخابات التشريعية والرئاسية والحضور في وسائل الاعلام.

- المتابعة الجزائية للمسؤولين السياسيين السابقين: ان استبعاد العزل السياسي قانونا وقضاء ارتبط كذلك بعدم ممارسة المؤسسة القضائية لدور أساسي في محاكمة المسؤولين عن جرائم الماضي فضلا عن غياب أية إجراءات خاصة للعزل الوظيفي وهو ما ساهم في الابقاء على بنية النظام السابق دون عقاب. وهو ما تزامن مع إصدار القضاء التونسي بشقيه المدني والعسكري لأحكام مخففة بحق المتهمين من رموز النظام السابق وتبرئة بعضهم من جرائم اقتصادية متعلقة بقضايا فساد. إضافة لبعض الأحكام المثيرة للجدل التي أصدرها القضاء العسكري في قضايا شهداء الثورة وجرحاها، وأبرزها الأحكام الصادرة عن الدائرة الجنائية بمحكمة الاستئناف العسكرية بتونس بتاريخ 11 أفريل 2014 التي اتجهت الى التخفيف من العقوبات الصادرة في حق عدد من رموز النظام السابق والموظفين السامين والقيادات الأمنية وتبرئة بعضهم في عدد من القضايا المتعلقة بقتل متظاهرين أو محاولة قتلهم15انظر احمد الرحموني, العدالة الإنتقالية بين تطلعات الضحايا والتحصين السياس للنظام السابق، 08 ديسمبر 2014،  موقع نواة .

يرجح الكثيرون بأن التفصي من العقاب يرجع الى كون الجرائم التي ارتكبوها هي جرائم سياسية بالأساس ولذلك برّأهم القضاء لغياب الصبغة الجنائية. وقد أحيل جل السياسيين على أساس الفصل 96 من المجلة الجزائية (نقح بالقانون عدد 85 لسنة 1985 المؤرخ في 11 أوت والذي(1985 الذي يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها الموظف العمومي الذي استغل صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر المشار إليهما. واحيل البعض منهم على أساس جرائم الحق العام خاصة وأن القانون الجنائي لا ينص على الجريمة السياسية. وفي المحصلة لم تقع محاسبة السياسيين لغياب آلية انتقالية خاصة بالمسؤولية السياسية. وخرج كل عناصر النواة الصلبة للدكتاتورية من السجن بعد قضاء سنوات سجن البعض منهم بدون محاكمة والآخر أفرج عنه لعدم سماع الدعوى. وأمكن للبعض منهم فرادا أو مجموعات المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014.

2- انتهاكات حقوق الانسان

طرحت مسألة انتهاكات حقوق الانسان المرتكبة من طرف النظام السابق من عدة زويا.  الأول هو العفو التشريعي العام فيما يخص كل الفترة السابقة. والثاني هو ملف الانتهاكات التي شهدتها الفترة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 الى حدود 14 جانفي 2011 والذي يخص المسؤولية الجنائية لكل من تورط في قتل وجرح المتظاهرين. وتم تكليف "اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات والانتهاكات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 الى حين زوال موجبها"، المحدثة في جانفي 2011، برصد الانتهاكات وايداع الملفات للعدالة العادية. وهذا يعني أنه لم تضع حكومات التحول أي ميكانيزم طارئ أو استثنائي مما جعل المحاكمات جارية الى حد اليوم. أما بالنسبة للضحايا فقد بقي الملف مفتوح فيما يعرف بملف الشهداء وجرحى الثورة.

- العفو التشريعي العام: صدر مرسوم  عدد واحد  لسنة 2011  ليشمل بالعفو كل  من وقعت محاكمته "ما قبل 14 جانفي" من أجل الاعتداء على أمن الدولة الداخلي وجرائم الارهاب وغسل الأموال، والانتماء لأحزاب غير معترف بها، والتضاهر والتجمهر والفرار والثلب والشتم والنشاط النقابي... (الفصل الأول) وينجر عنه "حق العودة للعمل وطلب التعويض" (الفصل 2)16مرسوم عدد 1 لسنة 2011 مؤرخ في 19 فيفري 2011 يتعلق بالعفو العام .

هذا المرسوم يؤسس اذن لفكرتين: الاولى هي ايقاف التتبعات ضد المعارضين حيث ينص على محو الجرائم والعقوبات والتتبعات التي كانت تطال المعارضين تحت اي مسمى او وصف كانت ما دامت المحاكمة والتتبع قد تم على اساس نشاط نقابي او سياسي قبل 14 جانفي 2011 (أي كل حقبة الاستقلال) (الفصله الاول)، اما الثانية فهي جبر الضرر من خلال اقرار الحق في التعويض لكل المنتفعين بالعفو العام (الفصل 2). ولكن المرسوم لم يذكر عدد المنتفعين بالعفو والذي قدّر بما يقارب 11.000 شخص أغلبهم من الحركات الاسلامية. ولا يحدد نوعية الضرر (سجن، تعذيب، سلب حقوق وآثار معنوية) وتقدير التعويضات. أضاف المجلس التأسيسي الى قائمة المعفيين به أكثر من مائة من عناصر الجيش الذين اتهموا بمحاولة انقلاب في 1991 فيما يعرف بقضية براكة الساحل (اسم موقع في مدينة الحمامات). وردا لاعتبار الجميع وقع بعث "صندوق تعويض" أدرج في قانون المالية يوم 29 ديسمير 2012.

وقد أحدثت مسألة التعويض اشكالا أخلاقيا نظرا الى أن صاحب القرار والمتضرر والمنتفع هو نفس الطرف أي الحركة الاسلامية خلافا لتجارب مماثلة أين تتمايز الدولة المعتدية عن المتضرر الشاكي (الشيلي والأرجنتين وإفريقيا الجنوبية...). ورفض مجموعات اليساريين الذين شملهم العفو الانتفاع بالتعويض معتبرين أنهم ناضلوا من أجل مبادئ لا طلبا للنفع. كما استقال حسين الديماسي من وزارة المالية في جويلية 2012 احتجاجا على مبدأ التعويض معتبرا أنه يثقل كاهل الدولة بمصاريف هي في أمس الحاجة اليها في ظل ما تعيشه الدولة من أزمة مالية خانقة. وعين خلفا له أحد الموالين للترويكا والذي قبل مكرها بعث "صندوق التعويض".

ولم تحدد نهائيا المبالغ التي تحصل عليها المتضررين اجمالا. الا أن وزير العدل والعدالة الانتقالية في حكومة الترويكا صرح بأن 6453 من المنتفعين بالعفو (من أصل 11.000) و268 من جرحى الثورة (من أصل 3656 خلافا لـما حددته لجنة استقصاء الحقائق بـ 2147) انتفعوا بالانتداب الامتيازي في الوظيفة العمومية17المغرب 14 جوان 2013 . وقال بأن 20 مليار دينار (ما يقارب 12 مليون دولار) صرفت في جرايات ومنح عدة ومنافع اجتماعية18المغرب 22 جانفي 2014 . أما عائلات الشهداء وجرحى الثورة فقد اصيبوا بخيبة أمل مزدوجة. فلا المسئولون عن الجرائم حوكموا بأحكام تشفي غليلهم ولا انتفعوا بتعويضات تليق بمقامهم. ولم ينتفع من العدالة الانتقالية نسبيا الا من تمتع بالعفو العام.

- ملف الشهداء والجرحى: وهو محل جدل ومساومة وتسويف الى حد اليوم. وله جانبن قضائي وتعويضي. الأول يطرح مسألة تحديد المسؤولية الجزائية للمشرفين على الانتهاكات والتجاوزات ومنفذيها. ووقع التعامل مع هذا الجانب ببطئ، أي حالة بحالة من طرف القضاء العدلي أو العسكري بحكم القانون. ذلك أن المحاكم العسكرية خصت بالنظر في القضايا التي يكون أعوان قوات الأمن الداخلي طرفا فيها، في نطاق مباشرة العمل ولها مساس بأمن الدولة الداخلي أو الخارجي أو بحفظ النظام19الفصل 22 فقرة أولى من القانون عدد 70 لسنة 1982 المؤرخ في 6 أوت 1982 المتعلق بضبط القانون الأساسي العام لقوات الأمن الداخلي بعد تنقيحه بموجب المرسوم عدد 69 لسنة 2011 المؤرخ في 29 جويلية 2011 . وتمت احالة أكثر من 182 قضية تخص الرئيس السابق ورجاله من القضاء العدلي الى القضاء العسكري بعد أن بدأت الابحاث والتحقيقات فعلا.

ووقعت محاكمة بعض المورطين وإطلاق سراح آخرين بعدم سماع الدعوى كما ان هنالك قضايا جارية وأخرى يكتنفها الغموض أو عدم معرفة الجاني. ففي القضية الشهيرة المعروفة ببراكة الساحل تم اصدار الحكم عدد 74937 مؤرخ في 29 نوفمبر 2011 من قبل المحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة بتونس بالسجن غيابيا 5 سنوات على ابن علي و5 أمنيين بنفس المدة وحضوريا على وزيريه السابقين محمد علي القنزوعي وعبد الله القالل بالسجن 4 سنوات. وعند الطعن فيه بالاستئناف في القضية عدد 334 مؤرخة في 07 أفريل 2012، تم التخفيض في الحكم على كل من عبد الله القلال ومحمد  علي القنزوعي بسنتنين سجن وإقرار الحكم الابتدائي على باقي المتهمين ثم صدر القرار التعقيبي عدد 3358 المؤرخ في 24 أكتوبر 2012 برفض التعقيب في الاصل.

وفي قضية أخرى لشهداء وجرحى مدينتي الرقاب وسيدي بوزيد قضت المحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة بصفاقس بتاريخ 28 جانفي 2013 في القضية عدد 7394 على أمنينين متهمنين بالقتل العمد ومحاولة القتل العمد لـ 5 شهداء و 12 جريحا بالسجن مدة ترتاوح بين 10 و20 سنة مع إلزام وزارة الداخلية بدفع تعويضات لغرم الضرر المعنوي ترتاوح بنين 30000د و5000د بالنسبة لعائالت الشهداء و دفع مبالغ ترتاوح بني 1600د و15000د كتعويض عن الضرر البديني باحتساب نقطة السقوط الواحدة تساوي 800 د لبقية الجرحى .

