الإصلاح الجامعي في تونس: عسر التفكير من خارج الصندوق

على الرغم من الاهتمام الواسع بمسألة الإصلاح التربوي في التعليمين الابتدائي والثانوي، فإن مسألة الإصلاح الجامعي في تونس تستقطب اهتماما متزايدا. وعلى انحصاره يتوزّع ذلك الاهتمام على مستويات عدة: المسؤولين السياسيين الحكوميين في الوزارة المعنية وخارجها، أعضاء 'لجنة الشباب والشؤون الثقافية والتربية والبحث العلمي' ب'مجلس نواب الشعب'، قادة الأحزاب السياسية، فضلا عن الأساتذة الجامعيين أنفسهم المسؤولين منهم (عمداء، رؤساء جامعات) وغير الممارسين للمسؤولية فرادى ومجموعات تفكير منظمة إلى هذا الحد أو ذاك، وصولا إلى باقي ذوي الشأن من النخبة الاقتصادية مثلا من أصحاب المؤسسات الجامعية الخاصة أو المنضوية في سوق الأعمال عامة. وفي مستوى الإجراءات العملية، وبعد تنظيم تشاور بين الوزارة والجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي (نقابة منضوية في الاتحاد العام التونسي للشغل) حول الإصلاح الجامعي استمرّ منذ شهر أكتوبر من سنة 2011، إلى حد إصدار الوزارة 'مشروع إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي 2025 – 2015' بتاريخ 23-04-2015.  وتعلن الوثيقة أن "استراتيجية إصلاح قطاع التعليم العالي والبحث العلمي" تنطلق من تشخيص أهمّ ما فيه مما أسمته "معضلات" هي " تدني مستوى مدخلات الجامعة، عدم التناسب بين عدد الطلبة والموارد المتاحة، تدني ظروف الدراسة والحياة الجامعية، غياب مقاييس الجودة في التكوين والتأطير، استفحال البطالة في صفوف الخريجين، غياب الحوكمة الرشيدة واستقلالية الجامعات ومرونة التسيير، غياب توطين الجامعات في محيطها الجهوي واختلال التوازن بين الجهات وتشتت الخارطة الجامعية، ضعف مردودية منظومة البحث العلمي خاصة في مجال التجديد والتثمين وخلق المؤسسات ذات القيمة المضافة العالية".

