الحراك والنسوية: معادلة ذات مجهولين

تاريخ الحركة النسوية والنضال الديمقراطي هو تاريخ تقاطع. في الجزائر ، لا يزال يُنظر إلى النسوية على أنها حركة أقلية. لا يبدو أن النظام ولا المعارضة المتجمعة في ظل الحراك مهتمة بدعمه. غالبًا ما يتم تصنيف النسويات ضمن دعوات أكبر للديمقراطية ، ويجدن أنفسهن هدفًا للافتراء والاتهامات بالانقسام. تستكشف هذه الورقة الروابط بين الحراك والنسوية وتشرح كيف يمكن أن يكون الاثنان حركة واحدة ذات هدف مشترك.

© Lydia Haddag

"الأمر يرتبط بتحرير المرأة بقدر ما يتعلق بالاستقلال الوطني: الحرية تُنتزع انتزاعًا. المستعمَرون والعمال الكادحون (البروليتاريون) الذين تحرروا في العقود الأخيرة، لا يدينون بحريتهم وخلاصهم لأحد سوى لأنفسهم". فضيلة مرابط، المرأة الجزائرية، متبوع بالجزائريات، باريس، فرانسوا ماسبيرو 1983.

تاريخ الحركة النسوية والنضالات الديمقراطية هو تاريخ تداخل وتقاطع. فالأول يعتبِر أن مطالبه متطابقة مع الثاني، لكن يبدوا أن العكس ليس صحيحاً. من الملاحظ في الأوساط التي توصف بالديمقراطية (مصطلح غامض يجمع بين مختلف التيارات الحداثية والعلمانية واليسارية)، أن مسألة النسوية لم يفصل فيها بشكل واضح تمامًا. وإذا كانت التصريحات الرسمية تتجه نحو دعم هذه الحركة، فإن هذا الدعم يبدو جد متواضع وخافت ميدانيا، كونه يضر بالاتحاد المقدس الحاصل بين القوى المعارضة للنظام، بمختلف مشاربها الأيديولوجية، بل حتى بين الفئات التي يفترض أنها تشكل حلفائها الطبيعيين، في إطار مفهوم مشترك للتقدم الاجتماعي،1النسوية الجزائرية، هذا إذا وجد أصلا تقليد نسوي وطني محدد، فالمعروف عنها تاريخيًا أنها علمانية تجد الناشطات النسويات صعوبة كبيرة في فرض أجندتهن. وسواء كان نشاطهن داخل هياكل الأحزاب أو مستقلا، وسواء يفضلن نهجًا إصلاحيًا أو يدافعن عن موقف ثوري، فلا خيار أمامهن، ولا مناص من تعاملهن باستمرار مع فاعلين سياسيين، لا يمكن اعتبارهم البتة متعاطفين مع قضيتهن أو ملتزمين بها. ومن شأن حدث فارق مثل الحراك أن يسمح بإلقاء بنظرة عن كثب على هذه التوترات.

بما أن النسوية لا زال يُنظَر إليها على أنها تيار أقلية في الجزائر، يبدو أن لا النظام ولا المعارضة داخل الحراك يعتبران أنه من مصلحتهما استيعابها وتوظيفها. وبدافع الانتهازية والمحسوبية ومن أجل الحفاظ على توازن بين النخب التقدمية والإسلاميين الموالين للسلطة، تتجنب الدولة بالتالي اتخاذ موقف واضح بشأن المناضلات النسويات وتفضل استخدام بدل ذلك العبارات النمطية مثل "مكانة المرأة في المجتمع"، التي تكون في أغلب الأحيان ضمن إطار الاندماج الاجتماعي. إن أخذ المطالب النسوية في الاعتبار يقتضي ضرورة إجراء إصلاحات قانونية، من شأنها أن تواجه معارضة وتثير موجة واسعة النطاق في البرلمان وداخل جمهور الناخبين الذين يغلب عليهم الطابع المحافظ. وعلى الجانب الآخر، يبدو أن الحراك أيضا، بدافع الانتهازية، يسير وفق نفس المنطق، إذ يعتبر أن دمج مطالب أيديولوجية، من النوع للذي يثير انقسامات كبيرة، كما هو الأمر بالنسبة للنسوية، قد يقوّض الإجماع العام الحاصل ضد السلطة. وهذه الخصوصية التي تتميز بها النسوية، على عكس الهوية والقضايا الاجتماعية، لا يستغلها النظام، مما يجعل منها فرصة سانحة ونقطة ضعف في آن واحد. إنها فرصة ثمينة، لأن الحركة نظرا لـ "عدم شعبيتها" من غير المرجح احتوائها من قبل النظام، لكنها نقطة ضعف أيضا، من منطلق أن مساهمتها في بناء تحالفات استراتيجية داخل الحراك يبدو أمرا معقدا.