أما في قضية شهداء وجرحى مدينة تونس الكبرى قضت قبل المحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة بتونس بتاريخ 19 جويلية 2011 تحت عدد 7119 على الرئيس السابق بن علي، وعلي السسرياطي، وجلال بودريقة، و أحمد فريعة و38 آخرون متهمين بالقتل العمد ومحاولة القتل العمد والقتل على وجه الخطأ لـ 46 شهيد و97 جريح بالسجن مدة تتراوح بين الؤبد، 20، 10،  و5 سنوات مع إلزام وزارة الداخلية بدفع تعويضات لغرم الرضر المعنوي تتراوح بين 40000د و5000د بالنسبة لعائلات الشهداء و دفع مبالغ تتراوح بين 2000د و220000د كتعويض عن الضرر البدني باحتساب نقطة السقوط الواحدة تساوي تتراوح بين 1000د و200د هذا الى جانب التعويض المعنوي الذي تراوحت مبالغه بين  1000د و100000د .

أما بالنسبة لقضية شهداء وجرحى تالة والقصرين  فقد قضت المحكمة الابتدائية العسكرية الدائمة بالكاف بتاريخ 13 جوان 2012 تحت عدد 78655 على الرئيس السابق بن علي، وعلي السرياطي، جلال بودريقة ، أحمد فريعة و17 آخرين متهمين بالقتل العمد ومحاولة القتل العمد والقتل على وجه الخطأ لـ 22 شهيد و616 جريح من مدة سجن تتراوح بين المؤبد، 20 ، و5 سنوات و 6 أشهر مع إلزام وزارة الداخلية بدفع تعويضات لغرم الضرر المعنوي تتراوح بين 5000د و30000د بالنسبة لعائلات الشهداء و دفع مبالغ تتراوح بين 6000د و140000د كتعويض عن الضرر البدني باحتساب نقطة السقوط الواحدة تساوي تتراوح بين  1000د و1500د هذا الى جانب التعويض المعنوي الذي تراوحت مبالغه بين 1000د و50000د .

لكن هذه الحكام ليست نهائية حيث انها معرضة للطعن بالاستئناف والتعقيب. هذه الطعون يمكن أن تؤدي الى افراغ الاحكام الابتدائية من محتواها، ومن أمثلة ذلك أن حكم المحكمة العسكرية المتعلق بشهداء و جرحى الثورة بتونس الكبرى تحت عدد 1822 صدر نهائيا بنقض الحكم الابتدائي فيما قضى به في حق متهمين من بينهم وزير الداخلية الاسبق أحمد فريعة والقضاء من جديد بثبوت ادانتهم وسجن كل واحد منهم مدة عامين اثنين مع إسعافهم بتأجيل العقاب. وغيرها من القضايا الاخرى التي انتهت الى تبرئة أو التخفيض في الحكام ضد المتهمين.

كما رأت عائلات الشهداء والجرحى أن هذه الاحكام لا تتناسب وجسامة الجرائم المرتكبة من قتل واحداث اعاقات وسقوط بدني. كما ان طول اجراءات التقاضي أرهق العائلات التي طالبت ببثها على المباشر.  وخلّف هذا التعامل غير المعقلن استياءا شديدا من طرف عائلات الشهداء والضحايا. وطالبت العائلات بتحويل الملفات من المحاكم العسكرية الى القضاء العدلي بدون جدوى. وساندهم في ذلك المجلس التأسيسي بدون نتيجة والذي لم يرى، في وقت سابق، بدا إلا بمنع تكوين محاكم استثنائية (الفصل 110).

و يتمثل الجانب الثاني في التعويضات للشهداء الذين سقطوا ما بين 17 ديسمبر 2010 و28 فيفري 2011 والجرحى. ولم تستعمل "لجنة استقصاء الحقائق" كلمة شهيد وفضلت استعمال كلمة "ضحية". في المقابل، صدر مرسوم في 2011 حول "تعويض شهداء ثورة الحرية والكرامة" ووقع تنقيحه سنة 2012 ليحدد مفهوم شهيد وجريح الثورة على النحو التالي: "يقصد بشهداء الثورة ومصابيها الأشخاص الذين خاطروا وضحوا بحياتهم من أجل تحقيق الثورة ونجاحها واستشهدوا وأصيبوا بسقوط بدني ابتداء من 17 ديسمبر 2010 الى 19 فيفري 2011" (الفصل السادس)20مرسوم عدد 97 لسنة 2011 مؤرخ في 24 أكتوبر 2011 يتعلق بالتعويض لشهداء لشهداء ثورة الحرية والكرامة : 17 ديسمبر 2010 -14 جانفي 2011 ومصابيها والمنقح بالقانون عدد 26 لسنة 2012 المؤرخ في 24 ديسمبر 2012. . كما أدرج في ديباجة الدستور عبارات من قبيل "وفاء لدماء شهدائنا الأبرار" واعترافا بـ"ثورة 17 ديسمبر 2010 -14 جانفي 2011".

أما الجانب الثاني الخاص بالتعويضات، فقد وقع فيه جبر الضرر بمقابل مبلغ زهيد اعتمادا على مرسوم خاص21المرسوم عدد 40 لسنة 2011 المؤرخ في 19 ماي 2011 والمتعلق بجبر الضرر الناتجة عن الاضطرابات والتحركات الشعبية التي شهدها البلاد . وأضاف المرسوم عدد 97 لسنة 2011 حول "تعويض شهداء ثورة الحرية والكرامة" المنقح سنة 2012 لأولي الحق من الشهداء (القرين وأبناء الشهيد ووالده وإخوته وأخواته) والجرحى أنفسهم منافع تتمثل في جراية شهرية والحق في مجانية العلاج والتنقل (الفصول 8-10).  أما التعويضات الرمزية فتتمثل في احداث متحف خاص للشهداء واسناد أسماء الشهداء بالأنهج والساحات العمومية وادراج مادة تعليمية حول "ثورة الحرية والكرامة" (الفصول 2-5).

ولم يرضى ذوي الشهداء والجرحى بالتهاون بحقهم، وبالتعويضات غير الكافية وبعدم ملاحقة الجناة. وتقوم جمعيات عدة مثل "جمعية عائلات شهداء وجرحى الثورة أوفياء" و "جمعية شهداء وجرحى الثورة كرامة" و"حركة وفاء لدماء الشهداء" بالعديد من التحركات لعل آخرها احتجاج عائلات الجرحى والشهداء في قصر قرطاج يوم 14 جانفي 2015 حيث رفعوا خلال موكب توسيم رئيس الدولة للرباعي الراعي للحوار شعارات تنادي بالكشف عن قتلة أبنائهم واستاءوا من عدم توسيمهم.

وعرف الملف مزايدات عدة. منها غياب تحديد القائمة النهائية للشهداء لا من طرف اللجنة الخاصة بشهداء وجرحى الثورة بالمجلس الوطني التأسيسي ولا من طرف "لجنة الشهداء الثورة ومصابيها" لدى الهيئة العليا لحقوق الانسان والحريات الأساسية والتي يحدد تركيبتها المرسوم 97 المنقح في 2012.   كما شهدت القائمة المعدة من طرف لجنة استقصاء الحقائق (338 حالة وفاة و2147 جرحى) اضافة الى ما يقدر بـ1000 جريح وبعض المفقودين، مما شكّك في جدية ادعاءات البعض ممن أصيبوا بجروح . كما اعتبرت مصالح الجيش والأمن الوطني الذين سقطوا آداءا للواجب من أسلاكها شهداء وأصدرت قائمات خاصة بهم.  ويطالب أهالي الجنوب اضافة قتلى وجرحى انتفاضة الحوض المنجمي لسنة 2008 لقائمة المنتفعين بالتعويضات.

- ملف الرشوة والفساد: عمدت العديد من الدول التي مرت بفترات انتقالية اثر حدوث ثورة الى مصادرة املاك من كان رئيسا لها اضافة الى الحاشية المقربة منه والذين استثروا نتيجة الرشوة بالمحسوبية او نتيجة لاعتماد سياسة ابتزاز رجال الاعمال بحكم قربهم من سدة الحكم. ولم تكن تونس بمنأى عن هذا التوجه حيث عاشت هذه التجربة مرتين : الاولى ضد العائلة الحسينية يومين بعد تولي الرئيس الحبيب بورقيبة الحكم والثانية بعد ثورة 2011. فتم تكوين لجنة تقصي الحقائق في مجال الرشوة والفساد (2011) والتي تحيل بدورها الملفات للعدالة. ووقع مباشرة اصدار مرسوم متعلق بمصادرة الأملاك التابعة لعائلة واقارب الرئيس السابق من عقارات ومنقولات وحقوق مالية 22انظر المرسوم عدد 13 لسنة 2011 المؤرخ في 14 مارس2011 المتعلق  بالمصادرة . هذا المرسوم جاء تلبية لاحد اهم استحقاقات الثورة الا وهو استرجاع الثورات المنهوبة منذ تولي الرئيس السابق الحكم في 1987. وعلى اساس هذا المرسوم تم اتخاذ قرارات مصادرة أموال بلغت الى حد 10 جوان 2015 مبلغ 54.147.936.51 دينار23المغرب 13 جوان 2015 .

ولهذا الغرض تم احداث اللّجنة الوطنيّة للتصرّف في الممتلكات والأموال المعنيّة بالمصادرة أو الاسترجاع التي تمّ بعثها بمقتضى المرسوم عدد 68 لسنة 2011 المؤرّخ في 14 جويلية 2011. هذه اللجنة ليست لجنة استقصائية كما هو الشأن بالنسبة للجنة تقصي الحقائق ولا هي إدارية بسيطة بل هي تتشكل من وزير المالية أو من ينوبه رئيسا وبعضوية وزيري العدل وأملاك الدولة والشؤون العقارية أو من ينوبهما وممثل عن الوزارة الأولى ومحافظ البنك المركزي التونسي أو من ينوبه ورئيس هيئة السوق المالية أو من ينوبه وكذلك الوزراء المعنيين بالملفّات المعروضة أو من ينوبهم. وقد تمّ دعم هذه اللّجنة بمقتضى توصية من مجلس الوزراء في 17 مارس 2012 بأطراف أخرى لمزيد الإلمام بمختلف الملفات.

ولكن رغم هذه التمثيلية الواسعة ورغم خضوع أعمال التصرّف والتسيير للشركات المصادرة للرقابة القضائية، فقد اتضح أن الأمور لا تسير كما ينبغي فتمّ التوجّه لمحاولة تنظيم التصرّف في الشركات المصادرة دون غيرها في أواخر 2013، وذلك بإحداث دائرة لدى المحكمة الابتدائيّة بتونس مختصّة في متابعة الشركات المصادرة التي هي تحت التصرّف القضائي.

