إعادة طرح التجنيد الإجباري في الخليج: من القوة الناعمة إلى بناء الأمة

Re-introducing Conscription in the Gulf: From Soft Power to Nation-Building
حرس الشرف الإماراتي في تشكيلة عند وصول رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارتن ديمبسي، إلى مقر القيادة العامة للجيش في أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، مايو 2014. © CJCS / فليكر

خضع التجنيد الإجباري للتعليق1علّقت بعض الدول مثل إيطاليا التجنيد الإجباري في "وقت السلم". أو الإلغاء2بلغاريا والبوسنة والهرسك وكرواتيا وجمهورية التشيك وفرنسا وألمانيا والمجر وإيطاليا ولاتفيا ومقدونيا والجبل الأسود وبولندا والبرتغال ورومانيا وصربيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وإسبانيا والسويد والمغرب وبيرو والأرجنتين. في أكثر من 20 دولة حول العالم بعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفيتي؛ والغالبية العظمى من تلك الدول كانت إما جزءاً من الاتحاد السوفيتي أو على مقربة من موسكو. إذ بمجرد توقف التوسع السوفيتي، وانتهاء النظام العالمي العسكري شديد التوتر الذي سيطرت عليه دولتان متصارعتان، تغير نمط العلاقات المدنية العسكرية التي هيمنت على تلك الفترة، مما نتج عنه تنويعات مختلفة من عمليات نزع السلاح في جميع أنحاء العالم؛ وقد أدى هذا التغيّر في أوروبا - على وجه الخصوص - إلى تحولٍ في الأولويات العسكرية؛ فبعدما تخلصت تلك الدول من القوة التي مثلت لها تهديداً وشيكاً، وبمجرد أن حانت اللحظة التي لم يعد فيها الاستعداد العسكري وتعبئة الجيش مهاماً ذات أولوية قصوى بالنسبة للدول الأوروبية ودول الاتحاد السوفيتي السابق؛ لم تتوانَ حكومات تلك الدول في تقليل الإمدادات العسكرية وتقليص عدد أفرادها العسكريين. وقد حدث ذلك بصورة رئيسية من خلال تغيير أنظمة التجنيد العسكري من الإجباري إلى الطوعي؛ أو بعبارة أخرى، إلغاء و/أو تعليق التجنيد الإجباري.

كانت الآمال معقودة على هذا الاتجاه في أن يؤدي على المدى الطويل إلى ظهور نظام دولي أقل عسكرة وأكثر "سلمية"، حيث يمكن للبلدان والمناطق المختلفة بناء أو إعادة بناء جسور التعاون فيما بينها. وصلت المواقف المعارضة للخطاب العسكري والخدمة العسكرية الإلزامية بعد ذلك إلى ذروتها في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بعد الغزو الأميركي للعراق، حيث نُظّمت آلاف الوقفات الاحتجاجية المناهِضة للحرب في جميع أنحاء العالم واكتسبت المناقشات حول الاستنكاف الضميري زخماً كبيراً3الاستنكاف الضميري هو رفض أداء الخدمة العسكرية الإلزامية على أساس حرية الفكر والوجدان والدين. في بعض البلدان، يمكن للمستنكفين ضميرياً أداء خدمات مدنية مختلفة بدلاً من الخدمة العسكرية، بينما في بلدان أخرى - مثل تركيا - يعتبر الاستنكاف الضميري غير قانوني ويعاقب عليه القانون. . بيد أن التعاون الدولي و/أو الحوار، إلى جانب بروتوكولات نزع السلاح لم تكن بالشمولية التي تخوّل لها استيعاب جميع البلدان أو المناطق. فعلى الرغم من وجود استعداد واضح - خاصة في الدول الغربية - للتعويل على التعاون الدولي في تحقيق الطموحات السياسية أكثر من النزاعات المسلحة، إلا أن بعض البلدان لم تتوقف عن الاعتماد على الاستعداد العسكري والإمدادات العسكرية والجيوش الجرّارة.

أما في الشرق الأوسط؛ فإن الغزو الأميركي للعراق، وثورات الربيع العربي في عام 2011، والتدخلات الأجنبية اللاحقة في اليمن وسوريا وليبيا؛ كل ذلك قد أدى إلى إعادة الاستعداد والكفاءة العسكرية إلى رأس الأولويات الحكومية مرة أخرى. وقد أدى ذلك إلى عودة الخدمة العسكرية الإجبارية، ليس فقط في البلدان التي في حالة حرب و/أو تحت تهديد التدخل العسكري، بل أيضاً في غيرها من البلدان؛ وهو ما حدث في بعض دول الخليج، مثل الكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة، التي نادراً ما لجأت إلى التجنيد الإجباري.

