الجذور التاريخية والأيديولوجية للسياسة الاجتماعية في الجزائر

تُنشر هذه الورقة ضمن منشور أطول حول موضوع الاحماية الاجتماعة في الجزائر، وممكن قراءتها خلال هذا الرابط.

تهدف هذه الورقة إلى مناقشة الجذور الأيديولوجية والتاريخية للسياسة الاجتماعية في الجزائر. فرغم تخلي الدولة عن النهج الاشتراكي منذ دستور شباط/فبراير 1989، إلا أن سخاء السياسة الاجتماعية ظلّ مستمراً إلى يومنا هذا، حتى وإن تفاوتت درجاته من حقبة إلى أخرى. فحتى في السنوات التي واجهت فيها الدولة تهديداً وجودياً بسبب الحرب مع الجماعات الإسلامية (1991- 1999) - والتي تزامنت مع أزمة اقتصادية خانقة، وتراجعت فيها مداخيل الدولة بشكل كبير أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس والعجز عن السداد، وأوقعها فريسة لبرنامج إعادة التصحيح الهيكلي1  طبقت الجزائر منذ الأزمة الاقتصادية لمنتصف الثمانينيات (التي انخفضت فيها صادرات الجزائر من المحروقات إلى 7 مليارات دولار سنة 1987 و9,5 مليارات دولار سنة 1989) أربع مراحل إصلاحات اقتصادية كبرى لكن من دون جدوى. امتدت الأولى بين 1986 و1989، حيث أعيدت فيها هيكلة المؤسسات العمومية في المرحلة الابتدائية، ومنحها الاستقلالية الذاتية لاحقاً. أما المرحلة الثانية فكانت باتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث ينص على منح قروض للجزائر مقابل شروط يمكن تلخيصها في: تقليص تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، تحرير التجارة الخارجية - تحرير الأسعار- التحكم في التضخم عن طريق تثبيت الأجور وخفض النفقات العمومية - خوصصة المؤسسات العمومية العاجزة - وتخفيض قيمة العملة الوطنية...). والمرحلة الثالثة جرى تطبيقها بين سنتي 1994 و1995، وفيها تم تسريع وتيرة تحرير الأسعار ورفع الدعم عن معظم السلع عدا ثلاث منها هي: الفرينة، السميد والحليب. سُرّح آلاف العمال وأيضاً خُفّض حجم التحويلات الاجتماعية الموجهة للصحة والسكن والتعليم. وامتدت المرحلة الرابعة من سنة 1995 إلى 1998، حيث أجبر صندوق النقد الدولي الجزائر على تسريع عملية التحول نحو اقتصاد السوق وتحرير الأسعار ورفع القيود عن التجارة الخارجية. ; كانت آثار هذه الإصلاحات قاسية جدًّا على الشرائح الاجتماعية الوسطى والفقيرة، التي كانت تعاني أساساً من آثار الأزمة الأمنية والحرب على الإرهاب. للتعمق أكثر في هذه الآثار الاجتماعية انظر: عيسى بن ناصر: الآثار الاقتصادية والاجتماعية لبرنامج التكييف والتعديل الهيكلي في الجزائر. مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية Volume 3, Numéro 7, Pages 119-142. . المجلد .، العدد 7( 2002)، ص ص 119- 142. على الرابط التالي: https://www.asjp.cerist.dz/en/article/40184 ;  وإلى: Cherif Chakib, Programme d'ajustement structurel et résultats socio-économiques en Algérie; IN: Revue Sciences Humaines, N° .n°18, Décembre 2002, pp. 39-56 https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/23/13/2/91015 - ظلت التحويلات الاجتماعية تشكل جزءاً أساسيًّا من ميزانية الدولة، ولم يدفع برنامج التصحيح الهيكلي إلى التخلي التام عن دعم السلع والخدمات الأساسية.

مع عودة الأمن في مطلع الألفية، عادت كذلك أسعار المحروقات إلى الارتفاع، فعادت الدولة إلى سياسة الإنفاق السخي، واحتلت التحويلات الاجتماعية مساحة مهمة في ميزانيتها2   تتغير هذه النسبة من سنة إلى أخرى حسب مداخيل الدولة المرتبطة هي الأخرى بسعر المحروقات. ففي سنة 2022 مثلاً، بلغت حسب تصريح الوزير الأول أمام لجنة المالية في البرلمان، 7,19 بالمئة من ميزانية الدولة لسنة 2022 (مقابل 24 % في 2021) و 8,4 % من الناتج الداخلي الخام للبلاد (9,5 % في 2021)، وتخصص لدعم العائلات ميزانية بـ7,597 مليار دج (7,553 مليار دج في 2021).  ويتوزع هذا الدعم على 5,315 مليار دج لدعم أسعار المواد الأساسية (الحبوب، الحليب، السكر وزيت المائدة) و3,105 مليارات دج لدعم الكهرباء والغاز والماء،  و13,45 مليار دج للتعويضات العائلية، و7,131 مليار دج لدعم التربية .انظر: https://www.aps.dz/ar/economie/114618-2022 ; للاطلاع على حجم التحويلات الاجتماعية في الفترة الممتدة بين 2000 و2018، انظر دراسة تحليلية دقيقة للباحثتين قدار مريم وعيدودي فاطمة الزهراء المعنونة بـ: التحويلات الاجتماعية في الجزائر خلال الفترة (2000- 2018). المركبات الأساسية ACP. ، مجلة البشائر الاقتصادية، المجلد 5، العدد 2، ص ص 969-683. https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/196/5/2/101136 . بنيت خلال هذه الفترة مئات الآلاف من المساكن الاجتماعية التي وزعتها الدولة على الفئات الضعيفة ومتوسطة الدخل، وظل سعر البنزين في الجزائر هو الأرخص في العالم، بينما تستفيد حزمة واسعة من السلع الاستهلاكية الأساسية من دعم مباشر من الدولة. فيما تم توظيف الآلاف من الشباب خريجي الجامعات ومعاهد التكوين في الأجهزة الإدارية ليستفيدوا من أجور حتى وإن كان لا يقابلها إنتاج حقيقي. بينما أطلقت الحكومة برامج وآليات مختلفة لمساعدة الشباب على إقامة مؤسساتهم الخاصة بمنحهم قروضاً دون فوائد أو بفوائد منخفضة3ندكر على سبيل المثال: الوكالة الوطنية لدعم وتشغيل الشباب. .

وفي سنة 2014، مع بدء تراجع أسعار النفط التي تشكل المصدر الأساسي لمداخيل الدولة من العملة الصعبة (أكثر من 95%)، عادت الأصوات المطالبة بضرورة مراجعة سياسة الدعم الاجتماعي الشاملة، بشكل يضمن حصر الاستفادة منها بالفئات ضعيفة الدخل، ويضمن مواجهة التبذير الحاصل في استهلاك المواد المدعومة، أو مواجهة التهريب الذي يطال هذه السلع إلى البلدان المجاورة.

