الضمان الاجتماعي في الاقتصاد السياسي اللبناني: نظرة نقدية من داخل الصندوق الوطني

© Freepik

في البدء كان الصندوق

لم يكن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لينجو من براثن الاقتصاد السياسي في لبنان حين بدا كنزاً ثميناً للطبقة الحاكمة. هذا الصندوق الذي تأسس عام 1963، في ذروة عهد الرئيس الإصلاحي فؤاد شهاب (1958-1964) جاء مترافقاً مع عملية واسعة لبناء دولة حديثة في لبنان، فكان أن أُنشئ مصرف لبنان المركزي ومجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي ومصلحة الإنعاش الاجتماعي، وكذلك زيادة أعداد كليات الجامعة اللبنانية واختصاصاتها.

اتسم إنشاء الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بطابع ذي خصوصية بالغة (سياسياً واجتماعياً) في حينه، حيث لم يعرف عن لبنان يوماً بأنه دولة رعاية اجتماعية، في وقت كان لبنان محاطاً إما بدول عربية محافظة لم تكن معنية بالشأن الاجتماعي ولا بتقديماته بأي شكل، أو بأخرى تجهد لتتبع نظماً اجتماعية اشتراكية المنحى.

لقد أُقرّ قانون العمل في لبنان عام 1946 تحت ضغط حركة نقابية عمالية يعود زمن إنشائها إلى ما قبل الاستقلال عام 1943. وبالرغم من إيجابية هذا القانون لجهة تنظيم علاقات العمل، فإنه لم يكن ليؤتي أية تقديمات اجتماعية إلى الفئات العاملة، في حين كانت مثل هذه التقديمات حكراً على الجمعيات والمؤسسات الدينية لرعاياها أو تابعة لأصحاب السلطة والنفوذ والمال من وزراء ونواب ونافذين، في إطار علاقات زبائنية، وكانت تقتصر غالباً على التعليم والصحة والغذاء، وتوفير الوظائف المتواضعة للأتباع، سواء في القطاع العام أو الخاص.

من هنا يمكن النظر إلى تأسيس الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على أنه جاء نتاج أربعة أسباب متلازمة:

  • ضغط الحركة النقابية التي توسَّع نفوذها بعد إقرار قانون العمل.
  • وعي السلطة في حينه إلى ضرورة إيجاد إطار يمتص التوترات الاجتماعية.
  • إدراك السلطة أهمية مشاركتها بفعالية في التقديمات الاجتماعية، وعدم تركها بين أيدي المرجعيات الدينية والطائفية ونظام الزبائنية السياسية، مع ميل إلى الحد من نفوذها، بشكل يمنع هذه التقديمات من أن تكون أداة تستخدم للضغط على السلطة السياسية الشرعية وتسلب منها دورها الاجتماعي.
  • الحاجة إلى بناء هياكل دولة مؤسسات تشبّهها بالدول الغربية.

لقد صمّم قانون إنشاء الصندوق (مرسوم رقم 13955) تاريخ 26 أيلول 1963 (في ملحق الجريدة الرسمية) بصيغ تجعله محمياً من التدخلات السياسية المختلفة، حيث جرى تكريسه مؤسسة مستقلة ذات طابع اجتماعي تتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلال المالي والإداري، ويخضع لوصاية مجلس الوزراء ووزارة العمل، من دون أن يخضع لرقابة مجلس الخدمة المدنية أو التفتيش المركزي.

كما لحظ القانون أن تتم إدارة الصندوق بشكل متكافئ في التمثيل في مجلس إدارته بين ممثلي الأجراء وممثلي أرباب العمل (عشرة ممثلين لكل فئة من الفئتين) إضافة إلى ستة ممثلين للدولة.

وحسب القانون نفسه يشمل الضمان الفروع الآتية:

  • ضمان المرض والأمومة،
  • ضمان طوارئ العمل والأمراض المهنية،
  • نظام التعويضات العائلية والتعليمية،
  • نظام تعويض نهاية الخدمة.

انتظرت الحكومة سنتين ليوضع الصندوق موضع التنفيذ، وحصل انتظار آخر استمر حتى بداية السبعينيات لإطلاق الفرع الأول والأهم وهو ضمان المرض والأمومة.