أقرّت قطر التجنيد الإجباري لأول مرة في عام 2013، تلتها الإمارات العربية المتحدة في عام 2014. وأما الكويت فقد سبقتهما في اعتماد التجنيد الإجباري بين عامي 1961 و2001، ثم أعادت اعتماده في عام 2014. حتى وقت قريب، كان قِوام جيوش هذه الدول يتكون من فرقة الضباط المحليين، ونخبة من ضباط الصف الأجانب – معظمهم من الغربيين – والجنود الأجانب المنتدبين من دول مختلفة (الأردن واليمن وباكستان وبنغلاديش وعمان4Zoltan Barany, “Foreign Contract Soldiers in the Gulf,” Carnegie Endowment for International Peace, 5 February 2020, https://carnegie-mec.org/2020/02/05/foreign-contract-soldiers-in-gulf-pub-80979. ). إن حقيقة لجوء ثلاث دول من مجلس التعاون الخليجي إلى التجنيد الإجباري بعد اعتمادها أنظمة تجنيد تطوعية تثير العديد من الأسئلة المتعلقة بتطور العلاقات المدنية العسكرية في المنطقة؛ فما هي الدوافع وراء هذه العودة إلى التجنيد الإجباري؟ وما مدى ملاءمتها للجغرافيا السياسية الأوسع للمنطقة؟ وما أثر ذلك على مستقبل العلاقات المدنية العسكرية وبناء الدولة في الخليج؟

التجنيد الإجباري في الخليج

في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، أصدرت قطر قانوناً جديداً بشأن الخدمة العسكرية الإجبارية للرجال؛ وبموجب هذا القانون على القطريين الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة الخدمة في القوات المسلحة لمدة ثلاثة أشهر (أول شهرين في معسكر تدريب، والثالث في الجيش)، أو أربعة أشهر إذا لم يكونوا قد حصلوا على الثانوية العامة. تلي فترةَ التجنيد تلك القصيرة نسبياً مرحلتان من خدمة قوات الاحتياط: الأولى تستمر لمدة 5-10 سنوات بعد التدريب الأوّلي، لا تتجاوز 14 يوماً سنوياً، وتستمر الثانية حتى يبلغ المجند 40 عاماً، وخلال هذه المدة يمكن استدعاؤه متى دعت الحاجة. يُعفى من بلغ السن القانوني ولا يزال طالباً والمواطنين الذين يعانون من حالات طبية معينة، ومن ليس لديهم أشقاء من الخدمة الإلزامية. أما من تخلفوا عن التجنيد دون سبب وجيه فقد تصل عقوبتهم إلى شهر في السجن، وغرامة قدرها 50000 ريال قطري (حوالي 14000 دولار أميركي).

في عام 2018، بعد فترة وجيزة من فرض السعودية والإمارات والبحرين ومصر حصاراً على قطر، عدّلت الحكومة القطرية قانون الخدمة الوطنية، فأدخلت الخدمة الوطنية للمرأة، ومددت مدة خدمة الرجال. ولكن في حين أن الخدمة الوطنية للنساء فوق سن 18 عاماً لا تزال طوعية، يُتوقع الآن أن تصل مدة خدمة الرجال إلى عام بدلاً من ثلاثة أو أربعة أشهر. يمنح القانون الجديد الرجال المطلوبين للخدمة مهلة 60 يوماً فقط بعد بلوغهم السن القانوني للتقدم للجيش، وينص على عقوبة أشد (تصل إلى ثلاث سنوات في السجن بالإضافة إلى غرامة) لمن يتخلفون عن التقدم في الموعد المحدد.

أما في الإمارات العربية المتحدة، فقد أقر المجلس الوطني الاتحادي في مارس/آذار 2014 مشروع قانون لاعتماد التجنيد الإجباري في الدولة لأول مرة. وعلى الرغم من حصول مشروع القانون على الموافقة الرسمية في عام 2014، إلا أنه ظل على جدول أعمال حكومة البلاد لما يقرب من عقد من الزمان. يفرض القانون المكوّن من 44 مادة على الرجال الإماراتيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً التجنيد في القوات المسلحة؛ حيث يخدم خريجو المدارس الثانوية تسعة أشهر، أما من لم يكملوا تعليمهم الثانوي فيقضون عامين في الخدمة الإلزامية. ومن ثم، يصبح الرجال الذين أتموا مدة خدمتهم العسكرية جزءاً من قوات الاحتياط حتى يبلغوا سن 58-60 عاماً، إذا كانوا ضباطاً. كما يمكن للمرأة أيضاً التطوع للتجنيد. أما المواطنون الذين يتخلفون عن الخدمة العسكرية دون سبب وجيه فيعاقبون بالسجن لمدة تصل إلى عام و/أو غرامة تتراوح بين 10 إلى 50 ألف درهم (حوالي 2800 دولار أميركي - 14000 دولار أميركي).