وبالفعل، قامت الحكومات المتعاقبة على مدار السنوات السبع الماضية (2014-2021) بخفض تدريجي لحجم الدعم على المحروقات (البنزين، المازوت) وكل أنواع الطاقة الأخرى (الكهرباء والغاز)، وتقليص عملية التوظيف في القطاع العمومي، وتجميد برمجة (وإنجاز) المشاريع السكنية الموجهة إلى الفئات الاجتماعية الوسطى والهشة.

وعشية إعداد قانون المالية لسنة 2022 في ظروف مالية صعبة، تآكلت فيها احتياطات العملة الصعبة إلى ما دون الأربعين مليار دولار، وتراجع فيها سعر برميل النفط إلى ما دون الأربعين دولاراً4بلغت في 2012 حوالي 200 مليار دولار، وباتت كل السياسة المالية للحكومات المتعاقبة تتمحور حول كيفية وقف استنزاف هذه الاحتياطات، بل تحول ذلك الهدف إلى مشروع اقتصادي في حد ذاته، فأنتج سياسة تقشفية صارمة تجاه الصادرات أدت بدورها إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع المستوردة، وفي ندرة بعضها الآخر. ، صرحت الحكومة بشكل مباشر أنها مصممة على مراجعة صيغ الدعم، والتوجه نحو ما تسميه بالدعم المستهدف ليكون بديلاً عن الدعم الشامل المكلف والمرهق للخزينة العمومية. فحدث جدل كبير في كيفية التوفيق بين الاستقرار المالي للدولة، وبين ضرورة الحفاظ على السلم الاجتماعي في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي خلّفتها جائحة كورونا، وتراجع القدرة الشرائية للجزائريين بشكل تصاعدي منذ سنة 2014 بسبب سياسة التقشف المتبعة، وتخفيض الإنفاق العمومي خاصة في مجال مشاريع البناء والأشغال العمومية، والتضخم، وتقليص حجم الصادرات، وتراجع قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية.

في هذا السياق، جاء قانون المالية لسنة 2022 صارماً وموجعاً حتى للطبقة الوسطى. فبالرغم من عدم رفع أسعار المحروقات الأساسية، إلّا أن ضرائب ورسوماً جديدة فُرضت على حزمة كبيرة من السلع والأنشطة. وبرر الوزير الأول ذلك ''بضرورة إصلاح نظام الدعم الاجتماعي من دون أن يعني ذلك المساس بالطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية''5في الواقع لم ينتظر الوزير الأول فرصة عرض مشروع قانون المالية لسنة 2022 ليِؤكد على ذلك، بل أدرج مراجعة السياسة الاجتماعية للدولة ضمن برنامج عمل الحكومة الذي قدمه أمام نواب المجلس الشعبي الوطني يوم الأربعاء 22 سبتمبر 2021. للاطلاع على التصريح انظر: https://www.aps.dz/ar/societe/112821-2021-09-22-19-00-40 . ولكن، ما إن كاد يبدأ الجدل في وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية، حتى أمر رئيس الجمهورية بتعليق كل الضرائب الجديدة المفروضة في قانون المالية، مع الحفاظ على دعم السلع ذات الاستهلاك الواسع بنفس الآليات التقليدية6قرر رئيس الجمهورية في اجتماع مجلس الوزراء يوم الأحد 13 فيفري بتعليق وتجميد جميع الضرائب المفروضة في قانون المالية على المواد والسلع الاستهلاكية، وكذلك الكثير من المنتجات الإلكترونية والإلكترو منزلية والهواتف النقالة إلى إشعار آخر (دون تحديد مدة التعليق أو إن ألغيت نهائياً). انظر: برقية وكالة الأنباء الجزائرية https://www.aps.dz/ar/economie/121228-2022-02-13-18-00-28 . وفي الحقيقة، تعتبر هذه الممارسة شائعة جدًّا في فترة حكم بوتفليقة، إذ كانت الحكومة تفرض الضرائب ويتدخل هو بقرار رئاسي لإلغائها، لتتبعها بعد ذلك بيانات مباركة القرار وتثمينه من طرف الأحزاب السياسية والمنظمات العمالية والمجتمع المدني الداعم للسلطة. .

انطلاقاً مما سبق، تبحث هذه الورقة في الجذور الأيديولوجية للسياسة الاجتماعية للدولة الجزائرية، وتطرح تساؤلين رئيسيين:

  • ما هي الجذور التاريخية والأيديولوجية للسياسة الاجتماعية في الجزائر؟
  • لماذا ظلت سياسة الدعم الاجتماعي ثابتة في الخطاب السياسي الجزائري رغم كل التحولات التي مرت بها الجزائر؟

سنبدأ أولاً بشرح مضمون السياسة الاجتماعية في الجزائر وتعريف أهم مكوناتها. ثم بعدها سنحاول أن نتتبع جذورها التاريخية في النصوص الرسمية وفي ممارسات الدولة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا.

أولاً- مضمون السياسة الاجتماعية في الجزائر

تقوم السياسة الاجتماعية في الجزائر- والتي يُعبَّر عنها كذلك بسياسة الدعم الاجتماعي، أو نظام التحويلات الاجتماعية - على دعم الدولة المباشر وغير المباشر لمجموعة من السلع الأساسية، والخدمات أو دعم قطاعات بعينها. بعض هذا الدعم شامل، يستفيد منه كل الجزائريين بغض النظر عن حجم مداخيلهم (دعم السلع الأساسية)، والبعض الآخر (مثل السكن) موجه لفئات محددة، أو أنه يختلف حجمه باختلاف مداخيل الأسر والأفراد. ويمكن أن نلخص هذه المجالات في ما يأتي:

  • دعم السلع ذات الاستهلاك الواسع (دعم الأسر): تحظى سلة من السلع الأساسية في الجزائر بدعم الدولة لأسعارها، حيث تقوم الخزينة العمومية بدفع الفرق بين سعر الاستيراد وسعر البيع للمستهلك بصيغ مباشرة وغير مباشرة، ما يجعل هذه السلة تصل إلى المستهلكين بسعر أقل من سعر شرائها من السوق العالمية. أو بشرائها بسعر مدعوم من طرف المنتجين المحليين على غرار ما يحدث لأسعار حليب البقر الطازج أو أسعار القمح.

