البرلمان التونسي: بؤرة تَمَركُز الإحباطات السياسية ما بعد الثورة

فبعد انقلاب 25 تموز/يوليو، أصبح البرلمان التونسي بمثابة بؤرة مركزية، أثارت جام غضب وإحباط رئيس الجمهورية، الذي لم يفوّت فرصة في كل خطاباته، ليؤكد أنه يتحدث نيابة عن الشعب ويعبر عن إرادته العليا، عندما يهاجم هذه المؤسسة. تركز هذه الورقة على الجانب اللوجستي للحياة اليومية لمؤسسة لم تفلح في إقناع المواطنين بـ”جدواها” من اجل تتبع آثار التحولات المتعددة للمشهد السياسي البرلماني، المترنح بين الإجماع المفروض والتشرذم المتدرج.

(ساحة القصبة (مبنى البلدية ©Wikimedia/Sami Mlouhi

مقدمة

استمرت رئاسة بورقيبة وبن علي، فترات طويلة قبل أن ينتهي مسارها بثورة 2011، التي بدت وكأنها إيذان بقطيعة نهائية مع حكم الاستبداد والديكتاتورية. لكن على الرغم من بداية التحوّل الديمقراطي واعتماد دستور جديد، شهدت البلاد تحولًا هامًا في عام 2021. فبعد انقلاب 25 تموز/يوليو، أصبح مجلس نواب الشعب (ARP) بمثابة بؤرة مركزية، أثارت جام غضب وإحباط رئيس الجمهورية، الذي لم يفوّت فرصة في كل خطاباته، ليؤكد أنه يتحدث نيابة عن الشعب ويعبر عن إرادته العليا، عندما يهاجم هذه المؤسسة.

كيف كان مجلس نواب الشعب التونسي يدير أعماله فعلًا؟ كيف استطاع هذا المجلس أن يتحوّل في غضون سنوات قليلة إلى رمز لخيبة أمل التونسيين بعد 2011؟ كيف يمكن تفسير أن #TnZoo، أحد أشهر الهاشتاغات الخاصة بالمجتمع التونسي على تويتر، أصبح في نظر جزء كبير من الرأي العام التونسي يشكل نوعًا من غرف المعجزات، يلتقي فيه رجال الأعمال، أصحاب السجلات المثيرة للجدل، والمناضلين الفاترين، المُسَيَرين كليًا من قِبل أحزابهم السياسية؟ هل فورة الابتهاج الشعبي الواسع الذي عبر عن نفسه في مساء 25 تموز/يوليو هو تعبير عن شعور أصبح معاديًا للنظام البرلماني، نظرًا لهزالة مردودية هذه المؤسسة أم أننا أمام موجة احتجاج وتحدي عميقين للديمقراطية التمثيلية؟ لفهم أعمق لهذه الظاهرة، من الضروري تسجيل وقفة والبحث في الجانب اللوجستي للحياة اليومية لمؤسسة لم تفلح في إقناع المواطنين بـ"جدواها"، ثم نحاول تتبع آثار التحولات المتعددة للمشهد السياسي البرلماني، المترنح بين الإجماع المفروض والتشرذم المتدرج.

أولًا: برلمان مختل في سياق توترات مؤسسية مستمرة: كيف يؤثر الجانب اللوجستي على مكانة السلطة التشريعية؟

ركزت العديد1ديبوراه بيريز، "سن القانون في المجلس الوطني التأسيسي التونسي. إعادة التنظيم وتدريب موظفين برلمانيين تونسيين جدد، L’Année du Maghreb، 14 عدد| 2016، 187-204. من الدراسات على موضوع المجلس الوطني التأسيسي (ANC) أو مجلس نواب الشعب، واهتمت الغالبية العظمى منها بالنواب أو بمسارهم في الحياة، أو أنشطتهم أو حتى الموضوعات التي تناولتها هاتان المؤسستان، لكن، قليلة جدًا تلك الدراسات التي ركزت على طرق عمل مجلس نواب الشعب2ديفورج كوينتين، "خبرة دولية دون "ممارسات جيدة": دعم عملية إضفاء الطابع المهني على العمل البرلماني في تونس بعد 2011"، Critique internationale ، 2019/2 (رقم 83)، ص. 127-145. ، والبحث في الوسائل المتاحة له وكيف يتم تنظيم العمل البرلماني؟

