الشباب العراقي في سياقات الصراع: التحزب والاستراتيجيات الانقسامية واستحالة لَمّ الشمل

لقراءة الورقة كاملةً يرجى تحميل الـPDF.

بعض الناس يحملون علم العراق بطول 500 متر خلال مسيرة لنشر رسالة وحدة نظمها نشطاء شباب في كركوك، العراق في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2017 © AA / Ali Mukarrem Garip

تمهيد

بقلم سارة آن رانك

ما هي العواقب المختلفة على مسار حياة الشاب عندما يبلغ سن الرشد في سياق الصراع؟ ماذا يحدث للخطط المتوقعة للمستقبل -من تعليم وزواج والعمل في أول وظيفة- عندما تتضرر بشدة بسبب اندلاع الصراع، وما هي الآليات والاستراتيجيات المختلفة التي يتبناها الشباب في مواجهة مثل هذه الاضطرابات؟ وكيف يمكن للدخول في مرحلة البلوغ في سياق عرفي مهلهل وغير مستقر -حيث يكثر العنف، ويمكن أن تنقلب الأدوار التقليدية للجنسين، وتنتشر الصدمات النفسية- أن يشكل القيم والمعتقدات السياسية الفردية، وكذلك العلاقات الاجتماعية مع المجتمع وداخل الأسرة؟ عند استكشاف كيف يوجه الشباب حياتهم وكيف يعملون على بناء أنفسهم عندما يكونون قد ناهزوا البلوغ في سياق الصراع، تُظهر الأدلة أن الصراع يمثل منحة ومحنة للشباب من حيث فرص كسب العيش، ومسارات الرفاهية، وتجارب الشمول السياسي، ومشاعر التمكين وعدم التمكين. وفي الوقت نفسه، فإن المسارات التي يسلكها الشباب خلال سياقات الصراع ليست خطية ولا تعتمد بشكل صارم على هيكل الفرص المتاحة. في الواقع، إن الطريقة التي يتخذ بها الشباب القرارات فيما يتعلق بحياتهم، والعوامل التي تؤثر على اتخاذهم للقرار؛ توضح العمليات المعقدة التي تعتمل فيها عوامل سياقية محددة، منها هيكل العلاقات الاجتماعية، والمكانة داخل ديناميكيات الصراع، وغيرها من الأمور. وبهذا المعنى، فإن مسارات الشباب في سياقات الصراع متنوعة للغاية وغالباً ما تكون غير متوقعة، وأيضاً يمكن أن تتغير جذرياً مراراً وتكراراً. ورغم كل هذا، فإن فك هذا التعقيد أمر بالغ الأهمية إذا أردنا فهم الطرق المتعددة -وحتى المتناقضة- التي يؤثر بها الصراع على مسارات الشباب. كما أنه مهم لفهم الآثار الأوسع على المستوى المجتمعي من حيث الأنماط المستقبلية للمشاركة السياسية والمعتقدات والسلوكيات، وكذلك العلاقات الاجتماعية والجندرية داخل المجتمعات والأجيال، وبين بعضهم البعض.

في الفترة من 2020 إلى 2021، نفذت "مبادرة الإصلاح العربي" برنامجاً بحثياً واسعاً للتحقيق في المسارات الشخصية للشباب في الصراع، مع التركيز بشكل خاص على أولئك الذين بلغوا سن الرشد منذ عام 2011 في ليبيا والعراق وسوريا. يسلط هذا البحث -الذي يستند إلى 75 مقابلة نوعية شبه منظمة في كل بلد، وكذلك مناقشات جماعية مركزة حيثما أمكن- الضوء على التصورات وعمليات صنع القرار لدى الشباب، وآثارها على المدى الأوسع نطاقاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وشخصياً. وبتعبير أدق، يتتبع هذا البحث مسارات الشباب والآثار الاجتماعية والسياسية الأوسع من خلال تحليل يشمل ثلاثة مستويات متميزة؛ فعلى المستوى الجزئي، تقصّى البحث الروايات الشخصية للشباب وكيف ينظرون إلى تأثير الصراع عليهم من حيث بنائهم لذاتهم. وقد شمل ذلك التحقيقَ في تطلعات الشباب ومصفوفات اتخاذ القرار لديهم، واستراتيجيات المواجهة التي توصلوا إليها، وكذلك كيف شعروا بالتمكين/عدم التمكين في سياق الصراع. أما على المستوى المتوسط​​، فقد استكشف البحث العوامل السياقية التي تتوسط عملية صنع القرار لدى الشباب وهوامش مناوراتهم، بما في ذلك اقتصاديات الحرب وبناء السلام، والبرمجة الحالية والمساعدات الخارجية للشباب، وتحويل هياكل السلطة والتسلسل الهرمي الاجتماعي، والتقلبات العرفية، ثم تبع ذلك إجراء تحليل لفهم كيف تشكّل المواقع المختلفة على السلم الاجتماعي (العرق، الدين، الجنس، الطبقة… إلخ) روايات واستراتيجيات مختلفة. وأخيراً، على المستوى الفوقي، سعى البحث إلى تقييم المحتوى المتنوع للسياسة وبناء السلام فيما يتعلق بقيم الشباب، والسيطرة والفعالية، وأشكال المشاركة، مع التركيز بشكل خاص على المشاركة السياسية الهادفة للشباب، والممارسات اليومية لبناء السلام، وترسيخ المساواة بين الجنسين متى وأينما وجدت.

