الثورة غير المكتملة: التجاوزات البوليسية في قلب الاحتفال بمرور عشر سنوات على الثورة التونسية

يصادف 14 كانون الثاني/يناير 2021 الذكرى العاشرة للثورة التونسية. كما أدى إلى صعود موجة جديدة ومتوسعة من القمع البوليسي ضد نشطاء حقوق الإنسان والحركات الاجتماعية. ونتج عن  ذلك اعتقال أكثر من 2000 شخص وموت العديد فيما اعتبره الكثيرون أكبر تراجع في مجال الحريات منذ رحيل بن علي. تعالج هذه الورقة تطور قوات الشرطة في تونس على مدى العقد الماضي وتقدم توصيات من أجل إصلاح ديمقراطي وشامل.

تونس، تونس – 30 كانون الثاني/يناير: مظاهرون تونسيون يواجهون أفراد الشرطة الذين يمنعون الدخل الى وزارة الداخلية خلال مظاهرة ضد "القمع الشرطي" © Yassine Gaidi

احتفلت تونس بالذكرى العاشرة لثورتها في ظل أزمة صحية حرجة وحالة من عدم استقرار سياسي مستمر، أثّر على كافة المؤسسات في البلاد. هذا الحدث، في 2011، لم يدق جرس نهاية دكتاتورية دامت 23 عاماً فحسب، بل دفع أيضاً بالبلاد وغيرها في دول المنطقة، إلى طريق التحوّل الديمقراطي، وهو المسار الذي استمرت فيه تونس وحدها.

تاريخ 14 كانون الثاني/يناير كان موعداً ينتظره جميع الفاعلين السياسيين والجمعويين في البلاد: كان يوماً لإحياء ذكرى الحدث وللتذكير بالنسبة للبعض، وتاريخ رمزي للاحتجاج على بطء تنفيذ الإصلاحات بالنسبة للآخرين، أو حتى بمثابة مشهد غير مسبوق لرفع مطالب من أجل حياة أكثر كرامة.

ومع ذلك، منذ ذلك التاريخ، لم يتوقف القمع البوليسي ضد نشطاء حقوق الإنسان والحركات الاجتماعية، بل استمر في التعاظم، مع اعتقال أكثر من ألفي شخص بين كانون الثاني/يناير ونهاية آذار/مارس 2021.  ومرة أخرى، في 10 حزيران/يونيو 2021، انتشر مقطع فيديو على الشبكة العنكبوتية، يُظهِر أفراد من الشرطة ينتمون إلى فرقة التدخل السريع، وهم يُجردون شخصاً من ملابسه ويسحبونه، والذي تبيّن لاحقاً أنه قاصر يبلغ من العمر 15 عاماً، يعيش في حي سيدي حسين الشعبي، أحد الضواحي الجنوبية في تونس. وبذلك تُثبت هذه القضية الأخيرة مرة أخرى الحاجة إلى الشروع في إصلاحات عميقة في قطاع حيوي من أجل عملية التحوّل الديمقراطي في البلاد.

موجة أمنية قمعية، كانت منتظرة منذ أمد بعيد ...

باستثناء التغطية الإعلامية الفاترة من قبل وسائل الإعلام التونسية، وتغطية إعلامية أجنبية يغلب عليها الطابع الرومانسي، فقد مر الاحتفاء بالذكرى العاشرة للثورة في جو كئيب، تطغى عليه اللا مبالاة والتجاهل إلى حد كبير. وتمكّنت بعض المظاهرات مع ذلك من جلب الاهتمام وأثارت موجة من الجدل أكثر من الحدث نفسه: رفع متظاهرون في تونس لافتات وشعارات استفزازية إزاء المؤسسات والشخصيات السياسية في البلاد (دعوات تطالب بالحل الفوري للبرلمان، واستقالة رئيس مجلس نوّاب الشعب (ARP) ورؤساء الكتل البرلمانية على سبيل المثال)، مصحوبة في غالب الأحيان برفع أعلام نادراً ما تُشاهد في شوارع تونس، ولا سيما علم قوس قزح، الذي يمثل مجتمع المثليين (LGBTQI +).

