الديمقراطية المحلية: بين المنشود وتعثرات الواقع

ثلاث سنوات مرت على وضع الإطار الدستوري للديمقراطية المحلية في تونس، عبر تخصيص الباب السابع من الدستور - الذي يضم أربعة عشر فصلا - لوضع أسس السلطة المحلية التي تقوم على نظام اللامركزية. ورغم الجهود التي بُذلت من أجل تركز هذا النظام، فإن المسار لا يزال متعثرا. إذ لم يتم بعد وضع القوانين اللازمة لتركيز هذا النظام، حيث لا تزال مجلة الجماعات المحلية قيد الإعداد كما تأجلت الانتخابات البلدية عدة مرات نظرا لعدم التوافق حول قانون الانتخابات البلدية والمحلية الجديد.

وقد طُرحت اللامركزية منذ الاستقلال في إطار مشروع بناء الدولة الوطنية الذي أعطى أولية لمسألتي التحديث والتنمية. إلا أنه عمليا، رُجّحت كفة مركزية الدولة لان اللامركزية تتطلب تقاسم السلطة بين المركزي والمحلي. وهو ما اعتبرته القيادة السياسية أمرا في غير أوانه شأن الديمقراطية. فوقع الحفاظ على التنظيم الاداري لما قبل الاستقلال والذي يقوم على مركزية الدولة التي تدير الشأن المحلي عبر ممثل لها1كان التقسيم الترابي لما قبل الاستقلال يقوم على "المشيخة" و"القيادة". وتم المحافظة على هذا التنظيم مع تغيير التسميات فتحولت المشيخة الى ولاية والقيادة الى معتمدية. ، ومعيّن من قبل السلطة المركزية. ولم يُسمح إلا بانتخاب المجلس البلدي وذلك منذ ١٩٥٧ دون أن تمنح هذه المؤسسة الاستقلالية الكافية رغم ارتباطها بفكرة اللامركزية والديمقراطية المحلية. ويعود ظهور البلديات ـ كنواة للنظام اللامركزي ـ في تونس الى منصف القرن التاسع عشر، حيث تأسست بلدية تونس العاصمة سنة ١٨٥٨. وساهمت السلطة الاستعمارية بشكل كبير في تنامي عدد البلديات. إذ عملت على إحداثها في التجمعات العمرانية التي يكثر بها عدد المستوطنين الاوروبيين.

وبدت الحاجة، بعد ٢٠١١، إلى تركيز نظام يساعد على حل مشاكل التنمية والحد من التفاوت الجهوي. وظهر ذلك من خلال مطالب الأهالي في عدة تحركات اجتماعية تطالب بالتنمية واستثمار الموارد الذاتية في تطوير الجهة وإدخال اصلاحات مؤسساتية تسمح للسكان المحليين بإدارة شؤونهم والتصرف في مواردهم2مثال ذلك الاحتجاجات التي وقعت في مدينة مكثر سنة ٢٠١٢ عندما طالب الاهالي بالتنمية والتشغيل وتحويل البلدية الى ولاية. انظر: turess.com . وقد تمّ حلّ المجالس البلدية سنة ٢٠١١ ليتمّ تعويضها بنيابات خصوصية معينة من قبل رئيس الحكومة بعد استشارة رئيس الجمهورية ورئيس المجلس التأسيسي ونواب الجهة3الفصل ٢١ من القانون التأسيسي عدد ٦ لسنة ٢٠١١ المؤرخ في ١٦ ديسمبر ٢٠١١ يتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية. . لكن خضع تعيين هذه النيابات في الكثير من الأحيان الى المحاصصة الحزبية والحسابات السياسية. لذلك، دعا عدد من النواب والسياسيين الى حلها في أجل معقول قبل الشروع في الإعداد للانتخابات البلدية المقبلة. وهو ما تمّ فعلا وحّلت النيابات الخصوصية في صائفة ٢٠١٦ اعتبارا الى ان الانتخابات كانت مقررة لشهر مارس ٢٠١٧. واسندت المهام والصلاحيات المتعلقة بإدارة الشأن البلدي الى المعتمدين4وفق القانون عدد ٥٢ لسنة ١٩٧٥ المؤرخ في ١٣ جوان ١٩٧٥ المتعلق بضبط مشمولات الاطارات العليا للادارة الجهوية "يساعد المعتمدون الوالي في مباشرة مهامه بالمعتمديات الترابية حيث يضطلعون تحت سلطته بمسؤولية إدارة شؤون مناطقهم" (الفصل ٢٤). و"يتولى المعتمدون في حدود مناطقهم وتحت سلطة الوالي مسؤولية تنشيط وتنسيق مراقبة المصالح المحلية الراجعة بالنظر الى الإدارات المدنية التابعة للدولة" (الفصل ٢٥). . إلا أن هذه الخطة الادارية التي تكون أيضا بالتعيين من السلطة المركزية خضعت بدورها الى المحاصصة الحزبية. من جهة أخرى، كان يُفترض أن يشرف المعتمدون على العمل البلدي لبضعة أشهر، لكن تأجيل الانتخابات البلدية الى أجل غير مسمى أدى إلى جمع هؤلاء بين المهام الموكولة إليهم في إطار اللامحورية كممثلين للسلطة المركزية وتلك التي تُمارس عادة من قبل نواب منتخبين في إطار اللامركزية.