بدايات عمل الصندوق

إضافة إلى بروز المؤسسة الجديدة وهي في طور التأسيس، رافقتها تقديمات إيجابية منتظرة للأجراء. لكن على امتداد سنوات التأسيس، واجه الصندوق (بما فيها سنوات الحرب الأهلية 1975-1990 ولغاية اليوم) معاناة قاسية نتيجة تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ وسيطرة قوى الأمر الواقع الطائفية، والتي أتت مترافقة مع ثغرات كبيرة لازمت الصندوق طيلة سنوات عمله دون حصول إصلاحات تذكر. تمثلت أبرز الثغرات والصعوبات بـ:

  • عدم تعاون المؤسسات التي لا تصرّح عن وجودها ومستخدميها والمقدَّرة بحوالي ضعف المؤسسات المصرحة.
  • الغش في إبلاغ الصندوق عن حقيقة أجور العاملين حيث يتم تقديم تصريحات الأجور بأدنى من الأجور المدفوعة حقيقة من أرباب العمل وعادة ما تكون في حدود الحد الأدنى للأجور.
  • عدم شمول العمال الأجانب بالضمان الصحي لأسباب سياسية، بحجة عدم منح امتيازات اجتماعية للأجراء الأجانب الذين قد يطلبون بناء عليها حقوقاً سياسية، علماً أن هذه الفئة من العمال هي ذات وجود فعلي في الاستخدام، ومن شأن التصريح عنها تحفيز دورة تمويل الصندوق. فبقدر ما يكون عدد المضمونين اكبر وحقيقياً وشاباً بقدر ما تتاح تقديمات ذات جودة أفضل ويقوى عود المؤسسة.
  • المكننة: لم يتمكن الصندوق من إنجاز مكننة عملياته باستثناء جزء يسير تم في الإدارة المركزية.
  • التفتيش: بسبب العدد الضئيل نسبياً للمفتشين، لم يتمكن جهاز التفتيش من وضع يده على مخالفات كبرى ليس أقلها ضرورة إلزام آلاف المؤسسات بتسجيل مستخدميها التي تحرمهم من الاستفادة من تقديمات الصندوق ومن مداخيل مستحقة للمؤسسة. ومن ناحية أخرى يتيح ضعف التفتيش المجال أمام الغش لدى المؤسسات المصرحة لجهة القيم الحقيقية للاشتراكات وملاحقة المتخلفين عن التصريح أو دفع الاشتراكات. تشير التقديرات إلى أن هناك 71000 مؤسسة عليها التصريح للضمان، في حين عدد المؤسسات المسجلة لا تتجاوز 39000 مؤسسة مصرِّحة، الأمر الذي كان يتطلب تعزيز عمليات التفتيش حفظاً لحقوق الصندوق وحقوق الأجراء.
  • قطع الحساب والميزانية: يعود آخر قطع للحساب منجز بشكل "غيردقيق" إلى العام 2014، وقد تم رفعه إلى مجلس الوزراء، مع ما يعني ذلك من استهتار بأموال المضمونين وفساد في الإدارة المالية.
  • تداخل الصلاحيات: تتداخل الصلاحيات بين المدراء والموظفين كما تتداخل موازنات الفروع، وغالباً ما يغطى العجز في فرع المرض والأمومة من فرع نهاية الخدمة.
  • الأجور: كان يؤخذ على الصندوق ارتفاع أجور العاملين فيه بشكل كبير، يزيد بأضعاف عن أي عمل موازٍ في القطاع العام أو الخاص.
  • توظيف سيئ للاشتراكات: في أي صندوق ضامن، من البديهي أن يتم توظيف الاشتراكات بشكل يوفر نفقات الصندوق وضرورات تطويره، ويزيد من قيمة هذه الاشتراكات أو على الأقل يحفظها بقيمتها الفعلية. وعموماً يتم توخّي الحذر في التوظيف بشكل خاص عبر تنويع المخاطر وعدم إيداع الاشتراكات لدى مستثمر وحيد، الأمر الذي لم يحصل بحيث حصل عكسه تماماً. فلم توظف الاشتراكات إلا في سندات الخزينة، وتمت تلبية طلبات الدولة بالاستدانة وإيداع أموال المساهمين في المصارف، وكل ذلك بالعملة اللبنانية. بينما من الأجدى الاستثمار بشكل يخلق فرص عمل جديدة ويوفر أرباحاً لصالح الأجراء ويأخذ في الاعتبار مبدأ تنويع المخاطر في الاستثمار حرصاً على أموال المشتركين. فالصندوق لم يُنشأ ليكون خزنة لحفظ الاشتراكات أو تبديدها بوضعها بتصرف سلطة غير مسؤولة، كما أن الصندوق ليس ملكاً للدولة ولا لأتباعها القائمين عليه، بل هو أمانة وحق للأجراء.
  • مجلس الإدارة: يتشكل مجلس إدارة الصندوق من 26 عضواً، غير أن مجلس الإدارة القائم حالياً هو منتهي الصلاحية منذ العام 2006 دون تجديد، وقد فقد أحد عشر عضواً، إما بالاستقالة أو الوفاة، ويستمر رغم ذلك العمل بمجلس إدارة غير قانوني.