هذه السلة ليست ثابتة، ويتم تكييفها حسب ظروف الموازنة العامة، ولكن ثمة خمس سلع أساسية ظلت الدولة ملتزمة بدعم أسعارها بطرق مختلفة : الخبز (من خلال دعم المواد الأولية لصناعته: مادة الفرينة يتم بيعها للخبّازين بسعر أقل من سعر شرائها من السوق العالمية مقابل تسقيف سعر الخبز). الدقيق (من خلال دعم سعر بيع القمح للمطاحن ودعم سعر شرائه من المزارعين). الحليب، السكر والزيت (من خلال دعم المنتجين مقابل تسقيف الأسعار). أو من خلال إلغاء أو تخفيض الضريبة على القيمة المضافة أو الرسوم الجمركية على بعض السلع الاستهلاكية مثل البقول والحبوب الجافة أو المواد الأولية التي تدخل في صناعة الزيوت الغذائية... بلغت ميزانية دعم الأسر سنة 2022 حوالي 7.597 مليارات دينار أو ما يعادل 4.36 مليارات دولار، ما يمثل قرابة 31 بالمائة من مجموع التحويلات الاجتماعية.

  • دعم أسعار المحروقات والكهرباء: تحتل الجزائر المرتبة الثالثة في العالم من حيث انخفاض أسعار البنزين والديزل رغم لجوء الدولة إلى تخفيض الدعم عنه ثلاث مرات خلال السنوات العشر الماضية7في غضون 10 سنوات ارتفعت أسعار المحروقات (بنزين وغازولين) بنسبة مئة في المئة. كان البنزين سنة 2013 في حدود 23 دج للتر الواحد، وأصبح 46 دج في سنة 2020. أما الغازولين الذي يستعمل بكثرة في وسائل النقل وآلات الفلاحة والمصانع، فانتقل سعره من 13 دج سنة 2013 إلى 29 دج سنة 2020. تعيش شرائح واسعة من سكان المناطق  الحدودية على تهريب المحروقات نظراً لفارق السعر بين الجزائر وهذه البلدان. بل نشأ اقتصاد موازٍ بأكمله قائم على تهريب المحروقات وبعض السلع المدعومة محلياً. تشير التقديرات إلى خسارة الجزائر لحوالي مليار دولار سنوياً من التهريب، واتُّخذ هذا العامل كمبرر لإصلاح الدعم أو بالأحرى لتخفيض قيمته. . ويتم دعم هذه المواد من خلال بيعها بسعر أقل من تكلفة الإنتاج وأقل من السوق العالمية بكثير. وكذلك الأمر بالنسبة لأسعار الكهرباء وغاز المدينة، حيث إن الدولة تدعم مباشرة الشركة الوطنية للكهرباء والغاز لتعويض خسائر إيصالها الكهرباء للمستهلكين بسعر أقل من التكلفة.
  • دعم الصحة والتعليم: الصحة العمومية والتعليم مجانيّان في الجزائر، وتستفيد شرائح واسعة من المعوزين وأصحاب الأمراض المزمنة من الرعاية الصحية والتأمين الصحي. بينما تخصص الدولة منحة تمدرس لفائدة أبناء العائلات متوسطة وضعيفة الدخل، وإطعام مدرسي مجاني – أو بمبلغ رمزي – لفائدة التلاميذ في مختلف الأطوار التعليمية. أما في التعليم العالي، فإن الطلبة يستفيدون من التعليم المجاني، ومنحة دراسية شهرية، وإطعام وإقامة ونقل مجاني8نظرياً، ثمة شروط للاستفادة من المنحة الجامعية، ولكن عملياً يكاد كل الطلبة المسجلين في الجامعة يستفيدون منها. أما بخصوص الإطعام، فيدفع الطالب مقابل الوجبة الواحدة 1.20 ديناراً (عشر وجبات تكلف أقل من 1 أورو، بينما التكلفة الحقيقية للوجبة الواحدة هي أكثر من 250 دج: 1.5 أورو)، وهو مبلغ رمزي جدًّا لم يتغير منذ نهاية الثمانينيات. فيما يتم دفع رسوم الاشتراك في النقل الجامعي (140 ديناراً: 1 أورو للسنة، و300 دينار: 2 أورو للسنة) للإقامة في غرفة بالحي الجامعي. .
  • دعم الشغل من خلال المساهمة في دفع جزء من أجور العمال الشباب لدى القطاع الخاص والقطاع العام عبر الوكالة الوطنية لتشغيل الشباب9تمر عملية التوظيف في القطاعين العمومي والخاص عبر الوكالة الوطنية للتشغيل، بحيث تتكفل هذه الأخيرة بدفع 40 بالمئة من أجر الموظف أو العامل لمدة من الزمن (في إطار ما سمي بعقود ما قبل التشغيل)، فيما تتكفل المؤسسة الموظِّفة بدفع الباقي. الغرض من ذلك هو مساعدة المؤسسات الصناعية والخدماتية على توظيف أكبر عدد ممكن من الشباب حاملي الشهادات. .
  • دعم السكن: من خلال بناء المساكن وبيعها إما بسعر منخفض للفئات المتوسطة، أو بمنحها مجاناً للفئات الهشة (السكن الاجتماعي). خصصت الحكومة سنة 2022 247 مليار دينار لدعم السكن10توجد في الجزائر صيغ متعددة لمساعدة العائلات والأفراد في الحصول على السكن. وتختلف هذه الصيغ حسب مداخيل الأسرة (الزوجين) أو حسب المنطقة الجغرافية. ويمكن أن نلخصها في ما يأتي: 1- السكن الاجتماعي (السكن العمومي الإيجاري) مثلا يمنح مجاناً للأسر عديمة الدخل أو التي يقل دخلها عن 24000 دج ( 150 أورو) مقابل دفع إيجار رمزي. 2- الريفي: عبارة عن إعانة تقدمها الدولة للأسر الساكنة في المناطق الريفية لبناء مساكن فردية. تغطي هذه الإعانة ما نسبته 60 بالمئة من تكاليف مسكن يتكون من ثلاث غرف ومطبخ وحمام. 3- مساكن للبيع بالإيجار: مخصص للفئات ذات الدخل المتوسط (يتراوح بين 24000 دج و120000)، حيث يدفع المستفيد قسطاً من ثمن المسكن المدعوم من طرف الدولة، ثم يقوم بدفع الأقساط المتبقية على مدار 25 سنة). 4- السكن الترقوي العمومي الموجه إلى الفئات التي يتجاوز دخلها 120000دج، لكن سعره مدعوم مقارنة مع أسعار المساكن في السوق لدى المرقّين العقاريين. للتعمق أكثر في سياسة السكن في الجزائر والمنطقة العربية عموماً انظر العدد 38/39 من مجلة نقد (خريف – شتاء 2020) والمخصصة للموضوع  ذاته: Naqd: les politiques de logement social au Maghreb/ Machrak et dans le sud global. Numéro piloté par Rachid Boumedine et Pierre Signole ; أما للاطلاع على إحصائيات دقيقة ومفصلة لعدد المساكن المنجزة بمختلف الصيغ منذ 2010 إلى يومنا هذا، فيمكن الرجوع إلى الرابط الآتي لوزارة السكن والعمران: https://bit.ly/3QiQqGE .