أما على المستوى الحكومي، فقد أحدثت بين ٢٠١١ و٢٠١٣ وزارة التنمية الجهوية والتخطيط، ثم ادمجت مع وزارة التعاون الدولي سنة ٢٠١٣. وأصدرت هذه الوزارة في نوفمبر ٢٠١١ الكتاب الأبيض حول استراتيجيات التنمية الجهوية. وقدمت من خلاله رؤية جديدة تقوم على تحميل الجهات مسؤولية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وفي جانفي ٢٠١٦ أحدثت وزارة الشؤون المحلية عوضا عن خطة كاتب دولة لدى وزير الداخلية مكلف بالشؤون المحلية5احدثت وزارة الشؤون المحلية بمقتضى أمر رئاسي عدد ١ لسنة ٢٠١٦ المؤرخ في ١٢ جانفي ٢٠١٦ المتعلق بتسمية أعضاء الحكومة. . وشرعت هذه الوزارة في العمل على تجسيد المبادئ العامة الواردة في الدستور. في الواقع، بدأت الجهود من أجل تكريس الديمقراطية المحلية منذ ٢٠١١ سواء عبر الإعداد الإطار القانوني أو من خلال الشروع في العمل بالميزانية التشاركية في بعض البلديات سنة ٢٠١٤.  لكن يبدو ان مسار تركيز السلطة المحلية سيحتاج الى سنوات.

مبادئ دستورية واعدة
أولى المشرع الدستوري أهمية خاصة للامركزية فخصص لها بابا كاملا يحمل عنوان "السلطة المحلية". كما أكّد في الفصل ١٤ من الدستور على التزام "الدولة بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني". وفي ذلك تغيير كمي ونوعي مقارنة بدستور ١٩٥٩ الذي خصّص فصلا وحيدا (الفصل ٧١) للجماعات المحلية. كما أدرج مصطلحا جديدا وهو مصطلح "السلطة المحلية" التي منحها الاستقلال الهيكلي والوظيفي واعترف لها بسلطة ترتيبية خاصة في إطار ممارسة صلاحياتها.

وربط دستور ٢٠١٤ اللامركزية بالديمقراطية المحلية والتنمية الجهوية والحوكمة الرشيدة. إذ تكمن أهمية تبني هذا النظام في مدى تكريسه للديمقراطية المحلية وقيم المواطنة. كما أقر الدستور مبادئ جديدة تتمثّل في مبدأ التدبير الحر والديمقراطية التشاركية ومبدأي التضامن والتوازن بين الجهات.

من ناحية أولى، أضاف الدستور مستوى ثالث لللامركزية بأن جعلها تقوم على البلدية والجهة والاقليم. في حين ان التنظيم الترابي كان يقوم على مستويين هما البلدية والولاية. وتجسد هذه الاخيرة في نفس الوقت اللامحورية واللامركزية. إذ أن الوالي هو في نفس الوقت ممثل السلطة المركزية ورئيس المجلس الجهوي. ولم تكن البلديات تغطي سوى ١٠٪ من التراب التونسي أي أن نسبة ٦٨٪ فقط من السكان معنيين بالفضاء البلدي6انظر: وزارة الشؤون المحلية، "السلطة المحلية: التحديات والرهانات"، مارس ٢٠١٦ . بالتالي يترك التقسيم الترابي، كما هو عليه إلى حد الآن، نسبة كبيرة من المواطنين خارج الدائرة الترابية للبلدية وخاصة في المناطق الريفية. فيُحرم هؤلاء من حقهم في اختيار من يمثلهم في إدارة الشأن المحلي. وقد تدارك الدستور الحالي هذه الوضعية في توسيع رقعة المشاركة السياسية عبر وضع هياكل منتخبة سواء مباشرة (مجلس البلدية ومجلس الجهة) او بصفة غير مباشرة (مجلس الاقليم) تغطي كامل تراب الجمهورية.