فلم يتمكن الصندوق من تحقيق مجموعة من المشاريع التطويرية الضرورية لزيادة التقديمات، بحيث لم يتم إقرار صندوق تعويض البطالة، وهناك تعويضات أخرى معطلة كونها تحتاج إلى مراسيم تطبيقية كحوادث العمل والتقديمات التعليمية. أما راتب التقاعد، فما زال في طي التجاهل.

لم تتوصل الجباية يوماً إلى 70 بالمئة من المتوجب على المكلفين، نظراً لضعف المتابعة والتسويات الرضائية مع المكلفين، التي تفوح منها روائح الفساد والرشى.

أي ضمان؟

اختارت الدولة اللبنانية ضمان التعاضد المهني لا الضمان الشامل الديمقراطي الذي تُقدم فيه الرعاية من المجتمع إلى كل أفراده وأسره في حقلي الرعاية الصحية والتعليمية وتأمين الدخل، ولا سيما في حالات الشيخوخة أو الإعاقة أو البطالة أو المرض أو العجز أو إصابات العمل أو الأمومة أو فقدان المعيل. لقد كان على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أن يقدم مثل هذه الخدمات، ليتحول إلى قاعدة يبنى عليها نظام حماية اجتماعية شاملة، خاصة أن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يشير إلى توفير الأمن الصحي إلى حوالي 1.5 مليون مواطن، أي حوالي ربع السكان.

هذا الشكل المعتمد للضمان، جعل المؤسسات الرسمية وشبه المستقلة الضامنة في لبنان لا تتعدى العشر ومنها: تعاونية موظفي الدولة، تعاونية الجيش، تعاونية قوى الأمن الداخلي، صندوق تعاضد أساتذة الجامعة اللبنانية... مع فوارق بارزة في نوعية التغطية لجهة درجة الاستشفاء أو تعويضات التعليم بين الصندوق الوطني والصناديق أو التعاونيات الأخرى. وهذا لم يعوض عن ضعف مستوى الحماية الاجتماعية في لبنان، بقدر ما حوّل هذا المفهوم من قضية رأي عام إلى خدمة قطاعية يطالب بها أصحاب المصلحة العاملون في قطاع معين.

من ناحية أخرى لا تزال السياسة الرسمية في مجال الضمان تمارس التمييز الجندري. ففي حال انتساب الوالدين للضمان يكون ضمان العائلة على عاتق الأب وليس الأم.

وينطبق الأمر نفسه على التمييز مع العمال الأجانب الذين لا يستفيدون من تعويض نهاية الخدمة والعاملات المهاجرات اللواتي لا يستفدن من أية تقديمات نهائياً من الصندوق.

وضع اليد على الصندوق

تأثر الصندوق طيلة سنوات الحرب الأهلية الكارثية بالأزمات الأمنية والاقتصادية والسياسية التي كانت تواجه البلاد، لكنه حافظ على تأدية تقديماته رغم دمار عدد كبير من المؤسسات وتوقف المئات منها ونزوح وتهجير وهجرة مئات ألوف العاملين. غير أن الاحتياط المالي للصندوق كان إيجابياً، فراكم مخزوناً كبيراً. لكن ذلك لم يعكس تطوراً بارزاً لجهة جودة التقديمات واتساع رقعة التغطية أو تحسّن أداء الإدارة، حيث كان من الصعوبة إجراء عملية إصلاح لأي من المؤسسات في ظل سطوة السلاح ونظام المحاصصة الطائفية بين أمراء الحرب. في الوقت نفسه، كانت صعوبات إدارة مثل هذه المؤسسة تزداد تعقيداً لتراكم ما هو أمني مع السياسي والطائفي وتزايد المشكلات المزمنة وصعوبات حلّها، ليس فقط بسبب الإهمال والنقص في المسؤولية، بل بسبب التدخلات السياسية والطائفية، والبحث عن التوازن الطائفي والمذهبي في التقديمات، ما كرّس الاستمرار في تجاهل واجبات الصندوق في افتتاح فروع سبق لحظها في قانون الضمان أو أخرى كان على الصندوق بدء العمل بها كالشيخوخة والبطالة ومعاشات التقاعد ومِنح المعوّقين.

