الحركات المطلبية في سياق سلطوي: حملة إنترنت بلا حدود نموذجاً

تصدر هذه الورقة في إطار مشروع «المعرفة بصفتها منفعة عامة». يهدف المشروع إلى فحص العلاقة بين إنتاج المعرفة والأكاديميا والمنح الدراسية والسياسات العامة مع التركيز على المستوى المحلي ومعالجة التوتر بين المعرفة الدولية والمحلية. يتضمن المشروع ورش عمل تهدف إلى تعزيز الأبحاث المستندة إلى الأدلة من خلال توفير المهارات الفنية ومنصة للترجمة للباحثين والباحثات الصاعدين/ت الذين يكتبون باللغة العربية.

نساء يمررن بمقهى إنترنت في وسط القاهرة -  © EPA/MIKE NELSON

مقدمة

تمثل حملة إنترنت بلا حدود شكلاً مختلفاً من أشكال التعبئة الاجتماعية بغرض التأثير على السياسات العامة. كما يمكن النظر إلى الحملة باعتبارها أحد أشكال الحركات المطلبية التي تدفع لتغير أنماط توفير خدمة الإنترنت في مصر. بدأت الحملة كأحد أشكال حملات الضغط التي يقوم بها أصحاب المصالح من أجل توجيه السياسات العامة إلى أحد الحلول والسياسات المحددة التي تتناسب مع مصالحهم. هذا الشكل من حملات الضغط والمناصرة الذي يهدف إلى إدراج سياسة معينة على الأجندة الحكومية هو ممارسة مشهورة في البلدان الديموقراطية. لكن لا يتكرر هذا الشكل كثيراً في ظل الأنظمة السلطوية حيث تكلفة التعامل مع الشأن العام مرتفعة والمساحات المسموحة للتجمع والتنظيم محدودة. منذ بدايتها، تجنبت الحملة تبني خطابات لها صبغة سياسية أو حقوقية، كما عملت على عدم إسباغ أي من مطالبها أو فعاليتها بالمظهر السياسي عبر رقابة ذاتية من أفراد الحملة. ويمكن إرجاع وجود هذه الرقابة الذاتية إلى الطبيعة السلطوية للنظام المصري، حيث لم تنزلق الحملة للدخول في مناشدات حقوقية أو خطابات ضد النظام حتى عندما تعرض أحد أعضائها للاختفاء القسري.

بدلاً من ذلك قررت الحملة بوعي واضح استكمال أنشطتها بشكل هادئ ومستمر وبدون استخدام خطابات الصوت المرتفع، مؤكدةً طبيعة الحملة "اللاسياسية"؛ الأمر الذي مكنها من الولوج إلى وسائل الإعلام المقربة من النظام في بداية الحملة وتناولها أكثر من مرة على قنوات وسائل إعلامية مختلفة. دفعت هذه الطبيعة "اللاسياسية" إلى تفاعل المسؤولين الحكوميين أيضاً مع الحملة في بدايتها عبر تصريحات وبيانات مؤيدة ولو بشكل خجول.

تهتم هذه الورقة بملاحظة وتحليل عمليات الرصد والتأطير والتنظيم التي تبنتها هذه الحركة المطلبية لطرح نموذج فعال في التأثير على السياسات العامة في السياقات السلطوية. تعطي حملة إنترنت بلا حدود دليلاً على أنه حتى في الأنظمة السلطوية المغلقة يمكن للحركات المطلبية أن تفتح لنفسها مساحات من الحركة والتفاعل خارج هذه السياقات، وأن تؤثر في بعض الأحيان بشكل ما على المسؤولين الحكوميين والتنفيذيين.

اعتمد الباحث منهجية الملاحظة لأنشطة وتفاعلات أفراد الحملة شبكة الإنترنت خلال شهر تموز/يوليو وآب/أغسطس من العام 2022 على الفيس بوك وتويتر، كما قام بمشاهدة الفيديوات التي أصدرها أفراد من الحملة على اليوتيوب للحديث عن هذا الموضوع خلال هذه الفترة. أيضاً، قام البحث برصد كل التصريحات الإعلامية الرسمية واللقاءات التلفزيونية التي تمت مع مسؤولين مصريين حاليين أو سابقين للتعليق على هذا الموضوع. هذه المعلومات كانت البوابة التي قام من خلالها الباحث بالنظر في نمط الحملة وتحليلها. تستفيد هذه الورقة من الإطار الذي اقترحه إيريك نوفو للنظر إلى التعين والتأطير/بناء السردية والتبرير والتسويق ثم صياغة الحلول لتحليل المشاكل العامة. 1Érik Neveu, “L’analyse des problèmes publics : Un champ d’étude interdisciplinaire au cœur des enjeux sociaux présents”, Idées Économiques et Sociales, no. 190 (2017): 6–19