بميزانية تتراوح بين 30 و35 مليون دينار3مع توقع غلاف 42 مليون دينار لعام 2021، تم تعديل الموازنة نزولًا في قانون المالية التكميلي في كانون الأول/ديسمبر 2021 إلى 35 مليون دينار بعد تعليق رواتب النواب إثر تجميد عمل مجلس النواب قبل تقهقر الميزانية إلى 22 مليون دينار للعام 2022 (صفحة 42) http://www.finances.gov.tn/sites/default/files/2022-02/ANNEXE_01_0.pdf بحسب كل سنة، يحصل مجلس نواب الشعب على الغلاف المالي الأكثر تواضعًا مقارنة بالسلطات الأخرى4على سبيل المثال: تقرير ميزانية الدولة لعام 2018 (صفحة 47) http://www.finances.gov.tn/sites/default/files/2019-10/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9%20%20%D9%84%D8%B3%D9%86%D8%A9%202020_0.pdf . نجد على سبيل المثال، أن في عام 2020، بلغت ميزانية رئاسة الحكومة ما يقرب من 200 مليون دينار5انظر تقرير الميزانية العامة للدولة لعام 2021 (صفحة 52) http://www.finances.gov.tn/sites/default/files/2020-10/Rapport%20LF%202021_0.pdf ، علمًا أن عدد الموظفين كان أقل. أما بالنسبة لرئاسة الجمهورية، فقد حافظت وزارة المالية على التوازنات التي كانت سائد قبل الثورة، بما يجعل مؤسسة الرئاسة تظفر بأكبر ميزانية بالنظر إلى مجال تدخلها. وقد ارتفعت ميزانيتها من 110 ملايين دينار في 2018 إلى 170 مليون دينار في 2022.

إن مسألة الموارد المتاحة في متناول مجلس نواب الشعب ليست مسألة لوجستية فحسب، فهذه المشكلة، التي تبدو وكأنها خيار سياسي، قد شلت عمل السلطة التشريعية وحكمت عليها بالاضمحلال. ترتكز المشكلة اللوجستية على عنصرين: المقرات المتاحة للعمل أمام النواب من جهة، والموارد البشرية من ناحية أخرى.

عند بداية كل ولاية جديدة، يتفاجأ المنتخبون الجدد من نقص الوسائل المتوفرة لهم داخل المجلس. إذا كان النواب القدامى، المنتخبون منذ عام 2011 يعلمون بحقيقة عدم توّفر مكاتب أو أمانات مخصصة للنواب، فغيرهم من النواب الوافدين، يتساءلون أين هي المقرات التي من المفترض أن تستقبلهم في المجلس، وتخصص لهم لأداء مهامهم طوال مدة ولايتهم. بمجرد الخروج من الجلسات العامة وانتهاء اجتماعاتها، يجد النائب نفسه أمام خيارات محدودة، إما الاتكاء على منضدة في الكافتيريا الموجودة في الطابق السفلي من البرلمان أو البحث لعله يعثر على كرسي شاغر في أحد الممرات العديدة في قصر باردو. أما المجموعات البرلمانية فهي الوحيدة التي لديها قاعات مخصصة للقاءات الجماعية. في كثير من الأحيان، يتم التخلي عن طاولات الاجتماعات الطويلة، ليُعاد ترتيب المساحات بشكل مختلف، بقصد إنشاء عدد أكبر من الفضاءات الصغيرة، وتم تخصيص إحداها للنواب، وأخرى للمساعدين الإداريين أو حتى المساعدين البرلمانيين، وذلك عندما يحالف الحظ مجموعة من البرلمانيين وتجد مكانًا لها. وتجدر الإشارة إلى أن غياب فضاءات عمل خاصة بالنواب قد أثر تأثيرًا كبيرًا على مردودية عمل النواب وليس ذلك فحسب، بل أثر سلبًا أيضًا على تقديرهم لذاتهم. من الصعب دائمًا على ممثلي الأمة أن يفسروا لزوارهم لماذا لا يمكنهم استقبالهم إلا في أروقة المجلس. ومثل هذه الظروف التي ينعدم فيها جو السرية، وتبدو أيضًا مفتقرة للجدية، تؤثر بشكل كبير على وتيرة عمل المنتخبين، في قلب المؤسسة البرلمانية. لهذا السبب يُفضل الكثير من النواب العمل من دوائرهم الانتخابية حيث يمتلك معظمهم مكاتب، سواء أكانت في محافظة المنطقة أم في مقرات الأحزاب السياسية. خلال الولايات المختلفة لنواب البرلمان، سُجِل تفاوت كبير بين مختلف أعضاء مجلس نواب البرلمان، بحيث حظي البعض ممن كانوا على رأس مجموعات اقتصادية مزدهرة، بسائقين شخصيين لنقلهم من مكان اجتماع إلى آخر، وكان بوسعهم توظيف مساعدين شخصيين، وسكرتيرات، ومصورين، ومديرين مجتمعيين. أما الآخرون، باعتبارهم مجرد موظفين، غالبًا ما كانوا مجبرين على دفع إيجارَين (أحدهما في دوائرهم الانتخابية حيث يعيشون مع عائلاتهم، والآخر في جوار قصر باردو حيث يقيمون خلال الأسبوع)، وكانوا يعتمدون في أغلب الأوقات في تنقلهم على المترو وسيارات الأجرة. كانت بعض المجموعات السياسية تضع تحت تصرف نوابها سيارة مع سائق لحضور مواعيد عملهم. وهنا أيضًا، كانت الفروق في المعاملات بين نواب الأحزاب السياسية والمستقلين كبيرة. قد يبدو هذا الأمر للوهلة الأولى، مجرد تفصيل بالنظر إلى مسار التاريخ أو أهمية الموضوعات التي يتم التطرق إليها داخل هذه المؤسسة، غير أن تراكم العراقيل اليومية كان له تأثير ملموس للغاية على الأداء الهزيل للمنتخَبين في المجلس.