خلال المسيرات التي أعقبت احتفالات 14 كانون الثاني/يناير 2021 بمناسبة مرور عشر سنوات على انطلاقة الثورة واحتجاجاً على الوضع العام للبلاد وبطء الإصلاحات اللازمة، وصلت مجموعات من المتظاهرين في مرات عديدة إلى شارع بورقيبة، وهو شريان العاصمة بالغ الرمزية بالنسبة للثورة، وهذا على الرغم من الحصار الذي فرضته قوات الأمن، وواجهوا قوات الشرطة بإشارات وعبارات احتجاجية (تم تصوير متظاهرين وهم يضعون أحمر الشفاه على بعد بضعة سنتيمترات من وجه عنصر من قوات الشرطة، بينما ألقى آخرون بالونات مليئة بالطلاء على صفوف متراصة من شرطة مكافحة الشغب، إلخ).

وفي أعقاب تناقل هذه الصور على مواقع التواصل الاجتماعي وفي بعض وسائل الإعلام، وقع رد فعل غير مسبوق: استعملت نقابة عناصر قوى الأمن الداخلي الصور التي تم جمعها عبر الإنترنت لإطلاق حملة مطاردة شرسة حقيقية، بحيث تحوّل وسط العاصمة تونس لعدة أسابيع إلى ساحة مطاردة بلا هوادة ضد المتظاهرين. وخلال تلك الحملة، تمت ملاحقة واعتقال أكثر من ألفي متظاهر ومحاكمتهم على أساس وقائع مُلفقة في كثير من الأحيان تلفيقاً تاماً، على غرار اتهامهم بالتعدي على الأخلاق الحميدة والإخلال بالنظام العام وإهانة مسؤولي الدولة أثناء ممارسة وظائفهم. ولم تقتصر هذه الاعتقالات على العاصمة بل جرت في جزء كبير من التراب الوطني، وسُجلت في 14 محافظة على الأقل من محافظات البلاد.

في بيان صحفي بتاريخ 9 آذار/مارس 2021، وقّع عليه أكثر من ستين جمعية ومنظمة وطنية ودولية، تمت الإشارة فيه إلى موجة "الاعتقالات التعسفية [...] والعنف والتهديدات والمضايقات من قِبل عناصر الشرطة في الميدان وعبر الشبكات الاجتماعية".

وأكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (FTDES) في البيان الصحفي نفسه الصادر في 11 آذار/مارس 2021 أنه "تم تسجيل أكثر من 2000 حالة اعتقال، معظمها تعسفية، في غضون أسبوعين عبر 14 محافظة على الأقل من البلاد، أكثر من 30٪ من المقبوض عليهم كانوا من القُصَر. ومورست عدة انتهاكات ضد حقوق المعتقلين، منها الاعتقالات التعسفية، والإهانات، والتعذيب، والمعاملة اللاإنسانية والمهينة، والتهديدات والترهيب اللفظي والجسدي، والمضايقة، والمراقبة عبر الإنترنت؛ وقد صرح أيضاً عدد كبير من النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان إنهم تعرضوا للاعتقال و/أو الاضطهاد بسبب نشاطهم النضالي. "

العديد من الحالات البارزة بشكل خاص، أظهرت جوهر هذا القمع: في 24 كانون الثاني/يناير 2021، قُتل المتظاهر الشاب هيكل راشدي، بعد إصابته بعبوة من الغاز المسيل للدموع في سبيطلة (محافظة القصرين) أثناء المظاهرات الليلية. وفي 28 شباط/فبراير، أُلقي القبض على رانيا العمدوني، وهي ناشطة كويرية، داخل مركز للشرطة، كانت جاءته بمحض إرادتها، لتقديم شكوى ضد المضايقات والتهديدات اليومية التي تعرضت لها من طرف أفراد من شرطة التعقب. في 3 آذار/مارس، قُبض على عبد السلام زيان على هامش المظاهرات التي جرت في صفاقس، ووُضع رهن الحبس الاحتياطي، والذي تُوفي فيه نتيجة عدم تلقيه علاج الأنسولين. وفي 8 آذار/مارس، قُبض على ثلاثة أعضاء من منظمات المجتمع المدني، مهدي برهومي (إنترناشونال ألرت)، منذر سعودي (خرائط المواطنة) وسامي حميد، عقب تلقي أجهزة الأمن بلاغات مجهولة عن تجمع غير قانوني لم يثبت قط وتعرضوا لمعاملة مهينة أثناء فترة الاحتجاز. وأخيراً، فإن قضية مقطع الفيديو الخاص بالتجاوزات ضد القاصر البالغ من العمر 15 عاماً في سيدي حسين، يُذكر بأن التجاوزات الحاصلة اليوم أكثر من أي وقت مضى منذ 2011، وهي وقائع حقيقية لا يرقى إليها أي شك وتتم بشكل علني أكثر فأكثر.

