الخارطة الثقافية: أداة عملية في التنمية وفي بناء السلام

بالمشاركة الفعالة للمجتمع المدني، يمكن للخارطة الثقافية أن تنتج مسارات تجمع المواطنين وتمهد للتماسك الاجتماعي وتحقيق العدالة الانتقالية وتكون أداة لوضع البرامج التنموية المحلية والجهوية وبناء السلم الأهلي.

الخارطة الثقافية: أداة عملية في التنمية وفي بناء السلام
نموذج من الأعمال النسيجية المشتركة بين عديد من الثقافات في سوريا © حسان عباس

Summary

في ورقة لمبادرة الإصلاح العربي يكتب الباحث حسان عباس عن الخارطة الثقافية وأهميتها في إنتاج مسارات تجمع المواطنين وتمهد للتماسك الاجتماعي وتحقيق العدالة الانتقالية وكيف يمكنها ان تكون أداة لوضع البرامج التنموية المحلية والجهوية، مركزا على ضرورة المشاركة الفعالة للمجتمع المدني لبلوغ أهدافها.

وتقدم الدراسة لمفهوم الخارطة الثقافية كأداة عملية ومعرفية لتحسين شروط حياة الناس في أماكن تواجدهم اعتماداً على مواردهم الثقافية، ويُعتمد في بناءها على ثلاثة مراحل متتالية في الزمن ومترابطة: التوثيق، التحليل والتفعيل.

فيتم في المرحلة الاولى حصر الموارد الثقافية في المجال المراد بناء خارطته (كحي أو بلد). ويشمل الحصر الموارد المادية الثابتة والمنقولة والموارد اللامادية والطبيعية. ويجب أثناء عملية الحصر اعتماد منهج متعدد المسارات (الرسمي، العلمي، العام، التحاوري والتفاعلي) يتيح التوصل إلى أوسع مخزون معلومات ممكن عن المصادر، وتاريخها، وأهميتها في حياة المجتمع الذي توجد فيه.

اما مرحلة التحليل فتركز على تبيان نقاط القوة ونقاط الضعف الخاصة بكل مورد من الموارد التي جرى توثيقها وإبراز الشبكة التعالقية التي تربط المواطنين بأهم الموارد الموثّقة. في هذه المرحلة، يتم الاعتماد على آليات مجموعات الحوار المصغّرة لوضع خطط التدخل، وتكتسب هذه الحوارات فعالية أكبر إذا كان العاملون في بناء الخارطة قد تبينوا الوجهة التي سيجتهدون في التقدم نحوها في مرحلة التفعيل.

وتبدأ عملية التفعيل، عملياً، بوضع خطة، أو خطط، التدخل اعتماداً على النتائج التي خلصت إليها مرحلة التحليل، وتبنى الخطة حسب التوجهات المرادة لها. فقد تكون هذه التوجهات تنموية – وهذا أكثر ما وُضِعت من أجله الخرائط الثقافية حتى الآن – كما يمكن أن تكون اجتماعية وسياسية تتطلع إلى بناء “السلم الأهلي” في مجتمعات خارجة من الحرب.

ويرى الباحث أن بناء السلم الأهلي يمكن أن يقدم واحداً من المجالات الخصبة لتفعيل الخارطة الثقافية. فعملية بناء الخارطة في مرحلتها الأولى هي بذاتها عملية بناء سلام لأن الجميع، من شتى الجبهات المتحاربة، يعملون في مشروع مشترك هو توثيق موارد الفضاء الذي يعيشون فيه.

اقرأ المزيد

تُعرّف الخارطة الثقافية، بشكل مختصر، بكونها أداة معرفية عملية، أو معرفية وعملية، غايتها تحسين شروط حياة الناس في أماكن تواجدهم اعتماداً على مواردهم الثقافية.

لا بد من التنويه بداية إلى أن كلمة "الثقافة" المقصودة هنا لا تنحصر دلالتها في المجال الضيق الذي يتم تداولها به عادة في وسائل الإعلام، وفي الخطابين السياسي والمعرفي، والذي يشير إلى المنتجات والإبداعات ذات الحمولة المعرفية، التي ينتجها إنسان صاحب خبرة في هذا المجال، وإنما يتّسع مجال الدلالة هنا، مستنداً إلى قطيعة مزدوجة مع الدلالة الشائعة تلك:

القطيعة الأولى تتوقف عن تحديد الثقافة بالمنتجات الثقافية لتشمل كل العلاقات الفكرية والعاطفية والروحية والجسدية التي تنشأ بين الإنسان والموارد الثقافية، أي العناصر المادية واللامادية المحيطة به. فهذه العلاقات، شكلها، طبيعتها، عمقها... هي التي تحدد ثقافة الإنسان.