ثانياً - الجذور التاريخية للسياسة الاجتماعية للدولة

لا يمكن فهم المنطق الذي يحكم السياسة الاجتماعية للدولة الجزائرية إلا بالرجوع إلى السياق التاريخي الذي نشأت فيه هذه الدولة. يسمح لنا هذا الرجوع إلى تجاوز الاختزالات التي تدّعي أن الغرض الوحيد لهذه السياسة هو شراء السلم الاجتماعي لا استمرار النظام السياسي القائم، أو خلق فرص ريعية لزبائن السلطة أو لأقرباء المسؤولين وأصدقائهم. صحيح أن هذه الظواهر موجودة، وصحيح أيضاً أن الدعم الاجتماعي يستفيد منه النظام سياسياً، ولكن لا يمكن إطلاقاً القول إن السبب وراء سخاء الدولة الجزائرية هو فقط أهداف واستراتيجيات سلطوية. ليس من العلمية في شيء تفسير فشل الانتقال الديمقراطي باستمرار السياسة الاجتماعية السخية، كما لا يمكن اختزال الفشل الاقتصادي وضعف الاستثمار في إخلال نظام الدعم الاجتماعي بقوانين السوق ونظام الأسعار والتنافسية. سياسة الدعم الاجتماعي في الجزائر وجدت قبل ظهور المطلب الديمقراطي، أي منذ الاستقلال مباشرة حينما كانت النخب الحاكمة تتمتع بشرعية ثورية قوية، ووجدت أيضاً في عزّ النظام الاشتراكي حيث كانت الدولة هي المنتج والمشغّل والموزّع. هل يجوز أن نفسر فشل النظام الاشتراكي (1962-1989) وفشل التحول الاقتصادي نحو اقتصاد السوق منتجاً بهيمنة الطابع الاجتماعي للدولة وما يسببه ذلك من إخلال بقوانين السوق والاستثمار؟ بالطبع هذا ليس منطقياً. الفرضية الأساسية التي تنطلق منها هذه الورقة هي أن الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية يجد جذوره في الظروف التاريخية التي تأسست فيها هذه الدولة. وأن استمراره إلى ما بعد التعددية والليبرالية أكبر من أن يختزل في استخدامه كمورد سياسي من طرف السلطة. يعد الدعم الاجتماعي إحدى ركائز الثقافة السياسية للدولة الجزائرية، ومن الصعب على أي نظام سياسي ديمقراطياً كان أم شمولياً، ليبرالياً أم يسارياً، أن يلغيه أو يتراجع عنه كلياً.

السياق التاريخي لنشأة الدولة الجزائرية

نشأت الدولة الجزائرية كردّ فعل ثوري على نظام إمبريالي رأسمالي هيمن على الجزائر لأكثر من قرن من الزمن، استولت فيه فئة قليلة من المعمّرين الأوروبيين ومن العائلات الاقطاعية الجزائرية المتعاونة مع الاستعمار على مجمل ثروات البلاد. واستغلت شرائح واسعة جداً من الفلاحين كعبيد أو خماس في المزارع أو الورشات أو المصانع... إن ثورة أول تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 هي في نظر النخب الجزائرية آنذاك ثورة الكادحين على الاقطاعيات والرأسماليين. فالدولة التي تمخضت عن هذه الثورة التزمت في بيان الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954 كأهم وثيقة تأسيسية للدولة الجزائرية، بتأسيس دولة اجتماعية ديمقراطية. إن صورة الدولة في مخيال الجزائريين تشكلت داخل هذا السياق التاريخي والأيديولوجي.

تمثّلات الجزائريين لصورة ووظيفة الدولة

الدولة الوطنية كنقيض لدولة الاستعمار: أول ما عرف الجزائريون الدولة، عرفوها كقوة خارجية محتلة، تفرض الضرائب أو تنهب الموارد وتستغل الخيرات. كانت هذه حالة البايلك العثماني، ثم الإدارة الفرنسية. لا تزال الذاكرة الجماعية للجزائريين مشحونة بصورة سلبية عن الدولة. لذلك، عملت النخب السياسية بعد الاستقلال على بناء دولة تكون وظيفتها قطيعة مع شكل الدولة الذي تكرس في مخيلة الجزائريين. أرادت هذه النخب أن تبني دولة لا تجمع الضرائب وحسب، ولكن تعمل على توزيع الثروة (بشكل عادل) بين/وعلى كل الجزائريين، وتقضي على الفقر والبؤس الذي خلّفه الاستعمار، وتحدّ من الفوارق الاجتماعية، وتحارب البورجوازية والإقطاعية، وتؤمم الموارد الطبيعية، وتقدّم خدمات وحماية اجتماعية. ولم تتأسس الدولة كطرف يفصل بين الخلافات التي تنشأ داخل المجتمع، بل كدولة رعاية، تعمل على توفير السلع والخدمات للجزائريين.

ب- الدولة ضد السوق11نستعير هذه العبارة من أعمال عالم الاجتماع لهواري عدي. : يعكس مبدأ الدولة ضد السوق الجذور الأيديولوجية للسياسات الاجتماعية في الجزائر. حتى عند مناضلي الحركة الوطنية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، كان يُنظر إلى الاستعمار على أنه قوة رأسمالية إمبريالية، تعمل على استغلال العمال الكادحين الجزائريين وإفقارهم. وكان يُنظر إلى اللامساواة الموجودة بين الجزائريين والمعمرين من زاوية علاقات الإنتاج داخل المجتمع، خاصة وأن حزب الشعب قد تأسس من مناضلين ينتمون إلى اليسار الماركسي، وحظوا بالدعم من الحزب الشيوعي الفرنسي. لهذا السبب، وفي سياق دولي تهيمن عليه الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، تأسست الدولة الجزائرية المستقلة كجهاز بيروقراطي يحارب السوق12Addi Lahouari, l'impasse du populisme (ENL. 1989). ، ويمنعه من التغلغل داخل العلاقات الاجتماعية. وفي السنوات الثلاثين الأولى من الاستقلال، كانت إرادة محاربة السوق مُعلنة، وموثقة في مختلف النصوص التأسيسية للدولة، وتجسد ذلك في النهج الاشتراكي الذي قام على تأميم الأملاك الزراعية والمؤسسات الصناعية، وهيمنة الدولة على القطاع الاقتصادي بمختلف حلقاته ومستوياته، ومحاربة القطاع الخاص، ثم دعم الأسعار على كافة المستويات وخاصة المستوردة منها. واستخدمت الدولة عائدات النفط من أجل تحدي قوانين السوق، وإبقاء الأسعار في مستويات منخفضة تستطيع جميع الفئات الاجتماعية الوصول إليها.