الضمان، إما الخصخصة أو الإلغاء في خدمة الاقتصاد السياسي؟

إطاحة الاتحاد العمالي العام ونهب مالي للسطو على مجلس الإدارة

عند انتهاء الحرب الأهلية، كان الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي يمتلك إمكانات مالية كبيرة، وهي ليست ضرائب ولا رسوم. واللافت أن الدولة لم تكن تدفع اشتراكاتها عن 17000 أجير لديها، في حين أن الصندوق لم يمنع عنهم الاستفادة. فهذه الدولة لم تكفّ عن السعي إلى وضع اليد على الصندوق.

بدأت المحاولات الأولى للإمساك بالصندوق من الخارج مع حكومة الحريري الأولى عام 1993، عبر طرح ومناقشة خصخصة التقديمات الصحية. وكانت الحجة في ذلك أن الضمان الاجتماعي غير مناسب في البلدان ذات المؤسسات الصغيرة، بينما هو أكثر جدوى في الدول ذات الاقتصادات الكبرى والتي تتمتع بثروات ضخمة. والصندوق وفق نظام عمله، إضافة إلى كونه يقدم خدمات اجتماعية، هو مطلب ومكسب للطبقة العاملة.

تمت مواجهة هذه المحاولة من قبل الاتحاد العمالي العام بالاستناد إلى قانون الضمان نفسه، أي بالاستناد إلى استقلال الصندوق المالي والإداري، وكون الحكومة بإمكانها أن تبيع ما تملك، وهي بالتالي لا تملك الصندوق، حيث إن موارده هي من خارج الموازنة ومتأتية من اشتراكات المؤسسات والأجراء.

لكن الإمكانات المالية الكبيرة التي كان يمتلكها الصندوق ودوره الرعائي المستقل استمرّا في إسالة لُعاب الطبقة السياسية.

بدا للحكومة أن محاولة وضع اليد على الضمان الثري من خلال الخصخصة ستكون فاشلة، فكانت جملة من الإجراءات الأخرى الموازية لوضع اليد على الصندوق، وذلك عبر السيطرة على كامل مجلس الإدارة، وبالتالي على القرار من داخل الصندوق نفسه، الأمر الذي اقتضى جملة من الإجراءات كانت بدايتها السيطرة على الاتحاد العمالي العام، وبالتالي تسمية ممثلي العمال في مجلس إدارة صندوق الضمان (أي 10 ممثلين من 26، أما الآخرون فهم 10 يمثلون أرباب العمل و6 يمثلون الحكومة) على ألا يشكّل هؤلاء عقبة في مواجهة خطة الحكومة.

الخطوة التالية لتنفيذ السيطرة على الاتحاد العمالي العام لدواع عدة منها الخلاص من صوت مطلبي قوي مناهض للاتجاهات النيوليبرالية والخصخصة، وفي الوقت نفسه ضمان سيطرة مناصري سياسات السلطة في مجلس إدارة الصندوق. استُكملت الخطوة بوضع اليد على موقع وزير العمل في كل حكومات تلك المرحلة، مناوبةً بين أنصار الوصي السوري بمختلف تشكيلاتهم (بعث، قومي سوري، حركة أمل...). فوزير العمل هو المخوّل منح تراخيص اتحادات النقابات التي منها يتكون الاتحاد العمالي العام، فكان الترخيص لحوالي ثلاثين اتحاداً شكلياً جديداً تابعاً لمنظومة السلطة، حيث بلغ العدد الإجمالي 60 اتحاداً، معظمها غير موجود ولا يضم نقابات ولا عمالاً. وبذلك أصبح ميزان القوى في المجلس العام للاتحاد العمالي العام راجحاً بنسبة 54 بالمئة لصالح أنصار السلطة، وفقد المدافعون عن ديمومة الضمان واستقلال قرار الأغلبية التي كانوا يتمتعون بها، وبالتالي قدرة التمثيل في مجلس إدارة الصندوق كون الاتحاد العمالي العام هو اتحاد اتحادات مرخصة من وزارة العمل. فحسب نظام الاتحاد العام، يتمثل كل اتحاد مهما كان حجمه بمندوبَين اثنين في مجلس الاتحاد العام، وبالتالي تمكنت السلطة من حيازة أغلبية قوة التصويت دون قدرة لدى القوى المعارضة على إحداث أي تأثير. جرى ذلك عام 1997 وتشكل مجلس إدارة للضمان موالٍ بشكل كامل. ولاستكمال هذه المرحلة، لعب مجلس الوزراء دوره في تسمية أحد أنصار حركة أمل مديراً عاماً للصندوق.

