التحول السياسي في تونس 2011-2014 المسار والرهانات

من الثورة الى التحول الديمقراطي

يمكن اعتبار التحول السياسي في تونس امتدادا للثورات العربية منذ القرن التسع عشر من أجل الديمقراطية و الحرية أشعل فتيلها المرحوم محمد البعزيزي و أججتها مطالب اجتماعية  ملحة ومشروعة. وهذه الثورة هي في الحقيقة تحولا ديمقراطيا مفاجئا لم يحدث من مبادرة السلطة ولم يمر عبر تفاوض بين أطياف المجتمع السياسي بل أثمر من التحت أي من رحم مجتمع كما كانت في الماضي الحركة الوطنية نهضة شعبية عارمة   من أجل الاستقلال.

ولقد كثر الحديث على الثورة: هل هي ثورة في العمق أم انقلاب ناجح أو انتفاضة عابرة؟ هل هي ثورة شعبية أو نخبوية؟ ما الفرق بين الثورة عامة وبين التحول الديمقراطي؟ وكيف يمكن الانتقال من الثورة إلى الديمقراطية؟ ما هي شروط التحول الديمقراطي والمخاطر المحدقة به والأخطاء التي يستوجب تجنبها لتأمين المسار؟ تتقاطع الثورة مع التحول الديمقراطي في لحظة التأسيس. فالثورة مسار تاريخي طويل المدى ومعقد وشامل بينما يكون التحول الديمقراطي سياسي، قصير المدى وسلمي وتوافقي يستوجب الاتفاق حول ثلاث أشياء: اتفاق حول القيم، اتفاق حول القواعد واتفاق حول الاجراءات. والتحول هو حسب النظريين هو المرور من نظام تسلطي مهما كان تسميته (نظام حزب واحد، دكتاتورية عسكرية أو كليانية، اليقارشيا وراثية، سلطة فردية) الى نظام يعتمد قواعد وإجراءات المواطنة، أي الحرية والمشاركة السياسية قبالة قواعد مغايرة (الانتداب، الرقابة التسلطية أو البيروقراطية، الزبائنية، الكفاءة...)1Guillermo 'Odonnel et Philippe C. Schmitter, Transitions from Authoritarian Rule. Tentative conclusions about Uncertain Democracies. Baltimore & London, The John Hopkins University Press, Baltimore, John Hopkins University Press, 1993, pp. 7-8   . وهو مسار تنطبق بموجبه القواعد والإجراءات على ثلاث أطراف: أولا، مؤسسات ما كانت تدار حسب القواعد الديمقراطية (الادارة، الجيش والشرطة، الجمعيات، المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وسائل الاتصال...)؛ ثانيا، تنطبق القواعد الجديدة على أشخاص كانوا محرومين من المشاركة (الشباب، النسوة، الأميين، الأقليات...)؛ وثالثا، تنطبق على مسائل كان يمنع التطرق لها (الرشوة والفساد، الحرية الدينية، الحياة الخاصة للساسة، شرعية أصحاب القرار...). وبكلمة مبسطة: الديمقرطة هي أولا نهاية نظام تسلطي؛ ثانيا، وضع نظام ديمقراطي؛ وثالثا، تدعيم الديمقراطية2 Samuel Huntington, The Third Wave. Democratization in the late Twentieth Century, Oklahoma University  Press, 1991, (French version : La troisième vague. Les démocratisations de la fin du XXe siècle, trad. F. Burgess, Paris, Editions Nouveaux Horizons, 1991. p. 34. .

وحسب هذا المنظور التدريجي (ولكنه محل انتقاد) يجعل “التدعيم الديمقراطي” من الديمقراطية كمجموعة قواعد وقيم وإجراءات مشاعة أي “القاعدة الوحيدة في المدينة”3Juan Linz & Alfred Stepan, Toward consolidated democracies In Journal of democracy, Vol 7, n°2, April 96, p.15. . وحسب البعض دخلت تونس في تدعيم الديمقراطية منذ الفترة الاولى للتحول حتى قبل الانتخابات (2011)4Alfred Stepan, Tunisia’s Transition and the twin tolerations, in Journal of Democracy, April 2012, vol. 23, n°2, pp. 89-102. . في المقابل يعتبر البعض الآخر أن المسار الى حد الآن لا يزال محفوف بالمخاطر5Larry Diamond, A Fourth Wave of a False Start, in Foreign Affairs, May, 22, 2011. . وبصفة عامة يمكن ترتيب رهانات التدعيم    بأربع مسائل: تصفية تركة النظام السابق (أ)، وضع قواعد وإجراءات جديدة (ب)، التحكم في المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية (ج) وادارة ديمقراطية دائمة ومستقرة (د). فكيف تعامل التحول في تونس مع هذه الرهانات؟

يكمن التحدي في مرحلة انتقالية هشة في تأكيد الانتخابات الأولى بالسعي نحو انجاز انتخابات ثانية في الآجال من أجل توطيد هذه العملية. الا أن تعزيز الديمقراطية كان محفوفا بمخاطر عطلت المسار الانتخابي واستنزف للشرعية الانتخابية الاولى. أفرزت انتخابات أكتوبر 2011 نتائج لصالح الحركة الاسلامية (1) وكان لهذا الفوز تداعيات كبرى. أثرت مباشرة على اعادة تشكل الخارطة السياسية (2) ودفعت الحركة الاسلامية الى السقوط في النزعة التسلطية التي تصاحب “صلف المنتصريين” (3).   في الواقع، انتخب المجلس الوطني التأسيسي منذ البداية لمدة سنة واحدة بموجب مرسوم في 3 مايو 3 2011 (المادة 2) ووقع تدعيمه بتعهد ممضى من قبل 11 حزبا (بما في ذلك حزب النهضة والتكتل، وهما من أعضاء الترويكا) بالتمسك بهذه المدة. ولكن التأخير في انجاز المهمة وفشل الحكومات المتعاقبة في معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية واستعادة الأمن أفرغ الشرعية الانتخابية من مضامينها (4). وكاد المسار الانتقالي يدخل في مأزق لولا تغليب منطق الحوار على التصادم (5) مما سمح بتذليل الصعوبات والوصول الى اصدار دستور توافقي (6). ودخلت تونس مرحلة التدعيم الديمقراطي بانتخابات تشريعية ورئاسية في أواخر 2014 وتشكيل حكومة قارة (7).

1. انتخاب المجلس القومي التأسيسي

انطلق المسار ما بعد الاطاحة بابن علي ببعث ثلاث لجان يوم 17 جانفي 2011 باشرت عملها قبل أن يقع اصدار مراسيم قانونية خاصة بها في فيرفري 2011:” الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي”؛ و”اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات والانتهاكات المسجلة خلال الفترة الممتدة من 17 ديسمبر 2010 الى حين زوال موجبها”؛ و”اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد”6أنظر المراسيم  عدد 6 و7 و 8 لسنة 2011 المؤرخ ب18/02/2011 المتعلقة بإنشاء اللجان الثلاث.  . وكان مهمة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة هدفا وضع الاسس القانونية لإجراء انتخابات. ومن أهم قراراتها اصدار قانون انتخابي يعتمد أولا نمط اقتراع على القوائم المغلقة بالتمثيل النسبي مع أكبر البقايا (في الدوائر لا على مستوى وطني كما هو الشأن في تركيا)؛ وثانيا، التناصف العمودي بين الرجال والنسوة في القوائم الانتخابية؛ وثالثا، إقصاء المشرفين على التجمع الدستوري الديمقراطي من المشاركة في انتخابات أكتوبر 2011 وذلك بموجب الفصل 15 من القانون اللانتخابي7  المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي - أمر عدد 1089 لسنة 2011 مؤرخ في 3 أوت 2011 يتعلق بتحديد المسؤوليات صلب هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي طبقا للفصل 15 من المرسوم عدد   المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي. .

ترشح أكثر من 11،000 شخص على أكثر من 1500 قائمة في انتخابات 23 أكتوبر 2011. وفي إعلان النتائج تحصل حزب النهضة على نصيب الأسد من خلال الفوز ب 89   من 217 مقعدا في 33 دوائر (27 على التراب الوطني و6 تمثل الجالية التونسية في الخارج)؛ ويتبعها المؤتمر من أجل الجمهورية (29 مقعد)، والعريضة الشعبية (26 مقعد) والتكتل من اجل العمل والحريات (20 مقعد).  حققت النهضة فوزا تتجاوز دلالته النسب والأرقام. ويمكن أن نقسم   نسب الأصوات إلى ثلاثة أجزاء: أكثر من ثلث لحزب النهضة (1،500،000 صوتا)، وثلث توزع على كل القوائم الأخرى (1،300،000). والثلث الباقي ضاع بحكم نمط الاقتراع   ولم يسند لأي طرف.  وهذا التشتت هو الذي سيدفع فيما بعد الاستاذ القائد السبسي للقول أن حزب نداء يحاول جمع الأصوات الضائعة.

بادرت النهضة في أعقاب نتائج الانتخابات بتشكيل تحالف ثلاثي نظرا أنها لا تملك الأغلبية المطلقة (109 مقعدا) ولا لأسباب أخرى. قادت مفاوضات مع المؤتمر من أجل الجمهورية (CPR) و التكتل من أجل الحريات (Forum ) (49 أعضاء ) تجاوزت تشكيل حكومة مؤقتة ليصبح تحالف إسلامي-علماني أطلق عليه اسم الترويكا يضمن تقاسم  السلطة  بدءا من  اقتسام “ الرئاسات الثلاث “ أسندت بموجبه راسة الدولة   للمؤتمر، ورئاسة  الحكومة للنهضة  و رئاسة المجلس الوطني  التأسيسي التكتل ) وصولا الى تشكيل أغلبية برلمانية مستقرة . وقد ترجم التنظيم المؤقت للسلطة أو ما يسمى ب” الدستور الصغير” المصادق عليه في ديسمبر كانون الاول عام 2011 هذا التصور بمنح رئاسة الحكومة أكبر صلاحيات في ضل نظام برلماني معقلن. في الواقع، تدير النهضة شؤون البلاد بحيث لم يبقى لحلفائها سوى المساندة المطلقة لسياستها أو التخلي عن الحكم. وتتكون الحكومة من 63 أعضاء برتبة وزير. في حين عززت الرئاسة ب 60 مستشارا8جريدة “ المغرب” 24/11/2013. .  من الواضح أن استراتيجية النهضة وحلفائها هي البقاء أكثر وقت ممكن في الحكم ببسط نفوذها على الدولة.