كيف بدأت الحملة؟

تصدر الهاشتاج المليوني #إنترنت_بلاحدود_في_مصر مواقع التواصل الاجتماعي في مصر لفترة طويلة، مولّداً حالة من النقاش الإعلامي والمجتمعي حول إمكانية تحقيق هذا المطلب. كان الهاشتاج إحدى الأدوات التي استخدمها أفراد هذه الحملة من أجل المطالبة بتغيير سياسات تقديم خدمة الإنترنت في مصر والسماح بوجود تحميل غير محدود للمواد الموجودة على شبكة الإنترنت. لم تكن هذه أول مرة التي تنظّم فيها حملة مصرية من أجل تحسين الخدمة، فقد شهدت السنوات الماضية حملات شبيهة وإن كانت أصغر في الحجم بالمقارنة مع الحملة الحالية. تقوم سياسات توفير الإنترنت في مصر على اشتراك المستخدمين في إحدى باقات الإنترنت الشهرية التي تتيح لهم كمية محددة من تنزيل البيانات من/على شبكة الإنترنت. يقوم المستخدم في حال الوصول إلى الحد الأقصى لهذه الكمية قبل انتهاء الشهر بشراء كمية إضافية أو الاشتراك في باقة شهرية أعلى تتناسب مع استخدامه. تتركز شكاوى المؤيدين للحملة على أن الكمية المعروضة في الاشتراكات الشهرية منخفضة، كما أن الحصول على باقات شهرية بكميات أعلى يكلف اشتراكاً نقدياً لا تقدر عليه غالبية الأسر المصرية. أصبحت هذه المشكلة محور النقاشات لفترة طويلة بسبب تفاعل أفراد الحملة وشهرتها الواسعة التي تكونت عبر الزمن.

تأتي هذه الحملة في سياق أعلنت فيه الحكومة المصرية بشكل متكرر أنها تعمل على التوسع في "التحول الرقمي" عبر برنامج وطني يعمل على تشجيع المواطنين على إنجاز عدد من الخدمات من خلال شبكة الإنترنت وذلك عبر توفير عدد من البرامج والتطبيقات الشبكية لتسهيل إنجاز هذه المهام عن بعد. تأتي هذه السياسات الحكومية ضمن منظومة "التحول الرقمي" الذي يعمل على "بناء مصر الرقمية والوصول إلى مجتمع مصري يتعامل رقميًا في كافة مناحي الحياة".2  يمكن العودة إلى صفحة وزارة الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصرية للمزيد حول " التحول الرقمي" من خلال هذا الرابط أيضاً، شرعت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في بناء "مصر الرقمية" عبر ثلاثة محاور رئيسية: التحول الرقمي، والمهارات والوظائف الرقمية، والإبداع الرقمي، حيث نجد في هذه الاستراتيجيات تركيزاً على البنية التحتية للإنترنت وسرعة الإنترنت بدون وجود تركيز على أسعار الخدمة وكمية البيانات المتاحة للمشتركين.

يشير عدد من التقديرات إلى أن أعداد مستخدمي شبكة الإنترنت في مصر في بداية عام 2022 تجاوزت 75 مليون مستخدم بزيادة تقارب المليون ونصف مليون مشترك عن عام 2021.3  لمزيد من المعلومات والبيانات عن مصر يمكن الرجوع إلى تقرير ديجتال 2021  من خلال هذا الرابط في وقت تبنت فيه الحكومة هذه الأهداف الطموحة في مجال تكنولوجيا المعلومات، تزايدت شكوى المواطنين وبالأخص في أوساط الشرائح الشبابية من جودة الإنترنت المقدم وبالأخص في كمية السعة المخصصة للمستخدمين شهرياً بالمقارنة مع الاشتراكات المدفوعة.

تحولت الشكاوى العامة إلى شكل أكثر تنظيماً بفضل هذه الحملة التي تمثل محاولة للضغط على الحكومة المصرية من أجل إجراء إصلاحات في تقديم خدمة الإنترنت وإدراج سياسات لحل هذه المشكلة ضمن أجندة الحكومة. ورغم أن الحملة شهدت واقعة إخفاء قسري للشاب محمد أنيس، أحد القيادات الشبابية للحملة، واختراق حساباته وإغلاق قناته على اليوتيوب، لكن هذا لم يمنع استمرار الحملة وتنوع أنشطتها على الرغم من تراجع التغطية الإعلامية لها. تبنّى الحملة عدد من الشباب والشابات لهم خلفية اجتماعية مشتركة، وأغلب الفاعلين فيها لديهم صلة قوية بمجال تكنولوجيا المعلومات أو الاتصالات أو صناعة المحتوى على شبكة الإنترنت. لا يعمل أغلبهم في وظائف حكومية أو تنفيذية، بل في القطاع الخاص، ومعظمهم في العشرينيات من العمر. أما المؤيدون للحملة فقد جاؤوا من خلفيات اجتماعية مختلفة.