أما بعد إقرار الليبرالية في دستور 1989، فلم يتغير الأمر كثيراً، إذ استمرت الدولة في تحدي قوانين السوق حتى في عزّ الأزمة الأمنية والاقتصادية لسنوات التسعينيات. ولا يزال البعد الاجتماعي اليوم يطغى على توجه الدولة. ويكفي النظر إلى حجم الميزانية المخصصة للتحويلات الاجتماعية كل سنة13أشرنا أعلاه إلى أن سياسة تقشفية بدأت الحكومة في اتباعها منذ 2014. أما بين 2000 و2013، فكانت الدولة اجتماعية التوجه بامتياز، وكانت المستثمر الأول. يمكن العودة إلى دراسة الباحثين: تاحي كريمة وبلقاسم نويصر للاطلاع على حجم هذه التحويلات خلال هذه الفترة. انظر: تاحي كريمة، بلقاسم نويصر: واقع السياسة الاجتماعية في الجزائر وسبل معالجتها للمسألة الاجتماعية، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 10، العدد 02 (جوان 2017)، ص ص 347- 36.(https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/65/10/2/59249 .

النصوص المؤسسة للدولة الجزائرية

  • لا يخلو أي نص تأسيسي للدولة الجزائرية من الإشارة إلى الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية، وسنستعرض في ما يأتي أهم هذه النصوص والصيغ التي تؤكد فيها ذلك.
  • أ‌- بيان أول تشرين الثاني/ نوفمبر 1954: أول هدف وُضِع لبيان الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر هو ''إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية''14بيان أول نوفمبر https://www.el-mouradia.dz/ar/algeria/texts/statement-of-november . وتحول هذا الهدف إلى مبدأ لكل المواثيق الرسمية للدولة الجزائرية بعد ذلك، ويستخدمه الخطاب الرسمي لتأكيده على عدم تخلّيه عن السياسة الاجتماعية للدولة مهما كانت الظروف المالية لها. ولكن، لا شك أنه يستعمل كذلك لتبرير الاستمرار في الإنفاق الاجتماعي المكلف أمام الانتقادات التي تطال هذه السياسة، أو أمام أعشاش الفساد التي تشكلت حولها.
  • ب‌- ميثاق مؤتمر طرابلس 196215ميثاق طرابلس. https://www.el-mouradia.dz/ar/algeria/texts/tripoli-conference : اعتبر الثورة الجزائرية ثورة ضد الاقطاع الداخلي، وضد الإمبريالية الفرنسية وهيمنة المعمرين على موارد البلد. وأعطى هدفا أساسيًّا للثورة وهو بناء دولة تتكفل بطبقة الفلاحين التي كانت الأكثر تضرراً خلال الثورة.
  • ت‌- دستور 16دستور 1963. https://www.el-mouradia.dz/ar/algeria/texts/previous-constitutions 1963: ينص دستور 1963 في ديباجته على أن أحد أهم وظائف الدولة التي قامت لأجلها الثورة هي ''انتهـاج سياسـة اجتماعيـة لفائـدة الجماهـير كي يرتفـع مسـتوى معيشـة العـمال، والتعجيـل بترقيـة المـرأة قصـد إشـراكها في تدبيـر الشـؤون العامـة، وتطويـر البـلاد، ومحـو الأميـة، وتنميـة الثقافـة القوميـة، وتحسـين السـكن، والحالـة الصحيـة العامـة".
  • ث‌- دستور 1976: كرس دستور 17دستور 1976. https://www.el-mouradia.dz/ar/algeria/texts/previous-constitutions 1976، المتمخض عن الميثاق الوطني، النهج الاشتراكي بكل ما يحمل ذلك من دلالات ومعانٍ في مجال هيمنة الدولة على الاقتصاد والتجارة الخارجية، وتحكّمها في الأسعار، مع التأكيد على مجانية التعليم والصحة.

أما بعد التعددية، رغم إقرار الليبرالية الاقتصادية في دستور 1989، إلا أن الدولة لم تتراجع عن طابعها الاجتماعي. بنيت جزائر ما بعد 1989 على تصور لا يلغي الطابع الاجتماعي للدولة، ولا يرى فيه عائقاً أمام نمو القطاع الخاص، ولا مخلًّا بقوانين السوق وخاصة نظام الأسعار.

وعرفت الجزائر خلال الثلاثين سنة الماضية أربعة دساتير أساسية هي دستور 1989 و1996 و2016 و2020. وتؤكد كل هذه الدساتير على الطابع الاجتماعي للدولة الجزائرية، وأن حماية الطبقات الهشة هي إحدى وظائفها الأساسية، وتنص على أن مرجعيتها في ذلك هي بيان الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر الذي تمت صياغته عشية حرب التحرير الكبرى (1954-1962).

خلاصة

تأسست الدولة الجزائرية ضد تناقضات النظام الاستعماري التي جعلت من الإدارة الاستعمارية أداة في يد المعمرين لإفقار الجزائريين. إن النخب الوطنية التي كافحت من أجل الاستقلال، وضعت مبكراً مبدأ الدولة الاجتماعية والعدالة الاجتماعية ضمن أهدافها للترويج والدعاية للمشروع الاستقلالي. وبالفعل، ساهم هذا الشعار في حشد الجزائريين وتعبئتهم حول جبهة التحرير الوطني حتى تحقيق الهدف.

وعدت النخب السياسية بعد الاستقلال بجعل الدولة في خدمة الجزائريين الذين أنهكهم النظام الاستعماري، فوضعت كل المواثيق السياسية المؤسسة للدولة الجزائرية والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية لتستجيب لهذه الوظيفة.

وسمحت مداخيل النفط الهائلة بصيانة هذه الوظيفة الاجتماعية، بحيث مكّنت الدولة من دعم التعليم والصحة والسلع الأساسية والنقل. سمحت هذه السياسة السخية كذلك، باحتلال الجزائر المرتبة التاسعة ضمن 169 دولة في مؤشر التنمية البشرية لسنة 2010، فيما كانت من بين الدول القليلة التي استطاعت تحقيق أهداف الأمم المتحدة للألفية18انظر: Youcef Ben Abdellah: Etat développementaliste vs Etat rentier: Qu’en est -il en Algérie . In Naqd, N°36( Mars /Avril 2018), p 82 .