أما الكويت التي كانت قد ألغت التجنيد الإجباري في عام 2001، فقد وافق مجلس الأمة على قانون إعادة التجنيد الإجباري في القوات المسلحة. يفرض القانون الكويتي المتعلق بالتجنيد الإجباري – والذي دخل حيز التنفيذ في عام 2017 – على الرجال الذين تزيد أعمارهم عن 18 عاماً بقضاء عام في الخدمة العسكرية، وأن يظلوا جزءاً من قوات الاحتياط لمدة 30 يوماً في السنة حتى يبلغوا 45 عاماً. كما ينص القانون الجديد على عقوبات مثل تمديد فترة الخدمة، وحظر السفر، والغرامة، ومدة السجن لمن يتخلف عن التجنيد.

منذ بداية العشرينيات من القرن الحالي، كُتبت عدة مقالات5Jean-Loup Samaan, “The Rise of the Emirati Defense Industry,” Carnegie Endowment for International Peace, 14 May 2019 https://carnegieendowment.org/sada/79121;  Elenora Ardemagni, “The UAE’s Military Training-Focused Foreign Policy,” Carnegie Endowment for International Peace, 22 October 2020, https://carnegieendowment.org/sada/83033; Melissa Dalton and Hijab Shah, “Evolving UAE Military and Foreign Security Cooperation: Path Toward Military Professionalism,” Carnegie Endowment for International Peace, 12 January 2021,  https://carnegie-mec.org/2021/01/12/evolving-uae-military-and-foreign-security-cooperation-path-toward-military-professionalism-pub-83549; Elenora Ardemagni, “ Building New Gulf States Through Conscription,” Carnegie Endowment for International Peace, 25 April 2018, https://carnegieendowment.org/sada/76178; Elenora Ardemagni, “Gulf Monarchies’ Militarized Nationalism,” Carnegie Endowment for International Peace, 28 February 2019,https://carnegieendowment.org/sada/78472; Zoltan Barany, “Big News! Conscription in the Gulf,” Middle East Institute, 25 January 2017, https://www.mei.edu/publications/big-news-conscription-gulf; Dr. Eman Ahmed Abdel Halim, “Implementation of Military Conscription in the Gulf,” Future for Advanced Research Studies, 12 December 2016, https://futureuae.com/m/Mainpage/Item/2250/pressing-threats-implementation-of-military-conscription-in-the-gulf حول الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية وراء تحول استراتيجية دول الخليج تجاه التجنيد العسكري. إن المشاكل الأمنية التي يفرضها وضع إيران واليمن، والاستعداد لممارسة القوة الناعمة في المنطقة، إلى جانب التقلبات التي يشهدها قطاع الطاقة، وكذلك التصدعات داخل نموذج الدولة الريعية؛ كلها دوافع رئيسية لتطور الصناعات الدفاعية في دول الخليج وتنامي جيوشها. في هذا السياق، تضطلع الخدمة العسكرية الإجبارية بدور مهم، سواء لزيادة حجم الجيش أو إظهار الردع في المنطقة، أو خلق فرص عمل جديدة وقوى عاملة مؤهلة من الشباب المواطنين.

بيد أن مزايا الخدمة العسكرية الإلزامية لا تنحصر فقط في آثارها الإيجابية الملموسة على اقتصادات البلدان والسياسات الداخلية والخارجية، بل يمكنها أيضاً أن تثمر آثاراً معنوية إيجابية غير ملموسة، مما يجعل لها تأثيراً كبيراً على العلاقات المدنية العسكرية في هذه البلدان. إن السبب الأكبر وراء ذلك هو علاقة التعاضد التي تشكلت بمرور الوقت بين الخدمة العسكرية الإجبارية والمشاعر القومية. وبهذا المعنى، فإن اعتماد التجنيد الإجباري يعكس الجهد المبذول لتحويل هذه المجتمعات إلى دول تربط بين أفرادها المشاعر القومية، وليس نموذج الدولة الريعية الذي لم يعرفوا سواه حتى الآن.