تكشف هذه الموجة غير المسبوقة من القمع المنتشر منذ انطلاقة الثورة، إلى جانب خطورة الوقائع، عن الفراغ الكبير الذي تسبب فيه غياب عملية إصلاح قطاع الأمن، على مدى السنوات العشر الأخيرة. إن القيادة المتكتمة حول موضوع انتهاكات الحقوق والحريات في رئاسة الحكومة ووزارة الداخلية1  منذ كانون الثاني/يناير 2021 واستقالة رضا شرف الدين، تولى هشام المشيشي منصبي رئيس الحكومة ووزير الداخلية. ، والتوجس الشديد الواضح من أفراد الشرطة إزاء أي شكل من أشكال الاحتجاج، والمناخ السياسي والصحي المتوتر للغاية، كل ذلك أدى بلا شك إلى أكبر تراجع في مجال الحريات الفردية والجماعية منذ رحيل بن علي.

سراب إصلاح قطاع الأمن

منذ 2011، انخرطت تونس في طريق الانتقال الديمقراطي من خلال الشروع في إصلاحات هيكلية جوهرية ذات طبيعة سياسية، من قبيل تغيير الدستور في 2014، وتنظيم العديد من الانتخابات التشريعية والرئاسية (2014 ثم 2019) والبلدية (في 2018) وإنشاء مؤسسات رقابة جديدة (هيئة مؤقتة لمراقبة دستورية القوانين، وهيئة وطنية لمكافحة الفساد، إلخ). وأُجريت كذلك إصلاحات مؤسسية أخرى مثل إصلاح الهياكل القديمة (المجلس الأعلى للقضاء، وما إلى ذلك) وأخرى ذات طابع اقتصادي (قانون جديد بشأن الاستثمار، والعديد من التدابير المالية والضريبية التي تستهدف قطاعات السياحة، والزراعة، وقانون جديد للشركات الناشئة، وتنظيم العديد من القمم الاقتصادية في البلاد، وما إلى ذلك).

خضعت تقريباً جميع القطاعات الحيوية في البلاد لتعديلات، على الرغم من أن تأثيرها لا يزال بالكاد محسوساً بالنسبة للمواطنين التونسيين. ومع ذلك، إن كان هناك قطاعٌ واحد أفلت من عمليات التعديل، فإنه القطاع الأمني.

وقد سبق أن أصدرت اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق حول التجاوزات والانتهاكات (Cnidv) (المرتبطة برئيسها آنذاك، السيد توفيق بودربالة) في 2011، تقريراً دامغاً عن حالة قطاع الأمن وشددت على الحاجة الماسة إلى الإصلاحات. وبين عامي 2013 و2018، قامت هيئة الحقيقة والكرامة (IVD) أيضاً بعمل مهم خاص بإحياء ذكرى الثورة ودفع التعويضات في إطار عملية العدالة الانتقالية، التي وضعها الدستور نفسه، من خلال تسجيل الاحتياجات الأساسية لإصلاح القطاع. كما حذرت أيضاً العديد من التقارير الدولية والأعمال والبيانات الصادرة عن المنظمات الوطنية من خطورة تأخير الإصلاحات الضرورية لتطهير قطاع الأمن في تونس إلى أجل غير مسمى.

استفادت تونس من دعم استراتيجي كبير في مجال الإصلاح الأمني ​​منذ 2011. كان في البداية عن طريق مساعدات تلقتها من الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه، عبارة عن منحة تُقدر بعدة ملايين يورو2بدأ برنامج دعم إصلاح قطاع الأمن في عام 2016 وتم تمويله بمبلغ يقدر بـ 23.000.000 يورو: (المصدر: البيان المشترك بين البرلمان الأوروبي والمجلس - تعزيز دعم الاتحاد الأوروبي لتونس، بروكسل، 29.9.2016 - JOIN (2016) 47 نهائي )، تهدف إلى ضمان بقاء تونس باعتبارها مثال وحيد للنجاح الديمقراطي في المنطقة من جهة، ولكن أيضاً لضمان حماية تونس للحدود الجنوبية للاتحاد الأوروبي ضد تهديدين تعتبرهما بروكسل رئيسيين: الهجرة غير النظامية والإرهاب.