ولكن نظام الدعم الشامل لم يكن دائماً في صالح الطبقات الهشة، بل إن المستفيد الأكبر منه هي الطبقة الغنية. فمثلاً، كشفت دراسة للديوان الوطني للإحصاء أعدت سنة 2012، أن أكثر من 50 بالمئة من ميزانية التحويلات الاجتماعية يستفيد منها الأكثر غنى في المجتمع19Ibid, p 82 . فمثلاً، المستفيد الأكبر من دعم الحليب هم منتجو الأجبان ومستقاتها، والمستفيد من دعم السكر هي مصانع المشروبات والحلويات، والأمر نفسه بالنسبة للبنزين والزيت والكهرباء والماء. ولا تزال الطبقات تشكو من ضعف القدرة الشرائية ومن عدم نجاعة نظام الدعم الاجتماعي الحالي. والحكومة نفسها تقر بهذا، وتتخذه مبرراً لرفع الدعم أو رفع الأسعار من دون أن تجد طريقة لتجسيد ذلك.

ولكن، كلما تهاوت أسعار النفط المتقلبة في السوق العالمية، تجد الدولة نفسها في حرج وعاجزة عن الوفاء بالتزاماتها. يتعالى خطاب ضرورة إصلاح نظام الدعم الاجتماعي في أوقات الأزمات وشح الموارد، متحججة تارة بمحاربة التبذير وتوجيه الدعم لمستحقيه، وتارة أخرى بمبررات اقتصادية لتحفيز الاستثمار. ولكن بمجرد أن تعود الأسعار للارتفاع مجدداً، تخفت الأصوات المطالبة بالإصلاح وتعود الممارسات الريعية والتبذيرية إلى الواجهة.

ثمة جانب آخر لهذه المسألة، إذ إن قضية الطابع الاجتماعي للدولة في الجزائر لا تقل أهمية عن باقي المسائل الأخرى المتعلقة بالثوابت الوطنية. ممارسات الدولة نفسها خلال ستين سنة، والظروف التاريخية التي نشأت منها، تجعل التخلي عن الطابع الاجتماعي أمراً خطيراً ليس فقط بالنسبة للفئات الهشة التي أنهكتها الأزمات الاقتصادية المتعاقبة، وتبعية الاقتصاد الجزائري لسوق المحروقات، بل بالنسبة إلى الصورة التي كرستها الدولة عن نفسها وتستمد منها النخب الحاكمة شرعيتها السياسية. أي معنى للدولة الجزائرية سيبقى إذا ما تخلت عن وظيفتها الاجتماعية؟ وأي شرعية سياسية ستبقى للنخب الحاكمة إذا ما رمت بهذه الورقة؟ هنالك ثمن واحد يمكن دفعه لأجل ذلك: مقايضة الدعم الاجتماعي بتقاسم السلطة. المشكلة أن هذا الخيار غير جاهز الآن لسببين: في سياقات البحبوحة المالية ليس هنالك ما يدفع بالسلطة إلى الانفتاح سياسياً لأنه بإمكانها أن تشتري السلم الاجتماعي وتشبع الطلب الاجتماعي على كل شيء، وتخرج السياسة من اهتمامات الأفراد. وهذا ما حدث طوال فترة حكم بوتفليقة20حيث كان بوتفليقة عشية كل موعد انتخابي رئاسي، يطوف على الولايات الكبرى ويمنحها أغلفة مالية ضخمة خارج الميزانية لتمويل المشاريع ذات الطابع الاجتماعي، وكانت مقررات الاستفادة من السكن الاجتماعي تُمنح مرفوقة بصورة بوتفليقة، وتعلَق صور عملاقة له على واجهات المساكن أو المشاريع التي يجري تدشينها. بل إن الكثير من المشاريع سميت بمشاريع بوتفليقة (سكنات بوتفليقة، محلات بوتفليقة، منحة بوتفليقة...) ويتكفل التلفزيون العمومي بالدعاية لذلك، وتقديم مساعدات الدولة للفئات الهشة كإنجازات لشخص بوتفليقة. . أما في حالات الأزمة الاقتصادية (التي تحدث بشكل دوري بسبب تقلبات أسعار النفط)، فإن القوى الاجتماعية التي ستستفيد من أي انفتاح سياسي هي القوى الراديكالية والشعبوية. لقد جُرب هذا الخيار في التسعينيات، وكان ثمنه باهظاً (حرب أهلية خلّفت عشرات الآلاف من القتلى و دماراً اقتصاديًّا شاملًا). ورغم ذلك، لم تحضّر الدولة المجتمع لمثل هذه الأوقات العصيبة. لا يتوجّب على السلطة أن تنتظر أوقات الأزمات الاقتصادية كي تفتح المجال السياسي أمام الأحزاب والممارسة السياسية، فحينها يكون التفوق دائماً للأحزاب الأكثر راديكالية وشعبوية. يجب عليها أن تفكر من الآن بأن الدولة الاجتماعية لا يمكن أبداً أن تكون مورداً سياسياً، ولا بديلاً عن المشاركة السياسية وتوزيع السلطة داخل الجسم الاجتماعي.

أما عن الأصوات التي تطالب بتحرير الأسعار لتحفيز النمو الاقتصادي وخلق سوق تنافسية، فيجب أن نتساءل هل فعلاً سياسة الدعم الاجتماعي هي التي جعلت النمو الاقتصادي خارج المحروقات ضعيفاً وهامشياً؟

صحيح أن السياسة الحالية للدعم الاجتماعي تتحدى النظام الدولي للأسعار، ولكنها ليست الحاجز الوحيد أمام ظهور سوق تنافسية في الجزائر، لأن الدعم أصلاً لا يمسّ جميع السلع. إن ظهور السوق التنافسية مشروط بتشكُّل حقل اقتصادي مستقل، يسير وفقاً لقوانين السوق المعروفة. الإشكال اليوم هو أن الحقل الاقتصادي احتُلّ بأدوات سياسية من طرف السلطة، وما سياسة الدعم إلا إحدى هذه الأدوات، بل إن إسهامها هامشيًّا مقارنة بالأدوات الأخرى مثل ضعف استقلالية القضاء، عدم استقرار قوانين الاستثمار، استغلال المسؤولين للمنصب لإعاقة المستثمرين المستقلين، استخدام العلاقات داخل السلطة لتحييد المنافسين....السوق التنافسية في الحقل الاقتصادي لا يمكن أن تتشكل دون قضاء مستقل يحمي المتنافسين ويسهر على احترام الجميع للقوانين، ويحتكم إليه المتضررون من الممارسات الاحتكارية أو من تعسف أعوان الدولة والبيروقراطيين. بل يمكن الذهاب أبعد من هذا لنقول إن نظام الدعم في بعض القطاعات يعتبر عاملًا محفزاً للاستثمار مثل دعم أسعار الطاقة، والمحروقات والماء ومجانية شبكات الطرق... هذه عوامل محفزة في الحقيقة، ولكن تبقى من دون فعالية في تشجيع الاستثمار لأن الاستثمار يعني حرية المبادرة الاقتصادية، وهذه الأخيرة هي كغيرها من الحريات الأخرى لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود قضاء مستقل، وإعلام حر، وبرلمان يمارس الرقابة على الحكومة ويشرّع القوانين التي تحمي هذه الحريات.