مطلب... وشعار قديمان

ليس جديدا هذا الإقرار بضرورة إصلاح التعليم العالي والبحث في تونس. ففي المستوى النقابي مثلا، برز الإصلاح شعارا ومطلبا منذ بدايات القرن الجديد، وعلى الأخص بعد اتضاح أثر واقعتين قديمة وجديدة. فمنذ السنوات 1990 وبعدما أعلن البنك الدولي استعداده لتمويل التعليم العالي في تونس 'مقترحا' على الحكومة التونسية تعميم التعليم الأساسي وإضفاء الإجبارية عليه وفتح أبواب الجامعة في وجه نسبة أكبر من الشريحة العمرية ذات الشأن (19-24 سنة)، تزايدت تلك النسبة من 6 بالمائة خلال السنة الجامعية 86-1987 إلى 34 بالمائة خلال السنة الجامعية 12-2013. أما الواقعة 'الجديدة' فهي وضع الدراسة الجامعية والبحث العلمي الأكاديمي ضمن نظام إجازة-ماجستير-دكتورا (بالمختصرات الوائلية: إمد، أو 3-5- 8 باعتبار عدد سنوات الدراسة المتراكمة في المستويات الثلاثة)1وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الإدارة العامة للتجديد الجامعي، "الأمر عدد 3123 لسنة 2008 مؤرخ في 22 سبتمبر 2008 ومتعلق بضبط الإطار العام لنظام الدراسة وشروط التحصيل على الشهادة الوطنية للإجازة في مختلف مجالات التكوين والمواد والمسالك والتخصصات في نظام إمد" في، النصوص التشريعية والترتيبية المنظمة للشهادات الوطنية في نظام الإجازة والماجستير والدكتوراه "إمد"، تونس 2013. . ولكن في سياق التحضير لتركيز ذلك النظام2 منشور عدد 65/2005 صادر عن وزير التعليم العالي والبحث العلمي، بتاريخ 22-08-2005 متعلق بالإعداد للعودة الجامعية 2006-2007 والتحضير للدفعة الأولى من الشعب المدرجة في إطار نظام إمد. لم تفسح الوزارة في المجال للتشاور والتداول إلا خمسة أشهر سرعان ما أعقبتها بتشكيل اللجنة الوطنية للإشراف على نظام إمد التي انطلقت أشغالها بعد أقلّ من نصف شهر من انتهاء "التشاور" وبتركيبةٍ تولّت المصالح الوزارية تعيينها من جانب واحد وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى اللّجان القطاعية. وانجرت عن كل مظاهر التسرع والفوقية والآحادية هذه مطالبات نقابية أستاذية وطلابية كثيرة واحتجاجات متصلة لم تخمدها محاولات التلافي بتنظيم اجتماعات تشاورية تفاوت الموقف منها بين قليل من القبول والحضور وكثير من الرّفض والمقاطعة3منير السعيداني، أفق علم الاجتماع في الجامعة التونسية في ظل نظام إمد، في، المقدمة، مجلة الجمعية التونسية لعلم الاجتماع، العدد 2 (عدد خاص بأعمال ندوة راهن علم الاجتماع والأنتروبولوجيا في المغرب العربي)، الجمعية التونسية لعلم الاجتماع، ديسمبر 2008، صص 77-111. .

وبعد تنظيم 'الأيام الوطنية للبحث العلمي والتجديد التكنولوجي' (نوفمبر 2007) في تونس تحت شعار 'بناء لمجتمع المعرفة'، تم اعتماد قوانين تنظم سير مؤسسات البحث العلمي وهياكله البحث العلمي بالتنصيص على الأخص (الأمر الوزاري 416-2008) على الصبغة العلمية والتكنولوجية للمؤسسات البحث ب"هدف إضفاء مرونة أكبر على التصرف المالي والإداري مع اعتماد مبدأ المراقبة اللاحقة". وبإضافة نصوص أخرى (منشور وزاري 13/2009) وضعت أسس هيكلة جديدة (الثالثة منذ 1991) للبحث العلمي بأصنافه الثلاثة النظري والمطوّر للتكنولوجيا وذي التطبيقات التنموية. ولكن لم يكتمل تركيز ما يضمن الصبغة العلمية والتكنولوجية لهياكل البحث العلمي بعد عشرية كاملة عن صدور قانون إمد والنصوص المنظمة للبحث العلمي، بل "وقع تهميشها وبقيت مراكز البحث وهياكله تعاني من سوء التصرف ومن البيروقراطية الخانقة" حسب تقارير مختصة4astrolabetv.com . وقد كان هذا على الرغم من إعادة تنظيم هياكل البحث سنة 2009 (أمر عدد 644)، ووضع هدف أساسي لمنظومة البحث العلمي والتكنولوجي تتمثل في "تثمين البحوث وتنشيط الشراكة للتجديد التكنولوجي بين هياكل البحث والمؤسسات الاقتصادية".