الدراسة المقدمة هنا تنقل نتائج البحث الذي أجري مع الشباب العراقي، حيث أجريت المقابلات الميدانية في عام 2020 في مدينتي الموصل والبصرة، وهما مواقع حدثت فيها أنواع مختلفة من الصراع، بدءاً من الصراع العنيف مع "داعش" إلى الصراع مع حركة تشرين الاحتجاجية، الذي أحدث تغييرات اجتماعية عميقة. ومن خلال تقييم هذه المقابلات المتعمقة والشخصية للغاية، تساهم هذه الدراسة في معرفة ورؤى جديدة فيما يتعلق بكيفية تأثير الانتقال إلى مرحلة البلوغ في ظل الصراع على اكتساب الخبرات والمهارات والاحتياجات والتطلعات والتغييرات في تصورات ووجهات نظر الشباب العراقي. يستكشف البحث المقدم هنا كيف يروي الشباب مساراتهم الشخصية، وتأثير الأحداث على حياتهم الخاصة، وأيضاً يعرض البحث رؤيتهم للتطور السياسي في البلد وطبيعة الصراع نفسه. تستكشف الدراسة العوامل (الأخلاقية أو الأيديولوجية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الشخصية أو غيرها) التي تحفز قراراتهم أو تقودها، وكيف يتصورون الفرص والقيود التي تقابلهم في المسارات التي اختاروها لأنفسهم، وكيف يجدون فرصهم أو يصنعونها. تبحث الدراسة أيضاً في كيفية تغيير الأعراف والأدوار الجندرية نتيجة للصراعات، وما تأثير هذه التغييرات في علاقاتهم الاجتماعية وتطلعاتهم للمستقبل. أخيراً، تلقي الدراسة الضوء على المواقف الشخصية للشباب العراقي تجاه العنف واللاعنف، وما تعنيه لهم بالفعل مفاهيم مثل السلام والعدالة والمصالحة وكيف تبدو في الممارسة العملية، ومدى إدراك الشباب للفاعلية في حياتهم والأدوار التي يسعون إلى لعبها في تجديد النظام السياسي والعقد الاجتماعي في العراق.