لا يمكن التحجج إذاً بأن الداعي لرفع الدعم هو تشجيع الاستثمار لأن القطاعات الأخرى التي ليس فيها دعم تعاني بدورها من الركود. إذا ما أرادت السلطة تخفيف تكلفة الدعم الاجتماعي فعليها أن تحرر المبادرة الاقتصادية، وتتوقف عن التدخل في الحقل الاقتصادي بأدوات سياسية، وتسمح للرأسمال الوطني بأن يتراكم باستغلال قوة العمل وليس باستغلال النفوذ. بهذه الطريقة فقط يمكن رفع الدخل الفردي، وتحسين مستوى معيشة الأفراد بدل جعلهم مرتبطين بما تجود به عليهم الدولة... وبهذا فقط يصبح لخطاب رفع الدعم أو مراجعته مصداقية سياسية ونجاعة اقتصادية.

Endnotes

Endnotes
1   طبقت الجزائر منذ الأزمة الاقتصادية لمنتصف الثمانينيات (التي انخفضت فيها صادرات الجزائر من المحروقات إلى 7 مليارات دولار سنة 1987 و9,5 مليارات دولار سنة 1989) أربع مراحل إصلاحات اقتصادية كبرى لكن من دون جدوى. امتدت الأولى بين 1986 و1989، حيث أعيدت فيها هيكلة المؤسسات العمومية في المرحلة الابتدائية، ومنحها الاستقلالية الذاتية لاحقاً. أما المرحلة الثانية فكانت باتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث ينص على منح قروض للجزائر مقابل شروط يمكن تلخيصها في: تقليص تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، تحرير التجارة الخارجية - تحرير الأسعار- التحكم في التضخم عن طريق تثبيت الأجور وخفض النفقات العمومية - خوصصة المؤسسات العمومية العاجزة - وتخفيض قيمة العملة الوطنية...). والمرحلة الثالثة جرى تطبيقها بين سنتي 1994 و1995، وفيها تم تسريع وتيرة تحرير الأسعار ورفع الدعم عن معظم السلع عدا ثلاث منها هي: الفرينة، السميد والحليب. سُرّح آلاف العمال وأيضاً خُفّض حجم التحويلات الاجتماعية الموجهة للصحة والسكن والتعليم. وامتدت المرحلة الرابعة من سنة 1995 إلى 1998، حيث أجبر صندوق النقد الدولي الجزائر على تسريع عملية التحول نحو اقتصاد السوق وتحرير الأسعار ورفع القيود عن التجارة الخارجية. ; كانت آثار هذه الإصلاحات قاسية جدًّا على الشرائح الاجتماعية الوسطى والفقيرة، التي كانت تعاني أساساً من آثار الأزمة الأمنية والحرب على الإرهاب. للتعمق أكثر في هذه الآثار الاجتماعية انظر: عيسى بن ناصر: الآثار الاقتصادية والاجتماعية لبرنامج التكييف والتعديل الهيكلي في الجزائر. مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية Volume 3, Numéro 7, Pages 119-142. . المجلد .، العدد 7( 2002)، ص ص 119- 142. على الرابط التالي: https://www.asjp.cerist.dz/en/article/40184 ;  وإلى: Cherif Chakib, Programme d'ajustement structurel et résultats socio-économiques en Algérie; IN: Revue Sciences Humaines, N° .n°18, Décembre 2002, pp. 39-56 https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/23/13/2/91015
2    تتغير هذه النسبة من سنة إلى أخرى حسب مداخيل الدولة المرتبطة هي الأخرى بسعر المحروقات. ففي سنة 2022 مثلاً، بلغت حسب تصريح الوزير الأول أمام لجنة المالية في البرلمان، 7,19 بالمئة من ميزانية الدولة لسنة 2022 (مقابل 24 % في 2021) و 8,4 % من الناتج الداخلي الخام للبلاد (9,5 % في 2021)، وتخصص لدعم العائلات ميزانية بـ7,597 مليار دج (7,553 مليار دج في 2021).  ويتوزع هذا الدعم على 5,315 مليار دج لدعم أسعار المواد الأساسية (الحبوب، الحليب، السكر وزيت المائدة) و3,105 مليارات دج لدعم الكهرباء والغاز والماء،  و13,45 مليار دج للتعويضات العائلية، و7,131 مليار دج لدعم التربية .انظر: https://www.aps.dz/ar/economie/114618-2022 ; للاطلاع على حجم التحويلات الاجتماعية في الفترة الممتدة بين 2000 و2018، انظر دراسة تحليلية دقيقة للباحثتين قدار مريم وعيدودي فاطمة الزهراء المعنونة بـ: التحويلات الاجتماعية في الجزائر خلال الفترة (2000- 2018). المركبات الأساسية ACP. ، مجلة البشائر الاقتصادية، المجلد 5، العدد 2، ص ص 969-683. https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/196/5/2/101136
3 ندكر على سبيل المثال: الوكالة الوطنية لدعم وتشغيل الشباب.
4 بلغت في 2012 حوالي 200 مليار دولار، وباتت كل السياسة المالية للحكومات المتعاقبة تتمحور حول كيفية وقف استنزاف هذه الاحتياطات، بل تحول ذلك الهدف إلى مشروع اقتصادي في حد ذاته، فأنتج سياسة تقشفية صارمة تجاه الصادرات أدت بدورها إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع المستوردة، وفي ندرة بعضها الآخر.
5 في الواقع لم ينتظر الوزير الأول فرصة عرض مشروع قانون المالية لسنة 2022 ليِؤكد على ذلك، بل أدرج مراجعة السياسة الاجتماعية للدولة ضمن برنامج عمل الحكومة الذي قدمه أمام نواب المجلس الشعبي الوطني يوم الأربعاء 22 سبتمبر 2021. للاطلاع على التصريح انظر: https://www.aps.dz/ar/societe/112821-2021-09-22-19-00-40
6 قرر رئيس الجمهورية في اجتماع مجلس الوزراء يوم الأحد 13 فيفري بتعليق وتجميد جميع الضرائب المفروضة في قانون المالية على المواد والسلع الاستهلاكية، وكذلك الكثير من المنتجات الإلكترونية والإلكترو منزلية والهواتف النقالة إلى إشعار آخر (دون تحديد مدة التعليق أو إن ألغيت نهائياً). انظر: برقية وكالة الأنباء الجزائرية https://www.aps.dz/ar/economie/121228-2022-02-13-18-00-28 . وفي الحقيقة، تعتبر هذه الممارسة شائعة جدًّا في فترة حكم بوتفليقة، إذ كانت الحكومة تفرض الضرائب ويتدخل هو بقرار رئاسي لإلغائها، لتتبعها بعد ذلك بيانات مباركة القرار وتثمينه من طرف الأحزاب السياسية والمنظمات العمالية والمجتمع المدني الداعم للسلطة.