ولدت هذه الانتخابات استقطابا ثنائيا مزدوجا: انقسام سياسي بحت بين الأغلبية (الترويكا) والأقلية (المعارضة) وفجوة أيديولوجية حول النموذج المجتمعي بين الإسلاميين (وهم أكثر وأوسع تمثيلا من حركة النهضة) والعلمانيين (بما فيهم أطراف من الترويكا).  ويتقاطع السياسي مع الأيديولوجي ليعيد تشكل الخارطة السياسية وتوزيع الأوراق تحت إيقاع الجاذبات واضمحلال أطراف وتحالفات جديدة.

2. إعادة تشكيل الخارطة السياسية: جدلية التشتت والتوحد

عرفت الساحة منذ الانتخابات دينامكية مزدوجة ومتناقضة تتمثل في انقسام الاحزاب وتشتتهم من جهة ومن جهة أخرى توحدهم وإتلافهم. وأول انعكاس للتحالف مع النهضة هو تشتت الطرف “العلماني” المتكون من التكتل والمؤتمر. انخفضت شعبيتهما حسب استطلاعات الرأي. ومرده ذلك سخط القواعد الرافضة لأي تحالف مع النهضة ناهيك الهيمنة الواضحة للنهضة وسيطرتها على المؤسسات وتهاونها في مواجهة العنف السلفي9حسب استطلاعات الرأي شركة “ايمرود” 2 بالمائة من المستطلعين يبدون استعدادا لانتخاب التكتل و 1.7 للمؤتمر من اجل الجمهورية (مؤتمر صحفي لشركة “ايمرود” في 6 جوان 2013. ). وهذا ما ستبرهن عليه نتائج انتخابات 2014. وكانت النتيجة انقسام داخل الحزبين. استقال من التكتل ما يقارب النصف من كتلته البرلمانية في المجلس الوطني التأسيسي (9 من 20) وقيادته في الجهات ومنخرطيه بالآلاف وأضحى أشبه بنادي منه إلى حزب. وانقسم المؤتمر الى 4 أحزاب10المؤتمر من اجل الجمهورية ( عماد الدايمي) — حركة وفاء ( عبد الرؤوف العايدي) — التيار الديمقراطي ( محمد عبو) — حزب الإقلاع نحو المستقبل ( طاهر هميلة ). ومن المفارقات أنها لم تحد يوما عن توجه المؤتمر المساند للنهضة.  وعلى المستوى العددي ضعف انشقاق 23 نائب من حجم التحالف الحاكم الذي نزل مجموعه من 138 صوت أي ثلثي المجلس إلى 115.

شمل هذا التشتت المعارضة بما في ذلك الحزب الجمهوري (الحزب الرابع في الحجم البرلماني) الذي عرف حركة متناقضة من ادماج وانشطار. غادر الحزب 9 أعضاء من 16 بعد انعقاد مؤتمره ليشكلوا مع مستقلين التحالف الديمقراطي (بقيادة محمد الحامدي)11arrakmia.com . في المقابل عملت القيادات التاريخية للحزب (مية الجريبي ونجيب الشابي) إلى تشكيل تحالفات أخرى بالاندماج مع حزب آفاق تونس الليبرالي (4 نواب) إضافة إلى تشكيلات صغيرة (بدون تمثيل برلماني)، تحت يافطة الحزب الجمهوري الذي عزز كتلته النيابية لتضم 20 نائب12إلى جانب الحزب الجمهوري، يتضمن المولود الجديد حركة «إرادة”، «الكرامة”، وحركة “بلادي” وحزب العدالة الاجتماعي الديمقراطي. ملاحظة: إن الحزب الديمقراطي التقدمي  لديه 2/3 من المناصب القيادية في الجمهوري. .  ولكن سرعان ما تفكك التحالف بالالتحاق مجموعة تعد ب100 عنصر بقيادة سعيد العايدي بحزب نداء تونس، و رجوع مجموعة آفاق للحزب الأم آفاق تونس13tn.webradar.me . وكان وراء الانسحابات التسيير الغير ديمقراطي المسخر لخدمة الطموح الرئاسي المفرط لنجيب الشابي (رئيس اللجنة السياسية للجمهوري). ولم يبقى من الحزب الجمهوري سوى الاسم.

في المقابل، نشأت حركة مضادة للتشتت تدعوا للوحدة والإتلاف مردها وعي قيادات المعارضة بان تشتت الأصوات بين مكونتها قد خدم سابقا خلال انتخابات المجلس التأسيسي حزب النهضة. هذه التحالفات هي “الاتحاد من أجل تونس” و”الجبهة الشعبية “وفيما بعد “جبهة الإنقاذ الوطني” (التي تضم الاثنين). ولها خاصيتين: الأولى إنها من مشارب إيديولوجية مختلفة بل ومتناقضة جمعت ليبراليون وعلمانيون واشتراكيون بما فيهم من يزال يحن للنموذج السوفياتي. ثانيا، هي تحالفات سياسية مؤقتة، مرنة ومفتوحة وليست جبهات انتخابية، هدفها المعلن التصدي لسياسة الأغلبية الحاكمة.

تأسس الاتلاف الأول الاتحاد من أجل تونس بتاريخ 15 فبراير 2013. ويتكون من خمسة أحزاب من الوسط (نداء تونس والجمهوري)، وحزب يسار معتدل (المسار الاجتماعي وريث الحزب الشيوعي) وحزبان من تشكيلات صغيرة من أقصى اليسار دون تمثيل برلماني (الوطني الديمقراطي الموحد وحزب اليسار الاشتراكي). تكونت بدورها الجبهة الشعبية في 7 أكتوبر 2012 وتتألف من أحد عشر حزب تضم مجموعات من اليسار الراديكالي والقومية العربية والناصرية والبيئية14تضم حزب العمال والحزب الكفاح التقدمي والحركة الاشتراكية الديمقراطية، وحركة البعث وحزب الطليعة الديمقراطي العربي وفيدرالية العمال وحزب تونس الخضراء و الوطنيون الديمقراطيون و الجبهة الشعبية الموحدة. والتحق بالجبهة حزب القطب. . تستمد مكانتها من نضالها ضد الدكتاتورية وتوجهها العمالي وعدم التعامل للإسلاميين.  امتدت يد الاغتيالات السياسية إليها بمقتل قياديها شكري بلعيد ومحمد البراهيمي15محمد براهمي (الزعيم السابق للحركة “ الشعب”) قبل أن يؤسس حزبه التيار الشعبي، وقع اغتياله في يوم عيد الجمهورية يوم 25 يوليو 2013؛ شكري بلعيد، حركة الوطنيين الديمقراطيين (وطد) قتل في 6 فبراير 2013. . ولدت الجبهة الثالثة الإنقاذ الوطني في 26 يوليو 2013 عقب اغتيال البراهمي. في البداية جمعت 29 أحزاب وجمعيات من المجتمع المدني لتتقلص الى 11 طرفا سياسيا مكونا من أحزاب الائتلافين المذكورين سابقا (5 يمثلون للاتحاد من أجل تونس وستة الجبهة الشعبية). وشكلت لجنة تنسيق للغرض مكونة من الأمناء العامين اعتمادا على نفس نموذج الائتلافين16alchourouk.com .

يهيمن على كلا الائتلافين طرف مركزي.  يتصدر حزب العمال التونسي بقيادة حمى الهمامي الجبهة الشعبية في حين أن نداء تونس هو العمود الفقري بالنسبة للاتحاد من اجل تونس، وزعيمه الباجي قائد السبسي سيد المعادلة السياسية. بدأ مسيرته كوزير لبورقيبة وعمل لمدة قصيرة مع خلفه بن علي (1989-1991). واستنجد به رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع بعد استقالة محمد الغنوشي ليشكل الحكومة الثانية الانتقالية من المرحلة الأولى. أدار المرحلة (فبراير-أكتوبر 2011) بأخف الأضرار الى حدود الانتخابات. ثم أسس حزبه في 16 يونيو 2012 في خضم تشتت المعارضة وهيمنة الإسلاميين. فجعل من وحدة المعارضة و “خلق التوازن” هدفا ومن الوسطية منهاجا ومن الحركة الإصلاحية مرجعا، مناديا للدفاع على مكتسبات دولة ما بعد الاستعمار وملتزما بتدعيم الديمقراطية. نجح في وقت وجيز (ما يقارب سنة) في تأسيس ما يسمى في العلوم السياسية ب”حزب –استقطاب- الكل”   catch all partyيتكون من أربع روافد: الدستوريون والنقابيين ونشطاء من اليسار والمستقلين. زعزعت ولادة هذا الحزب المشهد السياسي. فبالرغم من أنه لم يشارك في الانتخابات، التحق به اثني عشر عضوا في المجلس الوطني التأسيسي (من المنشقين عن الأحزاب المتواجدة والمستقلين) مم جعله قادر على تشكيل كتلة برلمانية والمشاركة في الحوار الوطني. ومنذ أول وهلة تصدر نداء تونس استطلاعات الرأي ويتصدر الباجي قائد السبسي قائمة السياسيين الأكثر شعبية ليصبح بذلك المرشح “ الطبيعي” للرئاسية17tunisien.tn .

ويمكن أن نقول إن إرادة الوحدة والاتلاف لعبت دورا في خلق التوازن السياسي ما بين صائفة 2013 و نهاية صائفة 2014. الا أن الاتلافين (الاتحاد من أجل تونس وجبهة الإنقاذ) لم يعمرا طويلا. أنهت جبهة الإنقاذ مهمتها بعد أن قبلت النهضة التنحي من الحكم مع انطلاق الحوار الوطني (أكتوبر 2013) ومع اقتراب الموعد الانتخابي، قرر نداء تونس الترشح تحت يافطته مما أضعف الثلاث أطراف اليسار المعتدل الباقية من الاتحاد والتي لن تتحصل على أي مقعد في انتخابات 2014.