طيلة السنوات السبع من عمر البرلمان المنبثق عن دستور 2014، كان من المستحيل على النواب حضور دورات تدريبية، وتوظيف مساعدين برلمانيين، والاستفادة من المعدات الرقمية، دون اللجوء إلى المساعدة الدولية. من المهم بهذا الصدد، التذكير بأن المسؤولية تقع أولاً وقبل كل شيء على عاتق المسؤولين المنتخَبين الذين لم يستطيعوا الدفاع عن صلاحياتهم وتنظيم أنفسهم داخل أحزابهم السياسية لتصحيح هذا الوضع. لم ير قانون الاستقلالية المالية والإدارية لمجلس نواب الشعب النور 6https://majles.marsad.tn/fr/media/show/1809 حتى يومنا هذا. لقد نوقش هذا القانون مطولًا من قبل لجنة خاصة، وقد أدرِج ضمن بنود جدول أعمال جلسة عامة، لكنه لم يثر اهتمام المنتخَبين بالقدر الكافي. كان الهدف من هذا النص التنظيمي تحرير مجلس نواب الشعب من هيمنة السلطة التنفيذية، من أجل تحديد ميزانيته ولكن أيضًا لتمكينه من تعيين الإدارة وتسيير شؤونها دون اللجوء إلى رئاسة الحكومة. حتى وإن كانت الجريدة الرسمية للجمهورية التونسية والمطبعة الرسمية للجمهورية التونسية7http://www.iort.gov.tn/WD120AWP/WD120Awp.exe/CTX_616-91-gOeSJOSpKR/Principal/SYNC_-640808605 تحت سلطة رئيس الحكومة، كانت الفكرة المطروحة أن يكون بوسع السلطة التشريعية هي أيضًا نشر نصوصًا تنظيمية توضح فيها سبل التعيينات والإنفاق دون الاعتماد على قيود وعراقيل السلطة التنفيذية.