من ناحية ثانية، فتح الدستور الحالي المجال أمام المواطن والمجتمع المدني للمساهمة في الشأن العام وخصوصا فيما يتعلق بالتنمية الجهوية. فقد نص الفصل ١٣٩ من الدستور على ان "تعتمد الجماعات المحلية على آليات الديمقراطية التشاركية ومبادئ الحوكمة المفتوحة لضمان إسهام أوسع للمواطنين والمجتمع المدني في إعداد برامج التنمية والتهيئة الترابية ومتابعة تنفيذها". فتعطي اللامركزية خصوصا للفاعل المحلي استقلالية التخطيط والتنفيذ دون التقيد بالبرامج الوطنية.

ومن مزايا اللامركزية التي أكد عليها دستور جانفي ٢٠١٤ هو دعم التنمية المحلية والجهوية باعتبار انها نظام يسهل تحقيق المساواة والعدالة بين مختلف المناطق والجهات. بالتالي تتمكن السلطة المحلية من تحسين مستوى عيش المواطن. فهي تسمح للسكان المحليين من إدارة مواردهم بما تقتضيه حاجاتهم وايجاد حلول تتماشى مع الخصوصيات المحلية والجهوية. وقد أحدث الدستور في هذا الإطار مجلس أعلى للجماعات المحلية ينظر في "المسائل المتعلقة بالتنمية والتوازن بين الجهات ويبدي الرأي في مشاريع القوانين المتعلقة بالتخطيط والميزانية والمالية المحلية" (الفصل ١٤١).

ومكن الدستور الجماعات المحلية من موارد ذاتية وأخرى محالة إليها من السلطة المركزية. وألزم هذه الأخيرة بالعمل "على بلوغ التكافئ بين الموارد والأعباء المحلية" (الفصل ١٣٦). إذ يجب ان تكون الموارد ملائمة للصلاحيات المسندة قانونا للجماعات المحلية (الفصل ١٣٥). ولها حرية التصرف في هذه الموارد حسب "قواعد الحوكمة الرشيدة وتحت رقابة القضاء المالي" (الفصل ١٣٧).

ولا يمكن تحقيق اللامركزية إلا عبر إسناد السلطات المحلية صلاحيات حقيقية لإدارة الشؤون المحلية التي تتمايز عن الشؤون الوطنية، وعبر منح هذه السلطات الى ممثلين منتخبين في إطار عملية انتخابية نزيهة وشفافة. وفي هذا الإطار، أكد الفصل ١٣٢ من الدستور على أن "تتمتع الجماعات المحلية بالشخصية القانونية وبالاستقلالية الادارية والمالية وتدبير المصالح المحلية وفقا لمبدأ التدبير الحر". وتجدر الاشارة هنا الى أن دعم صلاحيات الجماعات المحلية واستقلالها لا يضعف بأي حال الدولة المركزية ولا يهدد وحدتها. فهي تواصل ممارسة سلطة الرقابة. ويتم توزيع الصلاحيات بين السلطة المركزية والسلطة المحلية بحيث يكون لهذه الاخيرة صلاحيات ذاتية وصلاحيات مشتركة مع السلطة المركزية واخرى منقولة منها (الفصل ١٣٤ من الدستور).

بطء وضع الإطار القانوني
وضع الدستور المبادئ الأساسية للسلطة المحلية وأحال الى القانون المسائل التنظيمية. وقد أحال المشرع الدستوري صراحة عدد من المسائل إلى القانون. وتتمثل هذه المسائل في تنظيم المستويات الثلاث لللامركزية (البلدية والجهة والاقليم)، وإحداث "أصناف خصوصية من الجماعات المحلية" (الفصل ١٣١ من الدستور)، و"تحديد النظام المالي" (الفصل ١٣٤)، وضبط تركيبة المجلس الأعلى للجماعات المحلية وتحديد مهامه (الفصل ١٤١). وهذا يتطلب مراجعة الإطار القانوني الحالي الخاص بالجماعات المحلية خصوصا قانون ٤ فيفري / فبراير ١٩٨٩ المتعلق بالمجلس الجهوي وقانون ١٤ ماي / مايو ١٩٧٥ المتعلق بالبلديات. كما يتطلب الامر أيضا وضع قانون انتخابي خاص بالانتخابات المحلية والجهوية ومراجعة مجلة الجباية المحلية.