شهدت أجهزة الشرطة والحرس الوطني التونسية تضخماً في أعدادها، بزيادة تفوق خمسة وعشرين ألف فرد بين عامي 2011 و2015، واستفاد قطاع التسلح ولوجستيات التدخل بشكل كبير من هذه المساعدة، وأخيراً تم الاعتراف على المستوى الإداري لقوى الأمن الداخلي بالحق في تشكيل النقابات، في البداية بموجب مرسوم حكومي في 2011 قبل أن يُكرس هذا الحق في دستور 2014، في حين تم حل الهيئة الرقابية الوحيدة (شرطة الشرطة، التي تعود إلى النظام القديم) ولم يتم استبدالها قط. وتوجد حالياً مفتشية عامة داخل الوزارة، لكن دون أن تطبق هذه الهيئة مبادئ الشفافية والمساءلة.

أعدت وزارة الداخلية مسودة مدونة لقواعد السلوك الجيد في عام 2016، بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لكن لم يُعتمد هذا المشروع رسمياً. وقد أُنشئت مديرية عامة لحقوق الإنسان داخل وزارة الداخلية في 2018 دون أن تضمن قدراً من الشفافية اللازمة لتقييم عملها وتأثيرها. وتم التخطيط لوضع برامج تدريبية مستمرة لقوى الأمن الداخلي، التي حتى وإن نُفذت3تم إطلاق البرامج من قبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر (https://www.icrc.org/fr/document/fait-chiffres-tunisie-2020) ، DCAF (http://www.dcaf-tunisie.org/Fr/activite- Partners / dcaf-and-the-Superior-school-of-Internal-security-forces-عقد-تدريب-ندوة-حول-good-Governance-of-the-security-Sector / 77/10389) أو اليونسكو ( https://fr.unesco.org/news/formation-forces-securite-liberte-expression-securite-journalistes )، لم يظهر أثرها على واقع عمل الفاعلين في الميدان.

أدى غياب الإصلاحات الواجب تنفيذها إلى خلق فجوة سرعان ما ملأتها النقابة الوطنية لقوى الأمن الداخلي ( SNFSI ) من خلال الاستفادة مما وصفته الناشطة في مجال حقوق الإنسان آمنة القلالي بأنه " التملق السياسي في مواجهة عنف الشرطة، [والذي ] يُشكل، إلى جانب التصريحات التحريضية النارية من قبل نقابات الشرطة، أرض خصبة لارتكاب التجاوزات " 4العودة إلى دولة بوليسية في تونس؟ بقلم آمنة القلالي، نواة، 17 شباط/فبراير 2021: https://nawaat.org/2021/02/17/retour-a-un-etat-policier-en-tunisie/ . ودون الخوض في مزيد من التفاصيل في هذا الموضوع، وفيما يتعلق بالاحتجاجات الجارية منذ كانون الثاني / يناير 2021، استغل أفراد الشرطة هذا التملق الحكومي لمطاردة المتظاهرين، من بينهم عدد كبير من المدرجين في قوائم الشرطة كناشطين في مجال حقوق الإنسان 5في تونس، نظام كافكا للملفات الأمنية، بقلم ليليا بليز ، لوموند ، 6 كانون الثاني/يناير 2020: https://www.lemonde.fr/afrique/article/2020/01/06/en-tunisie-le-systeme-kafkaien-des-fichages-securitaires_6024879_3212.html ، أو نشطاء مجتمع المثليين (ٍ LGBTQI +). قد يشير سياق هذه الحملة من القمع إلى أن عناصر معينة من قوات الأمن، بما في ذلك العناصر المرتبطة بالنقابة الوطنية لقوى الأمن الداخلي ( SNFSI )، انتهزوا الفرصة للانتقام مما يعتبرونه إهانات تعرضوا لها منذ عام 2011 وخاصة في السنوات الأخيرة . 6تونس: عندما يكون الفرار من الشرطة قاتلاً، منظمة العفو الدولية: https://www.amnesty.org/fr/latest/campaigns/2019/04/tunisia-where-running-from-police-can-be-deadly/

قضية محكمة بن عروس تُجسد بشكل جلي هذا الشعور بالإفلات من العقاب وتُسلط الضوء على المواجهة التي تشنها النقابة. في 2018، أثناء مثول خمسة من أفراد الشرطة أمام محكمة بن عروس الابتدائية بتهمة تعذيب أحد المحتجزين، داهم عدد من أعضاء النقابة الوطنية لقوى الأمن الداخلي مقر المحكمة، وانهالوا ضرباً على محامي المدعي وهددوا القضاة بالانتقام، إلى أن أمر هؤلاء في نهاية المطاف بالإفراج عن زملائهم.