لم تنتهِ جهود الانقلاب على الصندوق عند هذا الحد، بل استكملت مالياً بحيث تمت إحالة 38000 موظف من موظفي طيران الشرق الأوسط إلى الضمان الاجتماعي حيث تمت جباية 17 مليار ليرة لقاء التصريح عنهم وتسجيلهم، فيما دفع الضمان 72 ملياراً لقاء صرفهم في السنة نفسها، الأمر الذي أرهق مالية الصندوق. وحصل ويحصل أمر مشابه في الضمان الصحي الاختياري رغم ظاهره الإيجابي: فمن يتسجل في ضمان اختياري عادة ما يكون أكثر كلفة على الضمان من اشتراكه، إذ أن الضمان، إن كان اختيارياً ولم يكن إلزامياً، يشكل عبئاً إضافياً ضاغطاً مالياً على ميزانية الصندوق. أما الممارسة الأخرى، فتمثلت بتخفيض نسب الاشتراكات على أرباب العمل بحجة أن الاشتراك الذي يدفعه رب العمل عن عاملَين اثنين من شأنه إيجاد فرصة عمل لعامل ثالث. ومن ناحية أخرى ألزمت وزارة المالية الضمان بشراء سندات خزينة بمليار دولار مقابل صفر فائدة، إلى أن تطور الأمر إلى توظيف ثلث أموال الضمان في سندات الخزينة، فيما الثلث الثاني هو متوجبات على الدولة والمكلفين، والثلث الثالث يتم العمل به حالياً بعد أن فقد كل الرأسمال الاسمي والواقعي 95 بالمئة من قيمته منذ بداية الأزمة المالية والنقدية في العام 2019. فقد خسرت سندات الخزينة قيمتها الفعلية وخسر الصندوق أمواله وأموال مشتركيه.

بعد السطو من الداخل والإرهاق المالي، تكريس قانوني لإلغاء الاستقلالية

استكملت عملية السطو على الاستقلال المالي بالتعدي على الاستقلال الإداري، حيث إن موازنة 2004 أدخلت مادة في مضمونها تشير إلى إلحاق الصندوق الوطني للضمان بمجلس الخدمة المدنية خلافاً لقانون الضمان الذي ينص على كونه تحت وصاية وزارة العمل ومجلس الوزراء ولا يخضع للتفتيش المركزي ولا لمجلس الخدمة المدنية.

كان يمكن لقانون الموازنة للعام 2004 أن تنتهي مفاعيله في السنة التالية، إلا أن البلاد استمرت دون ميزانية سنوية لمدة حوالي 14 سنة لغاية سنة 2017، حيث كان يتم الإنفاق على القاعدة الاثني عشرية المعروفة التي تجدد الإنفاق الحكومي سنوياً بمعايير سنة إعداد الموازنة. وبالتالي، فإن المادة 54 من قانون الموازنة أدت إلى تعديل قانون الضمان الذي لا يخضع لمجلس الخدمة، لأنه لم تنجز أية موازنة خلافاً للدستور وتجاوزاً لكل قوانين وأعراف الصندوق.