3. النزعة الاستبدادية المستحدثة

لا يمكن لنا فهم إرادة الوحدة وتشكيل الائتلافات وخاصة الصعود المفاجئ والقوي لنداء تونس بدون الرجوع الى النزعة التسلطية المستحدثة التي سقطت فيها النهضة من جراء قراءة خاطئة لنتائج الانتخابات. وهو أمر وقع التنبه له في نظرية التحولات التي راجعت   تصورا ساد عقود قوامه أن التحول الديمقراطي يستند إلى النموذج المرحلي من خلال إتباع عدد من الفترات والحلقات بدءا من نهاية الاستبداد إلى تعزيز الديمقراطية مرورا بمرحلة التحول ذاتها. لوحظ في الأثناء أن بعض البلدان خرجت من الدكتاتورية لتدخل في “منطقة رمادية “ تراوح فيها بين الالتزام بعناصر الديمقراطية (التعددية والانتخابات) والسقوط الممارسات السلطوية18على سبيل المثال، روسيا، رومانيا، كمبوديا وفنزويلا. انظر — Thomas Carothers, The End of the Transition Paradigm,  in Journal of Democracy, vol.13, n°1, 2002, pp. 5-21. . وهي نظم تقبل بالتنافس ولكن تعطي امتيازات غير شرعية لطرف يتحكم في مفاصل الدولة (أساسا الاعلام والإدارة والموارد).  ولقد وقع التنظير لهذا النموذج من طرف أخصائيين ولقبوا بعض النظم ب”النظم التسلطية الانتخابية” (electoral authoritarian regimes) أو النظم “التسلطية التنافسية” (competitive authoritarianism)19David Collier et Steven Levitsky, Democracy with adjectives : Conceptual Innovation in Comparative Research, World Politics 49 (April 1997): 430-51 .

يمكن اعتبار تونس ما بعد الانتخابات أحد الأمثلة لما حاولت النهضة الهيمنة على دواليب الدولة لتشكل خطرا على الانتقال الديمقراطي.

أولا، أرادت النهضة التحكم في مقاليد الدولة من خلال تعيين مناصريها في مناصب إستراتيجية، بما في ذلك في الوزارات الحساسة (الداخلية والعدل). واتبعت نفس السياسة في تعين الولاة والمديرين العاميين في كامل المجالات2086 ٪ من جميع التعيينات في الحكومة المركزية والوظيفة العمومية ، 19 والي (من أصل 24) ، 229 معتمد (من 324 ) ، تصيح عبد القادر لباوي، رئيس الاتحاد الوطني  من اجل حياد الإدارة و الوظيفة العمومية ( جريدة المغرب 8/11/2013). . على الرغم من أن الدستور “الصغير” (أي المنظم للسلط العمومية في الفترة الانتقالية) ينص على أن هذه التعيينات تتم من طرف رئاسة الجمهورية بالتشاور مع الحكومة21attounissia.com.tn . إلا أن سيطرة النهضة على الجهاز الأمني لم تجد من طرف رئاسة الدولة تصد يمنعها من ذلك.

وان جوبت هذه التعيينات بالصمت من قبل الجيش الوطني الملزم بالحياد السياسي ألا أن بعض كوادر الشرطة نددت بذلك. ففي مؤتمر صحفي (30 يوليو 2013)، أعلنت النقابة الوطنية لقوات الأمن قائمة عن أسماء ما يقرب من عشرين من كبار المسؤولين المعروفين بولائهم للنهضة والتي تكون بمثابة “شرطة موازية”22فتحي بلدي ( النهضة ) عبد الكريم العبيدي ( مقرب من راشد الغنوشي)العمارة عرقوبي ( رئيس المديرية الإقليمية للأمن الوطني ) ، طاهر بوبهري ( مستشار الوزارة) ، أسامة بوثلجة ( مستشار لرئاسة الحكومة مسؤول عن تعيين الولاة والمعتمد ين  ) ، لطفي صغير (مدير مديرية حدود) رياض العماري (ملازم في إدارة السجون ) زهيرالحاج ( قائد مجموعة سوسة ) ، محرز الزواري ( مدير الوحدات الخاصة )، و قائد عماد التوزري ، رياض بلطيف(المسؤولة عن التدريب في MI) ، حبيب السبوعي(المدير العام للسجون ) ، حبيب زاهي ، حمزة بن عويشة ، الياس حمروني، لطفي حدودي، مصطفى بن عامر ، الزين المسعودي . — www.africanmanager.com/153770.html‎ 30 juil. 2013 ، كرئيس القوات الخاصة ومدير أكاديمية الشرطة، وهو ابن شقيق أبو عياض، زعيم المجموعة الإرهابية أنصار الشريعة. كشفت النقابة كذلك أن وزير العدل السابق والقيادي في حركة النهضة نور الدين البحيري أعطى تعليمات بإعطاء دروس دينية لسجناء الحق العام من قبل جمعية سلفية “جمعية التوعية والإصلاح” التي يترأسها بائع خضر سابق.

ثانيا، عملت النهضة على كبح جماح وسائل الإعلام بمختلف الوسائل. منها القيام بحملة منظمة ضد ما تسميه “ إعلام العار” من أجل “ تطهير القطاع”. ومنها أيضا تنظيم في 24 فبراير 2012 اعتصاما دام 54 يوما أمام مقر التلفزيون الوطني تحول لجلسات محاكمة يتم خلالها التنديد بالخط التحريري للقناة وصل الى حد بث عن طريق الفيديو انتقادات   صحفيي القناة لزملائهم وقيام البعض ب” النقد الذاتي”. كذلك من خلال تعيين مديرو القنوات العامة ومحطات الإذاعة. ولقد استنكر مرصد تونس لحرية الصحافة هذا التوجه حيث عاين في 8 أشهر الأولى من عام 2013 ما لا يقل عن 53 انتهاك لحرية الإعلام من قضايا ضد إعلاميين (9)، حالات هرسلة (6)، واعتداء لفظي (5 )،  تهديدات بالقتل (2)، وحالتين من الرقابة،  حالتين من  القرصنة والسجن (2 ) و حالتين من التدخل السياسي23Tunis Center For Press Freedom, ctlj.org .

ثالثا، تسيطر النهضة على السلطة القضائية بشكل رئيسي من خلال تحريك إجراءات قانونية أو إنهاء الملاحقات القضائية. وتستمر الحكومة في تعيين رؤساء الدوائر والقضاة على أساس قانون يعود إلى الستينات ودون استشارة الهيئة المؤقتة للمجلس الأعلى للقضاء، وهو ما أثير استنكار المنظمات المهنية الثلاثة (جمعية القضاة، نقابة القضاة وعمادة المحاميين).

وأخيرا، تتخذ النزعة الاستبدادية طابعا عنيفا. وذلك من خلال دعم روابط حماية الثورة، وهي ميليشيا عنيفة (تم الاعتراف بها مدة تولي علي العريض وزارة الداخلية)، رغم تعدد المطالب بحلها. تميزت هذه المليشيات بالتشويش على اجتماعات المعارضة باستعمال العنف اللفظي والجسدي. وتعلقت بها خاصة ثلاث جرائم: الهجوم على المتظاهرين في ذكرى الشهداء (9 أبريل 2012)، والهجوم على مقر اتحاد الشغل (3 سبتمبر 2012) وبالتورط مع نشطاء النهضة في القتل عمدا للطفي نقض، الممثل الإقليمي (تطاوين) لحزب نداء تونس (أكتوبر 2012)24تقرير لجنة التحقيق المستقلة في الهجمات ضد اتحاد الشغل ( 4 سبتمبر 2012 ) نشرت (إبريل 2013) يجرم الرابطات و النهضة. التحقيقات الأولية التى أعلنتها وزارة الداخلية  تؤكد أن قتلة لطفي نقض هم أعضاء من النهضة و روابط حماية الثورة أو السلفية في مقتل بلعيد و البراهمي. جريدة “المغرب” 19 و 20/04/2013. . وقد وصل العنف إلى اغتيال شكري بلعيد، وهو زعيم أقصى اليسار (فبراير 2013) ومحمد البراهمي، نائب في المجلس الوطني التأسيسي (تموز 2013). ووجهت أصابع الاتهام للحكومة إذ أنها لم تتخذ الخطوات اللازمة أمام الدعوات الصريحة والمتكررة للقتل، في المساجد خاصة. كما أن رئيس الوزراء نفسه علي العريض اتهم شكري بلعيد بالتحريض على الإضرابات والاعتصامات بما في ذلك في سليانة حين واجهت الشرطة المتظاهرين (نوفمبر تشرين الثاني عام2012) بالرش الذي أدى إلى فقدان بعضهم للبصر. واتهمت النهضة بالإهمال في قضية مقتل محمد البراهمي وذلك ان رسالة نشرت 19 سبتمبر 2013 من قبل لجنة تقصي الحقائق في اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي أثبت أن مخابرات الولايات المتحدة الأمريكية أعلمت الإدارة المعنية في وزارة الداخلية عن تهديد قد يطال البراهمي قبل 15 يوما من وقوع الجريمة، ولكن الإدارة لم ترى ضرورة أخذ بعين الاعتبار ها الاشعار25mosaiquefm.net .

 

4. مسألة استعادة الشرعية

لم يكن منتظرا أن يسقط نظاما منتخبا في أزمة شرعية. وهذا الصراع هو احدى حلقات المرحلة الانتقالية. تعني الشرعية أن السلطة الحاكمة تطاع وقراراتهم تنفذ وسلطتها معترف بها26 The three types are presented by Max Weber, Gesammelte Aufsätze zur Wissenschaftslehre, Tübingen, 1973, pp. 475-488 and in French, Weber, Economie et société, Paris, Plon, vol. 2. . وتعتبر الانتخابات المصدر الأول للشرعية في دولة ديمقراطية مستقرة أو في طور التحول. ولكن قد تتعارض هذه الشرعية ذاتها مع الشرعية الأيديولوجية أو التكنوقراطية (كفاءة الخبراء) أو شرعية الإنجاز (achievement legitimacy ).