تاريخٌ موجز لمحور القومية والعسكرة

تعود جذور علاقة التعاضد بين القومية والعسكرة إلى الثورة الفرنسية؛ إذ ظهرت بعد الثورة تيارات قومية مختلفة شقّتها اشتباكاتٌ طويلة الأمد مع بعضها البعض. وفي ذلك الوقت، تسببت هذه التطورات في اندلاع الصراعات والحروب داخل أوروبا الإمبريالية، تلك الحروب التي اشتدت وطئتها مع الثورة الصناعية وإنتاج مزيد من الأسلحة المدمرة. وعندما تصادمت الأيديولوجيات المتصارعة بعضها ببعض، أصبح الهدف الرئيسي هو إما تدمير الخصم أو السيطرة الكاملة عليه. وسط تلك الصراعات، سرعان ما أدركت الأطراف المتقاتلة أن التعبئة الكاملة لجميع المصادر المتاحة – من الرجال والتقنيات – كانت ضرورية لخوض هذه الحروب الجديدة متعددة الجبهات مع القوى الأجنبية، وقد خرجت تلك الحروب من رحم الحقائق الاقتصادية القاسية للعصر الصناعي الجديد. كان هذا إيذاناً ببدء حقبة من الحروب الشاملة، وصعود القوات المسلحة المكوّنة من آلاف الرجال، وهو ما تطلب من الجيوش المتحاربة أن تكون قوية وكبيرة وتتشارك الوعي القومي نفسه.

ولتحقيق الانتصار في هذه الحروب الحديثة، لجأت الدول الأوروبية إلى الحلول الاستراتيجية؛ وكان التجنيد الإجباري أكثرها شيوعاً. التجنيد هو مفهوم مهم للغاية لتحليل العلاقة الوثيقة بين العسكرة والقومية في بعض البلدان، وربما تكون فرنسا هي المثال التاريخي الأبرز على هذه العلاقة. فبعد الثورة الفرنسية – ومن أجل ترميم الجيش المتفكك – لجأ المؤتمر الوطني الفرنسي إلى التجنيد الإجباري، وهي ممارسة كانت مستخدمة بالفعل في بروسيا للطبقات الدنيا. وخلال الحروب التي تلت الثورة، عُبّئ الريف الفرنسي لمحاربة أعداء الثورة في الداخل والخارج6Natali Gak, “The Distinction Between Levee en Masse and Wars of National Liberation," Slovenian Law Review 5, no. 1 (2008): 116. . وكما يوضح محمد بيشكجي، "سُنَّ تشريع التعبئة العامة الإجبارية (المعروف بـ levée en masse) الذي أعقب الثورة الفرنسية في عام 1793 لمواجهة تهديد الحرب متعددة الجبهات مع القوى الأجنبية والثورات في الداخل من خلال استدعاء جميع الرجال القادرين على حمل السلاح للدفاع عن "الأمة""7Mehmet Beşikçi, “Mobilizing Military Labor in the Age of Total War: Ottoman Conscription before and during the Great War,” in Fighting for a Living: A Comparative Study of Military Labour 1500-2000, ed. Erik-Jan Zürcher, (Amsterdam: Amsterdam University Press, 2013), 547. . فعلى عكس خصومه، كان جيش فرنسا يخوض تلك الحروب باعتباره أمة مسلحة8يعود تاريخ مصطلح "أمة مسلحة" إلى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وهو يشير إلى التعبئة العامة للأمة بكاملها في أوقات الصراع، بغض النظر عن العمر والجنس والطبقة. من ناحية أخرى، يقع مصطلح الأمة العسكرية على الخط الرفيع بين محوري العسكرة والقومية، ويشير إلى القدرات التاريخية لدولة معينة في تعبئة أمة مسلحة إلى حد أنها تصبح سمة متأصلة لتلك الأمة المعينة. ، تأسست أركانها على التعبئة العامة الإجبارية، حيث جُنّد جميع الذكور في خدمة الجيش.9Uri Ben Eliezer, “A Nation-in-Arms: State, Nation, and Militarism in Israel's First Years.” Comparative Studies in Society and History 37, no. 2 (1995): 267; Gak, "The Distinction Between Levee en Masse and Wars of National Liberation," 116.