ومرّة أخرى لم تشهد الملفات أي تقدّم، وأصبحت أغلب الشركات و الأموال المصادرة عموما تشكّل عبئا على الدّولة و مصدرا للمشاكل، وربّما بؤرا جديدة لسوء التصرّف المشوب بالفساد.

ومرت السنوات الأربع بعد مصادرة الأموال المنقولة والعـقّـارية المـنـظـمة بالمرسومين عدد 13 و47 لسنة 2013، ، دون البت في الملفات ما تسبب في حصول خسائر كبيرة لعدم وضع الكفاءات القادرة على التصرف والتسيير. اما إجراءات استرجاع الأموال الموجودة بالخارج و المكتسبة بصفة غير شرعيّة بمقتضى المرسوم عدد 15 لسنة 2011، فأخذت وقتا كثيرا لكونها يجب ان تتم وفق القوانين المعمول بها دوليا وحسب احكام قضائية تقتضي إثبات عدم شرعية مصدر الأموال.

لكن صدور قرار المحكمة الادارية القاضي بإلغاء مرسوم المصادرة أعاد الجدل من جديد. حيث أصدرت الدائرة الابتدائية عدد 11 بالمحكمة الإدارية مؤخرا حكما يقضي بإلغاء المرسوم عدد 13 لسنة 2011 والمؤرخ في 14 مارس من نفس السنة المتعلق بالمصادرة وقد عللت قرارها بان هذه الوثيقة لم تخضع لمصادقة مجلس النواب المنحل في فيفري 2011  ولا المجلس الوطني التأسيسي وفق ما يقتضيه المرسوم عدد 5 الذي يخول لرئيس الجمهورية سلطة التشريع مشروطة بمبدأ المصادقة.

وهو ما أحدث زلزلا في تونس لان منظومة المصادرة بإمكانها ان تسقط في الماء. فعدم شرعية مرسوم المصادرة يعني عدم شرعية كل القرارات الصادرة عن لجنة المصادرة ما يعني الغاؤها لانها اتخذت بدون وجه حق. علما وان عدد قرارات المصادرة بلغ 1840 قرار ايجابي و146 قرار سلبي أي بحفظ الملف لعدم توفر شروط المصادرة في المال24المغرب 13 جوان 2015 .

وللإشارة فان الاشكال في مرسوم المصادرة هو توقيت اتخاذه. هذا المرسوم تمّ اتخاذه بعد تعالي الاصوات المنادية بتعليق العمل بدستور 195925  فالمراسيم السابقة له تم اتخاذها بعد استصدار القــانــون عدد 5 لسنة 2011 المؤرخ في 9 فيفري 2011 المتعلق بالتفويض إلى رئيس الجمهورية المؤقت في اتخاذ مراسيم طبقا للفصل 28 من الدستور والتي تتطلب المصادقة عليها من قبل مجلس النواب. والمراسيم طبقا لدستور 1959  تمثل وسيلة استثنائية للتشريع، لا يقع الالتجاء إليها في حالات محددة من بينها الفراغ البرلماني. لذلك كان ولابد أن تقع المصادقة عليها في أول جلسة للسلطة التشريعية حتى تتمتع بالصفة التي تستحقها. غير ان الإطار التاريخي و السياسي في البلاد و حتى القانوني مختلف كليا عن الإطار التقليدي الذي استندت إليه المحكمة الإدارية للخروج بمثل هذا القرار. وقبل صدور التنظيم المؤقت للسلط[26] والذي لا يفترض مصادقة نواب المجلس التأسيسي.  ولذلك خلى المرسوم من السند القانوني اذ لم يقع تعليله بالرجوع الى دستور 1959 (المعلق حينها) ولا الى التنظيم المؤقت للسلط (لان المرسوم سبق صدور التنظيم المؤقت للسلط)..

واحدث القرار الغاء مرسوم المصادرة رجّة غير مسبوقة بمستوى الزلازل الذي يهدد ما تحقق منذ 14 جانفي 2011 ونجم عنه جدل سياسي كبير داخل أروقة مجلس نواب الشعب اثر استماع اللجنة الخاصة بالإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام يوم 12 جوان 2015 لممثلين عن لجنة المصادرة. وتمّ على إثر جلسة الاستماع تحميل الحكومات المتعاقبة مسؤولية عدم اتمام اجراءات المصادقة على المرسوم، خاصة وأن المحكمة الإدارية وجّهت 5 مراسلات في الغرض الى الحكومات المتعاقبة وآخرها حكومة الحبيب الصيد، اضافة الى تغيب المكلف العام بنزاعات الدولة عن جلسة المرافعة.  وفي هذا الاطار وجّه النائب منجي الرحوي التهمة الى الحكومة حيث ان الاشكال هو اشكال سياسي وليس قانوني معتبرا ان هناك رغبة في التغاضي عن هذا الملف في اطار المصالحة معتبرا اياه "تعسفا على العدالة الانتقالية، هناك شرعية ثورية لا تزال قائمة والشعب لم يتحصل على شيء من الثورة والثروة"26المغرب 13 جوان 2015 . كما ان المحكمة الادارية التي التجأت في قرار سابق الى المشروعية الثورية لتعلق جرايات اعضاء المجلس الوطني التونسي لم تعمل بهذا المبدأ المقاصدي المستحدث عند النظر في المطاعن المقدمة لإلغاء مرسوم المصادرة. بل تعاملت معه تعاملا جامدا دون الرجوع الى المجريات السياسية الثورية التي سبقت اتخاذه.

والحال تلك، لم تسطع الحكومات المتعاقبة استرجاع الأموال المودعة في الخارج لغياب سياسة حازمة فضلا عن تعقد الإجراءات الدولية ولم تحسن إدارة الأموال المصادرة لعدم الإرادة وغياب الكفاءة. واكتفت بمتابعة العديد من المسؤولين  على أساس فصول المجلة الجزائية  المتعلقة باستغلال النفوذ بدون وجه.

 

ثانيا: تداخل هياكل العدالة الانتقالية

لقد تعددت الهياكل المتدخلة في مجال العدالة الانتقالية في تونس لا فقط نظرا لتشعب الملفات التي طرحتها هاته الاخيرة ولكن كذلك بتوالي الحكومات واختلاف توجهاتها وكذلك لغياب استراتيجية واضحة منذ البداية في كيفية التعامل مع منظومة العدالة الانتقالية ككل نظرا لكونها اول تجربة لهذه الدولة.. ولكن هذه الهياكل التابعة للدولة استشفت في جانب كبير منها من مقترحات تقدم بها المجتمع المدني.

-هياكل الدولة : فتعدد هاته الهياكل اتسمت ملامحه بفسيفسائية اللجان وتداخل مهامها التي انبثقت بعد الثورة وكذلك بكثرة هياكل ما بعد انتخابات 2011

  • لجان ما قبل انتخابات 2011

انطلق المسار بعد الاطاحة بابن علي ببعث ثلاث لجان يوم 17  جانفي 2011  باشرت عملها قبل أن يقع اصدار مراسيم قانونية خاصة بها في فيفري 2011 وهي : "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي"؛ و"اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات والانتهاكات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمر 2010 الى حين زوال موجبها"؛ و"اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد"27أنظر المراسيم  عدد 6 و7 و 8 لسنة 2011 المؤرخ  في 18/02/2011 المتعلقة بإنشاء اللجان الثلاث.  .  وقد أذن بتأسيسهم، في 17 ديسمبر 2011، رئيس الحكومة حينذاك محمد الغنوشي.

تأسست الهيئة التونسية العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي بعد الثورة بموجب المرسوم عدد 6 المؤرخ في 18 فيفري 2011  وترأسها السيد عياض بن عاشور. وعملت على توفير نوع من الشرعية التوافقية بين مختلف التيارات السياسية حتى انجاز الانتخابات.وتركبت من خبراء في القانون العام والعلوم السياسية وتضم من بين اعضائها، إضافة إلى أساتذة جامعيين من مختلف كليات الحقوق التونسية وقضاة عدليين وإداريين 28العليا لتحقيق اهداف الثورة  والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي : انظر قائمة اعضاء الهيئة — tunisie.gov.tn . و انتهجت اللجنة في عملها منهج المشاورة مع مختلف التيارات والاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني.

وان كان للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة هدفا سياسيا  وهو وضع الاسس القانونية لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة فإنها لم تقف عند هذا الحد بل ذهبت الى حد اعادة التفكير في الترسانة القانونية في تونس مثل النصوص الدستورية، حرية الصحافة، قانون الاحزاب ... لتنقيتها من كل الشوائب قصد ايجاد حيز اكبر من الحرية والديمقراطية29انظر  CHEKIR Hafidha, La commission d'établissement des faits de la et la justice transitionnelle. . الا أنه لا يمكننا انكار أنها تعاملت مع السؤال حول مصير الطاقم السياسي للنظام السابق من منظور المحاسبة السياسية لا القضائية بإقصاء المشرفين على التجمع الدستوري الديمقراطي  من المشاركة في انتخابات أكتوبر 2011 وذلك بموجب الفصل 15 من القانون الانتخابي.

ولكن لم تكن لكل من اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات والانتهاكات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمر 2010 الى حين زوال موجبها واللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد لا طبيعة المؤسسات حكومية ولا طبيعة الهيئات القضائية. ولم تكن لهاتين اللجنتين أي صلاحيات تقريرية أو حكمية اطلاقا. فهي لا تبت نهائيا في الأصل ولا تدين لا سياسيا ولا جزائيا  بل تقدم ملفات "مفترض مسؤولين" ( ولا "مفترض متهمين") الى المحاكم العادية والتي بدورها تعيد الاجراءات الكلاسيكية (التحقيق، التحديد القانوني للأفعال المادية، الادانة، المحاكمة العلنية). وانجر عن هذه الازدواجية تأخير وتباطأ في مسار العدالة.