استقرت الترويكا محتجة بالشرعية الانتخابية. ومع ذلك، كانت الانتخابات قد حددت المسار الانتقالي، بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي لصياغة الدستور في أجل محدد (1) ووضع قانون انتخابي (2)، وتحديد موعد للانتخابات المقبلة (3) الذي تتعهد به هيئة الانتخابات المزمع انشائها (4). لم ينجز أي من هذه المهام الأربع بعد عامين من انتخابات 23 أكتوبر تشرين الأول. ومن هنا جاءت أزمة شرعية المؤسسات. كان للتأخير في صياغة الدستور عدة أسباب: أولا، غطرسة غالبية النواب المنتخبين الذين استسلموا لأسطورة “ الصفحة البيضاء” (كتابة دستور دون اللجوء إلى الخبراء والكثير  من مشاريع أعدتها أطراف من المجتمع المدني)؛ ثانيا غياب توافق قيمي-إيديولوجي حول محتوى الدستور نفسه.  ونتج عن ذلك أربع نسخ أو مسودات للدستور (آخرها في حزيران 2013). وقد تركزت الخلافات بشكل خاص على ثلاث قضايا رئيسية، وهي مكانة الإسلام، والحقوق والحريات وطبيعة النظام السياسي (برلماني أو رئاسي). وهذا هو أحد الأسباب التي جعل ما يقرب 60 نائب يقررون انسحابهم في لفتة يائسة (29 يوليو 2013)، على أعقاب اغتيال النائب محمد البراهمي يوم 25 يوليو عام 2013. وثالثا وأخيرا يعود التأخير إلى الحسابات السياسوية والفئوية للنواب إذ أن من مصلحتهم جميعا التمديد في عمل المجلس التأسيسي للاستفادة من الامتيازات.  إذ أن أداء عامين من النشاط يوافق 30 نقطة انتفاع في حساب عدد سنوات الخدمة في إطار منحة التقاعد (خاصة من لم يكن له مسار مهني عادي من جراء التحجير الناتج عن القمع). وهكذا، تدهورت صورة المجلس الوطني التأسيسي واهتزت مصداقية النواب الناتجة كذلك عن الغيابات المتكررة والمشاحنات العقيمة بين الأعضاء.

نجم بالتالي عن هذا تأخير اصدار الدستور تأجيل صياغة قانون الانتخابي لارتباطه بشكل مباشر باختيار طبيعة النظام السياسي (برلماني أو رئاسي) لكي نحدد هل نلتجئ الى انتخاب رئيس الجمهورية. وما زاد الأمر تعقيدا هو الأمر الثالث أي غياب هيئة مستقلة للانتخابات إذ تم حل الهيئة التي أشرفت على انتخابات أكتوبر 2011 من طرف حكومة حمادي الجبالي وهو ما يستدعي إنشاء هيئة جديدة مع كل ما يتبع هذا الإنشاء من تجاذب سياسي. في الواقع أصدرت الأغلبية البرلمانية قانونا جديدا يتم بموجبه انتخاب هيئة انتخابات جديدة تمزج بين الطابع السياسي والطابع التقني في اختيار أعضاءها. فمنهم من تم اختياره بناء على المحاصصة الحزبية وآخرين من المهن القانونية أو شبه القانونية (9 أعضاء جملة 36).  وقد تم تأجيل انتخاب هذه الهيئة مرارا وتكرارا بسبب آلية التصويت التي تستوجب الأغلبية المطلقة وهو ما صعب تحقيقه في ظل الحسابات السياسية وغيابات النواب. وأخيرا، بقي موعد الانتخابات القادمة محل تأجيل من أكتوبر 2012 فصاعدا. وهو بدوره رهن صياغة الدستور والقانون الانتخابي، خاصة أن التنظيم الإداري والمادي للانتخابات يتطلب ستة أشهر على الأقل حسب الخبراء في الشأن الانتخابي.  أعلن حمادي الجبالي في أبريل 2012 أن الترويكا قد وافقت على إجراء الانتخابات في مارس عام 2013. ثم أخره الى يونيو 2013 ومنه إلى عام 2014 (حسب وزير التعليم العالي) أو 2015 (في رأي بعض النواب). وكادت هذه الأزمة البرلمانية أن تعصف بالانتقال الديمقراطي. أدى التأخير في إنهاء جدول أعمال المجلس، وفشل الحكومة في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وانخرام الأمن إلى تأكل الشرعية الانتخابية. وان كانت الأزمة أعمق وتتمثل في عدم وجود ثقة بين الأطراف السياسية الفاعلة بالالتزام بالمسار الديمقراطي، إذ حامت شكوك جدية حول مساعي حركة النهضة لتأسيس دكتاتورية جديدة وأسلمة الدولة تدريجيا.

5. الحوار الوطني الهادف

كان هدف الحوار الوطني إخراج المسار من المأزق. دفع اغتيال النائب محمد البراهمي في 25 يوليو 2013 الى انسحاب 60 برلمانيين من المعارضة احتجاجا على قتل أحدهم واعترافا منهم على عدم إمكانية التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن نص الدستور داخل المجلس الوطني التأسيسي حتى بعد صياغة النسخة الرابعة (يونيو 2013). كما أن المفاوضات ضمن “لجنة التوافقات” (التي يرأسها رئيس المجلس) لم تهتدي لحل ما يقارب 20 اشكال دستوري قائم   علاوة عن تمسك النهضة بإدراج الشريعة كمصدر رئيسي للتشريع ودسترة المجلس الإسلامي الأعلى، وهما مسألتان لم يرد ذكرهما في النسخة الرابعة من للدستور.

عزمت المعارضة إلى الاعتصام ما يقرب من ثلاثة أسابيع في ساحة باردو (آب 2013)، والتحق بهم الآلاف من المحتجين خارج مقر المجلس الوطني التأسيسي مطاليبين بحل المجلس الوطني التأسيسي واستقالة الحكومة، وهو ما اعتبرته الترويكا “خط من الخطوط الحمراء” غير قابلة للتفاوض. من جانبها، نظمت النهضة اعتصام موازيا في باردو مع قبولها “من حيث المبدأ “ للتفاوض. وأطلقت النهضة “الائتلاف الوطني لنجاح الانتقال الديمقراطي “ التي تتألف من اثني عشر حزب، ووسعت التحالف إلى جبهة للدفاع عن الشرعية الممثلة في المجلس الوطني التأسيسي27gnet.tn المدعمة من الخارج من قبل سبعة جمعيات إسلامية28arabesque.tn . وتجنبا للتصعيد والعنف، بدأت مفاوضات غير الرسمية بين مختلف الفرقاء السياسيين تحت رعاية الرباعي: الاتحاد العام التونسي للشغل، منظمة الأعراف، عمادة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

لم يكن اختيار هذه المنظمات الأربع من قبيل الصدفة. تحظى المنظمتان الرئيسيتان، اتحاد للشغل ومنظمة الأعراف، بشرعية تاريخية لمساهمتها في التحرير الوطني وتأسيس دولة ما بعد الاستقلال. كما أن المنتمين لعمادة المحامين هم من النخب الوطنية التاريخية؛ أما الرابطة، أول منظمة لحقوق الإنسان في العالم العربي (1978)، فهي رمز نضال النخب الديمقراطية. ولم يكن للرباعي سلطة اتخاذ القرار بل انحصر دوره في التحكيم وتقريب وجهات النظر.

أجل الحوار عدة مرات، ولم يبدأ رسميا الا في 25 أكتوبر 2013، وبعد عشرة أيام من الموعد المقرر لاحتفال الرسمي بانطلاقه. تم تعليقه ثم استأنف. شهدت الثلاث أشهر الأولى تعثر الحوار   في رسم خارطة طريق يجب تنفيذها خلال فترة محددة أقصاها ثلاث أسابيع. تم اختيار الأطراف عل أساس قاعدة مزدوجة: التمثيلية والمساواة. فإلى جانب اللجنة الرباعية، تم اختيار الجهات الفاعلة على أساس العضوية في المجلس الوطني التأسيسي: ممثل عن كل حزب في المجلس التأسيسي مهما كان وزنه الانتخابي وهكذا، لم يشارك من أعضاء التحالفات السياسية (الجبهة الشعبية والاتحاد من أجل تونس وجبهة الإنقاذ الوطني) الا من كان له تمثيلا بالمجلس. في المقابل، اعتبر المؤتمر من اجل الجمهورية، حزب رئيس الجمهورية، الحوار الوطني “انقلابا” على الشرعية الانتخابية.

رسم الحوار الوطني خارطة الطريق لوضع حد لأسباب الجمود السياسي: أولا استقالة الحكومة لصالح حكومة مؤقتة غير مسيسة، ثانيا، إنهاء كتابة الدستور، ثالثا، سن قانون الانتخابات واستكمال انتخاب هيئة الانتخابات ومن ثما تحيد الانتخابات في أسرع وقت ممكن. ولهذه الغاية، شكلت ثلاث لجان للإشراف على خارطة الطريق.

كان الغرض من هذا الجدول الزمني هو تسريع الخروج من المرحلة الانتقالية. إلا أن النهضة اشترطت إنهاء مهام المجلس الوطني التأسيسي بالتوازي مع استقالة الحكومة مطالبة بتزامن المسارات. أما المعارضة فلم ترى موجب لهذا التزامن وطالبت باستقالة علي العريض في غضون ثلاث أسابيع، و هو ما فعله في رسالة بعث بها إلى اللجنة الرباعية يوم 24 أكتوبر تشرين الأول. ولكن التأخير في اختيار رئيس الحكومة البديل، أعاد على الطاولة مسالة التزامن.