ما هي الآثار السلبية لإلحاق الصندوق بمجلس الخدمة المدنية؟

في الشكل لا مشكلة تذكر كون مجلس الخدمة المدنية يقوم بإجراء مباريات "نزيهة" لملء الشواغر في الوظيفة العامة، ولكن هذا الأمر لم يكن ليحصل كون مجلس الوزراء كان قد اتخذ قراراً قاطعاً بمنع التوظيف وعلى الأجهزة الحكومية تنفيذه، وبالتالي، لا توظيف في الضمان.

إذاً ما فائدة الطبقة السياسية من إلحاق الضمان بمجلس الخدمة المدنية وهو متوقف عن التوظيف؟

بهذا الإلحاق يكون الاقتصاد السياسي قد أنجز كامل طموحه في افتراس الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. فبعد السيطرة على مجلس إدارة الضمان والسطو على أموال المضمونين بسندات الخزينة، فُتح الباب واسعاً امام التوظيف وفق نظم الزبائنية والمحاصصة الطائفية.

فغدا ملء الشغور الوظيفي أمراً بديهياً في كل مؤسسة، بحيث يتم نقل موظفين مضموني الولاء من الإدارة العامة إلى الصندوق، وخاصة رؤساء الدوائر والمصالح الذين لا يعيَّنون بالأصالة، بل بالوكالة لمدة ستة أشهر. وبالتالي، يكونون ملزمين بتجديد الولاء كل مرة لمن عيّنهم ليتم التمديد لهم في مواقعهم ويتم من خلالهم التحكم بمفاصل الضمان وضرب استقلاليته وإضعاف إضافي لدوره. فبالوكالة يمكن تسليم كل المراكز إلى الموالين بناء على محاصصات طائفية وزبائنية، ويشار في هذا الصدد إلى إدخال 120 أجيراً جديداً من الأتباع السياسيين دون أي مباراة بحجة سد العجز في الموارد البشرية، وتبقى الأبواب مشرّعة لأي توظيف زبائني جديد كون مسألة الشغور هي مستمرة بعد انتهاء خدمة بعض الموظفين لبلوغهم السن القانونية أو الوفاة أو الهجرة...

ما هي الأوضاع الحالية للضمان الاجتماعي في لبنان؟

ترك الانهيار المالي والنقدي الكبير بعد 17 تشرين 2019 بصمات لا تُمحى على الصندوق. فتراجعت قيمة مدّخراته من 8.5 مليارات دولار إلى 450 مليون دولار. رغم ذلك، يؤكد القائمون على الصندوق أن لا عجز مالياً لدى الضمان، كونهم يحتسبون الأموال الضائعة المسطو عليها وسندات الخزينة بالليرة اللبنانية. ولكن حسب زعمهم، هناك عجز في السيولة بسبب تخفيض الاشتراكات. فالعجز هو في فرع المرض والأمومة الذي يستدين من فرع نهاية الخدمة.

لقد تراجع إنفاق الضمان في السنوات الثلاث الأخيرة، حيث توقف المضمونون عن تقديم الفواتير للتحصيل، وفي هذه الحالة حصل نوع من التوازن المالي. ربما لن يكون فرع المرض والأمومة بحاجة للاستدانة من صندوق نهاية الخدمة بعد اليوم. وهذا الشكل من الاحتساب لمؤسسة ذات طابع اجتماعي لا يستقيم، فدور الضمان ليس تحقيق التوازن المالي الذي هو تفصيل إداري، بل تقديم الخدمات للمستفيدين. فإذا ما تحقق التوازن المالي وتوقفت الخدمات، فلا جدوى من وجود تلك المؤسسة.

هل ترغب الطبقة السياسية بالإبقاء على الصندوق؟

لم تسامح الطبقة السياسية ومراكز القوى الطائفية والمذهبية الحكم الشهابي على إنجازه الضمان الاجتماعي للأجراء ومنازعة هذه القوى المذهبية والسياسية على واحدة من أهم أدوات استتباع تملّكها. وفي الوقت نفسه، لم تقم على الصندوق إدارة جديرة تحميه وتطوره وتمكننه وتمنع تسرب الفساد إليه. فكان الصندوق ضحية أولى حين اندلعت الحرب عام 1975، حين كان طري العود، حيث توزعت القوى الطائفية السيطرة على مناطق البلاد واستتبعت العاملين بالصندوق لتلبية متطلبات أتباعها. وفي المقابل فرضت الخوات – أي الضرائب على السكان لإنشاء صناديق خاصة بمناطقها - وتعزز أيضاً دور المؤسسات الدينية (التي لم تتوقف عن أداء وظيفتها الإحسانية بسبب قيام الصندوق) في تلبية حاجات أتباعها، مستفيدة من مساعدات الطوارئ الخارجية ومستعيدة جانباً من الدور الذي أفقدها إياه إنشاء الصندوق.