ولقد أنهي الوجود القانوني للجان مع انتخاب المجلس التأسيسي وقدمت كل منها تقريرها حول أعمالها بما فيها الملفات الموثقة: 400 ملف بالنسبة للجنة الحقائق حول الرشوة و338 حالة وفاة و2147 جرحى بالنسبة للجنة المعنية بالتجاوزات الأمنية 30Rapport de la Commission Nationale d’Investigation  sur la Corruption et la Malversation 2011, Sfax ; Novaprint, 2012, p. 1 ; — وكذلك تقرير اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات والانتهاكات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمر 2010 الى حين زوال موجبها، ص 24 ؛ الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، مداولات الهيئة، جزءان، جانفي 2012. . وهي ملفات أغلق البعض منها والبعض لا تزال مفتوحة. وما أسهم في اكساب هذه الهيئات الشرعية هو انها تكونت في معظمها من مكونات المجتمع المدني ما جعلها أقرب للقواعد الشعبية. بيد أن مجال اختصاص اللجنتين الأخيرتين فهو من صميم العدالة الانتقالية. استعملت اللجنتان العديد من الآليات (زيارات ميدانية، استماع للمتضررين والمسئولين، اجراء تحقيقات، جمع الوثائق، الولوج للأرشيف...).

وقد تقرر احداث اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات والانتهاكات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمر 2010 الى حين زوال موجبها بمقتضى المرسوم عدد 8 لسنة 2011 المؤرخ في 18 فيفري 2011، بالتحقيق في التجاوزات والانتهاكات المسجلة منذ 17 ديسمبر 2010 الى حين زوالها. وعين رئيس اللجنة توفيق بودربالة على راسها بمقتضى المرسوم المؤرخ في 17 جانفي 2011، والذي اختار بدوره اعضاء اللجنة الخمسة عشر  الاخرين من بين الشخصيات الوطنية المستقلة المشهود لها بالكفاءة.

واعتبرت اللجنة ان عملها لا يمثل مسارا للعدالة الانتقالية وفق المفاهيم المتعارف عليها دوليا، وانما يؤسس للبنة الاولى لقيام هذا المسار. وانجزت هذه اللجنة مسحا جغرافيا شاملا وبرنامجا للزيارات شمل عائلات الموفين والجرحى واماكن الاحداث والمحاكم... مما مثل مادة مرجعية لقاعدة البيانات وتوثيقا للانتهاكات التي حصلت31احمد شوقي بنيوب، العدالة الانتقالية في تونس، اسس نظرية تطبيقات عملية وتصورات مستقبلية، اكاديمية العدالة الانتقالية 2013-2014، ص 167. .

وحسب الفصل الاول من المرسوم المنظم لها فان هاته اللجنة هي هيئة عمومية مستقلة.  وبالعودة الى القانون التونسي فان هذا الصنف من السلطات العمومية هو سلطة ادارية مستقلة عن الدولة مكلفة بادارة قطاع من القطاعات المهمة (وفي هذه الحالة هو قطاع الانتهاكات المسجلة من 17 ديسمبر 2010 الى حين زوال موجبها) والتي من المفترض ان تكون الحكومة راغبة في اعطائها حيزا من الاستقلالية32Gentot (M), Les autorités administratives indépendantes, Paris, Montchestien, 1991. .

وانتهت اعمال اللجنة الى اصدار تقرير نهائي وشامل لما حصل يوم 14 جانفي 2011 في العاصمة وفي بقية الولايات، وما حصل بعد ذلك الى 23 اكتوبر 33تقرير صادر في ماي 2012 يحتوي على اكثر من 1000 صفحة متاح على موقع: — www.tunisienumerique.com/up-content/uploads/rapport.04/05/2012.pdf 2011. تضمن التقرير تحميلا للمسؤولية بمختلف مستوياتها ابتداءا من رئاسة الدولة ووزارة الداخلية وعديد المصالح الاخرى، ثم اجتهادا متمثلا في لبنات اصلاح المنظومة الامنية والقضائية وكذلك توصيات بصفة مفصلة عن التعويضات وعلاقتها بجبر الضرر.

ثم احدثت اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد بموجب المرسوم عدد 7 لسنة 2011 المؤرخ في 18 فيفري 2011 وترأسها المرحوم غبد الفتاح عمر. وشملت اللجنة من محامين ومتخصصين في التمويل ومحاسبين ومتخصصين في التدقيق ورقابة الشركات وقانونيين وقضاة. وتكونت هذه اللجنة من هيئتين: هيئة فنية تتولى اعمال التحقيق والتقصي، وهيئة خاصة تتولى النظر في التوجيهات العامة لمكافحة الفساد ووضع التصورات المستقبلية الممكنة. وضمت هذه الهيئة 5 لجان: اللجنة الفرعية للمالية والسوق العمومية والضرائب، اللجنة الفرعية للقضايا الضريبية والجمركية، اللجنة الفرعية للخصخصة والشركات العامة، اللجنة الفرعية للأراضي وأراضي الدولة و اللجنة الفرعية المسؤولة عن التعامل مع الشكاوى عن حالات الفساد والاختلاس المذكورة من قبل المواطنين.

وكشف تقرير أصدرته لجنة تقصي الحقائق حول الفساد و الرشوة أنّه الى غاية 27 أكتوبر 2011 وردت على اللجنة 10262 عريضة و أن المعدّل اليومي للعرائض حدد بـ 44 و أن اللجنة قامت بدراسة 5310 ملفات أحيل منها 2366 ملفا على الجهات المعنية34  الوزارة الأولى (80) ووزارة الداخلية (588) ووزارة العدل (399) ووزارة المالية (392) ووزارة أملاك الدولة (200) ووزارة التجهيز (89) والشؤون الاجتماعية (32) والنقل (59) والدفاع الوطني (23) ووزارة الفلاحة (98) والتجارة والسياحة (36) والصناعة (63) والثقافة (12) والصحة العمومية (18) والتربية (46) والشؤون الخارجية (15) ووزارات أخرى (44) وجهات أخرى (177 ملفا)  أنظر جريدة التونسية 11 - 11 - 2011 .

ثم انتهت هذه اللجنة الى اعداد تقرير نهائي في اكتوبر 2011، احتوى على افكار تبين علاقة الانتهاكات الحاصلة في المجالين السياسي والاقتصادي بالعوامل التي شجعت على حصولهما. كما مثل هذا التقرير مصدرا هاما للانتهاكات الاقتصادية وتصنيفا لمجالات الرشوة والفساد35businessnews.com.tn/pdf/Rapport-CICM.pdf .أنهت الهيئة أعمالها في 29 مارس 2012 بعد إنشاء هيئة دائمة مهمتها مكافحة الفساد تحت إسم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.

  • هياكل ما بعد انتخابات 2011

لم تكن الهياكل التي تم احداثها ابان الثورة هي الوحيدة المتدخلة في عملية الانتقال الديمقراطي بل شهدت فترة ما بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 2011 ظهور هياكل جديدة اهمها احداث وزارة العدل وحقوق الانسان والعدالة الانتقالية، الى جانب هيئة الرشوة والفساد وهيئة الحقيقة والكرامة. هذه الهياكل سالفة الذكر تمثل هياكلا تابعة للدولة.

- وزارة العدالة الانتقالية

احدثت حكومة الترويكا وزارة مختصة في مسألة العدالة الانتقالية نظرا لأهمية هذه المقاربة لعملية التحول الديمقراطي. وتمت تسمية الوزارة بوزارة حقوق الانسان والعدالة الانتقالية بمقتضى الامر عدد 22 لسنة 2012 المؤرخ في 19 جانفي 2013. هذا التوجه يعبر عن ارادة حقيقية للقطع مع الماضي. ومن مهام هذه الوزارة هي اقتراح ومتابعة وتنفيذ السياسية المتعلقة بحقوق الانسان. كما تتولى ايضا بالتنسيق مع الجهات المعنية نشر وترسيخ هذه الحقوق وفقا للقوانين والمواثيق الدولية. كما تقوم عليها مسؤولية صياغة الإطار القانوني لتحقيق العدالة الانتقالية مع مكونات المجتمع المدني.

وبادرت وزارة حقوق الانسان والعدالة الانتقالية في 14 افريل 2012 بتنظيم ندوة وطنية حول إطلاق الحوار الوطني حول العدالة الانتقالية، عقبه اصدار الوزارة بتاريخ 28 ماي 2012 لقرار يقضي بإحداث لجنة فنية، صاغت مسودة مشرع القانون المتعلق بالعدالة الانتقالية. وباشرت اللجنة الاشتغال على مشروع القانون بداية من تاريخ 10 ماي 2013 بمعية لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية التي عهد لها بدور استشاري.  وفي ديسمبر 2013 صادق المجلس الوطني التأسيسي على مشروع القانون الاساسي عدد 53 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها. وعلى اهمية هذه الخطوة التي لم تصل لها بعد البلدان المجاورة مثل مصر وليبيا لكنها تبقى منقوصة. فهي لم تضف الكثير لواقع العدالة الانتقالية في تونس. بل كان لها شرف تمثيل رمزية الممارسة الحكومية36استنتاجات خاصة بمشروع قانون هيئة الحقيقة والكرامة، تقرير المم المتحدة 2012-2013، ص 71. . ومع تشكيل حكومة الصيد (جانفي 2015) ألحقت مهامها الى وزارة العدل.

- هيئة الرشوة والفساد

في اختتام أعمال ندوتها الدولية، التي انتظمت بالحمامات من 22 إلى 24 سبتمبر، تحت شعار "الرشوة والفساد ما العمل؟"  تقدمت اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد بالدعوة الى احداث هيئة تتولى الإشراف على تصور وتنفيذ سياسات مكافحة الفساد وتضمن التنسيق بين مختلف المتدخلين وتعاضد دور القضاء في مكافحة الفساد37  جريدة الصحافة اليوم الخميس 09 جويلية 2015 . وهو ما تم فعلا من خلال اصدار المرسوم عدد 7 لسنة 2011 المؤرخ في 18 فيفري 2011 (المنشور بالرائد الرسمي عدد 13 بتاريخ غرة مارس2011) من خلال احلال الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد محل اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد واحالت جميع ملفاتها ووثائقها  إليها.