في الواقع، وصل الحوار الوطني عدة مرات إلى طريق مسدود. أولا، لم يتم التوصل إلى اختيار رئيس الوزراء لعدم وجود توافق بشأن اسم مستقل إلى جانب العدد الكبير من المرشحين المحتملين. فبعد أن امتنعت في البداية عن تقديم مرشح، رفضت النهضة أي مرشح آخر ما عدى أحمد المستيري بدعم من أربعة أحزاب ضد 14 لمحمد ناصر و2 لجلول عياد حسب التصويت في هيئة الحوار.   أخّر هذا التكتيك تكليف رئيس الحكومة. أما هيئة الانتخابات فقد توقف مسار انتخاب أعضاءها عدة مرات نظرا لإلغاء أول الفرز من قبل المحكمة الإدارية، ثم أعاد المجلس الوطني التأسيسي على هذا الأساس انتخاب36 مترشح. ألغت المحكمة الإدارية من جديد في 11 نوفمبر 2013 إجراءات التصويت التي لم يتم الاحترام فيها مقياس تقييم المرشحين حسب القانون. وأخيرا، ما عرقل عملية استكمال الدستور هو عجز المجلس الوطني التأسيسي على صياغة دستور توافقي، مع العلم أن لجنة التوافقات داخل المجلس حددت 16 نقطة خلافية. وتحت ضغط الحوار الوطني، حققت اللجنة بعض التقدم بما في ذلك إزالة البند الأول من الفصل 141 “ الإسلام كدين للدولة” وتعديل البند الثاني من الفصل 48 حول القيود على الحقوق و الحريات لأسباب تتعلق “بالنظام العام والدفاع الوطني والصحة” و حذف البند الثالث من الفصل 76 الذي يحدد الحد الأدنى لسن الترشح لانتخابات الرئاسية (كانت الترويكا تريد من خلال هذا الفصل استبعاد ترشح باجي قائد السبسي 84 سنة) وبقيت مسالة طبيعة النظام السياسي (برلماني أو رئاسي)  محل نظر.

6. دستور توافقي

احتفل التونسيون 26 يناير 2014 بالدستور الجديد الذي كان بمثابة نجاح سياسي كبير بعد أن خلنا أن هذا الدستور لن يرى النور أبدا. أكثر من سنتين من تجاذبات وصراعات انحدرت نحو العنف. الدستور هو مرآة المخاض الذي صاحب ولادته، دستور توافقي بين رؤى متناقضة للدولة وللمجتمع ليبتكر مضمون “ إسلامي ديمقراطي “. يضم الدستور التونسي الجديد مائة وتسعة وأربعين فصلاً موزعة على عشرة أقسام، وهو يُعتبر من الدساتير الطويلة نظرا للإسهاب في إبراز بعض التفاصيل القانونية والخوض في بعض المسائل الجزئية التي يكون موضعها في الأصل في النصوص القانونية. ويخشى أن تمثل هذه التفاصيل مطبات حقيقية ساعة تطبيق الدستور، بحيث قد تُؤوَّل على معانٍ كثيرة قد تصل حد التضارب؛ فتغذي حينئذ الاستقطاب الثنائي الذي طفا على السطح في ختام مناقشة الدستور.

جاء التصويت على الدستور التونسي الجديد، فصلاً فصلاً، ثم نصًا متكاملاً، في إطار الترتيبات التي نص عليها القانون المنظم للسلطات العمومية حيث أُديرت وفقًا لأحكامه المرحلة الانتقالية التي أعقبت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011. وقد اتسم السياق العام الذي اكتنف عمليات التصويت تلك، بالتجاذبات السياسية الحادة والصراع الأيديولوجي بين الإسلاميين (المتزعمين لتيار الهوية والتأصيل) والعلمانيين (المدافعين عن الحداثة والحقوق الكونية) في ظل استقطاب ثنائي لم تفلح آلية التوافق التي تم إقرارها بإيعاز من الرباعي الراعي للحوار الوطني لكسره.

ورغم التشنج الذي خيم على معظم جلسات التصويت التي عقدها المجلس الوطني التأسيسي بشكل ماراثوني في سباق واضح مع الزمن الذي فرضته روزنامة الاستحقاقات الدستورية التي تضمنتها خارطة الطريق، إلا أن رؤساء الكتل قد نجحوا في تحقيق الحد الأدنى من التوافق حول مضامين معظم فصول الدستور، رغم التناقضات القائمة بين مرجعياته والأجندات الحزبية والانتخابية التي ما انفكت تلقي بظلالها على مواقفهم.

وقد تضمنت توطئة الدستور الجديد إحالات كثيرة ومتناقضة من تأصيل لهذا النص الدستوري في بيئته وثقافته العربية الاسلامية وانفتاحه على التجربة الانسانية المتنوعة وحقوق الإنسان الكونية. كما تضمنت إشادة بتضحيات الشهداء وتثمينًا للسيادة الوطنية وتأكيدًا على استقلالية القرار الوطني.

ويعبّر الباب الأول منه عن مبادئ عامة تعكس ملامح النظام الجمهوري التونسي وهوية الدولة التونسية وطبيعتها وتوجهاتها، على غرار ما جاء بالفصل الأول من أن “تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها” (وهو فصل مأخوذ بحذافيره من الدستور السابق لسنة 1959)؛ وما ورد في الفصل الثاني أضافة للفصل الأول من أن “تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعُلوية القانون”. وقد دار نقاش حول الفصل الأول يتصل بمعرفة هل أن الإسلام هو دين الدولة أو دين تونس. ساد الغموض طيلة عقود وكان التفسير السائد لدى الفقهاء أن “هاء” النسبة (في كلمة دينها) ترجع للشعب التونسي المسلم. وحاول الطرف المحافظ داخل المجلس توضيح المسألة بالتنصيص على أن الإسلام دين الدولة. وضمن هذا التوجه في النسخ الأربع للدستور (نسخ أوت 2012، ديسمبر 2012، أفريل 2013 وجوان 2013) في الفصل الخاص بتعديل الدستور القاضي بأنه “لا يمكن لأي تعديل أن ينال من الإسلام باعتباره دين الدولة” (الفصل 141 نسخة جوان 2013). ولكن الحوار الوطني ألغى هذا الفصل. كما حاول نفس الطرف المحافظ خلال الجلسة العامة للتصويت النهائي على الدستور بداية جانفي 2014 التنصيص على أن الشريعة “المصدر الأساسي للتشريع” (التعديل رقم 5 ليوم 4.4.2014) الا أنه جوبه بالرفض. كما وقع رفض تعديل ثان أكثر اصرارا: “القرآن والسنة مصدران أساسيان للتشريع” (التعديل رقم 42). ويبرهن   توزيع التصويت أن حركة النهضة منقسمة. ففي لم يصوت على التعديل الأول (رقم 5) الا 18 من أعضائها (على 40 عموما لصالح التعديل) و21 (على 47 لصالح التعديل). في حين صوتت أطراف أخرى محسوبة على “العلمانية” لصالح التعديلان29 صوت لصالح التعديل الأول 10 مستقلين و3 من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، و6 من وفاء المنشق عن المؤتمر و3 من كتلة الانتقال الديمقراطي.  source Marsad.tn كما صوت على التعديل الثاني من غير النهضة 5 عن كتلة الانتقال الديمقراطي و2 من المؤتمر والباقي مستقليين  source Marsad.tn .

وهنالك فصل مهم حول الحرية الدينية كان من الأفضل أن يرد في الباب الثاني الخاص بالحقوق والحريات. وهو الفصل السادس الذي كثر الحديث عنه لتهافته “للدولة راعية للدّين، كافلة لحريّة المعتقد والضّمير وممارسة الشّعائر الدّينيّة، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التّوظيف الحزبي. تلتزم الدّولة بنشر قيم الاعتدال والتّسامح وبحماية المقدّسات ومنع النّيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التّكفير والتّحريض على الكراهية والعنف وبالتّصدّي لها”. فهو فصل يضمن حرية المعتقد الكلاسيكية ويضيف في أول دستور عربي صراحة “حرية الضمير”. ويوازن بين نشر قيم الاعتدال والتسامح ومنع التكفير من جهة ومن جهة أخرى حماية المقدسات وعدم النيل منها.  لم يستقر هذا الفصل الا في الأيام الأخيرة من التصويت المجلس. ففي 4 جانفي وقع التصويت على الفقرة الأولى (الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي). في اليوم الموالي صوت بالأغلبية على ما يلي: “يحجر التكفير والتحريض على العنف”. وأخيرا بسبب الضجة التي أحدثها هذا البند وقع الرجوع للفصل يوم 23 جانفي أي يومين قبل نهاية المصادقة على الدستور لإضافة الفقرة الثانية بالتوافق (تلتزم الدّولة بنشر قيم الاعتدال والتّسامح وبحماية المقدّسات ومنع النّيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التّكفير والتّحريض على الكراهية والعنف وبالتّصدّي لها). ويستقرأ من توزيع نسب التصويت حسب التوجهات أن الموافقين والرافضين والمحتفظين بأصواتهم ينتسبون لكل الكتل (بما فيها النهضة وجزء من العلمانيين) مما ينسّب التصور الهلامي من أن الدستور كان محل تجاذب أحادي الجانب بين النهضة والعلمانيين30تابع نوزيع التصويت في Marsad.tn .

ويتناول الباب الثاني الحقوق والحريات. وقد تضم ما يسمى الحقوق-حريات والحقوق-ديون (أي الحقوق المطالب بها من المجموعة كدين في ذمتها) وبصفة عامة شمل الحقوق والحريات للأجيال الثلاثة المتعاقبة في المنظومة الدولية لحقوق الانسان. يبدأ الباب بإقرار المساواة بين المواطنين (الفصل 21)؛ ثم يتدرج ليبدأ بالحقوق الفردية أهمها الحق في الحياة الذي ورد بشأنه في الفصل الثاني والعشرين أنه “مقدس”، لا يجوز المساس به إلا في حالات قصوى يضبطها القانون (مما يعني أن عقوبة الإعدام ليست ملغاة). ويتناول الحق في الحرمة الجسدية مانعا جريمة التعذيب وجملة الحريات الفردية (الحق في محاكمة عادلة، حقوق الحياة الخاصة) (الفصول 23-29).  وينتقل للحريات العامة: حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر، وحرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات، وحرية الاجتماع والتظاهر السلميين، بالإضافة إلى حريات نوعية على غرار حرية الإبداع وحرية البحث العلمي والحريات الأكاديمية؛ ويلاحظ التنصيص على حقوق مستحدثة مثل الحق في النفاذ إلى المعلومة (الفصول 30-37). وآخرا، الحقوق الاجتماعية والاقتصادية على غرار الحق في الصحة والحق التعليم وفي العمل والثقافة وفي بيئة سليمة وحتى في الماء. كما تضمن هذا الباب إشارات إلى حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة وتكفل الدولة بحمايتهم من كل تمييز سلبي (الفصول 38-48). وخصص هذا الباب ثلاث فصول تتضمن التزامات صريحة بالمساوة وبحماية حقوق المرأة المكتسبة والتمثيل في المجالس وتكافئ الفرص والتناصف والحماية من العنف (الفصول 21 و34 و46).