وتكمن أهمية مجلة الجماعات المحلية ـ التي الشروع في إعدادها منذ ٢٠١٤ ـ في أنها ستحدد صلاحيات هذه الجماعات وعلاقتها ببعضها البعض والحدود الترابية لكل منها. كما ستضع آليات الديمقراطية التشاركية وآليات الرقابة على الجماعات المحلية. ورغم أنه تم انتهاج منهج تشاركي في وضع هذه المجلة عبر تشريك المجتمع المدني في إعداد المشروع ثم عرضه على الاستشارة الوطنية، فإنها تحمل العديد من النقائص كعدم ضبط معايير التمييز الايجابي بين الجهات بشكل واضح وإعطاء إمكانية حل المجلس البلدي للسلطة التنفيذية.

وقد اقتضى الفصل ١٣٣ من الدستور أن يُنتخب أعضاء المجالس البلدية والمجالس الجهوية انتخابا عاما حرا مباشرا سريا نزيها وشفافا مع ضرورة ضمان تمثيل الشباب بهذه المجالس. في المقابل جعل انتخاب مجالس الاقاليم غير مباشر، إذ يتم من قبل أعضاء المجالس البلدية والجهوية. وهو ما دعا إلى ضرورة تنقيح قانون الانتخابات والاستفتاء لإضافة جزء يتعلق بالانتخابات المحلية والجهوية.

وبدأ العمل على المشروع في جانفي / يناير ٢٠١٥. وعُرض على مجلس الوزراء بتاريخ ٢٧ أوت / أغسطس ٢٠١٥. وقبل أن يعرض على مجلس نواب الشعب في ١١ جانفي / يناير ٢٠١٦ تم عرضه على الاستشارة الوطنية في سياق تشاركي مع المجتمع المدني. وقد مرتّ سنة كاملة على عرض مشروع القانون على المجلس النيابي دون ان يعرض على الجلسة العامة. فرغم التوافق حول عدد من النقاط الخلافية، كالتناصف الأفقي والعمودي ونظام الاقتراع ونظام تمويل الحملات الانتخابية، فلا تزال الامور عالقة بسبب عدم الاتفاق حول نقطتين هما مشاركة الامنيين والعسكريين والعتبة الانتخابية. إذ لم تتفق الكتل البرلمانية حول الفصل السادس من المشروع الذي يستثني الجيش الوطني والامن الوطني والحماية المدنية وموظفي الديوانة ومصالح السجون من الانتخابات. وكان حزب نداء تونس من أكثر المتمسكين بمراجعة هذا الفصل للسماح لهؤلاء بالمشاركة في الانتخابات، باعتبار ان ذلك لا يؤثر على حياد المؤسستين العسكرية والامنية المنصوص عليه في الدستور، نظرا الى اختلاف طبيعة الانتخابات البلدية عن الانتخابات التشريعية والرئاسية. في المقابل تعارض حركة النهضة منح حق التصويت للامنيين لان ذلك قد يهدد العملية السياسية والانتقال الديمقراطي. وعبرت النقابات الامنية عن تمسك الامنيين بممارسة حقهم الانتخابي لأنه يتعلق بحقوق المواطنة المكفولة بالدستور.