ومن ثم، كانت لا تزال هناك الفرص التي يطرحها المجتمع الدولي وبرامج التعاون، فالمعهد الديمقراطي الوطني والمعهد الجمهوري الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وهيئة الأمم المتحدة للمرأة ومحكمة المراجعين الفرنسية ولجنة البندقية ومركز كارتر والاتحاد الأوروبي جميعها منظمات سبق ومولت منذ عام 2011 برامج المساعدة من أجل إدارة الشؤون البرلمانية، سواء من خلال العمل المباشر أم من خلال دعم المبادرات التي يضطلع بها المجتمع المدني المحلي. وعادة ما استُثمِرت هذه الأموال في تنظيم دورات تدريبية أو في إجراء حوارات سياسية. كما أتاحت توفير الخبراء فيما يخص المسائل التشريعية، لا سيما في مجالات بناء المؤسسات وإرساء الحقوق والحريات. وغالبًا ما كان ذلك يندرج ضمن إطار السياسات المعنيَّة بتعزيز التحول الديمقراطي. فعلى سبيل المثال، سينفق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 4.5 مليون يورو بين عامي 2015 و2022، تحقيقًا لهذا الغرض8https://www.undp.org/fr/tunisia/projects/consolidation-de-la-transition-d%C3%A9mocratique-en-tunisie-appui-au-parlement-tunisien .

وحتى عام 2020، لم يكن تواجد المساعدين البرلمانيين ضمن المجلس ممكنًا سوى بفضل برامج المعهد الديمقراطي الوطني وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي؛ إذ كانت عقود العمل تفتقر للأمن الوظيفي، وغالبًا ما كانت الأجور رمزية وتبدو كتدريبات داخلية نظرًا لمدتها الزمنية المحدودة للغاية. ولم تستوف هذه البرامج المتطلبات التي طرحها مجلس نواب الشعب والعمل التشريعي؛ فمن ناحية، بسبب تقلب المشروعات وقلة المتابعة والالتزام المتبادل، ومن ناحية أخرى، لأن الأمر كان ليتطلب مواردًا أكبر بكثير وإدارة سياسية للعمليات. ومع ذلك، كانت الإدارة البرلمانية تعمل على التصدي لهذه البرامج. فلم تكن دائمًا ترى أهمية لها، ولم يرحب المستشارون البرلمانيون بوصول الخبراء من الشباب، أولئك الذين يتحدثون عدة لغات وغير الملمين بما يدور في البرلمان التونسي والذين تدفع المنظمات الدولية أتعابهم. بينما هم قد تخرجوا من المدرسة الوطنية للإدارة أو كانوا من الحاصلين على درجة الماجستير في القانون، وعينوا في البرلمان بعد امتحان تنافسي وطني. وكان العديد منهم قد جاء من قطاع مستشاري الخدمة العامة9https://www.ndi.org/publications/tunisia-ndi-responds-questions-about-arp-internship-program . لاحظنا غياب التعاون وتقوقع الإدارة على نفسها، في محاولة منها لمقاومة ما كانت تعتبره تهديدًا خارجيًا لها. وعلاوة على ذلك، أثار هذا السؤال جدلًا واسعًا في آذار/مارس 2021 عندما تطرقت عبير موسي وهي إحدى قيادات المعارضة إلى الموضوع، متهمة رئيس مجلس النواب، راشد الغنوشي، بالتآمر على أمن الدولة بفتحه أبواب البرلمان أمام القوى الأجنبية10https://www.ndi.org/publications/tunisia-ndi-responds-questions-about-arp-internship-program .

ثانيًا: التحول في المجال السياسي البرلماني: آثار توافق الآراء وتأثير التشرذم السياسي

كان الدور الذي اضطلعت به الجماعات البرلمانية، وبالتبعية الأحزاب السياسية التي تمثلها، هو المصدر الآخر لزعزعة الاستقرار في مجلس نواب الشعب (ARP). إذ ينص النظام الداخلي على أحقية سبعة من النواب في تشكيل كتلة برلمانية تتمتع بالحقوق والمزايا ذات الصلة. سبعة، لأنه عند كتابة هذا النص، لم يكن "أفق تونس"، وهو أحد أحزاب اللجنة الرباعية الحائزة على الأغلبية من 2015 إلى 2016، قد نجح سوى في انتخاب سبعة نواب فقط.