 كيف تم تعيين المشكلة؟

يمكن استخلاص عدد من الطرق المختلفة لتعيين مشكلة تقديم خدمة الإنترنت في مصر عبر الملاحظة والرصد التي تمت للحملة لمدة شهرين متتابعين خلال وقت ذروة الحملة.

  • التعيين التقني الذي يركز عند تناوله للمشكلة على البنية التحتية للإنترنت وشبكات الاتصال في مصر والمتطلبات اللازمة لتطويرها من أجل الحصول على خدمات أفضل.

2 -  التعيين السياسي الذي يركز على السياسات السلطوية الحالية وتأثيراتها السلبية على حرية الرأي والتعبير بين المواطنين ليس فقط في المجال السياسي ولكن أيضاً عند التعبير عن المطالب الاقتصادية والاجتماعية.

3 ـ   التعيين المرتبط بالسياسات العامة وآليات عملها وصنعها في السياق المصري باعتبار الحملة نموذجاً لعدم التفاعل الإيجابي من جانب النظام مع المطالب العامة والاجتماعية وضعف الإنصات إلى البدائل المقترحة التي تقدمها الحملة حتى وقت كتابة هذه السطور.

4 ـ التعيين الذي يدمج بين المقاربة الاجتماعية والمقاربة السياساتية من خلال التركيز على الحملة ومطلبها داخل السياق المحلي الوطني الذي تعمل فيه.

تقدم هذه المستويات المختلفة ثراءً في تعيين المشكلة. تنطلق الورقة من التركيز على أفراد الحملة قولاً وفعلاً واختياراتهم في تعيين المشكلة والطرق التي استخدموها لذلك. قدّم أفراد الحملة أنفسهم كجزء من شرائح اجتماعية أوسع تعاني من سوء خدمات تقديم خدمة الإنترنت في مصر متفادين بذلك تقديم حملتهم باعتبارها تعبيراً عن "مظلومية عامة" سياسية كانت أو اجتماعية، مُعرضِين في نفس الوقت عن استخدام مفردات الخطاب الحقوقي المنتشر بين الحركات الاجتماعية الأخرى. وبهذا فإن الحملة انتقلت من جانب الشكوى/المظلومية إلى الجانب المقابل: الحل/ والفاعلية برشاقة دون أن تتورط وتتحول إلى حملة حقوقية للمطالبة بالإفراج عمن تم القبض عليه أو تتحول إلى حملة مسيسة تتحدى النظام عبر إحراجه. بمعنى آخر، تقدم لنا حملة إنترنت بلا حدود في مصر شكلاً مختلفاً من أشكال التعبئة الاجتماعية يمكن أن نطلق عليه "الحركات المطلبية" الذي يركز على حشد التأييد والدعم لمطالب وسياسات محددة والعمل على حث الحكومة والجهات التنفيذية لتبني هذه المطالب ضمن أجندتها الحكومية.

في هذا السياق، يمكن في هذه الحالة النظر إلى التفاعل الواسع مع حملة إنترنت بلا حدود باعتباره تعبيراً عن مظلومية عامة مرتبطة بسوء الخدمات العامة المقدمة للدولة، وأن الحملة تعبير واضح عن شكوى المواطنين وتذمرهم من سوء الخدمة وعملهم في الوقت ذاته على إيجاد حلول وسياسات لهذه المشكلة وإدراجها على الأجندة الحكومية.

  التأطير وبناء سردية جديدة: التحول من "الحقوق" إلى "الضرورة"

اختارت الحملة أن تقوم بتأطير مطالبها نفسها بشكل مختلف بعد أن قامت بتعيين المشكلة. في مواجهه التأطير الحكومي للمشكلة على طريقة "احنا فقرا أوي" الذي يصادر أي فرص للتطوير والتحسين، تبنت الحملة تأطيراً واضحاً من خلال استخدام هاشتاج رئيسي: #إنترنت_بلاحدود_في_مصر. تأتي أهمية هذا التأطير من أنه ساهم في تركيز كل أنشطة وخطابات الحملة الرئيسية في صورة مطلب واضح ومحدد ومناقشة آليات ووسائل تحقيقه. هكذا نجد أن الصياغة الواضحة المباشرة والبسيطة ساهمت في وصول مطلب الحملة الأساسي بوضوح لقطاعات واسعة من المجتمع. كما ساهم هذا التأطير في جذب شخصيات عامة للمشاركة في دعم الحملة عبر المشاركة في نشر الهاشتاج.