وقد تضمن الفصل التاسع والأربعون عبارة في غاية الأهمية تتمثل في أنه “لا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور”. كما وردت عبارات مماثلة قبل ذلك في باب المبادئ العامة تمنع تعديل الفصلين الأول (هوية الدولة) والثاني (الدولة المدنية).

أما الباب الثالث فيهتم بالسلطة التشريعية وكيف يمارسها الشعب عبر ممثليه بمجلس نواب الشعب، بالإضافة إلى تفصيل مهام هذا المجلس التشريعية والرقابية. في حين يبين الباب الرابع بكثير من الإسهاب أدوار رأسي السلطة التنفيذية (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة) وصلاحياتهما. وقد أثار الفصل الرابع والسبعون الذي يقع ضمن القسم الأول من هذا الباب جدلاً كبيرًا حول سن رئيس الجمهورية وجنسيته في حال كان يملك جنسية أخرى بالإضافة إلى الجنسية التونسية. وحُسم هذا الجدل بعدم تحديد سقف للسن الأقصى للمترشحين لمنصب رئيس الجمهورية وبإلزام المترشح الحامل لجنسيتين بتقديم تعهد كتابي بالتخلي عن جنسيته الثانية عند التصريح بانتخابه رئيسًا للجمهورية. كما أشار الفصل الخامس والسبعون إلى أنه “لا يجوز تولي رئاسة الجمهورية لأكثر من دورتين كاملتين، متصلتين أو منفصلتين”، و”لا يجوز لأي تعديل أن ينال من عدد الدورات الرئاسية ومددها بالزيادة”.

أما بخصوص مجمل صلاحيات رئيس الحكومة فيشير الفصل الرابع والتسعون إلى أنه “يمارس السلطة الترتيبية العامة”، ويشير الفصل الثالث والتسعون قبله إلى أن “رئيس الحكومة هو رئيس مجلس الوزراء”. وباعتبار أن الحكومة مسؤولة أمام مجلس نواب الشعب الذي يمنحها الثقة بالأغلبية المطلقة لأعضائه؛ فإن لهذا المجلس صلاحية سحب الثقة منها أو من أحد أعضائها بنفس الطريقة ضمن الشروط والترتيبات التي يضبطها القانون.

الباب الخامس يتعلق بالسلطة القضائية باعتبارها “سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات” (الفصل 102). وينقسم القضاء في تونس، بموجب الدستور الجديد، إلى قسمين، هما: “القضاء العدلي والإداري والمالي” و”المحكمة الدستورية”، ويشرف على القسم الأول مجلس أعلى للقضاء “يتمتع بالاستقلال الإداري والمالي والتسيير الذاتي.”

الباب السادس مخصص  للهيئات الدستورية المستقلة، وهي هيئة الانتخابات (التي تتولى إدارة الانتخابات والاستفتاءات وتنظيمها)، وهيئة الاتصال السمعي البصري (التي تتولى تعديل قطاع الاتصال السمعي البصري وتطويره)، وهيئة حقوق الإنسان (التي تراقب احترام الحريات وحقوق الإنسان، وتعمل على تعزيزها)، وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة (وهي هيئة استشارية تبدي رأيها في المسائل المتصلة بمجال اختصاصها)، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد (التي تسهم في سياسات الحوكمة الرشيدة ومنع الفساد ومكافحته، وتعزز مبادئ الشفافية والنزاهة والمساءلة).

وخُصص الباب السابع للسلطة المحلية التي “تقوم على أساس اللامركزية” التي “تتجسد في جماعات محلية تتكون من بلديات وجهات وأقاليم” (الفصل 131)، و”تتمتع الجماعات المحلية بالشخصية القانونية، وبالاستقلالية الإدارية والمالية” (الفصل 132)، و”تدير الجماعات المحلية مجالس منتخبة” (الفصل 133)، و”تتمتع الجماعات المحلية بسلطة ترتيبية في مجال ممارسة صلاحياتها، وتنشر قراراتها في جريدة رسمية للجماعات المحلية” (الفصل 134)، و”تتكفل السلطة المركزية بتوفير موارد إضافية للجماعات المحلية تكريسًا لمبدأ التضامن وباعتماد آلية التسوية والتعديل” (الفصل 136). و”للجماعات المحلية، في إطار الميزانية المصادق عليها، حرية التصرف في مواردها حسب قواعد الحوكمة الرشيدة وتحت رقابة القضاء المالي” (الفصل 137)، و”تعتمد الجماعات المحلية آليات الديمقراطية التشاركية، ومبادئ الحوكمة المفتوحة، لضمان إسهام أوسع للمواطنين والمجتمع المدني في إعداد برامج التنمية والتهيئة التراتبية ومتابعة تنفيذها طبقًا لما يضبطه القانون” (الفصل  139).

خُصص الباب الثامن لتعديل الدستور (الفصلان 143 و144)، في حين خُصص الباب التاسع للأحكام الختامية التي كان أهمها ما ضُمّن بالفصل (146) الذي يمكن اعتباره روح الدستور وقاعدة تأويل مضامينه؛ حيث ينص على أن أحكام الدستور “تُفسّر ويُؤول بعضها البعض كوحدة منسجمة”. وأما الباب العاشر والأخير فقد خُصص للأحكام الانتقالية التي منها أن “تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها، ولا يقبل في هذا السياق الدفع بعدم رجعية القوانين أو بوجود عفو سابق أو بحجية اتصال القضاء أو بسقوط الجريمة أو العقاب بمرور الزمن” (الفصل 148). وهكذا أصبح الدستور القاعدة التي “تفسخ” المنظومة السابقة وتأسس للجديد.

7. من الانتقال الى تدعيم الديمقراطية: انتخابات 2014

جرت الانتخابات ما بين أكتوبر (بالنسبة للتشريعية) وديسمبر (بالنسبة للرئاسية) وفقا للأحكام الانتقالية التي حددت مدها بأن لا تتجاوز موفى سنة 2014 (الفصل 148). وغيرت المشهد السياسي بصفة تكاد تكون جذرية. اذ فقدت الترويكا للأغلبية. وان حافظت النهضة على حضورا مميزا (69 مقعد) لم يتحصل المؤتمر من أجل الجمهورية إلا على 4 مقاعد وانهار التكتل من أجل الحريات. في المقابل، تصدر نداء تونس المشهد بأسبقية عددية نسبية (86 مقعد). ويليه الاتحاد الوطني الحر الليبرالي (16 مقعد) والجبهة الشعبية (15 مقعد)31الانتخابات التشريعية في تونس بداية مرحلة جديدة أم مواصلة حرب الخنادق أنظر حافظ شقير — 2014 كانون الأول / ديسمبر مبادرة الإصلاح السيسي،    .  وفاز القائد السبسي في الرئاسية على منافسه المرزوقي32التنافر والتوافق، مبادرة الإصلاح العربي أنظر حمادي الرديسي وحافظ شقير، الانتختبية الرئيسية في تونس: بين .

كانت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية ل28 أكتوبر 2014 في حدود السبعين في المائة من المسجلين اقصاها في بن عروس بالعاصمة وأدناها سيدي بوزيد،(59.99)  وتليها القصرين والقيروان وتطاوين، أي الولايات الاكثر تشتتا من حيث توزيع السكان. من هم الخاسرون؟ خرجت الترويكا منهزمة. فلم يحصل حزب المؤتمر من اجل الجمهورية (29 عضو سابقا) الا على 4 مقاعد (حولي 69000 صوت) بينما غاب نهائيا حزب التكتل من اجل الحريات (20 عضوا سابقا). اما الاحزاب الاخرى المساندة للنهضة فلم يبقى منها الا التيار الديموقراطي المنشق عن حزب المؤتمر (4 مقاعد). كما غاب حزب المسار (5 أعضاء سابقا) ولم يتحصل الحزب الجمهوري (16 عضو سابقا) وحزب التحالف الديمقراطي (النشق عن الجمهوري) الا على مقعد واحد. دفعت هذه الأحزاب ثمن استراتيجيات انتخابية غير موفقة. فبينما لم يتمكن حزب المسار من ابراز خصوصيته بالنسبة لنداء تونس، دفع كل من الحزب الجمهوري   والتحالف الديمقراطي ثمن ضبابية موقفهم من النهضة. لم تنهزم النهضة ولكن تراجع عدد المقاعد التي تحصلت عليها (69 مقابل 89 سابقا) وتراجع عدد ناخبيها بحولي (570 ألف) ناخب (1.5 مليون سنة 2011 مقابل 930 ألف سنة 2014) أي ما يعادل 38 بالمائة من مجموع الاصوات التي حصلت عليها سنة 2011. وسُجّل التراجع تقريبا في كل الدوائر الانتخابية؛ بلغت اقصاها في الشمال الغربي ودوائر تونس   وأدناها في الجنوب مثل تطاوين ومدنين.

أما الفائزون فهم على التوالي نداء تونس الطي تحصل على 86 مقعد أي ما يناهز 1.3 مليون صوت. وفاق عدد ناخبي نداء تونس عدد ناخبي النهضة ما عدى دوائر الجنوب. وتضاعف أكثر من مرتين ونصف في غالبية الدوائر الانتخابية للشمال والشمال الغربي. وكما هو للشأن بالنسبة للنهضة سنة 2011، لم يتحصل نداء تونس أو مريحة تسمح له بتكوين حكومة بمفرده أو أغلبية مريحة تمكنه من ذلك بدون عناء. ويعتبر الحزب الوطني الحر من الفائزين حيث تحصل على 16 مقعد ا (مقابل مقعد سابقا) وعلى 140 ألف صوت. يترأس الحزب رجل الاعمال سليم الرياحي وقد تميز بوعود شعبوية واستقطب الشباب العاطل والطموح والفئات المهمشة في المدن والأرياف. وأمكنت له نتائجه أن يلعب دور الوسيط بين الاغلبية والأقلية والنهضة ونداء. ثم يليه الجبهة الشعبية ذات الميولات اليسارية (الوحيدة التي بقيت من الجبهات الثلاث الآنفة الذكر في الفقرة الثانية من التقرير) التي تحصلت على 124000 صوت و15 مقعد (3 سابقا) وحزب آفاق الليبرالي (103000 و8 مقاعد) (5 مقاعد سابقا).