محلّ الخلاف الأهمّ

عل الرغم مما قد يناقش في مسار ما عرضنا من وقائع ومنطق تطوره، ليست اللوحة، على سوداويتها، محل خلاف لا بين المسؤولين الوزاريين والأساتذة وهياكلهم التمثيلية ولا حتى بين الفرقاء المنتمين إلى تنظيمات نقابية أستاذية جامعية متنافسة متكاثرة. ما يبدو أنه محل خلاف هو وجهة الإصلاح، والكيفيات التي سيتم بها. وليس من النافل التذكير بأن شعار الإصلاح هو أكثر الشعارات ترديدا في كل القطاعات والمجالات والمناسبات وعلى الأخص منها تلك لتي تزامنت مع الحملات الانتخابية المتلاحقة التي شهدتها تونس منذ أكتوبر 2011 (انتخابات تشريعيان، وانتخابان رئاسيان). ويعني ذلك أن من الممكن تماما وضع مسألة الإصلاح الجامعي ضمن مسار الانتقال الديمقراطي الموضوع رسميا شعارا مركزيا للمرحلة التي ستكون أبرز محطاتها التقييمية المقبلة الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة سنة 2019.

قد ينطلق الخلاف من تقييم ما كان قبل 2011. فبفعل هبوب رياح التحرر على الجامعة وضع قانون ينظم انتخابات المجالس العلمية ومن ثم مديري المعاهد وعمداء الكليات ومجالس الجامعات ورؤسائها (أمر عدده 683 مؤرخ في 9 جوان 2011) بحيث انتفت صيغة تعيينهم التي كانت سائدة. ولكن لا يبدو أن إجراءات انتخاب المسؤولين الأول عن مختلف مستويات التسيير الجامعي كافية لمحو عقود من التسيير الاستبدادي وحصر الجامعة في مربعات قليلة فيها الحريات الأكاديمية وأقل منها فرص بناء فضاء عمومي جامعي للتداول والمناقشة وعديمة فيها تشاركية التدبير. وليس أمر محو آثار العقود الماضية يتعلّق بالمعرقلات الاعتيادية في توفير أجواء ديمقراطية تضمن التنافس على برامج بيداغوجية وعلمية مناسبة للظرف الجديد فحسب، بل وكذلك بنزعة لدى الجامعيين ذواتهم في تبجيل المسؤوليات الإدارية على المسؤوليات العلمية والبحثية حيث تتدنى مثلا أعداد المترشحين إلى لجان الانتداب ونسبهم إلى مجموع أساتذة الصنف المعني مقارنة بأعداد المترشحين إلى رئاسة الأقسام أو العمادات ونسبهم. وفضلا عن ذلك، يساوي التأطير القانوني الجديد للعملية الانتخابية بين مدرسي الصنف الأدنى الذين يمثلون ما لا يقل عن 80 % من الجسم الأستاذي القار ومدرسي الصنف الأعلى الذين لا يتجاوزون 15 % من نفس المجموع، علما وأن ما لا يقل عن نصف المدرسين الجامعيين التونسيين لا ينتمون إلى الرتب الجامعية أصلا وهو ملحقون من التعليم الثانوي أو ما يساويه تكوينا وشهائد. ومما يزيد عرج الديمقراطية الجامعية الداخلية استحكاما انحصار أحقية انتخاب عميد المؤسسة أو مديرها في صفوف المنتخبين الفائزين في انتخابات مجلسها العلمي وفيما بينهم هم فحسب بوصفهم هيئة انتخابية مغلقة، وكذا الأمر بالنسبة إلى رئيس الجامعة الذي ينتخب من قبل أعضاء هيئات المجالس العلمية المنتخبة على مستوى الجامعة. ومن الواضح ما ينفتح له الباب جراء ذلك من استمرار إفراط المركزية التوجيهية والتسييرية العلمية والإدارية والمالية وانحسار هامش الاستقلالية الإدارية والمالية للمؤسّسات الجامعيّة التونسيّة.