لهذه الأسباب يبدو لنا من المهم تقديم بعض الإيضاحات: سوف نميز هنا، بين النساء اللواتي يشكلن جزءًا من الحراك الشعبي والنسوة اللواتي، بالإضافة إلى مشاركتهن في المسيرات ضد النظام الحاكم، يتجندن خصيصا بصفتهن مناضلات نسويات. هذه الفئة الثانية، من خلال تجمعهن في "مربع نسوي"، أو سيرهن بشكل فردي وسط المتظاهرين، يحاولن الجمع في مطالبتهن بدولة القانون والمطالبة بالمواطنة المتساوية بين الجنسين. وعلى مستوى الحراك، لا تزال اللافتات المعبرة عن المطالب النسوية تشكل أقلية، رغم تعاظم حضور النساء مع مرور الوقت والأسابيع. هذه الملاحظة التمهيدية ضرورية لتفادي الوقوع في فخ التفاؤل المتسرع، والذي من شأنه أن يرسخ الخلط السهل بين المتظاهرات من الإناث والناشطات النسويات. بالمقابل، لا يتعلق الأمر هنا، بتقديم رسم تقريبي يصور الكيانين في وضع متناقض، على النحو الذي يسعى إلى نشره كل من يدفعهن نحو المنافسة. 2هذا الوضع ينطبق بشكل الخاص على بعض الحركات المحافظة التي تسعى إلى إقصاء المطالب النسوية، والدفاع في نفس الوقت بمكانة المرأة في الحراك لذلك نفضل استخدام مصطلح "التواجد المشترك" لوصف المسارات الأنثوية و/ أو النسوية المختلفة وسط المتظاهرين.

الحراك باعتباره فرصة تاريخية

منذ الأسابيع الأولى للمظاهرات المطالبة بالديمقراطية، التحقت العديد من المنظمات النسوية بالحراك. في 22 مارس/آذار 2019، تأسس مربع نسوي في الجزائر العاصمة لجمع الناشطات النسويات تحت راية واحدة. قادت هذا العمل المدار ذاتياً وغير الحزبي والمستقل، مبادرة "نساء جزائريات من أجل التغيير والمساواة" التي تحمل الاسم المختصر (FACE)، تنتمي بعض أعضاء المبادرة إلى الوسط الجمعوي (شبكة وسيلة WASSILA، منظمات غير حكومية، إلخ). تضم مبادرة FACE أيضًا مثقفات وناشطات وطالبات. وفي بيانهن الصحفي،3إعلان المرأة الجزائرية من أجل التغيير نحو المساواة، صحيفة الوطن، 21 مارس/آذار 2019 الذي اتخذ شكل مظاهرة تثقيفية، تبنت الموقعات الأوائل موقفاً لصالح الحراك وربطن النضال ضد النظام بالنضال من أجل المساواة.

نقلت الصحافة الوطنية والدولية صدى هذه النقلة النوعية من خلال تقديم مشاركة النساء "في الخطوط الأمامية" و "في طليعة" الحراك. إذا كان الواجب يفرض التعاطي بشيء من التحفظ مع حماسة المراقبين، فلا بد من الإقرار أيضا بأن حضور المناضلات النسويات لم يعد موضع شك أو نفي. على الرغم من أقليتهن عددياً، إلا أنهن يخرجن إلى الشوارع بصفتهن نسويات، يتحملن كامل المسؤولية عن انتمائهن دون خشية إظهار ذلك. إننا نشهد أيضًا هبة من الأجيال الجديدة، التي أخذت مشعل المعركة وتبنتها بقوة، خاصة من الجيل الجديد الذي ينزع أحياناً إلى التطرف من خلال تعريف أنفسهن على أنهن "نسويات راديكاليات"، ومن خلال إثارتهن مسائل حساسة مثل مسألة علاقة النسويات بمؤسسة الشرطة والعدالة الجزائية.