وتتمتع هذه الهيئة الدائمة بالشخصية المعنوية والاستقلال الاداري والمالي. وجمعت بين مهام هياكل الرقابة الادارية والمالية ومهام اجهزة البحث القضائي. وتتعهد الهيئة بالنظر في التوجهات الاساسية لعمل اللجنة ووضع التطورات المستقبلية للتصدي لمظاهر الرشوة والفساد (الفصل الثاني من المرسوم).كما تتولى القيام باقتراح سياسات مكافحة الفساد ومتابعة تنفيذها باتصال مع الجهات المعنية، والكشف عن مواطن الفساد في القطاعين العام والخاص ، وتلقي الشكاوى و الاشعارات حول حالات الفساد والتحقيق فيها واحالتها على الجهات المعنية بما في ذلك القضاء الى جانب ابداء الرأي في مشاريع النصوص القانونية والترتيبية ذات العلاقة بمكافحة الفساد، مع جمع المعطيات والبيانات والاحصائيات المتعلقة بالفساد لاحداث قاعدة بيانات بهدف استغلالها في انجاز المهام الموكولة اليها.

وتم تعيين سمير العنابي رئيسا للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لتنهي بذلك رسميا مهام لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة. هذا التعيين يأتي استجابة للمعايير الدولية بشأن مكافحة الفساد وانسجاما أيضا مع الإتفاقية الدولية لمكافحة الفساد لسنة 2003 والتي وقعت عليها تونس عام 200838  الصباح نيوز الخميس 12 مارس 2015 .

ويأتي تكريس هذه الهيئة استجابة لمطالب الثورة الداعية الى القطع مع الفساد وخاصة فساد العائلة الحاكمة السابقة اذ تم تقدير كلفة الفساد فى تونس بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية بنسبة 2 بالمائة من الناتج الداخلى الخام اى ما يعادل نقطتين من نسبة النمو السنوية. وتضاهى قيمة هذه الخسائر نقدا وفق غلوبل فاينيشل انتغريتى 2.1 مليار دولار امريكى فى السنة اى 110 دولارا بالنسبة للشخص الواحد 1 دولار يساوى 965. 1 دينار تضيع كل سنة فى المعاملات غير المشروعة39   مارس  2015 13 الجمهورية .

وأوجب المرسوم المحدث لهيئة مكافحة الرشوة والفساد على كل من المحافظ البنك المركزي التونسي ورئيس هيئة السوق المالية ورئيس بورصة الأوراق المالية ورئيس مجلس المنافسة وكل الهيآت الأخرى المعنية، مدّ رئيس الهيئة بكل ما لديهم من معلومات وبيانات ووثائق حول العمليات التي قامت بها مؤسسات القرض ومؤسسات التوظيف الجماعي وشركات الاستثمار والشركات المدرجة بالبورصة وتوحي بوجود ممارسات فساد.

وعلى صعوبة تحديد مفهوم الفساد الذي لا ينحصر فقط بالرشوة بل له مفهوم اوسع بكثير مثل التهرب الجبائي والفساد الاداري والصفقات العمومية الكبرى غير المشروعة من اشكال الفساد ايضا، عرّف هذا المرسوم الفساد بأنه سوء استخدام السلطة أو النفوذ أو الوظيفة للحصول على منفعة شخصية. ويشمل الفساد خاصة جرائم الرشوة بجميع أشكالها في القطاعين العام والخاص والاستيلاء على الأموال العمومية أو سوء التصرف فيها أو تبديدها واستغلال النفوذ وتجاوز السلطة أو سوء استعمالها والإثراء غير المشروع وخيانة الأمانة وسوء استخدام أموال الذوات المعنوية وغسل الأموال (الفصل الثاني) .

ولكن على أهمية الهيئة فان ما يعاب عليها هو عدم ظهورها اعلاميا وهو ما يمكن ان يفسر بخصوصية وسرية عملها. وايضا إعفاء رئيس اللجنة من أية إلتزامات أو محاسبة خلافا لأعضائها.

حيث نص المرسوم على الفصل بين رئيس اللجنة وأعضائها فيما يتعلق بتعيينهم ومهامهم. كما تم حصر إلقاء أهم الواجبات على كاهل أعضاء اللجنة دون سحبها على رئيسها والتي  وردت أساسا (الفصول من 10 إلى 13). وتعفي الأحكام الواردة بكافة فصول المرسوم رئيس اللجنة من أي التزامات أو محاسبة حتى وإن كانت في حدود ما فرضته تلك الأحكام على أعضائها.

- هيئة الحقيقة والكرامة

تختلف صلاحيات الهيئات ومهامها من دولة الى أخرى وتختلف ظروف تكوينها، بعد حرب او اثر سقوط نظام تسلطي. وقد يعين أعضائها أو ينتخبون. وقد تتكفل بالخمس مهام للعدالة الانتقالية المذكورة في المقدمة أو البعض منها مثل التعويض (المغرب) أو المصالحة (افريقيا الجنوبية) ويمكن ان تكون لها صلاحيات قضائية او غير إقراريه. وهنالك في العالم لا يقل عن 30 هيئة تختلف مهامها40انظر  International Center for Transitionnel Justice (ICTJ), Truth commissions . وقد تقدم بمشروع قانون متعلق بالعدالة الانتقالية طبقا للفصل 108 من النظام الداخلي للمجلس التأسيسي 23 عضوا من نواب التأسيسي التابعين الى الكتلة الديمقراطية41الصباح 16 اوت 2012 .هي أهم مؤسسة للعدالة الانتقالية على الاطلاق.

انشأت الهيئة سنة 2013 في إطار قانون يتعلق بالعدالة الانتقالية42قانون أساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها . ونصّبت رسميا يوم الاثنين 9 جوان 2014 في مؤتمر دولي ضخم حضره الرؤساء الثلاث وممثلين عن المجتمع المدني الدولي مثل منير ثابت المنسق المقيم للأمم المتحدة بتونس ودافيد تولبارت رئيس المركز الدولي لحقوق للعدالة الانتقالية، كما تم تمرير مداخلة مسجلة للمفوضة السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة نافي بيلاي، وأيضا بابل ودي قريف المقرر الخاص لدى الأمم المتحدة المعني بتعزيز العدالة والحقيقة وجبر الضرر وضمانات عدم العود.

وقد خص المشرع هذه الهيئة بـخمسة وخمسين فصلا من جملة فصول القانون الـسبعين وهو ما يثبت انها تشكل المقاربة المحلية للعدالة الانتقالية. وتتمتع هذه الهيئة بالرجوع الى القانون المنظم لها بالشخصية المعنوية الى جانب الاستقلال المالي والاداري43ينص الفصل 18 من الانون الاساسي عدد 53 المتعلق بارساء العدالة الانتقالية :"تحدث هيئة مستقلة، تسمى هيئة الحقيقة والكرامة، تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والاداري". . وعّرف هذا القانون العدالة الانتقالية بكونها "مسار من الآليات والوسائل" يرمي الى كشف حقيقة انتهاكات حقوق الانسان ومسألة ومحاسبة المسئولون عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويضمن عدم التكرار ومن ثم الانتقال الديمقراطي44الفصل الأول من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها . وهي مبادئ مستوحاة صراحة من العناصر المكونة للعدالة الانتقالية عامة المذكورة آنفا (المحاسبة، الحقيقة، التعويض، المصالحة وعدم التكرار والإصلاحات الهيكلية).

ووقعت دسترة منظومة العدالة الانتقالية في 2014 ضمن الاحكام الانتقالية مما حصنها من الدفع بعدم الدستورية بالرغم من كونها هيئة مؤقتة ومحددة الاختصاص نوعيا وزمنيا45الفصل 148 فقرة 9 من دستور 2014. .

وتتركب هيئة الحقيقة والكرامة حسب القانون المنظم لها "من خمسة عشر عضوا على الاقل على الا تقل نسبة اي من الجنسين عن الثلث يقع اختيارهم من قبل المجلس المكلف بالتشريع من بين الشخصيات المشهود لها بالحياد والنزاهة والكفاءة" (الفصل 19) وان يكون من بينها ممثلان عن جمعيات الضحايا وممثلان عن الجمعيات المدافعة عن حقوق الانسان. لكن القانون لم يفرض شروطا اخرى مثل الخبرة أو الجدية والكفاءة بالنسبة لهاته الجمعيات. اما بقية الاعضاء فيتم اختيارهم من الترشحات الفردية في الاختصاصات ذات الصلة بالعدالة الانتقالية كالقانون والعلوم الاجتماعية والانسانية والطب والارشيف والاعلام والاتصال على ان يكون من بينهم وجوبا محام وقاض عدلي وقاض اداري ومختص في المالية وكذلك مختص في العلوم الشرعية (الفصل 20) .

وتمّ في 17 جانفي 2014 تحديد الشروط الشكلية للرشح لعضوية هيئة الحقيقة والكرامة صلب قرار صادر عن رئيس المجلس التأسيسي الذي حدد تاريخ فتح باب الترشحات بيوم 28 جانفي 2014 اما تاريخ غلقها فحدد بـ11 فيفري 2014. وقد اثار قصر هذه المدة عدم تقديم ترشحات كافية في مختلف الاصناف. هذه الآجال المحدودة شملت كذلك اجال التقصي والبحث حول المترشحين (حتى لا يتسرب اي ذي شبهة الى عضوية الهيئة) ضبطت بأسبوع واحد.

وتولت لجنة فرز الترشحات مهمة اختيار اعضاء هيئة الحقيقة والكرامة. وتكونت هذه اللجنة حسب الفصل 23 من قانون العدالة الانتقالية من ممثلين عن الكتل وممثلين عن النواب غير المنتمين الى الكتل46تكرّس التمثيلية المذكورة منطق الاغلبية الموجودة بالمجلس، اذ يمثل عضو واحد عن كل كتلة من 30 نائبا فأقل، واذا تجاوز عدد نواب الكتل الثلاثين نائبا تمثل بعضوين، وتمثل بثلاثة اعضاء اذا تجاوز عدد نوابها ستين نائبا. ويمثل النواب غير المنتمين الى كتل اذا كان عددهم ثلاثين نائبا فظاقل بعضو واحد، واذا تجاوز عددهم الثلاثين يمثلون بعضوين، وبثلاثة اعضاء اذا تجاو عددهم الستين. . وفعليا تكونت لجنة الفرز من 10 اعضاء حيث ضمت مصطفى بن جعفر (رئيس)، اسامة الصغير وكمال بن رمضان وكمال السعداوي عن كتلة النهضة، شكري القسطلي غير منتمي الى الكتل، رابح الخرايفي عن كتلة التحالف الديمقراطي، ابراهيم الحامدي عن الكتلة الديمقراطية، نورة بن حسين عن كتلة وفاء، نفيسة المرزوقي عن كتلة المؤتمر واحمد السافي عن كتلة التكتل.