القطيعة الثانية تتخلى عن دلالة الثقافة كوعيٍ للعالم، لا يتجاوز دائرة المعرفة بما هو موجود، وتقصيها عن البعد العملي الذي يضيف إلى المعرفة بما هو موجود الممارسة المادية والعمل لتكييف شروط العيش الإنساني. مع هذه القطيعة يتحوّل الإنسان من عارف بحاله الثقافي إلى فاعل يتدخل في هذه الحال، كأن يستثمرها مثلاً في بناء أوضاع أو شروط جديدة تجعل حياته أحسن مما هي عليه.

بناء الخارطة الثقافية

اعتماداً على دلالة كلمة "ثقافة" المبيّنة أعلاه يتم بناء الخارطة الثقافية. ويفترض هذا البناء اتباع ثلاث مراحل متتالية في الزمن ومترابطة، مع العلم أن المرحلة الواحدة لا تفترض بالضرورة حصول المرحلة اللاحقة، لكن مرحلة لاحقة لن تكون ممكنة من غير التأسيس على مرحلة سابقة. يمكننا عنونة المراحل الثلاث على النسق الآتي: 1- التوثيق، 2- التحليل، 3- التفعيل.

المرحلة الأولى: التوثيق

يُقصد من التوثيق حصر الموارد الثقافية في المجال المراد بناء خارطته. قد يكون هذا المجال متناهياً في الصغر (حيٍّ منعزل مثلاً) أو ممتداً على اتساع البلد. لكن لا شك أن دقّة النتائج في عملية التوثيق تتناسب عكساً مع اتساع المجال المدروس. فنحن سنعرف عن تفاصيل حي صغير أفضل بكثير مما قد نعرفه عن بلدة أو مدينة أو وطن.

والموارد الثقافية التي يجب حصرها في المجال المدروس هي كل ما يتعلّق، بطريقة ما، بملمح من الملامح المميزة لثقافة الناس، أو لمجموعة من الناس، المقيمين في هذا المجال، وذلك اعتماداً على تعريف الثقافة الذي اعتمدته اليونيسكو في "إعلان مكسيكو حول السياسات الثقافية"، الصادر يوم 26 آب/أغسطس 1982 عن "المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية"، المنعقد في مكسيكو سيتي وينص على أن "الثقافة في معناها العام هي مجموع العلامات المميزة الروحية والمادية والعاطفية والفكرية التي تميز مجتمعاً بعينه أو جماعة. وهي تتضمن الفنون والآداب وطرائق العيش والحقوق الأساسية للناس، والنظم القيمية، والتقاليد والمعتقدات". واعتماداً على هذا التعريف تنقسم الموارد الثقافية إلى أربع فئات أساسية، تتشعّب نزولاً إلى فئات أصغر فأصغر لتصل إلى الموارد المحددة. هذه الفئات هي:

  1. الموارد المادية الثابتة: وهي كل ما نتج عن عملية ملء لفراغ، أو شغلٍ لفضاء، قام بها الإنسان لغاية وظيفية أو جمالية (الآثار، العمارة، المشيدات بشتى وظائفها، النصب التذكارية...). وهي أيضاً كل ما اخترعه الإنسان من تقنيات وحلول عملية للقضايا التي تعترضه في حياته: (قنوات نقل المياه، النواعير، مركبات فضائية...).
  2. الموارد المادية المنقولة: وهي كل مُنتَج صناعي أو يدوي يستفيد منه الإنسان في حاجاته المادية واللامادية (الأطعمة والأشربة، العقاقير، الأعمال الفنية، الملابس...)، أو يحتاج إليها كوسيط في عمل ما (الأدوات الموسيقية، الأدوات الحرفية...).
  3. الموارد اللامادية: وهي كل ما ليس له وجود مادي ملموس، وغالباً ما يكون ذا تأثير عميق في العلاقات داخل الجماعة وفي علاقاتها مع العالم المحيط (العبادات، الشعر، الحكايات، الطقوس، الرقص، تقاويم سنوية للفلاحة، عدّانات "حصص" توزيع المياه، أنظمة الاتصالات...)، وهي أيضاً الخبرات والقدرات التي تنتج موارد مادية.
  4. الموارد الطبيعية: وهي الفضاءات التي ترسم طبيعة المكان الذي تعيش فيه الجماعة (الصحراء، الكهوف، الجبال، الشطآن، البحيرات...)، إضافة إلى مكونات هذه الفضاءات (الأشجار، الغطاء النباتي، الحيوانات...).
الموارد الثقافية
أ- مادية ثابتة ب- مادية منقولة ج- لا مادية د- طبيعية
آثار ومتاحف طب شعبي حكايات جبال
أبنية وعمارات لقى أثرية عقائد مياه
مشيدات دينية أطعمة أدب وشعر مغاور
مشيدات ثقافية أشربة طقوس غابات
مشيدات سياحية أشغال حرفية أعياد شعبية أحراش
مشيدات خدمية أعمال فنية رموز بحيرات
منشآت عملية أدوات موسيقية رقص وموسيقى شطآن
كتب وصحافة ألعاب حيوانات