ومنذ ذلك التاريخ، بدأ المربع النسوي يتظاهر من أمام بوابة الكلية المركزية بالجزائر العاصمة، 2 شارع ديدوش مراد. ومن منطق تناقل مشعل الكفاح من جيل الكبار إلى الأجيال اللاحقة، الوريثة الطبيعية، رفعت المتظاهرات لافتة مشكلة من شخصيات جزائرية معروفات لدى المواطنين بكفاحهن الأسطوري ضد الاستعمار والإرهاب والعنف الأبوي. من بين هذه الشخصيات النسائية البارزة، نجد مقاوِمة الاستعمار الفرنسي لالة فاطمة نسومر (1830-1863)، وبطلة معركة الجزائر حسيبة بن بوعلي (1938-1957)، والمجاهدة باية التهامي المعروفة بـسم "الكهلة" (1936-2017)، والناشطة النسوية الجزائرية نبيلة جاحنين (1965-1995) التي اغتيلت خلال العشرية الدامية وكذلك صورة أمينة مرابط، الشابة الجزائرية البالغة من العمر 34 عامًا التي أحرقت حية في أحد الشوارع في آب/أغسطس 2016. تهدف استراتيجية الاتصال هذه، إلى تأكيد الشرعية التاريخية للنضال النسوي وإدراجه في سياق ومسار استمرارية التمرد والثورية.

معظم الناشطات ينتهجن مقاربة قانونية هدفها الأساسي إلغاء قانون الأسرة الذي يعتبر غير دستوري. بعد سنِه في 1984 في عهد الحزب الوحيد (جبهة التحرير الوطني) ثم إصلاحه بمرسوم رئاسي في 2005، ظل يُنظر إليه على أنه قانون للأحوال الشخصية، ويكرس وضعية المرأة الجزائرية في مرتبة "قاصرة مدى الحياة". وبذلك، يرسخ هذا القانون التوتر وسوء التفاهم الأصلي بين مؤيدي علمنة قانون الأسرة والذين يعملون على الحفاظ بقانون مستوحاة بنوده من الدين. بالنسبة لبعض الناشطات اللواتي ناضلن في الميدان منذ عدة عقود ولاحظن تغيراً في مكانة المرأة، يبدو أن مثل هذا الخطاب قد تجاوزه الزمن، خاصة بالنظر إلى الدور المتنامي للمرأة في الجامعات وسوق العمل، بما ساهم في تحسين ظروف معيشتها المادية وفي إحداث تغيير اجتماعي متدرج لكنه حقيقي وملموس. ومع ذلك، فإن هذا الهوس بإلغاء قانون الأسرة الذي يسكن بعض الناشطات، لا يشكل علامة على الموجة النسوية الأولى التي لم يكن من الممكن أن تتكيف مع التحديات الجديدة التي تواجه المرأة، بقدر ما هو علامة على وجود فجوة صارخة بشكل متفاقم، بين أحكام التشريع الذي يحمله هذا القانون وتطور المجتمع. وبهذا الشأن، تطالب النسويات أيضًا بترسانة قانونية أفضل لحماية المرأة والمزيد من الوسائل للتنفيذ الفعال للقوانين وتطبيقها على أرض الواقع.

بهذه الطريقة، تصير المعادلة جد بسيطة: لا يمكن تحقيق تحرير جماعي بدون مساواة بين الرجل والمرأة. لكن من حيث الواقع، إذا كان الدستور الجزائري يكرس المساواة القانونية بين المواطنين4المادة. 32. -المواطنون سواسية أمام القانون، دون أي تمييز على أساس المولد، أو العرق أو الجنس أو الرأي أو أي حالة أخرى أو ظروف شخصية أو اجتماعية. الفصل الرابع الحقوق والحريات في المجال الخاص والفضاء العائلي، فالأحكام القانونية تواصل التمييز ضد المرأة؛ ومن بين المظالم الرئيسية لهذا التمييز، فرض وصي قانوني يبقي المرأة في مرتبة ثانوية. وقد يبدو هذا التركيز على المساواة من الناحية الرسمية، مطلبا عاف عليه الزمن، إذا قارناه بمستوى تطوّر النسويات في جميع أنحاء العالم وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بحيث بلغت جرأتهن حد التشكيك في جدوى إطار الدولة القومية أو حتى النماذج السائدة المرتبطة بالجنس. ومقارنة مع ما يجري في تونس أو لبنان أو فلسطين، على سبيل المثال، تبدو مطالب النسويات الجزائريات محدودة وأقل جرأة، ورغم ذلك، فإن مجرد انتقاد قانون الأسرة 5عُرف منذ عقود بـ "قانون العار" وجعله موضع تساؤل يثير ردود فعل قوية في المجتمع.