في هذه النقطة بالذات يمكن تأكيد الارتباط بين المسار الانتقالي المجتمعي التونسي الشامل والتغيير الجامعي الذي تبدو فيه الديمقراطية، إذا ما أخذناها مؤشرا، وليدا غضّا، قد يكون بصدد الترعرع ولكن ببطء وعسر وعبر سياق عالي المخاطر. والحقيقة أن النخبة السياسية، أحزابا ومنظمات ومنتخبين، أظهرت طوال السنوات الخمس الأخيرة من فداحة العجز عن تسيير المناقشات الاختلافية تحت قبة المجلس التأسيسي وخارجه حول الشأن الجامعي وتدنّي اهتمامها به بل وعدم فهمها له، بما فتح الباب إلى حملات متتالية ليس اندلاعها مفهوما أكثر من خمودها مراوحة بين التسييس والأدلجة من جهة والتقنوية الإجرائية من جهة أخرى. وليس حال الحركة الطلابية التي ينقسم فاعلوها الأكثر نشاطا وتأثيرا بين اتحادات نقابية متكاثرة أفضل، حيث استشرت التوجّهات الشعبوية المساواتية غير الاستحقاقية خلال السنوات الثلاث الأولى بعد الثورة لتعقبها هيمنة الصراعات الإيديولوجية العنيفة أحيانا والتنافس العقيم على مقاعد التمثيل الطلابي في المجالس العلمية ومجالس الجامعات من دون رؤية جامعية شاملة. وتزداد مخاطر عدم نفاذ الإصلاح حدة بانعدام الهيئات الجامعية المستقلة وذات الإرادات النافذة في مجالات التقويم والجودة والإشهاد ومتابعة الإنتاج المعرفي وخلق الموارد الذاتية وتطويرها.

اعتماد استراتيجية الإصلاح السطحي الفوقي

لقد شهدت العقود الأخيرة ميلاد اتجاه لدى مؤسّسات التمويل الدّولي وحتّى لدى بعض وكالات الأمم المتحدة، فضلا عن مسؤولي الدّول، يسرع الخطى نحو الكفّ عن استخدام لفظة "الديمقراطية" فيما يهم تسيير الشأن الجامعيّ لتُعوّض بلفظة "الحوكمة". اللّفظة الأخيرة تنحدر من عالم الأعمال والمؤسسات المشتغلة وتناسب تصوّرات النّجاعة والرّبح في حين تحيل اللّفظة الأولى على قواسم عيش مشترك طوعية الوضع وتشاركية البناء وجماعية الفائدة. ولا تقوم تلك القواسم إلا على ما يجمع أعضاء الجماعة الآكاديمية من إحساس مشترك بالانتماء من خلال ما ينتسج بينهم من صلات عبر مجال عمومي يتحققون فيه من أنّهم بناة حقوق وصائغون لها.

ومع ذلك لا تستقيم حتى معايير الحوكمة الرشيدة في واقع الجامعة التونسية. فمن شأن تزاوج الازدحام على أبواب المسؤولية الإدارية في الجامعة التونسية (كثيرا ما يظل جانبها البيداغوجي الحقيقي أو الأصلي ضامرا) وانعدام الرؤية البرامجية طويلة المدى أن يفرز مجالس تمثيلية ضعيفة الأثر في الحياة الجامعية لكل مؤسسة ما عدا تصريف شأنها اليومي من قبيل توزيع المقادير المالية المرصودة لتغطية تكاليف السفر إلى الخارج في المهمات العلمية والبحثية وسير الدروس وتنظيم الامتحانات وبعض المناسبات العلمية... ويفتح غياب آليات التقصي والمحاسبة الأبواب مشرعة على تنامي روح استفرادية وشللية ربّما وصلت حد تكوين لوبيات تمسك بخناق المؤسسات وتعوق تحرّرها وتقدمها ومواكبتها لضرورات الإصلاح الجذري العميق. ومن آثار ذلك أيضا، وليست هذه أقل الآثار خطورة وأثرا، المسّ بآليات التصرّف السليم لا في مستوى مناقضته للإجراءات الأساس في الحوكمة الرشيدة فحسب بل كذلك في انخراطه في صيغ غير قليلة من الفساد الإداري والمالي إما لجهل بالإجراءات أو لانعدام التخطيط الجماعي أو لاستشراء الروح الفردية المستبدة مما لا يمنع وجود الأطماع والرغبة في الانتفاع بالكمال العام للفائدة الخاصة. وعلى ذلك لم يتوقف التعبير عن السخط على المظالم الجامعية في مجالات البحث العلمي والترقيات الجامعية والانتداب وأنظمة التعاقد ونُقَلِ المدرسين الجامعيين 'هربا' من الجامعات الجديدة والفتية ومنعدمة التقاليد التي تنطلق فيها ومنها حياتهم المهنية، وهي جامعات تقع عادة في 'مدن' بعيدة عن المراكز التقليدية العاصمية والساحلية للنشاط الاقتصادي والسياسي والمعرفي والثقافي. ويمتزج في هذه التظلمات التعبير السخط بالتقييم السلبي المُقَدَّر حسب مسافة بُعْدِ ما يحدث فعلا عن شعار قديم رفعته الحركة الطلابية التونسية منذ بدايات السنوات 1970 قائلا "جامعة شعبية، تعليم ديمقراطي ثقافة وطنية".