في 2015، تقدمت الحكومة التونسية أمام البرلمان بمشروع قانون لحماية القوات التي تحمل الأسلحة، دون أن يتوّج ذلك قط بتصويت في جلسة عامة. وندد العديد من الفاعلين السياسيين والمدنيين بالنص القانوني الذي يُعزز الحماية القانونية والمالية لأفراد قوى الأمن، باعتبار هذا القانون تهديداً كبيراً لحريات التعبير والرأي والصحافة والتنقل. وفي 12 تشرين الأول/أكتوبر 2020، وخلال عرضه للمرة الخامسة أمام مجلس نوّاب الشعب (ARP)، قررت الحكومة سحب مشروع القانون المُقدم إلى الجلسة العامة دون تقديم تفسير رسمي، لكن كان بادياً بوضوح أن سحب المشروع جاء نتيجة ضغوط محلية ودولية مشتركة. واعتُبر هذا الانسحاب انتصاراً من قبل شريحة كبيرة من المجتمع المدني التونسي، لكنه أجج في الوقت نفسه التوترات مع الجهات الفاعلة في قطاع الأمن. ويمكن لأي مراقب عن كثب لهذه المسألة أن يربط أيضاً هذه الانسحابات المتكررة للمشروع بالعنف المتزايد من قِبل عناصر الأمن ضد المتظاهرين المطالبين بمزيد من الحقوق.

انسحاب سياسي وقضائي بعواقب وخيمة

هذه الوقائع التي حدثت منذ كانون الثاني/يناير الماضي في تونس لا تعود أسبابها فقط للسياق الصحي أو لغياب الإصلاحات داخل المؤسسة الشرطية، بل يتعلق الأمر حسب آمنة القلالي بإرادة حكومة هشام المشيشي، الرامية إلى "استرضاء النقابة الوطنية لقوى الأمن الداخلي (SNFSI) ووزارة الداخلية بشكل عام"7العودة إلى دولة بوليسية في تونس؟ بقلم آمنة القلالي، نواة، 17 فبراير 2021: https://nawaat.org/2021/02/17/retour-a-un-etat-policier-en-tunisie/ . وتجدر الإشارة إلى أنه منذ 7 كانون الثاني/يناير 2021 يجمع رئيس الحكومة، إلى جانب وظيفته، منصب وزير الداخلية، منذ إقالة توفيق شرف الدين، بعد معركة ساخنة حول التعيينات في المناصب الرئيسية في وزارة الداخلية ونشوب توترات بين المشيشي ورئيس الجمهورية قيس سعيد.

يزيد هذا التراكم في الوظائف من حدة الفراغ حول الرقابة السياسية لأجهزة إنفاذ القانون، نظراً للتطابق بين صوت الحكومة وصوت وزارة الداخلية. بل الأسوأ من ذلك، في لحظة انطلاق موجة اعتقالات النشطاء، في 3 شباط/فبراير، اجتمع المشيشي بممثلي نقابات قوات الأمن والحماية المدنية للتنديد بالاعتداءات الرمزية على أفراد قوى الأمن وعلى وضعهم الاجتماعي والحماية التي يمكنهم الاستفادة منها.

قدمت هذه البادرة الأخيرة إشارة لجميع المراقبين، وخاصة منظمات المجتمع المدني والناشطين، حول الخط الجديد المعتمد من قِبل الحكومة التونسية: انسجام تام بين السياسة الأمنية للحكومة والخطاب المعتمد منذ سنوات من طرف النقابة الوطنية لقوى الأمن الداخلي. وعلى الرغم من التحذيرات المستمرة الموجّهة من قِبل عدة منظمات بشأن التجاوزات، يبدو أن رئيس الحكومة يُفضل الحفاظ على الوضع الراهن، بدلاً من المخاطرة بالاصطدام مع مصالح أو حساسيات عناصر قوى الأمن الداخلي، وقد أثارت آخر قضية اعتداء، على القاصر بسيدي حسين، شكوكاً حول رفض قيادات وزارة الداخلية إبلاغ النائب العام والمسؤولين عن حماية الطفل بأسماء العناصر المتورطة في الاعتداء، رغم فتح إجراءات تأديبية ضدهم (مما يدل على أن الوزارة على علم بهويتهم). وقد نفى المتحدث باسم النيابة العامة بمحكمة تونس الابتدائية، هذه المعلومات دون أن يحدد ما إذا كانت الأسماء قد تم تبليغها إلى الجهات المعنية بالفعل.