بين الموارد الثقافية الموجودة في المكان المختار للدراسة، والناس الساكنين في هذا المكان، وشائج لا يمكن للباحث الغريب عن المنطقة أن يكتشفها بسهولة، أو قد تُحجب عنه عمداً لأسباب قد ترتبط بمكانة مقدسة، لا يجوز مسُّها، يسبغها الناس على بعض هذه الموارد، أو بسردية محرِجة، لا يجوز قولُها، تدفعهم إلى إخفائها في حيّز المسكوت عنه. لذلك، يصبح من الضرورة بمكان، عند متابعة عملية التوثيق، تجنّب الاكتفاء بمصدر معلومات وحيد عن الموارد، وتوسّل التنوع بالمصادر. وهذا ما يعني ضرورة اعتماد منهج متعدد المسارات يتيح التوصل إلى أوسع مخزون معلومات ممكن عن المصادر، وتاريخها، وأهميتها في حياة المجتمع الذي توجد فيه.

هذا المنهج متعدد المسارات يتضمن خمسة مسارات أساسية هي:

  1. المسار الرسمي: ومجال عمله يشمل المعلومات والمساعدات التي توفرها الإدارات الحكومية ذات الاختصاص. يمثّل عالم الوثائق الحكومية والإدارية بحراً بالغ الثراء لفهم تعالق الناس الاجتماعي، (أو La reliance sociale بالمعنى الذي يعطيه عالم الاجتماع البلجيكي "مارسيل بول دي بال"1Bolle De Bal, Marcel. «Reliance, déliance, liance: émergence de trois notions sociologiques», Sociétés, vol.no 80, no. 2, 2003, pp. 99-131. لهذا المصطلح)، ولتحديد الموارد الثقافية وفهم علاقات الناس بها. تسمح لنا الإحصائيات (إن كانت صحيحة) بمعرفة عدد الأشجار المزروعة في المكان وأنواعها، وتسمح بمعرفة عدد السكان وتنوعهم الطائفي والقومي...).
  2. المسار العلمي: وموضوعه الدراسات العلمية المعمقة التي يقوم الباحثون المتخصصون بوضعها حول الموارد الثقافية الأساسية.
  3. المسار العام: وموضوعه الأساسي هو الاستبيانات والمسوحات التي توزّع على شرائح نموذجية من المواطنين أو الأسر، وتحدد بشكل ملموس مدى عمق ارتباط الناس بالموارد (مثلاً عدد العائلات التي تضع في بيوتها رموزاً دينية أو نذراً يحدد بشكل مباشر عمق العلاقة مع المعتقدات، ويؤشر إلى درجة تديّن المجتمع).
  4. المسار الحواري: وموضوعه اللقاءات الفردية (وجهاً لوجه) مع الوجهاء المحليين ذوي الخبرة العملية، أو ذوي الاطلاع الواسع على المنطقة. عادة ما يقدّم هؤلاء معلومات من ذاكرتهم قد لا نجدها في أية وثيقة علمية أو إدارية مما يجعل ذاكرتهم الشفهية مورداً ثقافياً بحد ذاته يجب أن يوثّق ويحافظ عليه.
  5. المسار التفاعلي: وموضوعه حلقات الحوار التي تعقد مع ممثلين عن القرى أو عن الفعاليات الاجتماعية في المنطقة. وتفيد هذه الحلقات في التعرّف على آليات التشارك الحقيقية بين الناس وبينهم وبين مواردهم الثقافية.