ومنذ 29 مارس/آذار 2019، بدأ المربع النسوي يتعرض لاعتداءات جسدية ولفظية من قبل أشخاص مجهولين وكذلك لحملات تشهير على الإنترنت. في إحدى مقطع الفيديو، بلغت حدة العنف ذروتها، عندما حرض أحد مستخدمي الإنترنت الجزائريين، يقيم في لندن، متابعيه على رش الناشطات النسويات بالحامض، فضلا عن التهديدات المواجهة للناشطات وتمزيق لافتاتهن. وبين الخصوم الرجعيين المعادين علناً لأي تغيير لصالح حقوق المرأة والذين يحاولون شد العصا من الوسط، عملا بالمثل القائل لا تجوّع الذئب (النسوي) ولا تغضب الراعي (الحراكي)6خاصة فيما يسمى بالمعسكر الديمقراطي ، أصبحت هذه المسألة بحكم الأمر الواقع، سياسية في جوهرها.

الحراك كاختبار لميزان القوى

إن هذه الخشية والارتياب هي أيضاً نتاج تمثيلات راسخة بقوة في المجتمع. حتى يومنا هذا، لا تزال الأوساط النسوية تعاني من مخلفات وندوب ما بعد الاستعمار، التي تختزل حضورها في نادي مغلق، مخصص لأفراد البرجوازية الصغيرة الناطقة بالفرنسية والحضرية والمتعلمة. وباعتبار أن الوسط النسوي متهمٌ بالترويج لخطاب نخبوي، وغير ممثل لرأي الأغلبية، ينظر إليه على أنه منفصل عن واقع عموم الشعب ولا علاقة له بالظروف المعيشية المادية لغالبية النساء الجزائريات، فضلا عن اتهامه بالمساس بثوابت الأمة المتعلقة بالهوية. ولم يكن مفاجأ ربطهن أيضًا بالحركة النسوية الرسمية في ظل حكم الحزب الواحد، بسبب العلاقات الوثيقة المباشرة بين بعض الجمعيات مثل الاتحاد الوطني للمرأة الجزائرية (UNFA) وجبهة التحرير الوطني.

وبالتالي، إذا كان الحراك قد أتاح الفرصة لحركية الإناث وقلب الأعراف السائدة حتى الآن (احتلال الناشطات الأماكن العامة أيام الجمعة في نفس المواعيد وعبر نفس المسارات التي يسير عليه الرجال)، تبقى الحركة النسوية مع ذلك وإلى حد كبير، تمثل بالنسبة للمجتمع مشروعا حضاريا أو حتى استعماريا، يطمح إلى تجريد المجتمع الجزائري من شخصيته الأصيلة. وبهذا المعنى، يمكن اعتبار أن أحد النجاحات الأولى للحراك من هذه الزاوية، هو الترويج (الإيجابي أو التحقيري) لكلمة نسوية في الصحافة والإعلام الوطني. على نطاق أوسع، يُؤكد تعميم هذه الكلمة (النسوية) في المجتمع المدني والمناقشات التي يثيرها على شبكات التواصل الاجتماعية، مدى التقدم الأكيد المحرز في مجال الاعتراف بالحركة، ومن ثم يلاحظ أن هذا المصطلح الذي لطالما استخدم لتقويض7انظر فيريل لعلامي. الجزائريات ضد قانون الأسرة. الكفاح من أجل المساواة، باريس، صحافه العلوم السياسية، 2012 كفاح النساء من أجل المساواة والتشنيع به، أصبح جزء من المفردات "الحراكية".