من ناحية أخرى، بدت رئاسة الجمهورية خجولة للغاية في مواجهة هذه التجاوزات: في بيان صدر يوم 2 آذار/مارس، تعهد الرئيس بالعفو عن الشبان المعتقلين في أعقاب المظاهرات في جميع أنحاء البلاد. وفي الوقت الذي صرح فيه الرئيس التونسي قيس سعيد بأن "السجن يجب أن يكون عقوبة سالبة للحرية وليس الإنسانية"، لم يتطرق إلى ضرورة إصلاح قطاع الأمن.

من جانبه، لم يولِ مجلس نوّاب الشعب (ARP) سوى القليل من الاهتمام لهذه الأحداث، باستثناء وفاة عبد السلام زيان المشار إليه أعلاه والذي تم بشأنه تشكيل لجنة تحقيق في 23 آذار/مارس 2021 لتسليط الضوء على ملابسات الوفاة وتحديد المسؤوليات. يُفسر هذا الغياب من البرلمان (ARP) حساسية الموقف (بين قوات الأمن المتأهبة والمجتمع المدني الموجود في حالة استنفار)، في المجلس، الذي نادراً ما برهن على شجاعته خلال العام الماضي، ولم يشرع في أي إصلاح مهم. وأخيراً، أجهزت الخلافات والتوترات السياسية بين الكتل البرلمانية، على تماسك الهيئة التشريعية وقوّضت قدرتها على موازنة قرارات السلطة التنفيذية، بل والأسوأ من ذلك، على مراقبة عملها.

السلطة القضائية، متواطئة جزئياً في التجاوزات

في الأسابيع الأخيرة، طفت إلى السطح ظاهرة كانت موجودة منذ عام 2011 وحتى قبل ذلك: بدا واضحاً تورط مؤسسة المدعي العام مراراً وتكراراً كشريك في انتهاكات أجهزة الأمن، مع العلم أن حالات الاعتقال التي تجاوز عددها 2000 عملية لم تكن ممكنة في الغالب أو قابلة للتمديد لولا موافقة المدعي العام. وفي بيان صحفي بتاريخ 4 شباط/فبراير 2021، ذكرت المنظمات الأعضاء في "التحالف من أجل الأمن والحرية" الجماعي المؤلف من منظمات وطنية (الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إلخ.) ومنظمات دولية (هيومن رايتس ووتش، منظمة العفو الدولية، محامون بلا حدود، إلخ.) أنه فيما يتعلق بـ"دعوة نقابات [الشرطة] إلى" وقف مثيري الشغب" و"تنفيذ تعليمات المدعي العام" أن هذه الدعوة غير قانونية في الأساس لأن "تعليمات المدعي العام" لا يمكن إصدارها إلا بعد ارتكاب أعمال إجرامية ولا يمكن أن تكون موضع تعليمات مسبقة للشرطة"8دعوة من المجتمع المدني لوضع حد بشكل عاجل والخروج من الحلقة المفرغة لعنف الشرطة وانجراف نقابات القوات المسلحة، بيان صحفي، 4 شباط/فبراير 2021 ، الجمعيات الموقعة، أعضاء التحالف من أجل الأمن والحرية: المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، جماعتي، مبدعون، جمعية أخصائيون نفسانيون العالم - تونس ، منظمة سوليدار تونس، محامون بلا حدود. ، مما يوحي بأن أفراد الشرطة قد حصلوا على الضوء الأخضر والإذن المطلق من المدعي العام حتى قبل اعتقال المتظاهرين.

وتُثير هذه المشكلة الأساسية أيضاً تساؤلات حول استقلالية القضاء، وخاصة دور الشرطة القضائية (التابعة حالياً بالكامل لوزارة الداخلية) ودور المدعي العام (التابع لوزارة العدل وبالتالي لرئيس الحكومة، الذي كما أشرنا إليه أعلاه يجمع بين وظيفته ووظيفة وزير الداخلية). وهكذا فإن الضوء الأخضر الذي منحه رئيس الحكومة، الذي يتولى في الوقت نفسه منصب وزير الداخلية، إلى النقابة الوطنية لقوى الأمن الداخلي (SNFSI) يضمن لهم حرية التصرف لقمع العناصر التي يعتبرونها مخلة بالنظام (النشطاء وقادة الحركات الاجتماعية)، ولكن يضمن لهم أيضاً الحماية اللازمة.