يمكن لعملية وضع الخارطة الثقافية أن تتوقف عند نهاية هذه المرحلة حيث تتم أرشفة المعلومات المجمّعة من المسارات المختلفة أرشفة منهجية منظّمة لتشكّل وثيقة مرجعية للذاكرة الجمعية في الزمن الذي وُضعت فيه، أو لتصبح مخزن معلومات، أو لتتم الاستفادة منها في وضع خرائط تفاعلية أو أي أدوات أخرى مما تتيحه تقنيات وسائط الاتصال التعددية Multimédia. ويمكن أن توضع هذه الأدوات تحت تصرف أهل المنطقة، ومنظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الحكومية لتبنى عليها المرحلة الثانية من البناء العام للخارطة الثقافية وهي المرحلة الخاصة بالتحليل.

المرحلة الثانية: التحليل

بعد التعرّف على الموارد المكوّنة للخارطة وتوثيقها، يتشكل لدى القائمين على بناء الخارطة بنك معلومات هائل يختلف حجمه تبعاً لمجموعة من العوامل، وأهمها:

- اتساع المنطقة المدروسة: إذ يمكن بناء خارطة لوحدة سكنية أو إدارية صغيرة يمكن أن تكون مخيماً للاجئين أو حيّاً سكنياً في مدينة صغيرة أو منتزهاً طبيعياً، وعندها لا تشكل المعلومات الموثّقة حجماً صعب التناول. كما يمكن أن تكون المنطقة واسعة جداً كحوض نهر مثلاً، أو مدينة، أو بلدٍ كاملٍ، وعندها لن يكون من السهل التعامل مع الحجم الكبير للمعلومات الموثّقة.

- الغنى الثقافي للمنطقة المدروسة: إذ يتناسب كم المعلومات الموثّقة طرداً مع الغنى الثقافي للمنطقة ولنا أن نتصور حجم الاختلاف بين ما يمكن جمعه من معلومات لمدينة منشأة حديثاً، مدينة ملحقة بمنشأة صناعية جديدة، أو ضاحية سكنية مستحدثة مثلاً، وما يمكن جمعه عن مدينة عريقة وحيّة كانت عاصمة لحضارات متعاقبة عبر التاريخ على سبيل المثال.

- فاعلية المجتمع المدني: بناء الخارطة الثقافية فعّالية مدنية بامتياز. حيث أن كل مراحلها تعتمد بشكل أساسي على مشاركة المجتمع المدني، منظمات وأفراداً. فإدارة العملية بكاملها لا يمكن أن يقوم بها فرد أو عدد من الأفراد، ولا بد من مؤسسة مستقلة تتصدى لها. والمسارات التي تؤطّر سير العمل في المراحل الثلاث هي، بغالبيتها، مسارات مدنية، وكلّما اتسعت قطاعات المجتمع المدني العامل فيها كلما زاد حجم المعلومات المجموعة عن المنطقة.

تجسر مرحلة التحليل بين عملية التوثيق وبناء بنك المعلومات من جهة ومرحلة التفعيل التي يجري فيها وضع استراتيجيات التدخل من جهة ثانية، ويتركز العمل خلالها على عدد من القضايا:

1- تبيان نقاط القوة ونقاط الضعف الخاصة بكل مورد من الموارد التي جرى توثيقها في المرحلة الأولى. فمن نافل القول إن الموارد الثقافية التي يجري استغلالها من المواطنين المقيمين في مكان ما تمثل جزءاً صغيراً من مجموع الموارد التي يتضمنها. وهذا يعود إلى أسباب عديدة، منها أن السكان يعتادون على وجود المورد "فيزيائياً"، أو "عاطفياً"، أو "روحياً"، ولم يخطر ببالهم قبلاً تفعيله أو بناء استراتيجيات تدخّل تركّز عليه أو تشمله لعدم بروز الحاجة ربما، أو لكثافة الهالة القدسية التي يحيطونه بها. زد على ذلك أن بعض الموارد يتراجع اهتمام الناس بها بفعل التقدم العلمي والاجتماعي، مثال ذلك أشكال اللقاءات الاجتماعية المسائية الموسّعة في الأرياف، التي كانت تمثل مطرحاً بالغ الأهمية للحفاظ على توهج التراث اللامادي، ولترسيخ الذاكرة الجمعية، وهي اللقاءات التي تبددت وحلت محلها السهرات العائلية المصغرة حول التلفزيون مع دخول الكهرباء إلى الريف.