ونشهد أيضا تعزيز وبلورة خطاب استعادة المواطنين شوارعهم كفضاء للتعبير. وإذا كان الحراك كفضاء عام وسياسي قد فسح المجال ليقدم شكلاً من أشكال الاعتراف بالحركة النسوية، فإن هذا التنازل لا يرقى لمستوى الانخراط: تبدو الحركة في أفضل الأحوال شرعية، لكنها لا تحظى بعدُ بالأولوية. وهكذا، فإن القضية النسوية، على غرار القضايا الاجتماعية أو حتى الهوية التي لا تُعتبر "سياسية" بمعنى التغيير المؤسسي، أصبحت تشكل نوعا من الخميرة التي تهدد بانقسام الحراك، أو أبعد من ذلك مشكلة من الأحسن تأجيل حلها، في إطار الجمهورية الثانية.

ومع ذلك، لا يبدو أن الشعارات النسوية في حالة تناقص أو ضعف، رغم صداها المحدود للغاية مقارنة بشعارات الحراك العامة. تدعو الشعارات النسوية كل يوم جمعة، إلى الربط بين الكفاح من أجل المساواة في القانون والمطالب السياسية العامة: "مكاني في الحراك وليس في المطبخ"؛ "الديمقراطية ستتحقق مع النساء أو لن تتحقق!"

وتظل العملية محفوفة بالمخاطر، وعلى طريقة بهلوني الحبل المشدود، تسير الناشطات على حبل خطير، في سعيهن للحفاظ على توازن هش. وتحرص نساء المربع على تأكيد مكانتهن كجزء لا يتجزأ في النضال ضد النظام، وأن دورهن لا يقتصر على تقديم ضمان على التنوّع الجنسي للحراك أو استخدام حضورهن للأداء الجمالي فحسب.  وإذا كانت نساء الحراك استطعن بالفعل القيام بدور الحصن المنيع الذي حمى الحشود من المواطنين من عنف الشرطة أو لتعزيز الطابع السلمي للمسيرات (وصفهم يعض المعلقين بـ "أسمنت الحراك")، فإنهن يحرصن على عدم الوقوع في فخ استغلالهن لإضفاء طابع فولكلوري لمشاركتهن في الحراك.

تأكيد الاستقلال السياسي

في 15 يونيو 2019، انطلقت في الجزائر العاصمة أشغال المؤتمر الوطني الأول لديناميات المجتمع المدني الذي ضم الجمعيات والنقابات. وحاول المشاركون فيه الاتفاق على حلول لإنهاء الأزمة، واقترحوا خارطة طريق تدعو إلى المرور بفترة انتقالية. وقاطعت النسويات أعمال الاجتماع، معتبرين أن مطالبهن لم تؤخذ في الاعتبار، وهذا ينطبق على شبكة وسيلة التي انسحبت في اليوم السابق للحدث من المبادرة وأصدرت بياناً صحفياً على صفحتها على الفيسبوك:

على الرغم من حملات التشهير، التي جاءت من أوساط تعتبر "تقدمية"، نُظِّمت عدة لقاءات على المستوى المحلي، كتلك التي عقدت في وهران من 17 حتى 19 تشرين الأول/أكتوبر 2019. وبهذه المناسبة، نشرت الحركة النسوية بياناً يدين قمع المتظاهرين، ويعترض على إجراء الانتخابات الرئاسية ويطالب بالإفراج عن معتقلي الرأي. ومع مرور الشهور، نشأت مجموعات نسوية جديدة وتوطدت الروابط بين مجموعات أخرى إثر الحراك. منها مثلاً، التجمع الحر والمستقل لنساء بجاية، وتجمع نساء قسنطينة. وتُنظَّم حملات تضامنية وتوعوية ضد تعنيف النساء على المستوى الوطني. كما تسهم مختلف المبادرات المستقلة في دعم القضية النسوية. كان للمشروع التعاوني "أرشيف نضالات النساء في الجزائر" دوراً "في التعريف بالوثائق النضالية التي صدرت عن التجمعات والجمعيات النسوية الجزائرية وتجميع أرشيف رقمي متاح للجميع".