ولكن عندما يتعلق الأمر بمفهوم الأمة المسلحة، لا يمكننا تجاوز بروسيا التي تشغل مساحة أكبر في الأوساط الأكاديمية مقارنة بفرنسا، وهذا لأنه بعد هزيمتها على يد جيش نابليون البيروقراطي عالي التنظيم والمبني على التجنيد الإجباري، نفذت بروسيا سلسلة من الإصلاحات لبناء إرادة وطنية قوية بما يكفي للانتصار في الحروب الشاملة، والمطالبة بمزيد من الأراضي. وهذا يعني بشكل أساسي أن الممارسات العسكرية القديمة - مثل اللجوء إلى المرتزقة - سوف يحل محلها تجنيد أبناء الأمة، حيث يساهم كل رجل وامرأة وطفل في المجهود الحربي. اتُخذت الخطوة الأولى نحو هذه التعبئة من خلال إعادة صياغة نظام التجنيد الذي اعتمده الفرنسيون سابقاً، وجعل "حماية الدولة" واجباً وطنياً في نظر المجندين. ولكن لكي تتوطد أركان العظمة السياسية والاستراتيجية المتصورة، كانت هناك حاجة إلى تلقين أعمق وأشد تأثيراً للقيم الوطنية، وقد كان ذلك يتم بشكل أساسي من خلال التعليم. فمن أجل تنشئة مواطنين طيّعين ومنتجين، يرتدون الزي نفسه، ويتحدثون اللغة نفسها، ويرددون الأناشيد نفسها؛ أصبح التعليم أداة مهمة في عملية بناء الأمة10Ayşe Gül Altınay and Tanıl Bora, “Ordu, Militarizm ve Milliyetçilik,” Iletişim Yayınları, (2002): 140. . في بروسيا، اضطلعت المؤسسات العسكرية بتوفير هذا "الشكل الجديد من التنشئة القومية الاشتراكية" على أمل أن يظل الرجال – حتى بعد تسريحهم من الخدمة العسكرية – موالين للدولة، وينقلون مشاعرهم وما "تعلموه" إلى بقية أبناء الأمة.11Eliezer, “A Nation-in-Arms: State, Nation, and Militarism in Israel's First Years,” 267; Beşikçi, “Mobilizing Military Labor in the Age of Total War: Ottoman Conscription before and during the Great War,” 548.

بيد أن الحرب العالمية الأولى هي صاحبة اليد الطّولى في إحداث تغيير جذري في العلاقات المدنية العسكرية في ذلك الوقت، وهي التي أثبتت أهمية مفاهيم مثل الخدمة العسكرية الإجبارية، والتعبئة الوطنية، وحماية الوطن، والواجب الوطني، والحرب الشاملة.

لذلك، لم يكن التجنيد مجرد أداة اجتماعية أحيت المشاعر الوطنية للمجتمع، بل كانت أيضاً أداة أعادت رسم معالم العلاقات المدنية العسكرية في تلك الفترة من خلال مركزة سلطة الدولة على المجتمع وتقويتها.

التجنيد الإجباري كأداة لبناء الأمة في الخليج

في ظل المخاوف الأمنية الأخيرة التي شهدتها المنطقة والعالم، بما في ذلك التدخل الأجنبي في الشرق الأوسط (ولا سيما في سوريا واليمن وليبيا)، والاجتياح الروسي مؤخراً لأوكرانيا، يمكن القول بإنه من خلال فرض الخدمة العسكرية الإلزامية، تحاول هذه الدول الخليجية الثلاث، قطر والكويت والإمارات العربية المتحدة، بث المشاعر القومية والانتماء المجتمعي في مجتمعاتها. إذ إن انخفاض عائدات النفط، ونفوذ إيران المتزايد في المنطقة، فضلاً عن ظهور العديد من الأطراف الفاعلة المتطرفة غير التابعة للدولة في المنطقة من بين العوامل المختلفة التي تزيد من ضرورة وجود مجتمعات مترابطة بشكل وثيق - وهو الأمر المفقود حالياً في ضوء نموذج الدولة الريعية الذي تتبعه هذه الدول.12إليونورا أردماني، "القومية العسكرية في الأنظمة الملَكية الخليجية".