وعلى الرغم من اعتماد سياسة وفاقية تشاركية بين الوزارة ونقابة المدرسين الجامعيين الأهم والأكثر عراقة وتمثيلية وقدرة على التجنيد لا ينبئ واقع الحال على توسّع أمداء المشاركة القاعدية الفعلية في الإصلاح وفي وضع السياسات الكفيلة بتحقيقه بحيث عادت إلى السطح التظلمات من فوقية الإجراءات وعدم 'نزولها' إلى صيغ للمناقشة القاعدية في قاعات الأساتذة مثلا أو في لجان أستاذية مُوَسّعة تتشكل للغرض من الهياكل المنتخبة (مجالس المؤسسات، اللجان الإدارية المتناصفة، مجالس الجامعات، النقابات) أو في مجالس الأقسام مثلا.

خاتمة

يقارب عمر الجامعة التونسية الحديثة الستين سنة. وقد شهدت خلال هذه الفترة تحولات عميقة... ومن بين سماتها البارزة، منذ بدايات السنوات 1990 خاصة، صبغتها الجماهيرية المتزايدة. ففي سنة 2010، تمّ بلوغ أعلى عدد للمسجّلين من الطلبة بالجامعات العمومية وذلك بما ساوى 360 ألفا وبعدها بدأ انحدار سنوي تدريجي طفيف. وحسب أرقام السنة الجامعية 2012-2013 بلغ عدد طلبة القطاع العمومي ما يقارب 316 ألفا منهم ما يفوق بقليل 62 بالمائة من الإناث. في الأثناء، حافظ التعليم الجامعي الخاص على نسق ارتفاع حثيث بلغ 21800 سنة 2012-2013. ويتخرّج من الجامعة التونسية عدد يراوح بين 60 ألفا وما يزيد عنها قليلا سنويا فيما يقارب الستة مائة وخمسين اختصاصا في مستوى الإجازة.

وفيما تأسّست الجامعة التونسية بأربع كليات (علوم رياضية وفيزيائية وطبيعية - آداب وعلوم إنسانية- حقوق وعلوم سياسية واقتصادية، طب وصيدلة) إضافة إلى الكلية الزيتونية ودار للمعلمين، يبلغ عدد الجامعات العمومية حاليا وباعتبار الجامعة الافتراضية 13 جامعة بها 198 مؤسسة مع 46 مؤسسة تعليمٍ عالٍ خاصّة. وتتوزّع الجامعات التونسية على مراكز جامعية من أبرزها قطب تونس العاصمة ومحيطها وقطب الوسط الشرقي وقطب صفاقس (الجنوب الشرقي) التي تجمع ما يقارب 67 بالمائة من التعداد الجملي للطلبة

في منتصف السنوات 1960 كان عدد الأساتذة المدرّسين بالجامعة التونسية 156 لم يكن منهم من التونسيين إلا 76 في حين يبلغون الآن 23 ألفا منهم 2300 تقريبا من الصنف ألف (أساتذة تعليم عال وأساتذة مشاركون)، و10000 من الصنف ب (محاضرون وأساتذة) مع عدد من الأساتذة المتعاقدين والتكنولوجيين والملحقين يبلغ حوالي 6500 فضلا عن أصناف أخرى.