وبالتالي، فإن حجم المشكلة يمتد أيضاً ليخترق مجال إصلاح نظام العدالة في تونس، الذي، على الرغم من الجهود العديدة المبذولة بشأنه والنتائج التي حققها، لا يزال يُمثل نقطة الضعف الأخرى في المرحلة الانتقالية. إلى جانب دور المدعي العام والانتماء العضوي للشرطة القضائية، فإن المسألة في تونس تتعلق بإعادة توزيع مهام إدارة قاعدة البيانات الخاصة ببطاقات الهوية الوطنية، التي تُنفَذ بشكل أساسي من قِبل المحاكم، لكن تعتمد إدارتها على وزارة الداخلية. وثمّة عنصر آخر يندرج في الإطار التشريعي للحقوق والحريات الأساسية، مع وجود قانون عقوبات وقانون الإجراءات الجزائية اللذان لا يزالان يتعارضان مع الدستور (المادة 230 التي تُدين المثلية الجنسية، والمادة 227 التي تُدين الاعتداء على الأخلاق الحميدة دون تعريف واضح لهذا المفهوم، والمادة 125 التي تُدين الاعتداءات على الموظفين العموميين أثناء تأديتهم لواجباتهم دون معايير محددة للجريمة، والتي يُبالغ في استخدامها إلى حد كبير من قِبل أفراد الشرطة، إلخ).

أخيراً، ومن وجهة نظر مؤسسية، لا تزال البلاد تفتقر إلى محكمة دستورية، إذ على الرغم من اعتماد القانون في 2015، تم انتخاب عضوة واحدة فقط والمحكمة لا تزال لم تدخل في إطار العمل بعد. وباعتبارها المؤسسة القضائية الوحيدة القادرة على إلغاء النصوص التشريعية غير الدستورية، خلق النقاش حول هذه المحكمة منذ بداية عام 2021 توترات سياسية، تهدف إلى خفض الأغلبية البرلمانية اللازمة لانتخاب ثلاثة من الأعضاء الأربعة من قِبل مجلس نوّاب الشعب (البرلمان). ويمكن للمحكمة أن تضطلع بدور مهم في مراقبة دستورية النصوص المنظمة لقطاع الأمن.

وكل هذه العوامل تساهم مساهمة كبيرة في إضعاف الرقابة المدنية التي يمكن أن تُمارَس على إطار وعمل الجهات الفاعلة في قطاع الأمن، وبالتالي تميل إلى تعزيز الشعور بالإفلات من العقاب السائد بين صفوف عناصر قوى الأمن الداخلي.

مستقبل قطاع الأمن، عاملٌ حاسمٌ في نجاح التحوّل الديمقراطي التونسي

ذكّرت الأشهر القليلة الماضية في تونس جميع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني إلى أي مدى يمكن أن تتعرض مكتسبات الثورة للخطر، من حيث الحريات الفردية والجماعية. لم يسبق أبداً منذ 2011 أن تعرضت حرية التجمع والتظاهر والتعبير والصحافة للتهديد مثلما هو الحال الآن. وهذا التذكير يسمح أيضاً بتسليط الضوء على الإصلاحات الضرورية لتطوير قطاع الأمن في إطار ديمقراطية دائمة، مع احترام المؤسسات المدنية وبما يتماشى مع روح الحقوق والحريات المكرّسة في دستور 2014.

بالإضافة إلى إصلاحات قانون العقوبات أو التغييرات المؤسسية، من الضروري تماماً وضع نظام مراقبة أفضل على ممارسات الشرطة. صحيح أنه تم اعتماد القانون رقم 2016-5 الذي يضمن توفير محامي لمساعدة المتهمين منذ اللحظات الأولى للاعتقال، لكن الحقيقة التي كشفت عنها موجة الاعتقالات الأخيرة هي أن أفراد الشرطة نادراً ما يمنحون هذا الحق لأصحابه بحجة رفضهم لهذا الحق، دون تمكنهم من إثبات هذا الرفض، مع الاستمرار في تهديد هؤلاء الأشخاص أو إخضاعهم لمعاملة مهينة.