كان يبرز في خلفية الترتيبات والاتفاقيات التي نُظمت داخل البرلمان بشكل عام دافع واحد، ألا وهو: الحفاظ على الاستقرار السياسي بأي ثمن، مما ساهم بلا شك في طمس الخطوط الفاصلة بين مختلف الكتل السياسية. كما يمكن تفسير السعي الدائم لتحقيق توافق الآراء من خلال سياق كان من الصعب فيه ضمان انضباط التصويت وحضور النواب. فكل عام، عند صدور التقرير السنوي11https://www.albawsala.com/fr/project/marsad-majles لجمعية البوصلة التي تعد الرقيب على العمل البرلماني، كان ينتاب الرأي العام الاستياء عند الكشف على نسب الغياب الضخمة لعدد (كبير جدًا) من النواب أو على عدم مشاركتهم في التصويت. وكان من الصعب تفهم كيف لشخص، يحصل على عشرة أضعاف الحد الأدنى للأجور والذي أدى اليمين متعهدًا بخدمة الشعب، ألا يكرس نفسه كليًا لإتمام هذه المهمة. وقد دللت "البوصلة" على أهمية انضباط التصويت خلال مختلف المجالس التشريعية، كما حرصت على احتساب النسبة المئوية لانضباط التصويت لكل شخص مُنتخب12تتاح هذه المعلومات لكل عضو برلماني دون التصنيف العام لمشاركته في التصويت على موقع  majles.marsad.tn/fr. فعلى سبيل المثال، بالنسبة للنائب عبد الرازق عويدات، تبلغ نسبة مشاركته في التصويت 73٪ بينما تصل نسبة انضباطه في التصويت لـ 32٪. أما هاجر بوزيمني النائبة عن النهضة، فقد حصلت على نسبة مشاركة وقدرها 98٪ في التصويت ونسبة 100٪ في انضباط التصويت. .

كما أن الحفاظ على توافق الآراء هو ما سيدفع النواب لتبني مشروع قانون مستهجن مثل مشروع المصالحة الاقتصادية، الذي دفع به الباجي قائد السبسي وأيده حزب النهضة، وذلك على الرغم من الرفض الذي عبّر عنه بوضوح المجتمع المدني والقواعد المتشددة لحزب مثل النهضة كذلك. وتعد هذه الواقعة أوضح مثال على تأثير توافق الآراء على صورة البرلمان. وعلى صعيد آخر تمامًا، كنا نجد أنفسنا في بعض السنوات في مواقف كانت تصوت فيها مجموعات برلمانية "معارضة" على ميزانية الدولة تسهيلًا للأمر على الأغلبية. وفي مقابل ذلك، كان بإمكانهم الحصول على مزايا في التعيينات على المستوى الإقليمي أو في الإدارات العامة، دائمًا ما كان يتم ذلك باسم توافق الآراء المقدس.

وأُضيف إلى الارتباك (بل وأحيانًا الغضب) الناجم عن هذا النهج تشرذم الطبقة السياسية. وهي ظاهرة لوحظت منذ بدايات المجلس الوطني التأسيسي. ففي البداية، أنشأ حزب سياسي مثل نداء تونس مجموعة برلمانية باستقطاب نواب من مختلف المجموعات قبل المشاركة في انتخابات عام 2014. وصحيح أن الإشراف على النواب داخل الأحزاب السياسية كان متفاوتًا. فمن ناحية، كانت قوة العضوية وطول عمر التنظيم بالنسبة لجماعات مثل الجبهة الشعبية والنهضة، تسهل فرض الانضباط على الانتخابات والنهج السياسي. ومن ناحية أخرى، كان انسياب الانتماء السياسي يؤدي إلى تعقيد صلابة الأغلبية. وأنشئت العديد من الأحزاب للمشاركة في الانتخابات، دون التفكير في استدامة المشروع السياسي، وأحيانًا حتى دون وجود مشروع سياسي. وكان التأثير على المشهد البرلماني ملموسًا جدًا، لأن المجموعات كانت تتجمع ثم لا تلبث أن تتفكك وفقًا للحروب العشائرية في الأحزاب السياسية. وعلى هذا النحو، أدى تفكك كتلة نداء تونس النيابية عام 2016 وانقسام قلب تونس عام 2020 إلى زلزال داخل البرلمان.

وبالأحرى، هذه هي الصورة التي ستبقى ثابتة لدى الرأي العام وفي أذهان غالبية التونسيين. صورة طبقة سياسية متشرذمة وخاضعة لمصالح كل طبقة. وهذا أيضًا ما قد يفسر رد الفعل الخجول جدًا على تجميد البرلمان وحله. فمع تراكم الحقائق المذكورة أعلاه، أصبح لا يمكن الدفاع عن النواب.