التنظيم القانوني الراهن للتعليم العالي في تونس (القانون عدد 19 لسنة 2008 المؤرّخ في 25-02- 2008) يجعل من الجامعات ومؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي مؤسّسات عمومية ذات صبغة إدارية يمكن أن تُحوّل بأمر وإذا استجابت لشروط مُحدّدة إلى مؤسّسات عمومية ذات صبغة علمية وتكنولوجية تتمتّع بالشّخصية القانونية وبالاستقلال المالي. وقد حدّد النصّ للتعليم العالي "مَهَمَّةَ التكوين وتنمية الكفاءات والمساهمة في تشييد مجتمع المعرفة وإثراء المعارف وتطوير التكنولوجيا ووضعها في خدمة الجماعة الوطنية". وتتمتّع الجامعة التونسية بتمويل عمومي يتأتى كليا من الدولة بما مثّل سنة 2010 ما قدره 6.10 بالمائة من الناتج الداخلي الخام وهي نفس النسبة المعتمدة تقريبا منذ مطلع القرن الواحد والعشرين. وعلى غرار القرار العلمي والبيداغوجي والبحثي يخضع وضع الميزانية والتصرّف فيها إلى المركزية. حيث "يتم توزيع الموارد والنفقات... حسب تبويب يصادق عليه وزير المالية... ويتمّ توزيع اعتمادات التعهّد حسب الفقرات والفقرات الفرعية بقرار من وزير المالية... ويتمّ بقرار من وزير الإشراف توزيع اعتمادات الدفع" و " تخضع النفقات وجوبا لتأشيرة مراقبة المصاريف العمومية بواسطة التعهد الاحتياطي...".

يطالب أصحاب الجامعات الخاصة وبعض قطاعات رجال الإعمال هم أيضا بإصلاح الجامعة. يلح الأولون على ضرورة تنقيح القانون الصادر سنة 2000 في اتجاه مزيد تشجيع الدولة على الاستثمار في القطاع من خلال تحملها لقسط من أجور المدرسين والمزيد من إعفاءات الضريبية والتكفل بتكاليف الضمان الاجتماعي... في حين يطالب الثانون بمزيد الربط بين مخرجات لتعليم العالي ومتطلبات سوق الشغل من حيث توفير الأطر التقنية متوسطة التكوين والقادرة على ملء الشغورات الوظيفية على الفور.

وعلى خلاف اتجاهات السلطة في إصلاح ترقيعي قد تكون وجهته الليبرالية أكثر فأكثر وضوحا في قادم الأشهر والسنوات قد يكون من المناسب النظر إلى الإصلاح من زوايا أكثر اتساعا. لم تشذ وزارة التعليم العالي عن باقي الوزارات في الاستجابة إلى ضغط مطلبية نقابية متزايدة التأثير في مجريات الحياة اليومية للمؤسسات الجامعية فزادت في الأجور وحسنت بعض الوضعيات الإدارية وراجعت بعض الترتيبات الخاصة بتأجير مهام تدريسية وتأطيرية لم تكن تجازى من قبل. ويبدو أن سياسة الترضيات الاجتماعية هذه تقابلها سياسة تشريك الممثلين النقابيين في الأقناع بوجاهة التوجه الإصلاحي الوزاري.