وتمّ تأجيل التصويت على القانون أكثر من مرة بسبب عدم الوصول الى توافق حول المسائل العالقة. وهو ما تسبب في تأجيل إجراء الانتخابات البلدية والجهوية. وقد كانت هذه الانتخابات مقررة في اكتوبر ٢٠١٦ ثم تأجلت الى ٢٦ مارس ٢٠١٧ لترجأ مرة أخرى إلى أجل غير معلوم. ويُشترط للتمكن من إجرائها في أكتوبر ٢٠١٧ التصويت على القانون قبل مُوفّى شهر فيفري / فبراير ٢٠١٧. واعتبر رئيس الهيئة العليا للانتخابات ارجائها الى ٢٠١٨ "كارثة بكلّ المقاييس"7mosaiquefm.net شبكلّ المقاييس"دخل السلطة النم الاقتراع ونظام تمويل الحملات الانتخابية، تتأجل مرة أخرى لسلطة وحمّل مسؤولية هذا التأخير للسياسيين واعتبره "تأخير متعمد"8huffpostarabi.com بسبب حسابات حزبية. ويتهم البعض نداء تونس بالمماطلة لعدم جهوزية الحزب للمشاركة في الانتخابات نظرا للازمات الداخلية التي يمرّ بها. واعتبر عدد من النشطاء في المجتمع المدني ان القانون وُضع لصالح الأحزاب الكبرى ويقصي الأحزاب الصغرى. وذهب بعضهم الى أن القانون صيغ على مقاس الأحزاب الكبرى9assabah.com.tn .

التحديات والمخاطر
لا يكفي وضع الإطار القانوني للإرساء "السلطة المحلية". فهي عملية معقدة تتطلب موارد مالية وبشرية ومؤسساتية كبيرة ووقتا طويلا. في هذا السياق، قدّرت وزارة الشؤون المحلية مسار تجسيد اللامركزية بتسعة سنوات من خلال الخطة الاستراتيجية التي وضعتها وعرضتها على مصادقة مجلس الوزارء بتاريخ ٢٥ جوان ٢٠١٥. وتضم هذه الخطة ثلاث مراحل، تدوم كل منها ثلاث سنوات. فيتم في المرحلة الاولى تركيز لجان عديدة تشاركية لوضع تصورات للإرساء اللامركزية. ويكون الانطلاق الفعلي في تحويل الصلاحيات القطاعية للجماعات المحلية خلال المرحلة الثانية. وتتعلق هذه الصلاحيات بالخدمات الأساسية المسداة للمواطنين. وتُحوّل بقية الصلاحيات ذات الطابع الاقتصادي والثقافي والاجتماعي المرتبطة بالتنمية خلال الثلاث سنوات الاخيرة.

ويبدو انه يوجد عدة تحديات أمام إرساء اللامركزية وتجسيد المبادئ المعلنة في الدستور. وتتمثل أول هذه التحديات في مسألة التقسيم الترابي الجديد. فالجهة ستحدث في نفس الدائرة الترابية للولاية التي ستبقى بصفتها وحدة ترابية للدولة وامتدادا للسلطة المركزية، في حين أنه كان من الأفضل تحديد الجهة بشكل مختلف تفاديا لسلبيات التقسيم الترابي الحالي من ناحية وتفاديا للتداخل بين الإدارة الجهوية والحكم المحلي من ناحية أخرى. وهو ما يتطلب مراجعة القانون المتعلق بالإطارات الجهوية لضمان عدم تدخل السلطة التنفيذية في المجال المحلي.

أما التحدي الثاني فيتمثل في تعميم النظام البلدي على كامل تراب الجمهورية. وقد تمّ إقرار برنامج التعميم البلدي خلال مجلس الوزارء المنعقد في ٩ مارس ٢٠١٦. واقتضى هذا البرنامج توسعة ١٨٧ بلدية لإدماج المناطق غير البلدية وإحداث ٨٦ بلدية جديدة. لكن هذه البلديات لم تركز بعد نظرا الى الافتقار إلى الموارد المالية والبشرية اللازمة.

ويتعلق التحدي الثالث بالموارد المالية اللازمة لتحقيق اللامركزية. فممارسة الصلاحيات الذاتية والمنقولة للجماعات المحلية مرتبط بمدى توفر الموارد. وهذا قد يقلل من هذه الصلاحيات للبلديات الفقيرة بحجة عدم توفر الموارد اللازمة خصوصا في ظل الظروف الاقتصادية والمالية التي تمر بها الدولة. كما أن الجباية المحلية ـ كمورد رئيسي ـ يفترض وجود نسيج سكاني قادر على دفع الضريبة. كما يفترض أيضا مراجعة مجلة الجباية المحلية بشكل يتماشى مع النظام الجديد. من ناحية أخرى، تحتاج الجماعات المحلية الى موارد مالية وبشرية كبيرة من أجل خلق الاستثمارات والمحافظة عليها. وهذا يتطلب تحديث الهياكل وتدريب الموظفين المحليين ووضع نظام قانوني خاص بهذا النوع من الموظفين العموميين.