7 في غضون 10 سنوات ارتفعت أسعار المحروقات (بنزين وغازولين) بنسبة مئة في المئة. كان البنزين سنة 2013 في حدود 23 دج للتر الواحد، وأصبح 46 دج في سنة 2020. أما الغازولين الذي يستعمل بكثرة في وسائل النقل وآلات الفلاحة والمصانع، فانتقل سعره من 13 دج سنة 2013 إلى 29 دج سنة 2020. تعيش شرائح واسعة من سكان المناطق  الحدودية على تهريب المحروقات نظراً لفارق السعر بين الجزائر وهذه البلدان. بل نشأ اقتصاد موازٍ بأكمله قائم على تهريب المحروقات وبعض السلع المدعومة محلياً. تشير التقديرات إلى خسارة الجزائر لحوالي مليار دولار سنوياً من التهريب، واتُّخذ هذا العامل كمبرر لإصلاح الدعم أو بالأحرى لتخفيض قيمته.
8 نظرياً، ثمة شروط للاستفادة من المنحة الجامعية، ولكن عملياً يكاد كل الطلبة المسجلين في الجامعة يستفيدون منها. أما بخصوص الإطعام، فيدفع الطالب مقابل الوجبة الواحدة 1.20 ديناراً (عشر وجبات تكلف أقل من 1 أورو، بينما التكلفة الحقيقية للوجبة الواحدة هي أكثر من 250 دج: 1.5 أورو)، وهو مبلغ رمزي جدًّا لم يتغير منذ نهاية الثمانينيات. فيما يتم دفع رسوم الاشتراك في النقل الجامعي (140 ديناراً: 1 أورو للسنة، و300 دينار: 2 أورو للسنة) للإقامة في غرفة بالحي الجامعي.
9 تمر عملية التوظيف في القطاعين العمومي والخاص عبر الوكالة الوطنية للتشغيل، بحيث تتكفل هذه الأخيرة بدفع 40 بالمئة من أجر الموظف أو العامل لمدة من الزمن (في إطار ما سمي بعقود ما قبل التشغيل)، فيما تتكفل المؤسسة الموظِّفة بدفع الباقي. الغرض من ذلك هو مساعدة المؤسسات الصناعية والخدماتية على توظيف أكبر عدد ممكن من الشباب حاملي الشهادات.
10 توجد في الجزائر صيغ متعددة لمساعدة العائلات والأفراد في الحصول على السكن. وتختلف هذه الصيغ حسب مداخيل الأسرة (الزوجين) أو حسب المنطقة الجغرافية. ويمكن أن نلخصها في ما يأتي: 1- السكن الاجتماعي (السكن العمومي الإيجاري) مثلا يمنح مجاناً للأسر عديمة الدخل أو التي يقل دخلها عن 24000 دج ( 150 أورو) مقابل دفع إيجار رمزي. 2- الريفي: عبارة عن إعانة تقدمها الدولة للأسر الساكنة في المناطق الريفية لبناء مساكن فردية. تغطي هذه الإعانة ما نسبته 60 بالمئة من تكاليف مسكن يتكون من ثلاث غرف ومطبخ وحمام. 3- مساكن للبيع بالإيجار: مخصص للفئات ذات الدخل المتوسط (يتراوح بين 24000 دج و120000)، حيث يدفع المستفيد قسطاً من ثمن المسكن المدعوم من طرف الدولة، ثم يقوم بدفع الأقساط المتبقية على مدار 25 سنة). 4- السكن الترقوي العمومي الموجه إلى الفئات التي يتجاوز دخلها 120000دج، لكن سعره مدعوم مقارنة مع أسعار المساكن في السوق لدى المرقّين العقاريين. للتعمق أكثر في سياسة السكن في الجزائر والمنطقة العربية عموماً انظر العدد 38/39 من مجلة نقد (خريف – شتاء 2020) والمخصصة للموضوع  ذاته: Naqd: les politiques de logement social au Maghreb/ Machrak et dans le sud global. Numéro piloté par Rachid Boumedine et Pierre Signole ; أما للاطلاع على إحصائيات دقيقة ومفصلة لعدد المساكن المنجزة بمختلف الصيغ منذ 2010 إلى يومنا هذا، فيمكن الرجوع إلى الرابط الآتي لوزارة السكن والعمران: https://bit.ly/3QiQqGE
11 نستعير هذه العبارة من أعمال عالم الاجتماع لهواري عدي.
12 Addi Lahouari, l'impasse du populisme (ENL. 1989).
13 أشرنا أعلاه إلى أن سياسة تقشفية بدأت الحكومة في اتباعها منذ 2014. أما بين 2000 و2013، فكانت الدولة اجتماعية التوجه بامتياز، وكانت المستثمر الأول. يمكن العودة إلى دراسة الباحثين: تاحي كريمة وبلقاسم نويصر للاطلاع على حجم هذه التحويلات خلال هذه الفترة. انظر: تاحي كريمة، بلقاسم نويصر: واقع السياسة الاجتماعية في الجزائر وسبل معالجتها للمسألة الاجتماعية، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 10، العدد 02 (جوان 2017)، ص ص 347- 36.(https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/65/10/2/59249
14 بيان أول نوفمبر https://www.el-mouradia.dz/ar/algeria/texts/statement-of-november
15 ميثاق طرابلس. https://www.el-mouradia.dz/ar/algeria/texts/tripoli-conference
16 دستور 1963. https://www.el-mouradia.dz/ar/algeria/texts/previous-constitutions
17 دستور 1976. https://www.el-mouradia.dz/ar/algeria/texts/previous-constitutions
18 انظر: Youcef Ben Abdellah: Etat développementaliste vs Etat rentier: Qu’en est -il en Algérie . In Naqd, N°36( Mars /Avril 2018), p 82
19 Ibid, p 82
20 حيث كان بوتفليقة عشية كل موعد انتخابي رئاسي، يطوف على الولايات الكبرى ويمنحها أغلفة مالية ضخمة خارج الميزانية لتمويل المشاريع ذات الطابع الاجتماعي، وكانت مقررات الاستفادة من السكن الاجتماعي تُمنح مرفوقة بصورة بوتفليقة، وتعلَق صور عملاقة له على واجهات المساكن أو المشاريع التي يجري تدشينها. بل إن الكثير من المشاريع سميت بمشاريع بوتفليقة (سكنات بوتفليقة، محلات بوتفليقة، منحة بوتفليقة...) ويتكفل التلفزيون العمومي بالدعاية لذلك، وتقديم مساعدات الدولة للفئات الهشة كإنجازات لشخص بوتفليقة.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.