لم يكن تعيين المشكلة وتأطيرها السبب الوحيد لنجاح الحملة. فقد عمل المؤيدون للحملة على تغيير القناعات المرتبطة بترتيب الأولويات عبر تقديم عدد من الحجج والبراهين لتبرير أهمية رفع جودة تقديم خدمات الإنترنت وحجم الداتا المتاحة للمشتركين من أجل تحقيق أهداف وطنية تهم الدولة والمواطنين على حد سواء. القاسم المشترك الذي يجمع الحجج والتبريرات التي استخدمتها حملة إنترنت بلا حدود مبني على فكرة "الضرورة". اجتمع في خطاب الحملة ضرورة وجود خدمات إنترنت جيدة باعتبار ذلك اضحى متطلباً أساسياً للمواطنين حالياً. من هنا نشأت فكرة الضرورة كعمود فقري لكل الحجج المُساقة من أفراد الحملة. وأصبحت "الضرورة" هي الحجة الرئيسية التي يتلوها عدد من الحجج الفرعية في استراتيجية الحملة لجذب التأييد الشعبي..

إذا كانت "الضرورة" هي الحجة الأساسية للحملة فقد صاحبها عدد من الحجج الفرعية، منها:

  • لا يمكن إدارة عدد كبير من الأعمال المرتبطة بشبكة الإنترنت بالكميات المتاحة الحالية. فهناك وظائف لها ارتباط بالتكنولوجيا والاتصالات أو البيانات أو صنع المحتوى تحتاج بالضرورة إلى كميات تحميل جيدة من أجل الاستمرار في العمل بشكل جيد.
  • ركّز جزء آخر من الحجج الفرعية على أن الكمية المتاحة للتحميل من خلال باقات الإنترنت في مصر هي كمية قليلة بالمقارنة مع استخدامات الدول الأخرى. هنا تم استخدام الإحصاءات والمقارنات مع دول مختلفة لمتوسط حجم الإنترنت التي تقوم أسرة بتحميله شهرياً بالمقارنة مع المتاح حالياً في مصر.
  • ركّز اتجاه آخر في الحجج الفرعية على إبراز جوانب إيجابية في خدمات الإنترنت في مصر بالقول إن سرعة الإنترنت الحالية جيدة وأنه لا توجد شكوى كبيرة من هذا الموضوع، لكن الشكوى الحقيقية هي من الكمية المتاحة للتحميل وليس من سرعة الإنترنت. وبالتالي فقد قامت الحملة بتحديد مطلبها بشكل أكثر وضوحاً عبر ذكر إيجابيات وسلبيات الخدمات المقدمة حالياً.

ما يمكن أن نلاحظه هنا في خطابات تأطير وتبرير الحملة هو تراجع خطاب "الحقوق" وصعود خطاب "الضروريات". يمكن تفسير تراجع خطاب "الحقوق" على أنه استراتيجية من الحملة لتجنب الصدام المباشر مع النظام. فنبرة الخطاب الحقوقي أقوى كما أنها أكثر صدامية، في حين يبدو خطاب "الضروريات" أقل في الحدة ويتجنب الصدام. أيضاً، يمكن اعتبار تبني خطاب "الضروريات" جزءاً من استراتيجية الحملة لاستخدام سرديات النظام نفسه عن خدمات الإنترنت لتكون مبرراً يقدم للنظام من أجل تحسين خدمة الإنترنت. فإذا كان النظام يريد إنجاز التحول الرقمي وبناء مصر الرقمية فإن تحسين الخدمة وزيادة الكميات المتاحة للتحميل تصبح في تلك الحالة "ضرورة" لتحقيق الأهداف التي يرجوها النظام.

عندما تمتلك الحركات المطلبية استراتيجية تسويق

نجحت الحملة في جذب تأييد شعبي واسع لها ولمطالبها من خلال حملة إنتشار وتسويق ناجحة. لكن قبل الحديث عن الوسائل التي استخدمتها الحملة للانتشار والتوسع، من المهم في البداية التركيز على عدد من السمات التي ساهمت في هذا الانتشار:

السمة الأولى هي اللامركزية والتشاركية بين المسؤولين عن الحملة حيث بدت الحملة بدون قائد واضح كما أنها استطاعت الاستمرار رغم الاختفاء القسري لأحد المسؤولين عنها. هذه الاستمرارية أكدت الطابع اللامركزي للحملة. في نفس الوقت تتميز الحملة بالتطوع والتشاركية والتنسيق بين مجموعات وأفراد من خلفيات مختلفة مما ساهم في مرونة إدارة وتنفيذ الحملة وعدم توقفها عند التعرض لمحاولات القمع والتحجيم من السلطة.