من الواضح أن شعور أفراد الشرطة بالإفلات من العقاب، الذي يعززه صمت المؤسسات والسياسات، يدعم الاقتناع بعدم وجود أي حدود لنطاقهم وإمكانياتهم في العمل؛ وهو شعور مشابه إلى حد كبير لما كان عليه الوضع قبل 2011. ولِمعالجة ذلك، يجب على المديرية العامة لحقوق الإنسان، وبشكل أعم وزارة الداخلية ورئاسة الحكومة تطبيق درجات عديدة من الشفافية على عملهم. وبالفعل تم إطلاق منصة مرجعية للبيانات خاصة بإحصاءات الجريمة والجنوح بعد الثورة، لكن البيانات الواردة فيها تتوقف عند 2015/2014. وبالتالي لا يمكن معرفة ما إذا كانت الإجراءات التأديبية قد اتُخذت بالفعل ضد عناصر الأمن الذين أساءوا استخدام سلطتهم أو مارسوا الضغط على المواطنين والمواطنات وعرّضوهم لأفعال مهينة.

أخيراً، وكما هو موضّح أعلاه، يستفيد قطاع الأمن في تونس من دعم تقني ومالي كبير من طرف شركاء تونس الدوليين. وإلى جانب الشراكات الثنائية، تقوم هيئات الأمم المتحدة (لا سيما مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي) وكذلك منظمات مثل مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلّحة (DCAF) أو الاتحاد الأوروبي بدعم القطاع بشكل كبير دون نتائج مقنعة من حيث درجة شفافية مساءلة الهياكل الأمنية، ولكن أيضاً فيما يتعلق بالعديد من الانتهاكات المستمرة وعدم احترام الحقوق الأساسية للمواطنين والمواطنات. ويمكن قراءة هذا الدعم المستمر على الرغم من أوجه القصور الحقيقية على أنه شيك على بياض يُمنح لقوات الأمن، شيك على بياض يمكن أن يتحوّل من خطر وشيك إلى ضرر حقيقي للديمقراطية التونسية. وبالتالي فالسؤال الذي يفرض نفسه هو معرفة ما إذا كان ينبغي أن يستمر هذا الدعم لأن الإصلاحات محددة زمنياً، أم ينبغي ربط هذه المساعدة بشروط أكثر صرامة في المستقبل؟

 

 

Endnotes

Endnotes
1   منذ كانون الثاني/يناير 2021 واستقالة رضا شرف الدين، تولى هشام المشيشي منصبي رئيس الحكومة ووزير الداخلية.
2 بدأ برنامج دعم إصلاح قطاع الأمن في عام 2016 وتم تمويله بمبلغ يقدر بـ 23.000.000 يورو: (المصدر: البيان المشترك بين البرلمان الأوروبي والمجلس - تعزيز دعم الاتحاد الأوروبي لتونس، بروكسل، 29.9.2016 - JOIN (2016) 47 نهائي
3 تم إطلاق البرامج من قبل اللجنة الدولية للصليب الأحمر (https://www.icrc.org/fr/document/fait-chiffres-tunisie-2020) ، DCAF (http://www.dcaf-tunisie.org/Fr/activite- Partners / dcaf-and-the-Superior-school-of-Internal-security-forces-عقد-تدريب-ندوة-حول-good-Governance-of-the-security-Sector / 77/10389) أو اليونسكو ( https://fr.unesco.org/news/formation-forces-securite-liberte-expression-securite-journalistes
4 العودة إلى دولة بوليسية في تونس؟ بقلم آمنة القلالي، نواة، 17 شباط/فبراير 2021: https://nawaat.org/2021/02/17/retour-a-un-etat-policier-en-tunisie/
5 في تونس، نظام كافكا للملفات الأمنية، بقلم ليليا بليز ، لوموند ، 6 كانون الثاني/يناير 2020: https://www.lemonde.fr/afrique/article/2020/01/06/en-tunisie-le-systeme-kafkaien-des-fichages-securitaires_6024879_3212.html
6 تونس: عندما يكون الفرار من الشرطة قاتلاً، منظمة العفو الدولية: https://www.amnesty.org/fr/latest/campaigns/2019/04/tunisia-where-running-from-police-can-be-deadly/
7 العودة إلى دولة بوليسية في تونس؟ بقلم آمنة القلالي، نواة، 17 فبراير 2021: https://nawaat.org/2021/02/17/retour-a-un-etat-policier-en-tunisie/
8 دعوة من المجتمع المدني لوضع حد بشكل عاجل والخروج من الحلقة المفرغة لعنف الشرطة وانجراف نقابات القوات المسلحة، بيان صحفي، 4 شباط/فبراير 2021 ، الجمعيات الموقعة، أعضاء التحالف من أجل الأمن والحرية: المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، جماعتي، مبدعون، جمعية أخصائيون نفسانيون العالم - تونس ، منظمة سوليدار تونس، محامون بلا حدود.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.