في حالة هذه الدول الريعية الثلاث، يمكن أن يكون التجنيد الإجباري أداة فعالة لتعزيز الوطنية والولاء. إذ يُعزز الجمع بين المواطنين الشباب في إطار واجب الخدمة الوطنية - بمعنى أنها خدمة مقدمة للأمة - بيئة يُلقن فيها هؤلاء المجندين باستمرار أهمية خدمة شعبهم وبلدهم والأيديولوجية الحاكمة. بيد أنه لا ينبغي النظر إلى الخدمة العسكرية الإلزامية في هذه البلدان على أنها وسيلة لإقامة جيوش قوية ذات كفاءة على نحو فعال. فأولاً، لا تتمتع قطر ولا الكويت ولا الإمارات العربية المتحدة بالقدر الكافي من السكان، مثلها في ذلك كمثل جيرانها في الخليج، للحفاظ على وجود جيش دائم قوي. إذ إن معظم سكانها من الوافدين الذين لا يخضعون لقوانين التجنيد الإجباري. وثانياً، أثبت نظامها الحالي القائم على الاستعانة بمصادر خارجية لتلبية الاحتياجات العسكرية أنه فعال على المدى الطويل، إذ تواصل البلدان الثلاثة الاستثمار في التعاقد مع جنود أجانب لتعبئة جيوشها بكفاءة. ولذلك، ينبغي النظر إلى قوانين التجنيد الإجباري الجديدة على أنها خطوة رمزية لتعزيز الروابط القومية والطموحات الوطنية.

ورغم أن الجنود المتعاقدين الأجانب يوفرون قوة عسكرية فعالة وكافية، فإنهم نادراً ما يكون لديهم روابط عاطفية نحو البلد الذي يخدمون فيه ويقاتلون من أجله. بالنسبة لكل من دول الخليج التي تستأجرهم والجنود المتعاقدين الأجانب، فإن هذا النظام لا يحمل في طياته أكثر من علاقة عمل، وهو ما يفسر لماذا لا يكترث هؤلاء الجنود المتعاقدون إلى حد ما تجاه الشؤون الداخلية والخارجية للدول المضيفة، ونادراً ما يعبرون عن مشاعر السخط والاستياء.13زولتان باراني، "الجنود الأجانب المتعاقدون في الخليج". وفي المقابل، ترحب دول الخليج بهذا الموقف المحايد، وتنظر إلى الجنود الأجانب المتعاقدين على أنهم موظفون أجانب مثل أي موظف أجنبي آخر.

حتى وقت قريب، كان وجود مثل هذه القوة العسكرية غير المبالية بسياسات وطموحات البلدان المضيفة يعتبر درعاً فعالاً ضد أي انقلابات محتملة من الداخل.14ومن بين هذه الدول السعودية التي لم تتبع خطى الكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة فيما يتعلق بإدخال التجنيد الإجباري. فكلما قل ارتباط الجنود الأجانب بالدولة التي يخدمون فيها، قل احتمال تعاطفهم مع القضايا الاجتماعية أو السياسية الداخلية أو مشاركتهم في محاولات معارضة أو الإطاحة بمن هم في السلطة. ولذا يُعد إدخال التجنيد الإجباري، وبالتالي إعطاء الرجال والنساء في البلاد هدفاً تنازلياً من أعلى إلى أسفل، وسيلة لكسر هذا الموقف الفاتر تجاه البلاد15زولتان باراني، "الجنود الأجانب المتعاقدون في الخليج". وربط المجتمع بالوطن وحكامه، بغية خلق أمة وطنية قادرة على التغلب بشكل جماعي على التحديات الاقتصادية والأمنية الراهنة مثل الصراع الدائر في اليمن، والتهديد الذي تشكله إيران، وقطاع الطاقة المتقلب.16إليونورا أردماني، "القومية العسكرية في الأنظمة الملَكية الخليجية".

الإمارات العربية المتحدة: دراسة حالة

منذ عام، تسعى الإمارات إلى توطيد الروح العسكرية في الإمارات الشمالية لتعزيز العلاقات مع حكومة أبو ظبي المركزية وتعزيز التماسك الاجتماعي.17إليونورا أردماغني، ""شهداء" من أجل مركزية دولة الإمارات"، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 13 حزيران/يونيو 2019، https://carnegieendowment.org/sada/79314 وفي صميم هذا الجهد تكمن الخدمة العسكرية الإلزامية والدور الذي تلعبه في تعزيز العلاقات بين المركز والأطراف من خلال توحيد المواطنين خلف رسالة وطنية وليس رسالة سياسية أو اقتصادية.