السمة الثانية هي استخدام شبكة الإنترنت بشكل موسع ورئيسي لتكون الساحة الرئيسية لجذب الدعم والانتشار. كان الفيس بوك هو الساحة الرئيسية لعدد من الحملات السابقة، لكن الحملة الحالية نشطت على تويتر ويوتيوب وفيس بوك بشكل واسع. كما استخدمت عدداً من الآليات والوسائل الجديدة كما سنذكر لاحقاً. وفي حين غابت أي فعاليات أو أنشطة على الأرض، ظلت الأنشطة متواصلة على شبكة الإنترنت طوال فترة الحملة.

السمة الثالثة هي تجنب الصدام أو الملاحقة الأمنية عبر استخدام الحملة عدداً من الآليات والوسائل الجديدة والمستحدثة للوصول إلى عدد أكبر من المتابعين للتفاعل معها بدون أن يؤدي هذا الانتشار الواسع إلى مشاكل أمنية للقائمين على الحملة.

تتضح هذه السمات بالنظر إلى الوسائل التي تم استخدامها. الوسيلة الأكثر انتشاراً بين مؤيدي هذه الحملة والتي حظيت بتغطية إعلامية واسعة هي المشاركة في التدوين على تويتر من خلال هاشتاج موحد هو #إنترنت_بلاحدود_في_مصر. الهاشتاج استطاع الوصول إلى أكثر من مليون تغريدة كما أنه ظل متربعاً كأول هاشتاج في مصر لأيام عديدة. قوة الهاشتاج وانتشاره لفترة زمنية طويلة ساهم في تغطية عدد من وسائل الإعلام له ودعمه ومشاركته من عدد من الفنانين والمشاهير، مثل الفنان محمد هنيدي. التنسيق المشترك بين القائمين على الحملة ساعد على وصول التفاعل مع هذا الهاشتاج إلى هذه الأرقام الكبيرة، كما أن تأطير المطلب في شكل واضح وبسيط ساعد على مشاركة أعداد كبيرة غير مسيسة أو أيديولوجية. لاحقاً، ستستخدم الحملة هاشتاجات أخرى لتنشيطها من آن لآخر لكن سيظل للهاشتاج الرئيسي والمركزي تواجده في كل الأوقات.

الآلية الثانية التي استخدمتها الحملة هي الفيديوهات القصيرة التي يقوم أفراد من الحملة أو من المؤيدين لها بنشرها على اليوتيوب أو الفيس بوك. من خلال هذه الفيديوات يتم إيصال القضية إلى شرائح أوسع ومتابعة منتظمة لتطورات الحملة وأنشطتها. جزء من هذه الفيديوات كان مخصصاً لنقاشات وتفاعلات حول حلول وسياسات بديلة يمكن أن يتم اقتراحها للحكومة، وجزء آخر كان مخصصاً لعرض الوسائل والآليات التي يمكن أن يشارك من خلالها المؤيدون للحملة في دعمها. ينبغي أن نلاحظ هنا أن هذه الفيديوات تمت من خلال قنوات على اليوتيوب موجودة بالفعل وتعمل في الأغلب في متابعة المواضيع التقنية أو المواضيع المتعلقة بصناعة المحتوى المرئي على شبكة الإنترنت. لهذه القنوات جمهورها بالفعل الذي يتابعها. وفي أغلب الأحيان، كان ظهور الفيديوات المخصصة لمتابعة الحملة مبرراً وطبيعياً لجمهور هذه القنوات، ما دفع بعضهم للتفاعل مع الاقتراحات والمطالب المعروضة داخل هذه الفيديوات. بهذا الشكل، فقد تحولت شبكة الإنترنت ليس فقط لمنصة للتوسع والانتشار ولكن كساحة للنقاش والتفاعل بين أعضاء الحملة والمؤيدين لها في نقاشات طبيعية وغير مفتعلة.

الآلية الثالثة التي استخدمتها الحملة هي الدخول إلى صفحة شركة الاتصالات We، وهي الشركة المسؤولة عن تقديم خدمة الإنترنت في مصر، ووضع "اغضبني" على كل البوستات التي تقوم الشركة بكتابته أو التعليقات التي تقوم بكتابتها للرد على التعليقات. تستهدف هذه الآلية إرسال رسالة للشركة عن عدم الرضا عن سياساتها وعن مستوى الخدمات لديها. تدفع هذه الآلية مشاركة قطاعات واسعة من الحملة في التعبير عن غضبها من خدمات الشركة بشكل غير مباشر مع تجنب الصدام المباشر مع النظام أو المضايقات الأمنية للمشاركين لاحقاً.

للدخول إلى صفحة تنزيل تطبيق الشركة على غوغل بلاي وإعطاء تقييم منخفض للشركة هي الآلية الرابعة التي استخدمتها الحملة. تستهدف هذه الألية حذف التطبيق من منصة غوغل بلاي باعتبار أن هناك عدم رضا عن مستوى هذا التطبيق بين المستخدمين.