عند استكشاف هذه الموضوعات المتنوعة، يظهر أن هذه الدراسة لها أيضاً صلة وثيقة بالسياسة. يواجه الشباب أشكالاً معينة من اللايقين وانعدام الاستقرار تجعلهم من بين أكثر الفئات السكانية هشاشة في الانتقال من مرحلة الصراع وإعادة الإعمار،1فيما يتعلق بانعدام اليقين والاستقرار، يمكن أن يجد الشباب أنفسهم مستبعدين بشكل مضاعف: فهم ليسوا ضمن أهداف كثير من البرامج القائمة على الحقوق التي تستهدف الأطفال، ويحجبهم أيضاً أصحاب المصالح الكبار الذين يقيدون فرصهم في المشاركة. علاوة على ذلك، فإن مساراتهم في سياقات الصراع -لا سيما الانتقال إلى ما بعد الصراع- محفوفة بالمخاطر بشكل خاص لأنهم لم يكونوا يتمتعون أصلاً بحضور ما قبل الصراع، وهي الحالة التي يمكنهم العودة إليها. مع دخول الشباب مرحلة البلوغ خلال سياق النزاع، فإن استراتيجياتهم الخاصة بسبل العيش والرفاهية تتشكل بالكامل حول الصراع؛ لكن تغير هذا السياق، يمكن أن يجعل هذه الاستراتيجيات بالية وعديمة الفائدة وهو ما يترك الشباب دون أي طريق واضح للمضي قدماً. ومع ذلك فهم في الوقت نفسه فئة ديموغرافية لها دور رئيسي في الحفاظ على الاستقرار والسلام، وفي قيادة عمليات تحول الصراع على نطاق أوسع. وعلى الرغم من ذلك، فغالباً ما يكون الشباب -باعتبارهم مجموعة سكانية فرعية- خاضعين للتحقيق والمراقبة، ولا يحصلون على خدمات كافية من صانعي السياسات وأصحاب المصلحة الخارجيين الذين ينفذون برامج الإغاثة من الصراع والتعافي بعد الصراع. يذهب كثير من الاهتمام للأطفال (أولئك الذين هم في سن المراهقة أو أصغر)، نظراً للمقاربات القائمة على الحقوق التي تحظى بشعبية كبرى على الساحة العالمية، ووجود أطر سياسية واسعة النطاق، والمنظمات التي تهتم بهم مثل اليونيسف. في الوقت نفسه، غالباً ما يهيمن أصحاب المصالح الكبار (مثل النخب الإقليمية، وزعماء القرى، وما إلى ذلك) على عملية الانتقال في سياقات ما بعد الصراع، مما يحد من مشاركة الشباب، لا سيما في العمليات السياسية. نتيجة لذلك، يمكن أن يجد الشباب أنفسهم مستبعدين بشكل مضاعف. وعلى القدر نفسه من الأهمية، غالباً ما تُفهم الأفكار الخطابية للشباب في سياقات الصراع ضمن الأطر والتعريفات الأيديولوجية التي يمكنها أن تعزز طائفة معينة من البرامج التي يمكن فصلها عن تجاربهم المعيشية واحتياجاتهم وفهمهم. تميل الخطابات السائدة المحيطة بالشباب في سياقات الصراع إلى التركيز على الشباب باعتبارهم استثمارات تنموية، أو تهديدات للأمن، أو عوامل للتغيير.2انظر على وجه الخصوص: Siobhan McEvoy-Levy, “Children, Youth, and Peacebuilding” in Critical Issues in Peace and Conflict Studies: Theory, Practice, and Pedagogy, Thomas Matyok, Jessica Senehi, and Sean Bryne (eds). Lanham, MD: Rowman and Littlefield, 2011. تعمل مثل هذه الخطابات إلى حد كبير على توجيه أنواع التدخلات التي تقوم بها الجهات الخارجية التي تسعى إلى التخفيف من حدة الصراع أو تعزيز بناء السلام. ومع ذلك، فإن مثل هذه التدخلات والمفردات يمكن أن تكون مشوبة بالمواقف الأبوية وفرض معايير وتوقعات اجتماعية وثقافية منفصلة عن الطريقة التي ينظر بها الشباب أنفسهم إلى حياتهم، وتفسيراتهم لسياقهم، وطموحاتهم لأنفسهم ومجتمعاتهم.

بنشر هذه الدراسة، تساهم "مبادرة الإصلاح العربي" بتقديم معرفة جديدة عن الشباب العراقي في سياق صراع ما بعد "داعش" وانتفاضة تشرين الحالية، مع الأخذ في الاعتبار كيف يروي الشباب أنفسهم قصتهم وكيف يتنقلون في مساراتهم، وما هي خياراتهم وتطلعاتهم وخطواتهم، وعدم تجانس التجربة المعيشية للشباب، وتفسيرات هذه التجربة. في المقابل، يمكن استخدام هذا البحث القائم على الأدلة لتكييف السياسات والبرامج والاستجابات المصممة للشباب ومعهم وبواسطتهم للتأكد من أنهم يأخذون في الاعتبار الحقائق المتنوعة عن الشباب العراقي اليوم، وللتأكد من أنهم لم يُتركوا وحدهم في فترة ما بعد الصراع.

Endnotes

Endnotes
1 فيما يتعلق بانعدام اليقين والاستقرار، يمكن أن يجد الشباب أنفسهم مستبعدين بشكل مضاعف: فهم ليسوا ضمن أهداف كثير من البرامج القائمة على الحقوق التي تستهدف الأطفال، ويحجبهم أيضاً أصحاب المصالح الكبار الذين يقيدون فرصهم في المشاركة. علاوة على ذلك، فإن مساراتهم في سياقات الصراع -لا سيما الانتقال إلى ما بعد الصراع- محفوفة بالمخاطر بشكل خاص لأنهم لم يكونوا يتمتعون أصلاً بحضور ما قبل الصراع، وهي الحالة التي يمكنهم العودة إليها. مع دخول الشباب مرحلة البلوغ خلال سياق النزاع، فإن استراتيجياتهم الخاصة بسبل العيش والرفاهية تتشكل بالكامل حول الصراع؛ لكن تغير هذا السياق، يمكن أن يجعل هذه الاستراتيجيات بالية وعديمة الفائدة وهو ما يترك الشباب دون أي طريق واضح للمضي قدماً.
2 انظر على وجه الخصوص: Siobhan McEvoy-Levy, “Children, Youth, and Peacebuilding” in Critical Issues in Peace and Conflict Studies: Theory, Practice, and Pedagogy, Thomas Matyok, Jessica Senehi, and Sean Bryne (eds). Lanham, MD: Rowman and Littlefield, 2011.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.