يعتمد تحليل نقاط القوة ونقاط الضعف لمورد ثقافي ما، بالدرجة الأولى، على موقف سكان المنطقة من هذا المورد. إذ لا يجوز أن تبنى استراتيجيات تدخّل مخالفة لقناعات أهل المنطقة. لكن في بعض الحالات، مثل حالات ما بعد النزاع تحديداً، تنتقل المعركة إلى القناعات أيضاً وقد يصبح من الصعب جداً الالتزام بهذا المبدأ القطعي. كما قد تقدم بعض الدراسات المنجزة في المسار العلمي معطيات وتصورات تتناقض مع الأفكار السائدة حول مورد ما. كأن يتفق سكان مقيمون بجوار أحراج جبلية على بناء مصعد كهربائي (تلفريك) لقناعتهم أن مشروعاً كهذا سيساهم في تنمية المنطقة بينما قد يؤدي، حسب الدراسة العلمية، إلى تخريب البيئة والقضاء على الغطاء النباتي بعد وقت قصير.

2- إبراز الشبكة التعالقية التي تربط بين المواطنين من جهة وبينهم وبين أهم الموارد الموثّقة من جهة أخرى. فالخارطة الثقافية، وإن بدا أنها تركّز على الموارد الثقافية، يبقى الإنسان موضوعها الأساس، وتبقى حياته بكرامة ورخاء وسلام، غايتها الأخيرة. وعليه لا تكتسب الخارطة الثقافية معناها الحقيقي إلا إذا وضع القائمون على عملية بنائها هذا الأمر نصب أعينهم، ووجّهوا عملهم نحو غايتها المرجوة.

تسمح دراسة التعالق الاجتماعي بين المواطنين بالتعرف على الآليات والتشابكات التي يقيمها، بوعي أو بغير وعي، الأفراد المختلفون في الثقافة والخبرة والمكانة الاجتماعية أو الاقتصادية بين بعضهم، أي الأفعال الرابطة بين الناس (l'acte de reliance) من جهة، ونتائج تلك الأفعال، أو حالة الترابط الاجتماعي (l'état de reliance) من جهة ثانية. كذلك تسمح دراسة التعالق بتبيان الآليات والتشابكات التي تربط الأشخاص بالموارد الثقافية، وما ينتج عن هذه الآليات من علاقات خاصة مع هذه الموارد. وتساهم هذه المعرفة مساهمة لا تقدر بثمن في إيضاح ميكانيزمات التماسك الاجتماعي، وميكانيزمات بناء الهوية المشتركة. فالمواطنون المختلفون بفردانياتهم حين يبنون، كل من خصوصيته، علاقة خاصة، محلية أو مناطقية أو جماعية مع المورد الثقافي؛ يبنون في الوقت نفسه شبكة تشاركية تجمعهم مع بعضهم، وتجمع بينهم وبين المورد. ومن الأمثلة البسيطة على هذه التشاركية يمكننا أن نذكر القوالب الموسيقية التقليدية، فالقالب الموسيقي التقليدي يستثمره المواطنون ليسكبوا فيه، كلٌ حسب انتماءاته الثقافية الخاصة، التعبير عن هذه الانتماءات فتنبني شبكة ارتباطات بين هؤلاء المختلفين فردياً، فيصبح فيها هذا القالب مؤشراً على وجود هوية مشتركة، وعاملاً في تعزيز التماسك الاجتماعي. وعلى مستوى آخر، يمكننا ذكر الأعياد الشعبية التي تحتضن شبكة معقدة من الروابط المؤسسة للتماسك الاجتماعي حتى بين المكونات الثقافية المختلفة. ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بالأهمية الفائقة للذاكرة الجمعية، وحكايات التاريخ، في هذا المضمار.

في مرحلة التحليل، يتم الاعتماد على الآليات المستخدمة في المسار التفاعلي وبشكل خاص على مجموعات الحوار المصغّرة (focus group)، لوضع خطط التدخل، وتكتسب هذه الحوارات فعالية أكبر إذا كان العاملون في بناء الخارطة قد تبينوا الوجهة التي سيجتهدون في التقدم نحوها في المرحلة الثالثة من عملهم، مرحلة التفعيل.