على مواقع التواصل الاجتماعي، تركز "الجريدة النسوية الجزائرية (الجزايرية)" بشكل خاص على تغطية التطورات المتعلقة بالحركة النسوية في إطار الحراك. كما يتطوع الموقع الإلكتروني "جرائم في حق النساء في الجزائر" (لا لقتل النساء - الجزائر) للعمل على تحديد عدد الجرائم المرتكبة في حق النساء والسهر على توثيقها، كما يسمح الموقع للأفراد أن يعلنوا بنفسهم عن حالات قتل النساء. وتساهم الأنشطة التضامنية العابرة للحدود في توطيد روابط رمزية. نذكر على سبيل المثال عريضة "نسوية جزائرية لمساندة حراك الطالعات الفلسطينيات" التي حصدت مئات الإمضاءات. ومؤخراً، أثارت الحملة المصورة "ممثلات جزائريات متحدات ضد قتل النساء" الكثير من التعليقات، وصنعت قدرًا من الضجة تجاوز الحدود الجزائرية. استعارت الممثلات الجزائريات دفتر الشكاوى، واستخدمن اللغة الدارجة (اللهجة الجزائرية) للتنديد بالتناقضات المتعلقة بالأحكام القضائية التي تصدر في حق النساء والعنف المتأصل من نظام تعليمي أبوي للبنات.

النسويات وتقاطع الصراعات

ينددن بعنف الشرطة، يتضامنن مع معتقلي الرأي ويرفضن ظروف سجن المعتقلين السياسيين وانتهاكات حرية الرأي، هكذا تحاول النسويات أن يجعلن قضيتهن شاملة، إذ يعتبرن أنفسهن مواطنات في بلد لا يستثني فيه التعسف والاستبداد أحداً. تحول تلك المواقف بدورها بينهن وبين الاتهامات بحصر نضالهن في قضايا معينة.

بيد أن هاته الجهود غير كافية إذ تواجهها عراقيل متعلقة بالطابع المؤقت للمطالب. تواجه النسويات بالفعل عداءً متصاعداً، يزداد كلما ضاق الخناق على الحراك، وفي ظل مشهد يعتبر فيه كل اختلاف أيديولوجي محاولة لتشتيت صفوف الحركة واستقطاب النقاشات، بل والتعامل مع النظام. من ناحية أخرى فإن مقاطعة الحركة النسوية لا تقتصر فقط على التيارات المحافظة. ففي عام 2019، وصل الأمر إلى طرح تساؤل عريض عن: "كيفية النضال لأجل المساواة دون إخافة الحراك" في برنامج إذاعي على محطة تعتبر تقدمية.

الحراك باعتباره مدرسة للمواطنة والتضامن عرَّى المجتمع وقضاياه. ويعتبر الكشف عن الانقسامات الأيديولوجية التي تسير المجتمع الجزائري أمرًا بالغ الأهمية. إذ من شأن ذلك أن يجنب الحراك الوقوع في سردية أحادية أو فاشية تنكر تعدد مكنوناته وتوجهاته.

في الوقت الراهن، يعتبر الخطاب المهيمن في الحراك الديمقراطية عاملًا من شأنه أن يسفر عن إزاحة الشكاوى النقابية والأيديولوجية والاجتماعية عن الواجهة. ويرفض إدراج القضايا النسوية في قائمة الأولويات، لأن أنصار الهرمية في النضال داخل الحراك، يصدرون قرارات مستبدة لا تختلف كثيرا عن تلك التي تصدرها الدول المستقلة حديثًا. إذ صادرت هاته الأخيرة الحريات الفردية والجمعية لشعوبها تحت شعار إعطاء الأولوية "للتنمية" قبل الديموقراطية. ومن ثم، يؤدي ذلك القمع للحريات الذي يختزل الديمقراطية في كونها شيئا محدودًا بدلاً من كونها ممارسة دائمة، إلى نزع صفة المواطنة عن النسويات.

من هنا، انتبهت الحركة النسوية لفخ الهرمية في المطالب السياسية التي برزت جلية أثناء الحراك. لكن بفضل قوتهم واستقلاليتهم، أبوا الاستسلام للاستراتيجية التي تجعل من المطالبة "بالرحيل" أولوية تأتي قبل كل مقترحات التغيير الأخرى.