حددت التشريعية الى حد ما نتيجة الرئاسية. وليس من الصدف أن يتصدر الدورة الأولي من الرئاسية أقطاب المربع الظافر: السبيي زعيم نداء ومنصف المرزوقي المحسوب على النهضة، وحمة الهمامي ممثل الجبهة الشعبية وسليم الرياحي قائد الاتحاد الوطني الحر. في المجمل أعلن ما يقارب عن 77 نية الترشح بالرغم من محدودية صلحيا رئيس الجمهورية الذي يمثل الدولة ويختص “بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي” ويعين للوظائف العليا التابعة بالنظر بعد استشارة رئيس الحكومة، ويتمتع بصلاحيات أخرى (ابرام الحرب والسلم والمصادقة على المعاهدات وإسناد الأوسمة، والعفو الخاص وتعيين المفتي) (الفصول 77 وما تبعها).  لم تقبل منهم الهيئة المشرفة على الانتخابات إلا 27 الذين استوفوا شروط الترشح أساسا تزكية اما 10 نواب من التأسيسي أو 10000 مواطن (منها 5000 من 10 دوائر انتخابية). ولا يوجد من ضمن هؤلاء أي مرشح لحركة النهضة التي قررت عدم تزكية أي مترشح رسميا ودافعت على مرشح وفاقي بدون نتيجة. وقرر مجلس الشورى في الأسبوع الأخير من الحملة الانتخابية في اجتماع 20 نوفمبر” تفويض أعضائها وأنصارها اختيار من يرونه الأصلح للقيام بمهام رئيس الجمهورية”. وجددت الموقف نفسه في الدورة الثانية بعد سلسلة من الاجتماعات الصاخبة (6 و7 و13 ديسمبر).

كانت نسب المشاركة متقاربة في الدورتين اذ نزلت من 62 بالمائة من المسجلين في سجل الناخبين الى 59 بالمائة. وأسفرت النتائج في الدور الأول عن تصدر كل من الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي المرتبة الأولى بمجموع ما يقارب 73 من المائة من الأصوات توزعت بين السبسي (39,46) والمرزوقي (33,43). وتنزل النسبة مباشرة الى حدود ما يقارب 8 بالمائة لصالح حمة اللهمامي وفي حدود 6 من المائة لكل من الهاشمي حامدي وسليم الرياحي. ويختلف الثلاث في التوجه والأصول. ففي حين يتمتع الهمامي   اليساري برصيد نضالي جذاب، ارتكز الحامدي على قاعدة عشائرية من الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقصرين)، فيما استغل الرياحي موجة تعاطف مع رجل أعمال شاب يرأس ويمول احدى أكبر الفرق الرياضية (النادي الافريقي) ويملك أهم قناة تلفزية (التونسية) ويدير شبكة معقدة من العلاقات.

وتحصل الباجي قائد السبسي مرشح نداء تونس في الدور الأول على ما يقارب مليون وثلاث مائة صوت وهو ما يعادل مجموع الأصوات التي تحصل عليها الحزب في التشريعية. في المقابل انطلق المرزوقي المرشح المستقل برصيد انتخابي هزيل. لم تتحصل الأحزاب الموالية له (حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتيار الديمقراطي) في التشريعية إلا على 135,000 صوت. واستقطب ما يعادل 70 بالمائة من أصوات النهضة و5 بالمائة ممن صوتوا لنداء تونس في التشريعية؛ فضلا عن رصيده الخاص، أي 11 بالمائة ممن صوتوا له و13  بالمائة من أصوات الأحزاب الأخرى أو من الذين لم يشاركوا في التشريعية. فاز السبسي في الدورة الثانية بنسبة 55,68 بالمائة مقابل 44,32 بالمائة للمرزوقي. ويكون الفارق ب 11 نقطة على المستوى الوطني. ويعزز رصيده ب 442.148 صوت بينما يضيف المرزوقي الى رصيده الأصلي 286.016 صوت.

ومن جهة التقسيم الترابي، يتصدر السبسي المرتبة الأولى في 18 دائرة الأكثر كثافة سكانية في حين يحتل المرزوقي الصدارة في 15 دائرة. انحازت ولايات الشمال (الغربي والشرقي) والساحل لصالح السبسي في حين اكتسح المرزقي ولايات الجنوب (الشرقي والغربي) واحتل المرتبة الألى بفارق طفيف في دوائر الوسط الغربي (قيروان والقصرين) وصفاقس ودوائر الخارج (باستثناء فرنسا 2). وبصفة عامة صوت الشمال والساحل لصالح السبسي والجنوب لصالح المرزوقي وتساوى الطرفان في الوسط. ويعمق الفارق شرخا ظهر في التشريعية بين الشمال والجنوب. ويتوسع الفارق ليشمل انماط الزواج وانماط الخصوبة ويعكس الى حد ما التزام الجنوب بالقضايا العربية الاسلامية وممساندته للحركة اليوسفية (العروبية) بينما كان الشمال والساحل أكثر انفتاحا على الفكر البورقيبي. وحسب الفئات العمرية، أعطت فئة الكهول (ما بين 45 – 59 سنة) اولوية بعشرين نقطة للسبسي (61,8 بالمائة مقابل 38,2 بالمائة لصالح المرزوقي). ويتعمق   الفارق في فئة ما فوق ستين سنة بـ 74,6 بالمائة مقابل 25,4 فقط. أما في فئات الشباب (18 – 29 سنة) وشباب الكهول (30 – 44 سنة) فتتوزع الأصوات بالتساوي. أما من ناحية الجندر، فقد صوّت الرجال للسيد المرزوقي بـ 46,8 بالمائة (مقابل 39 بالمائة فقط من النساء)، بينما صوتت النساء بصفة أكثر كثافة للسيد قائد السبسي بـ 61 بالمائة (أي مليون امرأة على مليون و700.000 ناخب).

مثل نجاح الانتخابات خطوة اساسية في تدعيم الديمقراطية في البلاد. فبالرغم من النقائص والاختلالات الإجرائية في العملية الانتخابية او الدور السلبي للمال الغير مراقب وابرزت انتخابات تونس 2014 ان اعادة انتخاب الاحزاب ذات المرجعية الاسلامية ليس بحتمية تاريخية وان التمرس على الديمقراطية يساهم في نضج العملية الديمقراطية ويسمح بالتداول على السلطة.  وما أن أعلن على النتائج أطلق المرزوقي مبادرة “حركة شعب المواطنين”. ما يحوله الى حد ما من حليف النهضة الى خصم لها.  في المقابل كان من المنتظر أن يكلف الباجي بوصفه رئيس الجمهورية قائد السبسي حزب نداء “المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بتشكيل الحكومة خلال شهر يجدد مرة واحدة” كما يقتضيه الفصل 89 من الدستور. ويتمتع رئيس الحكومة بسلطة “ضبط السياسة العامة للدولة والسهر على تنفيذها” (الفصول 91 وما تبعه) تحت رقابة المجلس الذي بمنحه ويسحب منه الثقة. ولكن السبسي بوصفه الماسك بكل خيوط اللعبة (بالرغم من محدودية صلاحياته الدستورية حتى وان تخلى رسميا عن رئاسة نداء تونس) استجاب للتحفظات المتوجسة من “تغول” نداء تونس لو استأثر بالرئاسات الثلاث (رئاسة الدولة والمجلس والحكومة).  وفضل تعيين الحبيب الصيد شخصية محايدة ووفاقية. عمل مع النظام السابق وشغل منصب وزير داخلية في حكومة السبسي الأولى (فيفري-أكتوبر 2011) وخطة مستشار أمني لدى حكومة حمادي الجبالي (2011-2013). ودخل الصيد في مفاوضات مع كل الأطراف بدون اقصاء بما فيها مع الغير راغبين اطلاقا المشاركة في حكومته. وكان الرهان تكوين حكومة تلتزم بالخيار العلماني لنداء أو تشريك حركة النهضة. وبعد مشاورات ماراطونية وتجاذبات سياسوية أعلن الصيد عن حكومة ضعيفة الشرعية مشكلة بنسبة 70 بالمائة من المستقلين مما أثار حفيظة جل الأحزاب بما فيها نداء. ثم شكل مجددا حكومة ائتلافية أكثر تمثيلية تضم أربع أحزاب بما فيها حركة النهضة الممثلة بحقيبة وزارية وثلاث كتابة دولة، فضلا على تحييد وزراء السيادة (الداخلية والعدل والدفاع) بينما منحت وزرة الخارجية للكاتب العام لحزب نداء العلماني التوجه. وهكذا اعيد سيناريو الوفاق العلماني-الإسلامي يشكل مختلف عن 2011 ولكن بإسناد دورا ثانويا للنهضة التي تبقى لا محالة القوة الثانية عدديا والمحورية سياسيا. تحصلت الحكومة على ثقة البرلمان يوم الاربعاء 5 فبراير بأغلبية مريحة (169 صوت من 217).