الخلاصة

ونتيجة لذلك، حدث التنافر فيما بين المؤسسة البرلمانية و"الشعب" بمرور الوقت. فكانت التوقعات السياسية لا تزال عالية بالقدر نفسه، لكن قدرة نواب الشعب المنتخبين على العمل لم تتحسن. فأكثر من مجرد فك ارتباط عن السياسة، يبدو أن ما تم التعبير عنه من خلال معدلات المشاركة المنخفضة في الانتخابات التشريعية لعامي 2014 و2019 كان بمثابة احتجاج على جمود النواب. وأخيرًا، لم تكن هناك إجابات مرضية على السؤال التقليدي الذي كنا نسمعه كثيرًا في الأماكن العامة: "ماذا قدم لنا النواب"/"أيش عملولنا النواب"؟

وعلى العكس من ذلك، تدهور الوضع حتى اللحظة التي شاهد فيها التونسيون، على الهواء مباشرة، رئيسة الكتلة تتعرض للضرب المبرح على يد نائب آخر. كانت هذه بلا شك نقطة اللاعودة من حيث الصورة والإدراك. وكان الرأي العام الذي أحرقه وباء ذو عواقب مأساوية ووضع اقتصادي حاد على استعداد للاستسلام لوعود بغد أفضل، حتى لو كانت على شكل دبابة تنتظر أمام قصر باردو وظهور السلطة المطلقة لرئيس الجمهورية.

Endnotes

Endnotes
1 ديبوراه بيريز، "سن القانون في المجلس الوطني التأسيسي التونسي. إعادة التنظيم وتدريب موظفين برلمانيين تونسيين جدد، L’Année du Maghreb، 14 عدد| 2016، 187-204.
2 ديفورج كوينتين، "خبرة دولية دون "ممارسات جيدة": دعم عملية إضفاء الطابع المهني على العمل البرلماني في تونس بعد 2011"، Critique internationale ، 2019/2 (رقم 83)، ص. 127-145.
3 مع توقع غلاف 42 مليون دينار لعام 2021، تم تعديل الموازنة نزولًا في قانون المالية التكميلي في كانون الأول/ديسمبر 2021 إلى 35 مليون دينار بعد تعليق رواتب النواب إثر تجميد عمل مجلس النواب قبل تقهقر الميزانية إلى 22 مليون دينار للعام 2022 (صفحة 42) http://www.finances.gov.tn/sites/default/files/2022-02/ANNEXE_01_0.pdf
4 على سبيل المثال: تقرير ميزانية الدولة لعام 2018 (صفحة 47) http://www.finances.gov.tn/sites/default/files/2019-10/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9%20%20%D9%84%D8%B3%D9%86%D8%A9%202020_0.pdf
5 انظر تقرير الميزانية العامة للدولة لعام 2021 (صفحة 52) http://www.finances.gov.tn/sites/default/files/2020-10/Rapport%20LF%202021_0.pdf
6 https://majles.marsad.tn/fr/media/show/1809
7 http://www.iort.gov.tn/WD120AWP/WD120Awp.exe/CTX_616-91-gOeSJOSpKR/Principal/SYNC_-640808605
8 https://www.undp.org/fr/tunisia/projects/consolidation-de-la-transition-d%C3%A9mocratique-en-tunisie-appui-au-parlement-tunisien
9 https://www.ndi.org/publications/tunisia-ndi-responds-questions-about-arp-internship-program
10 https://www.ndi.org/publications/tunisia-ndi-responds-questions-about-arp-internship-program
11 https://www.albawsala.com/fr/project/marsad-majles
12 تتاح هذه المعلومات لكل عضو برلماني دون التصنيف العام لمشاركته في التصويت على موقع  majles.marsad.tn/fr. فعلى سبيل المثال، بالنسبة للنائب عبد الرازق عويدات، تبلغ نسبة مشاركته في التصويت 73٪ بينما تصل نسبة انضباطه في التصويت لـ 32٪. أما هاجر بوزيمني النائبة عن النهضة، فقد حصلت على نسبة مشاركة وقدرها 98٪ في التصويت ونسبة 100٪ في انضباط التصويت.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.