الآلية الخامسة هي مطالبة المشتركين بالتقدم بطلب لوقف الخدمة أو إلغاء إشراكهم في الشركة من أجل ارسال رسالة واضحة إلى الشركة تقول إن مستوى الخدمة الحالية غير مُرضٍ للمشتركين، وهي آلية عملية قوية.  وفي أحيان أخرى، كان يتم تحديد تاريخ معين لمطالبة المشتركين بإلغاء اشتراكهم من الشركة في تاريخ محدد.

اتُّفق على هذه الآليات والوسائل من خلال تكوين مجموعات على الفيس بوك والواتس أب تتكون من شرائح مختلفة من الشباب بهدف تنسيق العمل، وتفعيل الهاشتاج في أوقات محددة، وعمل تصميمات ورسوم تساعد على توصيل الحملة إلى أكبر عدد ممكن.

يمكن النظر إلى مرحلة الانتشار التي قامت بها الحملة باعتبارها جزءاً من "خطة تسويقية" كبيرة قامت الحملة بتبنيها والنجاح في تنفيذها على شبكة الإنترنت دون الحاجة إلى التواجد الفعلي على الأرض أو أي دعاية ميدانية. استلهام فكرة التسويق والحملات التسويقية الكبيرة يبدو واضحاً في هذه الحملة، بداية من العمل على الوصول إلى شرائح واسعة، إلى استمرار تقديم رسائل متشابهة لفترة طويلة وعبر منصات متعددة للوصول المستمر إلى المؤيدين، وانتهاءً بحثّ المتابعين والمؤيدين للتحوّل إلى عملاء لمنتجات الحملة. الخطة التسويقية للحملة ساهمت في وصول رسالتها إلى شرائح واسعة ومتعددة ودفعت المتابعين من خلفيات اجتماعية مختلفة للمشاركة في تنفيذ بعض توجيهات الحملة والمشاركة بفاعلية في النقاشات والآراء حول الحلول والسياسات التي تطرحها الحملة.

طرح البدائل من موقع الحركة المطلبية

لم تقتصر الحملة على تقديم الشكاوى فقط، بل عمل أعضاؤها على اقتراح الحلول أيضاً. على سبيل المثال، قام أعضاء من الحملة بعمل فيديوات تُقدم الآليات المقترحة والبدائل إلى المؤسسات الحكومية المعنية لحل مشكلة سوء خدمة تقديم الإنترنت في مصر. من خلال تعليقات المتابعين على هذه الفيديوات تم تطوير عدد من هذه الأفكار أو انتقادها أو التعديل عليها. بمعنى آخر، أصبحت تعليقات متابعي الحملة جزءاً من تطور خطاب الحملة، كما أنها ساهمت في تعديل الحلول والسياسات المقترحة للحملة. لقد خلقت الحملة لنفسها مساحات على شبكة الإنترنت للتواصل والحوار بين المؤيدين لها ساعدها في أحيان كثيرة على تعديل وتطوير الحلول والسياسات التي يتم طرحها. تعليقات المتابعين التي كانت تشكك في بعض الأحيان في إمكانية التطبيق الفعلي لبعض المقترحات أو تعارض بعض الأفكار التي طرحت ساهمت في النهاية بإنضاج السياسات النهائية المقترحة.

يمكن ملاحظة ثلاثة حلول/ بدائل رئيسية تم التركيز عليها في عدد مختلف من الفيديوات:

يقتضي الحل الأول مضاعفة سعة الكوتا الحالية للتحميل بنفس السعر الحالي مع تبني سياسة تقليل سرعة التحميل بعد نفاد السعة دون الحاجة إلى شحن باقات إضافية. يركز هذا الاقتراح على إضافتين رئيسيتين:

الأولى هي زيادة الكوتا المخصصة للتحميل، ما يضاعف الاستفادة من الباقات الحالية. والإضافة الثانية الأهم هي عدم إجبار المستخدمين على شحن باقة إضافية بعد نفاد الكوتا بل تقليل السرعة فقط حتى موعد تجديد الباقة الجديدة.

يقوم الاقتراح الثاني على فكرة توفير إنترنت غير محدود للمستخدمين، لكن من خلال سرعات قليلة وبأسعار معقولة. يركز هذا الاقتراح على اللامحدودية في تنزيل الجيجات في مقابل التخلي عن ميزة السرعة المرتفعة في التحميل.

الاقتراح الثالث يقوم على تقليل سعر الباقات الحالية 50% مع الإبقاء على باقي الخصائص كما هي. يركز هذا الاقتراح على محاولة التخفيف من الأعباء المالية للمواطنين عند استخدام الإنترنت من خلال تخفيض سعر الباقة. كما أنه يعطي فرصاً للمستخدمين لاستخدام بطاقات أفضل من خلال دفع نفس الرسوم الحالية.