قد يكون من المناسب النظر إلى ضرورة الإصلاح من باب أول هو حل الإشكال القائم بين الصبغة الجماهيرية للتعليم العالي وتناقص التمويل المتسبب في تدهور ظروف العمل التدريسي والنشاط البحثي. وليس مدخل المردودية في معناها الاستثماري في المنحى الليبرالي مناسبا لولوج هذا الباب. لا يمكن أن تكون الجامعة جاذبة للطلبة ومناسبة لعمل الأساتذة ومنتجة للمعرفة من دون تمويل حقيقي يرتبط باستراتيجيات مرسومة في اتجاه التجاوز النهائي للطلاق الحاصل بين الجامعة ومجتمعها.

الباب الثاني الذي قد يناسب التعديل الضروري لاتجاه الإصلاح هو تركيزه على تشريك حقيقي لا لشركاء يتم اختيارهم على المقاس بل لأوسع صفوف ذوي الشأن. إن الثقل العددي لغير مستوفي التكوين الجامعي الأصلي حسب مساره المعتاد ضمن صفوف المدرسين لا يخلق إلا وضعيات مهنية هشة وانصرافا غير كامل للاضطلاع بالواجبات المنوطة بعهدة مدرسين لا يرون افقا ورديا أمامه من حيث أوضاعهم المهنية-الاجتماعية والمعرفية والبحثية. فبسبب غرقهم في الواجب اليومي وكثرة ساعات عملهم ومراوحاتهم بين واجبات وظيفية متكاثرة تثقل كواهلهم، لا يجد المسجلون في مسالك الدكتوراه من الملحقين والمتعاقدين والعرضيين والوقتيين من المدرسين وقتا وجهدا لإتمام بحوثهم وتأمين انتدابهم بصفة قارة وغير هشة.

الباب الثالث الذي قد يناسب التعديل الضروري لاتجاه الإصلاح نحو المستقبل هو إيجاد صيغ حقيقية وفعالة لتشريك الطلبة في وضع تصوراته واستراتيجياته وآلياته. لقد أظهرت التحركات المطلبية الاحتجاجية التي خاضها خلال السنة الجامعية 2015-2016 طلبة اختصاصات اعتبرت على الدّوام "نخبوية" من جهة و"مأمونة" من جهة أخرى مثل الطب والهندسة والدراسات التجارية العليا عمق أثر تردّي الأوضاع الجامعية بوصفها، من هذه الوجهة مظهرا من مظاهر "القلق الشبابي" في تونس.

هاهنا يبدو المعنى العميق لعسر الإصلاح الجامعي بوصفه من مظاهر عسر الانتقال الديمقراطي في تونس، وبوصفه على الأخص عسرا في الجرأة على التفكير من خارج الصندوق.

Endnotes

Endnotes
1 وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الإدارة العامة للتجديد الجامعي، "الأمر عدد 3123 لسنة 2008 مؤرخ في 22 سبتمبر 2008 ومتعلق بضبط الإطار العام لنظام الدراسة وشروط التحصيل على الشهادة الوطنية للإجازة في مختلف مجالات التكوين والمواد والمسالك والتخصصات في نظام إمد" في، النصوص التشريعية والترتيبية المنظمة للشهادات الوطنية في نظام الإجازة والماجستير والدكتوراه "إمد"، تونس 2013.
2  منشور عدد 65/2005 صادر عن وزير التعليم العالي والبحث العلمي، بتاريخ 22-08-2005 متعلق بالإعداد للعودة الجامعية 2006-2007 والتحضير للدفعة الأولى من الشعب المدرجة في إطار نظام إمد.
3 منير السعيداني، أفق علم الاجتماع في الجامعة التونسية في ظل نظام إمد، في، المقدمة، مجلة الجمعية التونسية لعلم الاجتماع، العدد 2 (عدد خاص بأعمال ندوة راهن علم الاجتماع والأنتروبولوجيا في المغرب العربي)، الجمعية التونسية لعلم الاجتماع، ديسمبر 2008، صص 77-111.
4 astrolabetv.com

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.