الخاتمة

تنصهر التجربة التونسية من الانتخابات الأولى الى الثانية في الإطار النظري للتحولات الديمقراطية المعاصرة بالرغم من التحفظات حول مرحلية التحول الديمقراطي التي أبداها بعد المنظرون33 أتظر المراجع المذكورة آنفا أرقام 16 و17. . كما أنها تبرهن أن الاسلام والديمقراطية لا يتناقضان وأن المحيط العربي يتقبل المعادلة ويقدر على انجاحها. ويعزى نجاح التجربة التونسية من زاوية التعامل السياسي لتغليب منطق الاتزان على الراديكالية والوفاق على الصراع. ومن ناحية نوعية الفاعليين (السلطة، والمعارضة والمجتمع المدني) الى انتمائهم الى النخب التوافقية.  كانت السلطة مع انطلاق التحول بيد الجناح الإصلاحي الذي واكب التحول لا بيد الجناح المتصلب. وان انقسمت المعارضة بدورها الى ثوريين-راديكاليين واصلاحيين-معتدلين الا ان ادماج كل عناصرها   داخل الهيئة العليا للإصلاح السياسي خفف من وطأة الصراع في المرحلة الأولى. وتواصل الجذب ما بعد انتخابات 2011 بين من جهة العلمانيين والإسلاميين ومن جهة أخرى الحكومة والمعارضة الا أن جل الأطراف غلبت التوافق على الصدام. بما فيها حركة النهضة التي مرت تدريجيا من التشدد الى اللين وهمشت الراديكاليين في صفوفها وفي خارجها وانظمت الى معسكر الوفاق العام. ولعب المجتمع المدني الدسم دور حارس يقظ وقوة ضغط وتعديل مستمر. ويعزى النجاح أيضا من زاوية البنية الأنثروبولوجية للتجانس الاثني والديني ومن الناحية الاجتماعية الى   هيمنة الطبقة المتوسطة وثقافيا في التشارك في الثقافة المدنية المخضرمة (الشبه إسلامية الشبه علمانية). الا أن الديمقراطية الناشئة قد تسقط لأسباب غير المذكورة أعلاه منها المؤسساتية واقتصادية-الاجتماعية34Abraham Diskin  and al-, Why Democracies Collapse: The Reasons for Democratic Failure and Success , in International Political Science Review (2005), Vol 26, No. 3, 291–309 . وربما هذان العنصران قد يهددان تأصيل الديمقراطية. ونعني بالمؤسسات نوعية التوازنات الهشة بين التشريعي والتنفيذي برأسيه (الرئاسي والحكومي) والتي مردها ترتيبات دستورية معقدة ونمط اقتراع لا يسمح اطلاقا بإفراز أغلبية حكم مريحة. مما يشكل خطرا في مرحلة ما قبل الديمقراطية الدائمة والمستقرة. كما أن ملف العدالة الانتقالية لا يزال يسمم الحياة السياسية بين من يطالب بالمحاسبة أولا ومن يفضل المرور مباشرة الى المصالحة. وهم خلاف في قلب التجاذب بين الأغلبية الجديدة وهيئة “الحقيقة والكرامة” المنشأة بموجب قتنون 24 ديسمبر 2013.   أما التحكم في المتغير لاقتصادي-الاجتماعي فهو أهم بكثير بعد في ضل تراكم الإخفاقات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة أكانت المتحزبة أوالتكنوقراطية. ولكن هنالك متغير ثالث لم تتنبه له نظرية “سقوط الديقراطية” هو الإرهاب. وان لم يستطع التطرف الديني الجهادي أن يقضي على المسار منذ بدايته الا أن الضربات الموجعة ووتيرة العمليات الإرهابية ونوعيتها قد تفرض على الساحة السياسية خيارات غير ديمقراطية باسم أولية الأمن على الحرية. وهو أمر غير مستبعد وان كان غير حتمي.  وان كان العنوان الكبير لمرحلة التحول هو التوافق إلا أن التدعيم الديمقراطي يبقى رهين نجاح الحكومة في   أربع مهام كبرى: استرجاع نسق التنمية والقيام بالإصلاحات الهيكلية والاستجابة للمطالب الاجتماعية واستباب الأمن.

Endnotes

Endnotes
1 Guillermo 'Odonnel et Philippe C. Schmitter, Transitions from Authoritarian Rule. Tentative conclusions about Uncertain Democracies. Baltimore & London, The John Hopkins University Press, Baltimore, John Hopkins University Press, 1993, pp. 7-8  
2  Samuel Huntington, The Third Wave. Democratization in the late Twentieth Century, Oklahoma University  Press, 1991, (French version : La troisième vague. Les démocratisations de la fin du XXe siècle, trad. F. Burgess, Paris, Editions Nouveaux Horizons, 1991. p. 34.
3 Juan Linz & Alfred Stepan, Toward consolidated democracies In Journal of democracy, Vol 7, n°2, April 96, p.15.
4 Alfred Stepan, Tunisia’s Transition and the twin tolerations, in Journal of Democracy, April 2012, vol. 23, n°2, pp. 89-102.
5 Larry Diamond, A Fourth Wave of a False Start, in Foreign Affairs, May, 22, 2011.
6 أنظر المراسيم  عدد 6 و7 و 8 لسنة 2011 المؤرخ ب18/02/2011 المتعلقة بإنشاء اللجان الثلاث. 
7   المرسوم عدد 35 لسنة 2011 المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي - أمر عدد 1089 لسنة 2011 مؤرخ في 3 أوت 2011 يتعلق بتحديد المسؤوليات صلب هياكل التجمع الدستوري الديمقراطي طبقا للفصل 15 من المرسوم عدد   المؤرخ في 10 ماي 2011 المتعلق بانتخاب المجلس الوطني التأسيسي.
8 جريدة “ المغرب” 24/11/2013.
9 حسب استطلاعات الرأي شركة “ايمرود” 2 بالمائة من المستطلعين يبدون استعدادا لانتخاب التكتل و 1.7 للمؤتمر من اجل الجمهورية (مؤتمر صحفي لشركة “ايمرود” في 6 جوان 2013.
10 المؤتمر من اجل الجمهورية ( عماد الدايمي) — حركة وفاء ( عبد الرؤوف العايدي) — التيار الديمقراطي ( محمد عبو) — حزب الإقلاع نحو المستقبل ( طاهر هميلة
11 arrakmia.com
12 إلى جانب الحزب الجمهوري، يتضمن المولود الجديد حركة «إرادة”، «الكرامة”، وحركة “بلادي” وحزب العدالة الاجتماعي الديمقراطي. ملاحظة: إن الحزب الديمقراطي التقدمي  لديه 2/3 من المناصب القيادية في الجمهوري.
13 tn.webradar.me
14 تضم حزب العمال والحزب الكفاح التقدمي والحركة الاشتراكية الديمقراطية، وحركة البعث وحزب الطليعة الديمقراطي العربي وفيدرالية العمال وحزب تونس الخضراء و الوطنيون الديمقراطيون و الجبهة الشعبية الموحدة. والتحق بالجبهة حزب القطب.
15 محمد براهمي (الزعيم السابق للحركة “ الشعب”) قبل أن يؤسس حزبه التيار الشعبي، وقع اغتياله في يوم عيد الجمهورية يوم 25 يوليو 2013؛ شكري بلعيد، حركة الوطنيين الديمقراطيين (وطد) قتل في 6 فبراير 2013.
16 alchourouk.com
17 tunisien.tn
18 على سبيل المثال، روسيا، رومانيا، كمبوديا وفنزويلا. انظر — Thomas Carothers, The End of the Transition Paradigm,  in Journal of Democracy, vol.13, n°1, 2002, pp. 5-21.
19 David Collier et Steven Levitsky, Democracy with adjectives : Conceptual Innovation in Comparative Research, World Politics 49 (April 1997): 430-51
20 86 ٪ من جميع التعيينات في الحكومة المركزية والوظيفة العمومية ، 19 والي (من أصل 24) ، 229 معتمد (من 324 ) ، تصيح عبد القادر لباوي، رئيس الاتحاد الوطني  من اجل حياد الإدارة و الوظيفة العمومية ( جريدة المغرب 8/11/2013).
21 attounissia.com.tn
22 فتحي بلدي ( النهضة ) عبد الكريم العبيدي ( مقرب من راشد الغنوشي)العمارة عرقوبي ( رئيس المديرية الإقليمية للأمن الوطني ) ، طاهر بوبهري ( مستشار الوزارة) ، أسامة بوثلجة ( مستشار لرئاسة الحكومة مسؤول عن تعيين الولاة والمعتمد ين  ) ، لطفي صغير (مدير مديرية حدود) رياض العماري (ملازم في إدارة السجون ) زهيرالحاج ( قائد مجموعة سوسة ) ، محرز الزواري ( مدير الوحدات الخاصة )، و قائد عماد التوزري ، رياض بلطيف(المسؤولة عن التدريب في MI) ، حبيب السبوعي(المدير العام للسجون ) ، حبيب زاهي ، حمزة بن عويشة ، الياس حمروني، لطفي حدودي، مصطفى بن عامر ، الزين المسعودي . — www.africanmanager.com/153770.html‎ 30 juil. 2013
23 Tunis Center For Press Freedom, ctlj.org
24 تقرير لجنة التحقيق المستقلة في الهجمات ضد اتحاد الشغل ( 4 سبتمبر 2012 ) نشرت (إبريل 2013) يجرم الرابطات و النهضة. التحقيقات الأولية التى أعلنتها وزارة الداخلية  تؤكد أن قتلة لطفي نقض هم أعضاء من النهضة و روابط حماية الثورة أو السلفية في مقتل بلعيد و البراهمي. جريدة “المغرب” 19 و 20/04/2013.
25 mosaiquefm.net
26  The three types are presented by Max Weber, Gesammelte Aufsätze zur Wissenschaftslehre, Tübingen, 1973, pp. 475-488 and in French, Weber, Economie et société, Paris, Plon, vol. 2.
27 gnet.tn
28 arabesque.tn
29  صوت لصالح التعديل الأول 10 مستقلين و3 من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، و6 من وفاء المنشق عن المؤتمر و3 من كتلة الانتقال الديمقراطي.  source Marsad.tn كما صوت على التعديل الثاني من غير النهضة 5 عن كتلة الانتقال الديمقراطي و2 من المؤتمر والباقي مستقليين  source Marsad.tn
30 تابع نوزيع التصويت في Marsad.tn
31 الانتخابات التشريعية في تونس بداية مرحلة جديدة أم مواصلة حرب الخنادق أنظر حافظ شقير — 2014 كانون الأول / ديسمبر مبادرة الإصلاح السيسي،   
32 التنافر والتوافق، مبادرة الإصلاح العربي أنظر حمادي الرديسي وحافظ شقير، الانتختبية الرئيسية في تونس: بين
33  أتظر المراجع المذكورة آنفا أرقام 16 و17.
34 Abraham Diskin  and al-, Why Democracies Collapse: The Reasons for Democratic Failure and Success , in International Political Science Review (2005), Vol 26, No. 3, 291–309

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.