وتم فتح باب الترشح لعضوية هيئة الحقيقة والكرامة بقرار من رئيس اللجنة بعد نشره بالرائد الرسمي. وورد على انظار اللجنة حوالي 400 ملف ترشح، اسفرت اثرها عملية الفرز الاداري على بقاء 320 ملف تم توزيعها حسب الاختصاصات المطلوبة. كا قامت لجنة الفرز في اطار مهامها بمراسلة عديد الوزارات والجمعيات للاستيضاح حول بعض موانع الترشح. وفي 2 ماي 2014 اصدرت اللجنة قائمة المترشحين المقبولين47وهم : زهير بن الصادق مخلوف وخالد بن عمار الكريشي (صنف جمعيات الضحايا)، سهام بن سدرين وابتهال عبد الطيف (صنف جمعيات حقوق الانسان)، محمد بن عبد الله بن سالم (صنف اختصاص قاضي عدلي)، محمد بن عبد اللطيف عيادي (صنف اختصاص قاضي اداري)، علا بن نجمة (صنف اختصاص محاماة)، عزوز بن عمر شوالي (صنف اختصاص علوم شرعية)، مضطفى بعزاوي (صنف اختصاص مالية)، علي رضوان غراب وصلاح الدين راشد ونورة البورصالي وخميس الشماري وحياة الورتاني وعادل المعيزي  (الاصناف التي لها علاقة بالعدالة الانتقالية). . وفتح باب الاعتراض على هاته الترشحات من 03 ماي الى 09 ماي امام لجنة الفرز التي تكون قراراتها نهائية وباتة وغير قابلة للطعن ولا تقبل المراجعة باي وجه من الوجوه ولو بدعوى تجاوز السلطة (الفصل 25). وهو ما يمثل مساسا بمبدأ الحياد وبالفصل 108 من دستور 2014 الذي ينص على ان: "حق التقاضي وحق وحق الدفاع مضمونان، وييسر القانون اللجوء الى القضاء".

ورغم ما شهدته تركيبة هيئة الحقيقة والكرامة من استقالات منذ تسمية اعضاءها فقد اصدرت في 22 نوفمبر 2014 نظامها الداخلي المتكون من 97 فصلا. وبالرجوع الى الفصل الخامس من قانونها الداخلي، فان هيئة الحقيقة والكرامة تتركب اولا من مجلس الهيئة والذي يضم جميع اعضاء الهيئة وثانيا من رئاستها التي يتم اختيارها من طرف  من بين اعضاء الهيئة وثالثا من  الجهاز التنفيذي الذي يتكون من مصالح مركزية تتولى الشؤون الادارية والمالية  ومن مكاتب جهوية الى جانب 6 لجان اساسية : لجنة البحث والتقصي، لجنة التحكيم والمصالحة،  لجنة حفظ الذاكرة الوطنية، لجنة الاصلاح المؤسساتي، لجنة جبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا،  لجنة الفحص الوظيفي اصلاح المؤسسات.

وللهيئة اختصاصان : الاول نوعي والثاني زمني. فأما الاختصاص النوعي فيتمثل في مشمولات واسعة للهيئة. فهي تختص بالنظر اولا في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان بقطع النظر عن الاسباب سياسية، نقابية، ثقافية... فردية او جماعية؛ وثانيا تنظر الهيئة في الانتهاكات المتعلقة بالفساد المالي وما قد يرتبط به من جرائم اخرى. وقد حدد القانون مفهوما واسعا للانتهاكات بما فيها تزوير الانتخابات. واعتبرت جرائم لا تسقط بتقادم الزمن.

ويحدد القانون الضحية باعتبارها أي ذات  لحقها ضرر مادي أو معنوي،" أكان فردا أو جماعة أو شخصا معنويا" أو أفراد أسرة" أو  أي "شخص"  تضرر من مساعدة ضحية  وحتى "منطقة  تعرضت للتهميش أو الاقصاء". ويأخذ بعين الاعتبار ذوي الاحتياجات الخصوصية مثل كبار السن، النساء والأطفال والمعاقين والفئات الهشة48الفصل 10 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها .

وتتمتع الهيئة بصلاحيات واسعة للقيام بمهامها منها النفاذ للأرشيف والاطلاع على القضايا المنشورة في طور التحقيق والمعاينة والتفتيش والاستعانة بأعوان السلطة العامة المتعلقة بالتقصي والتحقيق وحماية الشهود. وتحيل الهيئة لدوائر مختضة بالمحاكم الابتدائي النظر في النتهاكات والمحاسبة. وأوكل للجنة أيضا  تكوين لجنة لها صلحية  صياغة الإصلاحات ومقتراحات وغربلة الإدارة.  كما  أوكل لها تكوين لجنة تحكيم ومصالحة أكان ذالك في مجال الاتهاكات بين الجاني  والضحية أو في مجال الفساد المالي بين  الأطراف المعنية.كما  وقع تكوينصندوق الكرامة لتعويض الضحايا. وسينحصر دور هيئة الحقيقة والكرامة في توجيه طلب الى الدولة لجبر ضرر شخص او للتوصية بتسمية شارع باسم أحد الضحايا او في تحفيز الدولة على تقديم الاعانة او الرعاية الصحية.

واما الاختصاص الزمني للهيئة فهو يمتد منذ أزل شهر جويلية 1955 الى حين تاريخ صدور القانون في ديسمبر 2013. هذه الفترة التي تزيد عن نصف قرن تمثل تحديا حقيقيا لعمل الهيئة خاصة وأنها من المفترض ان تنهي مهامها في ظرف اربع سنوات (يتم البدء في احتسابها من تاريخ تسمية اعضائها) ولن يكون لها الحق في تمديد صلاحياتها الا بسنة واحدة فقط وبقرار معلل من الهيئة يرفع الى المجلس المكلف بالتشريع قبل ثلاثة اشهر من نهاية مدة عملها49الفصل 18 من قانون العدالة الانتقالية. .

ومنذ ان فتحت الباب لتلقي الملفات تم تقديم  13.000  ملف امام  هيئة الحقيقة والكرامة. ورغم ان مجال نظر الهيئة يرجع الى سنة 1955 اي قبل حصول تونس على استقلالها فان الاغلبية المطلقة للملفات التي تم التقدم بها تعود الى فترة ابن علي50انظر  20Interview : Sihem Ben Sedrine, présidente de l’Instance Vérité et Dignité3 /6/2015 — lapresse.tnar .ولئن لم تستطع الهيئة ان تفتح مكاتبها في جميع الجهات نظرا لنقص الميزانية فإنها فتحت مكاتب في كل من القصرين، سيدي بوزيد، صفاقس وقفصة51انظر المرجع السابق .

وبالرغم من البداية المحتشمة فان صلاحيات الهيئة هي محل الانتقدات من الطرف الفريق الحكومي الماسك بالسلطة الذي يفضل الذهاب الى المصالحة قبل غلق كل الملفات.

- هياكل المجتمع المدني

الى جانب الجهود المبذولة من قبل هياكل الدولة نجد المجتمع المدني كعنصر فاعل في تبني المسار المفضي الى وضع المشروع المجتمعي للعدالة الانتقالية.

تمكنت العديد من منظمات وجمعيات المجتمع المدني منذ نهاية 2011 من بلورة مقترحات قانونية تتجه الى التأسيسي النظري للعدالة الانتقالية والياتها من خلال الورشات التدريبية التي اتبعتها الشبكات والتنسيقيات المدنية. وتمت بلورة عديد الافكار كمقترحات وتوصيات بمناسبة الدورات والورشات التدريبية. هذه التوصيات مثلت رصيدا مؤسسا لمشروع قانون هيئة الحقيقة والكرامة.

تميزت مبادرات المجتمع المدني بالتنوع من  حيث المكونات القانونية والمنظمات العاملة في مجال حقوق الانسان وجمعيات الضحايا والشبكات التنسيقية. وتميزت معظم المبادرات بتقديمها في شكل مذكرات قانونية مهيكلة ومبوبة. وقد شكل التقرير الأول من نوعه للجمعية التونسية للنساء الديمقراطياتفي 2011، مقاربة منهجية جديدة في سياق المساهمات المدنية. كما جسد المشروع المقدم من طرف جمعية مناضلات تحدين القضبان نموذجا اخر للمجتمع المدني كقوة اقتراحية.

كما قدمت التنسيقية الوطنية المستقلة للعدالة الانتقالية والجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية ومركز تونس للعدالة الانتقالية والكواكبي للعدالة الانتقالية، مذكرات تفصيلية ذات طبيعة قانونية. وشملت هاته المذكرات مرجعية للعدالة الانتقالية ومفاهيمها وما تعلق بالاختصاصين الزمني والنوعي والكشف عن الحقيقة وجبر الضرر وتحديد المسؤوليات والمصالحة وضمانات عدم التكرار، مما وسع دائرة الاهتمام المعرفي بالعدالة الانتقالية.

كما عبّر مجموعة من الشخصيات بصفتهم المنفردة أو الجمعياتية في اطار الندوتين المؤسستين في مسار العدالة الانتقالية52ندوتي شهر مارس وافريل 2012 المؤسسة للحوار الوطني، بمشاركة وزارة العدالة الانتقالية وحقوق الانسان وبرنامج الامم المتحدة الانمائي والعديد من المنظمات الدولية الاخرى. ، على اهمية الاحاطة بمسار العدالة الانتقالية وضرورة مواصلة المقاربة التشاركية مع المجتمع المدني في المراحل المقبلة لعمل هيئة الحقيقة والكرامة، تدعيما لعملها وصيانة للمكتسبات والانخراط في عملية اعداد مشروع القانون. وهنا تكمن اهمية البناء على هذه التجربة وتوسيعها لتشمل المراحل المقبلة للعدالة الانتقالية. خاصة في ما يتعلق بمشاريع الاصلاح موضوع توصيات الهيئة.

 

ثالثا: العدالة الانتقالية بين المصالحة والمحاسبة

تعتبر جدلية المحاسبة والمصالحة من اكثر النقاط حساسية في مقاربة العدالة الانتقالية. حيث تخضع لسجالات بين السياسيين وعائلات الضحايا والمجتمع المدني. اذ يرى البعض ضرورة الانتقام من خلال القصاص والتطهير، اما البعض الاخر فيدعو الى محاسبة وفق المعايير الديمقراطية اي محاسبة غير انتقامية تكرّس المرور الى المصالحة دون عرقلة عملية الانتقال الديمقراطي.