يمكن إيراد ملاحظتين أساسيتين على هذه الاقتراحات.

الأولى أنها كسرت الاحتكار الحكومي للجانب التقني والفني عبر النقاشات العامة في فيديوات أعضاء الحملة وفي تعليقات المتابعين عليها والتي تناولت الاعتبارات الفنية والتقنية في نقاشات اجتماعية موسعة. فهذه النقاشات انتقلت من الغرف المغلقة والحديث بين المتخصصين والفنيين لتصبح جزءاً أساسياً من النقاش العام بين أصحاب المصلحة والمهتمين. وهي بذلك تكسر احتكار المؤسسات الرسمية للحديث عن السياسات والحلول المقترحة.

الثاني أن أصحاب المصلحة المباشرة هم من قام بصياغة ومناقشة البدائل والسياسات المقترحة. ونعني بهم العاملين في مجال التكنولوجيا والاتصالات وصناعة المحتوى والبيانات.

بهذا الشكل قدمت الحملة نموذجاً لحملات المناصرة والدعم التي تتم بشكل دوري ومستمر في أنظمة ديموقراطية، لكن هذه المرة في سياق سلطوي. استطاعت الحملة أن تجد لنفسها مساحة للتفاعل بين المؤيدين لها على شبكة الإنترنت وجذب الدعم والتأييد الشعبي للحلول والسياسات التي اقترحتها.

هل الحركات المطلبية قابلة للتكرار؟

إن بروز حملة إنترنت بلا حدود بهذا الشكل يدفع للتساؤل حول قابلية تكرار نموذج الحركات المطلبية مستقبلاً.

بالنظر إلى نموذج حملة إنترنت بلا حدود يمكن الوصول إلى استنتاج أنه يمكن أن يحدث هذا التكرار لنموذج الحركة المطلبية لكن تحت ظروف موضوعية محددة:

الشرط الأول مرتبط بقدرة أصحاب المصلحة على التواصل والنقاش بحرية بعيداً عن سيطرة النظام السلطوي وتضييقاته. ما ميز حملة إنترنت بلا حدود أن جزءاً من النقاشات والتواصل وتطوير الأفكار يتم عن بعد وعبر شبكة الإنترنت. المعرفة الموجودة لدى أعضاء الحملة للعمل والتواصل عبر شبكة الإنترنت سمحت لهم بتأسيس مسارات وشبكات من الحوار المستدام والفعال الذي ساهم في تطوير أفكار الحملة وتنظيمها بعيداً عن تضييقات النظام. ظهور حركات مطلبية مستقبلاً مرتبط بتوفر هذه المساحة من التفاعل والنقاش الحر.

الشرط الثاني مرتبط بالقدرة على توافر المعرفة والخبرات اللازمة لطرح الحلول والبدائل. فكسر احتكار النظام للمعرفة المرتبطة بصنع السياسات العامة هو مطلب أساسي من أجل تطوير بدائل وسياسات فعالة وقابلة للتنفيذ يمكن أن تكون جزءاً من تبني أصحاب المصلحة الحقيقيين.

الشرط الثالث مرتبط بالقدرة على الحشد وجلب الدعم والتأييد من أفراد وجهات أوسع وأكثر تنوعاً. هذه القدرة هي التي تعطي في النهاية أي حملة إمكانية التأثير في قرارات وتصرفات النظام. تتميز الأنظمة السلطوية بمناعة أكبر تجاه الاستجابة لمطالب المواطنين. لكن توفر هذا الدعم والحشد الواضح يجبر النظام السلطوي على التعامل معها بأساليب أقل خشونة أو ترك مساحات لها للحركة والتأثير.

الخاتمة

مفاهيمياً، تمثل حركة إنترنت بلا حدود مثالاً نموذجيا للحركة المطلبية التي تسعي إلى جذب الدعم والتأييد الشعبي لعدد من المطالب والسياسات العامة لإدراجها على أجندة الحكومة. عملت الحملة على تبنّي عدد من حملات الدعم والمناصرة من أجل تعيين محدد لمشكلة تقديم خدمة الإنترنت في مصر والعمل على تقديم التبريرات والسردية المناسبة لهذا التعيين مع تبني حملة انتشار وتسويق واسعة للحملة وسياساتها المقترحة.