أظهرت المسيرات النسائية في 8 مارس/آذار 2021، بمناسبة الاحتفال بعيد المرأة، حجم القلق المتعاظم حول هذه القضية. ومع ارتفاع الهتافات الصاخبة "خرجنا للتغيير وليس للاحتفال"، حوّلت غالبية النساء حدث 8 مارس إلى فرصة كشفت خلالها أمام الجميع، حِراكا أنثوياً ومناهضاً للنظام، لم يتأخر الرجال طويلا عن الانضمام إليه. أما الناشطات النسويات، الأكثر تهميشاً وإقصاء من قبل المجتمع، فقد أصررن على تمسكهن بالشعارات التي تؤكد الرسائل ذات الطبيعة النسوية. كان من الممكن للتلاقي بين المسيرتين واندماجهن أن يبعث برسالة قوية في اتجاه التيارات التي تحاول الفصل بين الاثنين، لأن المسيرتين، حتى وإن أعربت عن مقاومتها للوضع القائم بطرق مختلفة، فإن مطالب النساء عموما ليست متنافية. لكن بدلاً من ذلك التلاحم عن طريق تجمع المسيرتين في نهاية المسار، برز خط فاصل، عزل النسويات اللواتي وجدن أنفسهن محاصرات، بصوت غير مسموع، في خضم مسيرة النساء، ذلك لأن نادي التأخي النسائي، يتطلب استيفاء شروط التمكين، من قبيل توفير فضاءات للحوار والنقاش، وكذلك تحرير الصوت المواطني. أما في الوقت الراهن، تظل استقلالية الحركة النسوية الضامن الوحيد القادر على ضمان استدامتها.

على الرغم من أن المجتمع المدني لا زال يشق عليه الاعتراف بالنسوية كنضال له قيمته وجدواه في الجزائر، فذلك لم ينل من مثابرة الناشطات في الميدان ووفاءهن للحراك، الذي يساهم بلا شك في تعزيز حضورهن السياسي الظاهر، ويبقى التحدي الماثل أمامهن هو اكتساب الشرعية من خلال التجذر الإقليمي. ولذلك تقتضي دمقرطة النضال النسوي، نشر الخطب ونسج الشبكات وتعبئة وسائل العمل التي تتجاوز حدود المدن الكبرى والتجمعات السكنية شمال البلاد، من خلال نشر وتعزيز شبكات التضامن النسوي المحلي والإقليمي وعبر الوطني.

في الوقت الحالي، تذكرنا المواقف التي تراهن على الانتظار والترقب، والتي تدعو النسويات إلى الانصهار في الحشد الجماهيري، بمجموعة من القادة الجزائريين الذين كانوا يحثون المناضلين، في فجر الاستقلال، على التحلي بالصبر من أجل بناء الدولة الوطنية الجديدة. ومثل هذه النزعات الأبوية وتوجيه الأوامر للحث على استحقاق الاحترام، لا تقتصر على الناشطات النسويات. إن الهيمنة الذكورية، كونها عابرة للأيديولوجية وشاملة للطبقات الاجتماعية، فإنها تتوقع من جميع النساء التزام الأماكن المخصصة لهن من قبل النظام الأبوي. إذا أردنا أن نستخلص درسًا من هذه العلاقة بين الحراك والنسوية، التي تتسم أحيانا بالهدوء وأحياناً أخرى بطابع صدامي، يمكننا القول إن الحركة النسوية الجزائرية، التي لسعتها مرارة تجارب الماضي، لم تعد تسمح لنفسها بالانخداع بالخطب التي ترهن أي مطلب اجتماعي، بالتغيير المؤسسي أولا. يبقى على الذكاء الجماعي للحراك أن يستخلص من تصميم النسويات درساً في الكرامة السياسية.

Endnotes

Endnotes
1 النسوية الجزائرية، هذا إذا وجد أصلا تقليد نسوي وطني محدد، فالمعروف عنها تاريخيًا أنها علمانية
2 هذا الوضع ينطبق بشكل الخاص على بعض الحركات المحافظة التي تسعى إلى إقصاء المطالب النسوية، والدفاع في نفس الوقت بمكانة المرأة في الحراك
3 إعلان المرأة الجزائرية من أجل التغيير نحو المساواة، صحيفة الوطن، 21 مارس/آذار 2019
4 المادة. 32. -المواطنون سواسية أمام القانون، دون أي تمييز على أساس المولد، أو العرق أو الجنس أو الرأي أو أي حالة أخرى أو ظروف شخصية أو اجتماعية. الفصل الرابع الحقوق والحريات
5 عُرف منذ عقود بـ "قانون العار"
6 خاصة فيما يسمى بالمعسكر الديمقراطي
7 انظر فيريل لعلامي. الجزائريات ضد قانون الأسرة. الكفاح من أجل المساواة، باريس، صحافه العلوم السياسية، 2012

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.