وبالرجوع لقانون العدالة الانتقالية فان المصالحة هي الرهان الأساسي لعملية العدالة الانتقالية ولا يمكن ان تتم الا بعد استيفاء كامل المسار53انظر الفصل 15 من القانون الاساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بارساء العدالة الانتقالية وتنظيمها . اذ لا بد من الانطلاق من المحاسبة للوصول الى المصالحة. لكن يجب في الاثناء المرور عبر كشف الحقيقة لتنقية الذاكرة الوطنية واعادة توثيقها من جديد، ورد الاعتبار للضحايا. في المقابل هنالك رأي يريد الذهاب مباشرة للمصالحة.  ينبي هذا الرأي على ضرورة دفع عجلة الاقتصاد وينتقد صلاحيات الهيئة.

وبدأ السجال بعد أن أعلن رئيس الدولة  في الإحتفال بعيد الإستقلال يوم 20 مارس 2015، على ضرورة المصالحة  للخروج من الأزمة الاقتصادية ورفع الحواجز على رجال الأعمال الممنوعيين من السفر. وتتجه النية لا لحل الهيئة بل لتجاوزها بإصدار قانون "مصالحة" يفرغ عمل الهيئة من محتواه على الأقل فيما يخص الملف المالي الخاص بالفساد. وقد يشمل العفو من برأه القضاء ولا زال  يعاني  من التحجير على أمواله أو منعه من السفر. وهذا ما ذهب اليه مؤخرا محمد فاضل بن عمران رئيس كتلة حركة نداء تونس في تصريح صحفي مفاده أن الأشخاص المصادرة أملاكهم لا تشملهم المصالحة54حوار جريدة المغرب، 8 جويلية 2015 .وقد أوضح مستشار رئيس الجمهورية محسن مرزوق (حاليا الأمين العام لحزب نداء تونس) أن الرئيس يتمتع دستوريا بالمبادرة التشريعية التي لها أولوية النظر (الفصل 62 من الدستور). وطالت الانتقادات الهيئة نفسها ففي حوار صحفي  يقول محسن مرزوق: "السلطة التي اعطيت لهيئة الحقيقة والكرامة أكبر من السلطة التي كانت عند الفراعنة... وانا شخصيا ضد حزمة المهام التي أوكلت لهيئة الحقيقة والكرامة... عندما تقول ان التنفيذ يبدا من جولية 1955، فسنطالب من المسؤول عن انتهاكات 1955؟ فرنسا؟"55المغرب 08 جوان 2015  . ولم تلقى مبادرة رئيس الدولة معارضة من طرف النهضة بل لقيت استحسانا فـ"نحن نحتاج الى مصالحة  وطنية دون تعسف ولا انتقام" حسب ما صرح به الغنوشي56webradar.me .

في المقابل يرى المعارضون أن التمشي يخرق الفصل 148 من الدستور الذي ينص على أن : "تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين أو بوجود عفو سابق أو بحجية اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن" . وبالتالي منح  أحقية الهيئة في النظر في ملفات المورطين في الفساد وفي التحكيم بين الأطراف (الفصل 45). ولقد ورد في القانون المنظم للهيئة أن المصالحة لا تعني الإفلات من العقاب (الفصل 15). وحسب رئيسة الهيئة لن تتم المصالحة الا بعد ان يقوم من سرق الدولة واستثرى منها بصفة غير شرعية بتسوية وضعياته والاعتذار للشعب التونسي عندها فقط يمكن التخلي عن التتبعات القضائية. كما اكدت  ان هناك من التجأ الى من رجال الاعمال الى الهيئة لتسوية وضعيته لكن العدد يبقى ضئيلا57انظر  20Interview : Sihem Ben Sedrine, présidente de l’Instance Vérité et Dignité3 /6/2015 — lapresse.tn . وصرح خالد الكريشي الكريشي الذي يشغل خطة رئيس لجنة التحكيم والمصالحة التابعة لهيئة الحقيقة والكرامة لصحيفة نواة  "أن هذه اللجنة ستقبل كل مطالب الصلح الخاصة بالفترة المتراوحة بين غرة جويلية 1955 و31 ديسمبر 2013 بدون أية استثناءات "58نواة، 11 أفريل 2015. .

ويبدو أن الفريق الحكومي غير متجانس في المسألة. ففي تصريح له أكد وزير العدل محمد صالح بن عيسى ان قانون العدالة الانتقالية في فصله الخامس والأربعين يمثل الإطار القانوني الأمثل للمصالحة كما أن لجنة التحكيم والمصالحة المنصوص عليها في القانون يمكن أن تتكفل بهذه المهمة ... وانتهى إلى التأكيد على أن وزارة العدل ستكون مساندا وداعما لمسار العدالة الانتقالية وفق الإطار الذي يضمن التوصل إلى تحقيق أهداف الثورة و تحقيق المصالحة59جريدة المغرب 05 جوان 2015 . وفي ندوة وطنية تحت عنوان “أي عدالة انتقالية نريد؟” التأمت  يوم الثلاثاء 09 جوان 2015 بمناسبة مرور سنة على تنصيب الهيئة  حضرها ممثلوا جل الأحزاب السياسية  وممثلوا الهيئات العمومية المستقلة والمنظمات الوطنية وممثلون عن مكونات المجتمع المدني أجمعوا كلهم عى دعم العدالة الانتقالية بما فيها الهيئة 60انظر الموقع الرسمي للهيئة .

 

الخاتمــــــــــــة

تعتبر العدالة الانتقالية احدى المحطات الكبرى للتحول الديمقراطي. الا أنه لا يوجد مسار واحد ولا وصفة جاهزة. فكل تجربة طريفة. وفي كل مرة تكون الحلول  ارتجالية وتدريجيبة. وان كان شرط الإرادة السياسية ضرروي الا أنه بدوره رهن لميزان القوى السياسية بين قوى الشد الى الوراء وقوى التواقة الى الأمام. وقد يطول المسار الديمقراطي الا أن مسار العدالة الانتقالية أطول. فهو لا يزال جاريا في الأرجنتين والبرازيل منذ ثلاثين سنة. ولا تشذ تونس عن هذه القاعدة.

وان اردنا أن نختزل المحطات الكبرى لمسار العدالة الانتقالية يمكننا القول أن ما يميزه أولا هو ازدواجية المسارات بين العدالة العادية والعدالة الانتقالية. فمنذ الوهلة الأولى الى جانب وجود هيئة الحقيقة والكرامة، هنالك مبادئ وهياكل وإجراءات معتمدة في العدالة العادية وأخرى في العدالة الانتقالية. فمثلا، ما جدوى بعث هيئات ما بعد 14 جانفي لتقصي الحقائق والرشوة اذا لم يكن لها صلحيات  قضائية؟  ثم تكاثرت  الهياكل بين سياسية ومدنية،  ذات مهام عامة أو مختصة،  مؤسسات  دولة  أو هيآت مستقلة (ذات الصبغة العمومية). وتداخلت مهامها وأصبحت محور صراع دائم بين من يريد الإفلات من العقاب وبين من يريد معاقبة الجميع بدون استثناء (من الناحية الاخلاقية)، وبين الحكم والمعارضة (من الجانب السياسي)، وبين الاسلاميين والعلمانيين (من الجانب االعقائدي). ثلاث تجاذبات اخترقت المسار من البداية الى الآن.

فالاشكال يتجاوز اذن المحاسبة. فمن جهة هي  ليست بانتقام  بل انصاف للضحايا. وهي ضرورية لانها وسيلة كشف لحقيقة انتهاج السلطة وقياداتها الامنية والسياسية لمنهج العنف والاستبداد. والمحاسبة من هذا المنطلق يجب ان تشمل كل من أمر وخطط ودبر ونفذ كل الممارسات غير الانسانية بحق الاف التونسيين ابتداءا من رئيس الدولة وصولا الى ادنى السلم الاداري. وهو ما استوجب اعادة النظر في كل القوانين التي من شأنها تبديد عمل العدالة الانتقالية. وعلى سبيل المثال فان مفهوم المحاسبة في قانون العدالة الانتقالية يقطع مع القوانين العادية التي تقر بسقوط جريمة التعذيب بعد مرور 15 سنة ولا ياخذ بها. وباستيفاء المحاسبة تبدأ مرحلة المصالحة الوطنية كنتيجة حتمية للمقاربة التي أتت بها العدالة الانتقالية. والتي من شأنها تدعيم السلم الاجتماعي بتجاوز الماضي من خلال محاسبة او الصفح عن الجلاد زمن خلال انصاف الضحية. فالمصالحة هي مسألة تأليفية، وبالتالي فهي مرحلة مواكبة ومتزامنة مع كل مراحل العدالة الانتقالية لكنها غير محددة بزمن معين، وتستنتج من خلال مؤشرات مجتمعية.

ويمكن اعتبار تحقيق المصالحة دليلا على نجاح مسار العدالة الانتقالية. وهذا يستوجب عقلنة المسارات. فان أغلق ملف العزل السياسي الا أن المسؤولية السياسية والأخلاقية لم تنتفي بعد. كما أن ملف المسؤولية الجزائية لكل من تورط في انتهاكات حقوق الانسان وفساد لا يزال مفتوحا.

وان لم تهتدي تونس لارساء منظومة متكاملة وتناسقة للعدالة الا أن الصلاحيات التي منحت لهيئة الحقيقة والكرامة أكثر مما يتحمله هيكل واحد لمدة محددة (4 الى خمس سنوات).  كما أن المشرع أخطأ  بفتح الحق في التشكي من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان منذ سنة 1955جاعلا من الهيئة "مؤرخا" و"مصفيا"  لتركة الماضي. وهذا الجانب الرمزي أزعج حزب نداء تونس الذي يعتبر نفسه امتدادا للدولة الوطنية. فضلا عن ضرورة ارجاع الثقة للمستثميرين. وفي هذا الصدد  قد يكمن الحل الوسط في "مصالحة"  ذات صبغه مالية مع من برأهم القضاء لمجابهة الوضع الاقتصادي  والحفاظ على بقية مسارات  العدالة الانتقالية.