تميزت الحركة بطابع "لاسياسي" ساهم في إفساح مساحة للعمل والتأثير لها. تحركت الحملة داخل سقف حركة منخفض ويتجنب الاصطدام بأسوار السياسة أو الوقوع في ألغامها، لكنها وهي تفعل ذلك فإنها استعادت المشاركة في صنع السياسات ومحاولة التأثير في الأجندة الحكومية. حاولت حملة إنترنت بلا حدود تجنب الدخول إلى معترك السياسة من "الباب" المقترن بالصراع مع السلطة ولعبة القوة والتحدي، لكنها عادت - دون أن تقصد - للدخول إلى المعترك السياسي من خلال "الشباك" الذي هو التعيين الواضح للمشكلة العامة، التأطير وصنع سردية جديدة قائمة على فكرة "الضرورة"، وحملة انتشار وتسويق واسعة لجذب مؤيدين ومناصرين لها، انتهاءً بعرض عدد من البدائل والسياسات التي يمكن أن تساهم في حل المشكلة والمفاضلة فيما بينهم. عمل النظام المصري طوال السنوات الماضية على إغلاق مساحات المشاركة السياسية والتضييق على الحريات العامة والتعامل بمقاربات أمنية صلبة مع الاحتجاجات والمطالب العامة، إلا أن النظام استخدم استراتيجية مختلفة تجاه هذه الحملة تعتمد على جر النقاش إلى المناطق الفنية والتقنية والمتخصصين باعتبارهم أصحاب الشأن والخبرة. المفاجأة كانت أنه بالانتقال إلى مساحات التخصص والنقاشات الفنية استطاعت الحملة الدخول في هذه النقاشات والانتقال من صوت "المطالب" الاحتجاجية إلى نقاشات "السياسات" التقنية. في المحصلة، لم يحاول النظام شيطنة الحملة أو مهاجمتها بشكل مباشر، واستخدم لاحقاً بدلاً من ذلك استراتيجية التجاهل واللامبالاة. في التحليل الأخير لسلوك النظام، يمكن القول إنه أيضاً تجنب التعامل السياسي بشكله التقليدي مع الحملة الذي كان يمكن أن يشمل الاستجابة لعدد من هذه المطالب، أو إظهار نوع من التبني لها حتى لو كان هذا التبني شكلياً، أو إطلاق عدد من الوعود المستقبلية للتعامل معها بشكل أفضل. لكن هذا التجاهل الذي أظهره النظام هو في أحد تجلياته هو عودة السياسة مرة أخرى من "الشباك" بعد أن أغلق النظام "باب" السياسة بالمفتاح. فالإبقاء على الحملة التسويقية الكبيرة ومساحات النقاشات الفنية والتقنية يسمح بعودة المشاركة السياسية والتأثير في السياسة من مدخل السياسات العامة. قد يبدو مدخل السياسات العامة تقنياً وبارداً وغير قادر على جذب المتابعة أو التأييد، لكن الحملة استطاعت أن تعطي هذا المدخل الكثير من الدفء والشعبية والوضوح.

بربط حملة إنترنت بلا حدود بالنقاشات النظرية في أدبيات السياسات العامة نجد أن الحملة تقدم لنا دليلاً إضافياً على أن لكل عملية سياسات عامة محيطاً، وأن هذا المحيط له سياقه السياسي والاجتماعي الوطني الخاص به. لذلك لا يمكننا النظر إلى السياسات العامة بدون النظر إلى محيطها أولاً وفهمه بشكل جيد. فالمحيط السلطوي يفرض حدوداً ومساحات محددة لنشاط الحركات المطلبية، كما أن هذا المحيط يؤثر على عملية السياسات العامة سواء من حيث مضمون السياسات العامة أو طريقة التفاعل بين النظام وأصحاب المصلحة. نتيجة هذا كله تخرج عملية صنع السياسات العامة بشكل مختلف عن تلك التي تتم في محيط ديموقراطي.

أيضاً، تظهر لنا حملة إنترنت بلا حدود أن تركيز أدبيات السياسات العامة على النظام السياسي وتجاهل المجتمع قد يؤدي إلى تجاهل عدد من الظواهر المهمة التي تؤثر على عملية صنع السياسات العامة. فالتركيز على المجتمع المصري وحركته تجاه سوء خدمة تقديم خدمة الإنترنت وليس على قرارات النظام السياسي ومؤسساته، أظهر لنا مساحات من العمل والتأثير داخل السياقات السلطوية لا يتم التركيز عليها بحثياً بشكل كاف.

 

 

 

Endnotes

Endnotes
1 Érik Neveu, “L’analyse des problèmes publics : Un champ d’étude interdisciplinaire au cœur des enjeux sociaux présents”, Idées Économiques et Sociales, no. 190 (2017): 6–19
2   يمكن العودة إلى صفحة وزارة الإتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصرية للمزيد حول " التحول الرقمي" من خلال هذا الرابط
3   لمزيد من المعلومات والبيانات عن مصر يمكن الرجوع إلى تقرير ديجتال 2021  من خلال هذا الرابط

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.