المرحلة الثالثة: التفعيل

تفعيل الخارطة الثقافية عملية مرتبطة إلى حد كبير بالإيديولوجيا، أو بالتوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو حتى بالنوايا، التي يتحرّك العاملون على بناء الخارطة بوحيها. وهذا ما يجعل الخارطة أداة صالحة للاستعمال في العديد من المجالات.

تبدأ عملية التفعيل، عملياً، بوضع خطة، أو خطط، التدخل اعتماداً على النتائج التي خلصت إليها مرحلة التحليل، وتبنى الخطة حسب التوجهات المرادة لها. فقد تكون هذه التوجهات تنموية – وهذا أكثر ما وُضِعت من أجله الخرائط الثقافية حتى الآن – كما يمكن أن تكون اجتماعية وسياسية تتطلع إلى بناء "السلم الأهلي" في مجتمعات خارجة من الحرب. والواقع أن بناء السلم الأهلي يمكن أن يقدم واحداً من المجالات الخصبة لتفعيل الخارطة الثقافية ويعود ذلك إلى عوامل عدة منها:

  1. الموارد الثقافية هي العناصر الأكثر تشاركاً لدى المواطنين على اختلاف مشاربهم، فهي مندمجة في مجريات حيواتهم اليومية وتتدخل في تشكيل الهوية الخاصة للأفراد، وخرابها بفعل الحرب يؤثر على هويات الأفراد والجماعات ويجعلها تتلمس الحاجة إلى السلام.
  2. التعامل مع الموارد الثقافية لا يحتاج، في أغلب الأحيان، إلى خبرات استثنائية تملكها قلة أو نخبة من الناس. فهي على تماس مباشر بحياتهم ويحسنون التعامل معها والاستفادة منها.
  3. أهمية الموارد الثقافية، في قسمها الأعظم، عابرة لجبهات الاقتتال وعليه فهي يمكن أن تقدم أرضاً مشتركة بين المتحاربين ليقوموا بأعمال مشتركة.
  4. الموارد الثقافية الخاصة بمنطقة ما يمكن أن تتكامل مع الموارد الخاصة بمنطقة أخرى ما يسمح بالتخطيط لبناء مشروعات جامعة.
  5. الموارد الثقافية المشتركة جزء من الذاكرة الجمعية المشتركة بين المتحاربين وعلى الجميع العمل على صونها، أقلّه حتى لا تتكرر الحرب.
  6. كثير من الموارد الثقافية اللامادية ترتبط بقيم مشتركة بين المتحاربين، وكثير من الموارد الثقافية المادية ترتبط بينهم بخبرات مشتركة.
  7. عملية بناء الخارطة في مرحلتها الأولى هي بذاتها عملية بناء سلام لأن الجميع، من شتى الجبهات المتحاربة، يعملون في مشروع مشترك هو توثيق موارد الفضاء الذي يعيشون فيه.

إن بناء الخارطة الثقافية يضع بين أيدي العاملين على بناء السلام مادة أولية نشطة يمكنهم قولبتُها وتفعيلُها لتغدو منتِجةً لمسارات تفاعلية تساعد المواطنين على إدارة التصدعات التي يعيشونها، وتجمعهم في مشروعات تمهّد للتماسك الاجتماعي، وتساهم بشكل مباشر في تحقيق العدالة الانتقالية التي لا يمكن التفكير بتماسك اجتماعي في مجتمعات ما بعد الحروب الداخلية؛ إلا إذا جرى العمل على تحقيقها.

كما تقدم الخارطة أداة فعالة لوضع البرامج التنموية المحلية والجهوية انطلاقاً من الموارد الثقافية المتوافرة. لكن أياً كانت أهداف الخارطة لا يمكن في الواقع بلوغها بدون المشاركة الفعالة للمجتمع المدني في جميع مراحلها الثلاث، فهي في النهاية عملية يبنيها، ويشرف عليها، مواطنون فعّالون في المجتمع المدني لصالح جميع المواطنين في المجتمع.

Endnotes

Endnotes
1 Bolle De Bal, Marcel. «Reliance, déliance, liance: émergence de trois notions sociologiques», Sociétés, vol.no 80, no. 2, 2003, pp. 99-131.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.