على سبيل المثال، حتى وقت قريب، كانت العلاقة بين إمارة رأس الخيمة18تتكون إمارة رأس الخيمة من جزئين: الجزء الشمالي (حيث تقع مدينة رأس الخيمة ومعظم المدن)، وجيب داخلي كبير في الجنوب (بالقرب من خليج حتا في دبي)، مع بعض جزيرتين في الخليج العربي. وتقع الإمارة على الحدود مع سلطنة عمان بالقرب من محافظة مسندم، وهي أقرب إمارة إلى إيران. والحكومة الإماراتية المركزية متوترة بسبب علاقات رأس الخيمة مع جماعة الإخوان المسلمين. في أوائل السبعينيات، قبلت الحكومة المركزية بشكل عام جماعة الإخوان المسلمين الإماراتية المتمثلة في "جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي" (المعروفة أيضاً باسم حركة الإصلاح)، وأصبحت إمارة رأس الخيمة وقادتها من المؤيدين المتشددين لحركة الإصلاح في الثمانينيات عندما كان التنظيم يوسع نفوذه بشكل منهجي في البلاد. وحافظت رأس الخيمة على علاقاتها القوية بالحركة حتى بعد توتر علاقات حركة الإصلاح مع الحكومة المركزية، وبلغت ذروتها في موجات من التحقيقات القضائية التي تعرضت لها الجماعة في التسعينيات وسياسة عدم التسامح المطلق التي انتهجتها السلطات المركزية تجاه المتطرفين بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر. أعقب ذلك حملة قمع كاملة على الحركة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي في عام 2012، عندما اعتقلت السلطات أعضاء حركة الإصلاح وسجنتهم، ونظمت حملات إعلامية لتشويه سمعة الحركة وأنصارها.19"اتساع حملة قمع الحكومة الإماراتية لجمعية إسلامية"/ منظمة هيومن رايتس ووتش، 10 أيار/مايو، https://www.hrw.org/ar/news/2012/05/10/246233 في غضون ذلك، دافعت رأس الخيمة عن الجماعة وسمحت باستمرار عملياتها داخل الإمارة. وقد خلق ذلك انقساماً سياسياً بين إمارة رأس الخيمة والحكومة الاتحادية علاوة على الفجوة الاجتماعية والاقتصادية القائمة فيما يتعلق بنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وكثافة المواطنين الإماراتيين، ومصادر الدخل، ومعدلات التوظيف. "في ظل هذه الاختلافات الاقتصادية والديموغرافية والإيديولوجية، لا يمثل الجيش وسيلة لسكان الإمارات الشمالية لتحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي فحسب، بل يمثل أيضاً وسيلة لأبو ظبي لتصميم وصياغة مزيد من التماسك الاجتماعي".20إليونورا أردماني، ""شهداء" من أجل مركزية دولة الإمارات". وحتى ولو لفترة قصيرة، يجتمع الرجال الإماراتيين من مختلف الإمارات والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية معاً في سياق يحقق المساواة بينهم. لا تقتصر هذه المساواة على الجوانب المادية للخدمة العسكرية الإلزامية (مثل ارتداء الزي الرسمي نفسه وأداء التمارين نفسها) ولكنها أيضاً ناتجة عن فكرة جمع الرجال في البلاد تحت هدف واحد: حماية البلد والأمة.

في حالة الإمارات العربية المتحدة، تتجسد الجهود الرامية إلى تعزيز التماسك الاجتماعي من خلال الخدمة العسكرية الإلزامية - في إطار توجه عام نحو ترسيخ النزعة العسكرية - من خلال النزاع في اليمن.21منذ عام 2015، شاركت الإمارات العربية المتحدة بشكل مباشر مع المملكة العربية السعودية في اليمن لتحقيق أهداف متعددة من بينها كونها حليفاً وثيقاً للسعودية، مما قلل من نفوذ جماعة الإخوان المسلمين الذي يتجلى في حزب الإصلاح اليمني والسيطرة على خطوط الشحن في البحر الأحمر التي تقع في اليمن. بيد أنه، على عكس المملكة العربية السعودية، لم تستطع الإمارات العربية المتحدة دعم وجودها في البلاد بسبب الادعاءات المتكررة بالتعذيب والاغتيالات والاختفاء القسري، وتكبدت خسائر كبيرة في الأرواح (خاصة في الإمارات الصغيرة). وعلى الرغم من أن الإمارات لم تحقق نجاحاً كاملاً في اليمن، تمكنت الحكومة الاتحادية من حشد ثقة جميع الإمارات ودعمها للقضية، بما في ذلك رأس الخيمة. تُعد رأس الخيمة مع غيرها من الإمارات مثل الفجيرة "...أقل ثراءً من أبو ظبي أو دبي وبها عدد أقل من الوافدين، [وقد كانت] عموماً ركيزة القوات المسلحة في الإمارات".22إليونورا أردماني، ""شهداء" من أجل مركزية دولة الإمارات". بغض النظر عن اختلاف رأس الخيمة مع الحكومة المركزية بشأن دعم حركة الإصلاح، فإن هذا التوجه المتمثل في توفير القوى البشرية لجيش البلاد لم يتغير مع تدخل الإمارات في اليمن. ويُعزى ذلك ليس فقط إلى قرب رأس الخيمة من إيران، بل أيضاً لأن الحكومة المركزية نجحت في تصوير اليمن على أنه تهديد للأمن القومي، والتجنيد الإجباري يوفر أفضل مساحة اجتماعية لإثارة هذه المخاوف الجماعية وتلقين المجندين أيديولوجية القيادة.23في هذه الحالة، من الممكن القول إن أيديولوجية القيادة الإماراتية وآرائها السياسية تتفق مع أيديولوجية القيادة الفيدرالية. ويُعزى ذلك في الغالب إلى أن البلاد هي اتحاد للممالك المطلقة. ومع ذلك، لن يكون من الخطأ تعميم أن أيديولوجية الجيش تعكس دائماً أيديولوجية حكومات كل إمارة. في الواقع، غالباً ما تحدث التدخلات العسكرية والانقلابات بسبب الانقسام بين هذين الكيانين في وجهات النظر حول السياسة والمجتمع. ومن خلال ترسيخ خطاب عسكري، يمجد الأعياد الوطنية والشهداء ويخلق أعداء مشتركين، تتمكن حكومة الإمارات من جمع الإمارات المختلفة تحت مظلة وطن واحد وتؤثر بشكل ضمني على حكام مختلفين في المنطقة للاتفاق على قضايا لم يكن هناك توافق كبير حولها من قبل.