 

Endnotes

Endnotes
1 القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، الرائد الرسمي عدد 105 المؤرخ في 31 ديسمبر 2013، ص 4335.
2 انظر دور المركز على  موقع الواب  : International Center for Transitionnel Justice (ICTJ
3   Neil Kritz editor, Transitional Justice, How Emerging Democracies Reckon with Former Regimes, Washington DC, United States Institute of Peace Press, 3 vol., 1995 & Ruti Teitel, Transitional Justice, Oxford University Press, 2000.
4 أنظر PROMOTION AND PROTECTION OF HUMAN RIGHTS, Study on the right to the truth,United Nations, Economic and Social Council, Commission on Human Rights,  E/CN.4/2006/91, 8 February 2006.
5 أنظر United Nations Basic Principles and Guidelines on the Right to Remedy and Reparations for Gross Violations of International Human Rights Law and Serious Violations of International Humanitarian Law1 (UN Basic Principles, 2005
6 Ruti Teitel, Transitional Justice, op cit, p. 3 (How should soicieties deal with their devil pasts?
7 ennaharonline.com
8 استقال كل من الرئيس فؤاد المبزع والوزير الأول محمد الغنوشي ووزير الخارجية كمال مرجان ومستشار الرئيس منصر الرويسي
9 انظر حول الأحزاب الدستورية شكري خمير: La recomposition du mouvement destourien, in La transition démocratique en Tunisie, OTTD, Diwen Editions, 2012, pp. 35-70.
10 المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي — أمر عدد 1089 لسنة 2011 مؤرخ في 3 أوت 2011 يتعلق بتحديد المسؤوليات صلب هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي طبقا للفصل 15 من المرسوم عدد المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي.
11 رئاسة أو عضوية الديوان السياسي،عضوية اللجنة المركزية، الأمناء القارون،الأمناء المساعدون،مدير الديوان،الأمين العام للإتحاد التونسي لمنظمات الشباب، مدير مركز الدراسات والتكوين، رؤساء الدوائر، الانتماء إلى المكتب الوطني لطلبة التجمع الدستوري الديمقراطي،عضوية لجان التنسيق،عضوية الجامعات الترابية والمهنية، رئاسة الشعب الترابية والمهنية. — انظر أمر عدد 1089 لسنة 2011 مؤرخ في 3 أوت 2011 يتعلق بتحديد المسؤوليات صلب هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي طبقا للفصل 15 من الرسوم عدد 35 لسنة  2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخبات المجلس الوطني التأسيسي
12 أنظر الفصلان الثاني والثالث من مشروع قانون أساسي متعلق بالتحصين السياسي للثورة تم نشر بموقع المجلس الوطني التأسيسي في 03 جوان 2013.
13 أنظر: Brian K. Grodsky, The Costs of Justice: How New Leaders Respond to Previous Rights AbusesNotre Dame, University of Notre Dame Press, 2010 وتقرير لجنة البندقية venice.coe.int
14 جريدة المصدر 32014/03/1
15 انظر احمد الرحموني, العدالة الإنتقالية بين تطلعات الضحايا والتحصين السياس للنظام السابق، 08 ديسمبر 2014،  موقع نواة
16 مرسوم عدد 1 لسنة 2011 مؤرخ في 19 فيفري 2011 يتعلق بالعفو العام
17 المغرب 14 جوان 2013
18 المغرب 22 جانفي 2014
19 الفصل 22 فقرة أولى من القانون عدد 70 لسنة 1982 المؤرخ في 6 أوت 1982 المتعلق بضبط القانون الأساسي العام لقوات الأمن الداخلي بعد تنقيحه بموجب المرسوم عدد 69 لسنة 2011 المؤرخ في 29 جويلية 2011
20 مرسوم عدد 97 لسنة 2011 مؤرخ في 24 أكتوبر 2011 يتعلق بالتعويض لشهداء لشهداء ثورة الحرية والكرامة : 17 ديسمبر 2010 -14 جانفي 2011 ومصابيها والمنقح بالقانون عدد 26 لسنة 2012 المؤرخ في 24 ديسمبر 2012.
21 المرسوم عدد 40 لسنة 2011 المؤرخ في 19 ماي 2011 والمتعلق بجبر الضرر الناتجة عن الاضطرابات والتحركات الشعبية التي شهدها البلاد
22 انظر المرسوم عدد 13 لسنة 2011 المؤرخ في 14 مارس2011 المتعلق  بالمصادرة
23 المغرب 13 جوان 2015
24 المغرب 13 جوان 2015
25   فالمراسيم السابقة له تم اتخاذها بعد استصدار القــانــون عدد 5 لسنة 2011 المؤرخ في 9 فيفري 2011 المتعلق بالتفويض إلى رئيس الجمهورية المؤقت في اتخاذ مراسيم طبقا للفصل 28 من الدستور والتي تتطلب المصادقة عليها من قبل مجلس النواب. والمراسيم طبقا لدستور 1959  تمثل وسيلة استثنائية للتشريع، لا يقع الالتجاء إليها في حالات محددة من بينها الفراغ البرلماني. لذلك كان ولابد أن تقع المصادقة عليها في أول جلسة للسلطة التشريعية حتى تتمتع بالصفة التي تستحقها. غير ان الإطار التاريخي و السياسي في البلاد و حتى القانوني مختلف كليا عن الإطار التقليدي الذي استندت إليه المحكمة الإدارية للخروج بمثل هذا القرار.
26 المغرب 13 جوان 2015
27 أنظر المراسيم  عدد 6 و7 و 8 لسنة 2011 المؤرخ  في 18/02/2011 المتعلقة بإنشاء اللجان الثلاث. 
28 العليا لتحقيق اهداف الثورة  والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي : انظر قائمة اعضاء الهيئة — tunisie.gov.tn
29 انظر  CHEKIR Hafidha, La commission d'établissement des faits de la et la justice transitionnelle.
30 Rapport de la Commission Nationale d’Investigation  sur la Corruption et la Malversation 2011, Sfax ; Novaprint, 2012, p. 1 ; — وكذلك تقرير اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات والانتهاكات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمر 2010 الى حين زوال موجبها، ص 24 ؛ الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، مداولات الهيئة، جزءان، جانفي 2012.
31 احمد شوقي بنيوب، العدالة الانتقالية في تونس، اسس نظرية تطبيقات عملية وتصورات مستقبلية، اكاديمية العدالة الانتقالية 2013-2014، ص 167.
32 Gentot (M), Les autorités administratives indépendantes, Paris, Montchestien, 1991.
33 تقرير صادر في ماي 2012 يحتوي على اكثر من 1000 صفحة متاح على موقع: — www.tunisienumerique.com/up-content/uploads/rapport.04/05/2012.pdf
34   الوزارة الأولى (80) ووزارة الداخلية (588) ووزارة العدل (399) ووزارة المالية (392) ووزارة أملاك الدولة (200) ووزارة التجهيز (89) والشؤون الاجتماعية (32) والنقل (59) والدفاع الوطني (23) ووزارة الفلاحة (98) والتجارة والسياحة (36) والصناعة (63) والثقافة (12) والصحة العمومية (18) والتربية (46) والشؤون الخارجية (15) ووزارات أخرى (44) وجهات أخرى (177 ملفا)  أنظر جريدة التونسية 11 - 11 - 2011
35 businessnews.com.tn/pdf/Rapport-CICM.pdf
36 استنتاجات خاصة بمشروع قانون هيئة الحقيقة والكرامة، تقرير المم المتحدة 2012-2013، ص 71.
37   جريدة الصحافة اليوم الخميس 09 جويلية 2015
38   الصباح نيوز الخميس 12 مارس 2015
39    مارس  2015 13 الجمهورية
40 انظر  International Center for Transitionnel Justice (ICTJ), Truth commissions
41 الصباح 16 اوت 2012
42 قانون أساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها
43 ينص الفصل 18 من الانون الاساسي عدد 53 المتعلق بارساء العدالة الانتقالية :"تحدث هيئة مستقلة، تسمى هيئة الحقيقة والكرامة، تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والاداري".
44 الفصل الأول من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها
45 الفصل 148 فقرة 9 من دستور 2014.
46 تكرّس التمثيلية المذكورة منطق الاغلبية الموجودة بالمجلس، اذ يمثل عضو واحد عن كل كتلة من 30 نائبا فأقل، واذا تجاوز عدد نواب الكتل الثلاثين نائبا تمثل بعضوين، وتمثل بثلاثة اعضاء اذا تجاوز عدد نوابها ستين نائبا. ويمثل النواب غير المنتمين الى كتل اذا كان عددهم ثلاثين نائبا فظاقل بعضو واحد، واذا تجاوز عددهم الثلاثين يمثلون بعضوين، وبثلاثة اعضاء اذا تجاو عددهم الستين.
47 وهم : زهير بن الصادق مخلوف وخالد بن عمار الكريشي (صنف جمعيات الضحايا)، سهام بن سدرين وابتهال عبد الطيف (صنف جمعيات حقوق الانسان)، محمد بن عبد الله بن سالم (صنف اختصاص قاضي عدلي)، محمد بن عبد اللطيف عيادي (صنف اختصاص قاضي اداري)، علا بن نجمة (صنف اختصاص محاماة)، عزوز بن عمر شوالي (صنف اختصاص علوم شرعية)، مضطفى بعزاوي (صنف اختصاص مالية)، علي رضوان غراب وصلاح الدين راشد ونورة البورصالي وخميس الشماري وحياة الورتاني وعادل المعيزي  (الاصناف التي لها علاقة بالعدالة الانتقالية).
48 الفصل 10 من القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها
49 الفصل 18 من قانون العدالة الانتقالية.
50 انظر  20Interview : Sihem Ben Sedrine, présidente de l’Instance Vérité et Dignité3 /6/2015 — lapresse.tnar
51 انظر المرجع السابق
52 ندوتي شهر مارس وافريل 2012 المؤسسة للحوار الوطني، بمشاركة وزارة العدالة الانتقالية وحقوق الانسان وبرنامج الامم المتحدة الانمائي والعديد من المنظمات الدولية الاخرى.
53 انظر الفصل 15 من القانون الاساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بارساء العدالة الانتقالية وتنظيمها
54 حوار جريدة المغرب، 8 جويلية 2015
55 المغرب 08 جوان 2015 
56 webradar.me
57 انظر  20Interview : Sihem Ben Sedrine, présidente de l’Instance Vérité et Dignité3 /6/2015 — lapresse.tn
58 نواة، 11 أفريل 2015.
59 جريدة المغرب 05 جوان 2015
60 انظر الموقع الرسمي للهيئة

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.