يطرح إضافة مستوى ثالث من اللامركزية (الاقليم) صعوبات على مستوى التقسيم الترابي إضافة الى عدم وضوح الحد بين الجهة والاقليم

أما من حيث المخاطر، لكن ذلك له مخاطر إذ يمكن ان تثار النعرات الجهوية والقبلية. وخاصة فيما يتعلق بتحديد عاصمة الجهة والاقاليم.

الخلاصة

يُعتبر تركيز السلطة المحلية ووضع المبادئ الدستورية في هذا الخصوص موضع التنفيذ من الامور الملحة والمتأكدة من أجل دفع بعجلة التنمية الجهوية وتحقيق التوازن بين الجهات على مدى متوسط بعيد. لكن في نفس الوقت، لا تملك الدولة الموارد الكافية لتجسيد اللامركزية من ناحية، وتقف الخلافات السياسية عقبة امام تنفيذ هذا المشروع. فيبدو وكأننا ندور في حلقة مفرغة يجب كسرها في سبيل البدء في الاصلاحات الهيكلية التي تحتاجها البلاد. وإن كان طريق تركيز السلطة المحلية طويل مكلف، إلا انه يمكن القيام ببعض الخطوات تفتح الطريق أمام الاصلاح والتنمية. وقد قدّم المجتمع المدني، سواء ما أبدي من ملاحظات خلال الاستشارة الوطنية أو من خلال تقارير الجمعيات التي تعمل على هذا الموضوع، الكثير من التوصيات الوجيهة، البعض منها قابل للتطبيق في المدى القريب ومنها ما يحتاج الى أكثر وقت. ومن الامور الملحة التي يمكن الانطلاق في تحقيقها الآن نذكر:

  • ضرورة التصويت على القانون الانتخابي وحسم الخلاف عبر التصويت وتجنب البحث عن توافق لان ذلك دون جدوى.
  • عدم الفصل بين الانتخابات المحلية والانتخابات الجهوية حتى لا يتعطل انتخاب مجالس الاقاليم وإحداث المجلس الاعلى للجمعات المحلية.
  • إعادة النظر في التقسيم الترابي على اساس مراعاة الخصوصيات الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية بشكل يخدم التنمية في الجهات ويقضي على التفاوت الجهوي.
  •  الشروع في تكوين الاطارات المحلية التي ستتولى إدارة الجماعات المحلية

Endnotes

Endnotes
1 كان التقسيم الترابي لما قبل الاستقلال يقوم على "المشيخة" و"القيادة". وتم المحافظة على هذا التنظيم مع تغيير التسميات فتحولت المشيخة الى ولاية والقيادة الى معتمدية.
2 مثال ذلك الاحتجاجات التي وقعت في مدينة مكثر سنة ٢٠١٢ عندما طالب الاهالي بالتنمية والتشغيل وتحويل البلدية الى ولاية. انظر: turess.com
3 الفصل ٢١ من القانون التأسيسي عدد ٦ لسنة ٢٠١١ المؤرخ في ١٦ ديسمبر ٢٠١١ يتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية.
4 وفق القانون عدد ٥٢ لسنة ١٩٧٥ المؤرخ في ١٣ جوان ١٩٧٥ المتعلق بضبط مشمولات الاطارات العليا للادارة الجهوية "يساعد المعتمدون الوالي في مباشرة مهامه بالمعتمديات الترابية حيث يضطلعون تحت سلطته بمسؤولية إدارة شؤون مناطقهم" (الفصل ٢٤). و"يتولى المعتمدون في حدود مناطقهم وتحت سلطة الوالي مسؤولية تنشيط وتنسيق مراقبة المصالح المحلية الراجعة بالنظر الى الإدارات المدنية التابعة للدولة" (الفصل ٢٥).
5 احدثت وزارة الشؤون المحلية بمقتضى أمر رئاسي عدد ١ لسنة ٢٠١٦ المؤرخ في ١٢ جانفي ٢٠١٦ المتعلق بتسمية أعضاء الحكومة.
6 انظر: وزارة الشؤون المحلية، "السلطة المحلية: التحديات والرهانات"، مارس ٢٠١٦
7 mosaiquefm.net شبكلّ المقاييس"دخل السلطة النم الاقتراع ونظام تمويل الحملات الانتخابية، تتأجل مرة أخرى لسلطة
8 huffpostarabi.com
9 assabah.com.tn

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.