إن نظام المحاصصة الطائفية قد يكون بحاجة إلى الضمان مصدراً للسلطة ومصدراً أيضاً (قليل الأهمية) لمنافع الأتباع المسجلين من حراس وأزلام يتيح لهم الضمان الاستفادة من التقديمات الصحية إذا استمرت.

لقد تمكن الاقتصاد السياسي من الالتفاف على العمل الإصلاحي المتواضع بعد ستين سنة، فأعاد عقارب الساعة إلى الوراء، ولم تنهكه الصناديق الضامنة الأخرى بجهود مماثلة للقضاء عليها. فالتمكّن من المؤسسة الأكبر لم يعنِ أن الصناديق الأخرى كانت بمنأى عن محاولات شبيهة، بحيث جرى السطو على معظمها، وقد ساعد تعدد الصناديق وتشتت مشاريع الإعانات الاجتماعية كبرامج معالجة الفقر والطوارئ لدى الوزارات المختلفة والجمعيات غير الحكومية، في أن تجعل مفهوم الحماية الاجتماعية في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة أمراً صعب المنال.

لقد تبخرت حقوق الأجراء في كامل تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. ففي الضمان الصحي، أصبحت قيمة فواتير المستفيد التي يمكن تحصيلها من الضمان أقل من كلفة الانتقال إلى مراكز الضمان لتقديمها، ويبدو الأمر أشد سوءاً في تعويضات نهاية الخدمة التي أضحى أكبرها لا يتجاوز الـ3000 دولار أميركي بعد أربعين سنة من الجهد والكدّ.

لقد افترس الاقتصاد السياسي عرق الأجراء، مستخدماً مرة أخرى جهود الضعفاء لإعادة إنتاج سلطانه.

لا حلول في الرعاية دون حل في السياسة

لقد بات من العسير البحث عن حلول متفرقة لمسائل البلاد بعد أن أمعن نموذج الاقتصاد السياسي في تدمير ممنهج لأسس الدولة.

لا تبدو الحلول الجزئية الترقيعية قابلة لسد فجوة الانهيار الكبير الحاصل، خاصة أن هذه الحلول لطالما تم اللجوء إليها تضليلاً للمواطنين.

ربما يكون ضرباً من الأحلام مجرد التفكير بإنقاذ الضمان الاجتماعي بمفرده في الوضع السياسي الاقتصادي الاجتماعي الحالي في لبنان. فأمر إنقاذ الضمان على أهميته هو جانب من أزمة كيان سياسي واقع تحت سيطرة قوى سياسية فاسدة سارقة تتوخى كل السبل بما فيها الحرب الطائفية والاستعانة بالخارج لإعادة إنتاج سيطرتها على البلاد والمواطنين، محوّلة لبنان إلى دولة فاشلة.

لبنان بحاجة إلى إرادة سياسية حقيقية ذات جذور شعبية تحكم البلاد بعقد اجتماعي جديد وبخطة إصلاح واقعية مبنية عليه ويمكنها الاعتماد على دعم نخب وطنية لإقامة نظام حماية عادل اجتماعياً، غير مشتت، وديمقراطي يبني على الدروس المستفادة من التجارب السابقة وما تبقى من هياكلها.

أما في ظروف الأزمة الراهنة، فتغلب أعمال الطوارئ لمواجهة جائحات المرض والفقر والأمية وغيرها على اهتمامات تحسين أحوال معيشة السكان بشكل فعال ومستدام. فالأخيرة لا تقوم إلا بأن تتلازم مع إصلاح سياسي جذري ديمقراطي التوجه، يقطع مع أنظمة المحاصصة والزبائنية والطائفية وكل أشكال التخلف الحوكماتي والفساد.

* تستند هذه الورقة إلى تجربة الكاتب الخاصة كمستشار سابق في وزارة الشؤون الاجتماعية بالإضافة إلى العديد من المناقشات والمحادثات والمقابلات التي أجراها مع مسؤولين سابقين وحاليين وزملاء من الوزارة.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.