العواقب المحتملة لبدء تطبيق التجنيد الإجباري

بغض النظر عن أهمية تقديم هذه الدول الخليجية نفسها على أنها جهات فاعلة إقليمية تتمتع بعلاقات وطنية قوية وصناعات دفاعية تتقدم بوتيرة متسارعة، فإن جعل الخدمة العسكرية إلزامية لا يخلو من العواقب.

أولاً، على الرغم من أن الأنظمة الملكية الخليجية تمارس سيطرة شاملة على أنظمة الدولة ومجتمعاتها، فإنه لا يوجد ضمان بأن المجندين، الذين أنيطت بهم المهمة الرمزية لحماية البلاد وشعبها، لن يتمردوا ضد الأنظمة الملكية باسم زيادة الحريات الاجتماعية. بعبارة أخرى، من المفارقات أن المشاعر القومية وقيمة الولاء التي تحاول الدول الخليجية بثها بين مواطنيها، يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية إذا ما استاء الشعب (بمن فيهم المجندون) في أي وقت من الحكام وسياساتهم. وهذا يتعارض مع الاستراتيجيات القديمة التي اعتمدتها الدول العربية على مر السنين لمنع حدوث انقلابات.24بعد حصولها على استقلالها، انخرطت معظم دول المنطقة (أو بالأحرى الزعماء الأفراد) في تدابير مختلفة لمنع الانقلاب بهدف إبقاء جيوشها تحت السيطرة. وقد كانت هناك أنواع مختلفة من استراتيجيات منع الانقلابات. على سبيل المثال، حتى عام 2011، حاول حسني مبارك، وهو نفسه رجل عسكري، محاصرة المؤسسة العسكرية المصرية من خلال منح الضباط والمؤسسة العسكرية منافع اقتصادية وتقديم منافسة غير عادلة إلى حد ما. في تونس، اتبع زين العابدين بن علي نهجاً مختلفاً واختار الإطاحة بالجيش كمؤسسة بالكامل وتمكين قوات الشرطة. أما في السودان وليبيا، اتبع الرئيسان السابقان البشير والقذافي نهجاً اجتماعيًا أكثر، وحاولا موازنة مختلف فئات المجتمع، وخاصة المؤسسات القبلية، كرادع ضد الجيش. وفي الخليج، لجأ الملوك الحاكمون إلى استخدام الجنود الأجانب لإبعاد الجيش عن الشؤون الاجتماعية والسياسية قدر الإمكان. بيد أنه، نظراً إلى قلة أعداد المواطنين الذين سيتم تجنيدهم كل عام، لا يزال خطر حدوث مثل هذه الثورات منخفضاً.

ثانياً، قد يؤدي جعل الخدمة العسكرية إلزامية إلى زيادة في خطاب الاستنكاف الضميري داخل هذه الدول وخارجها. ففي الكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر، تفرض عقوبات قانونية ضد أي شخص يتخلف عن التجنيد عندما يصبح مؤهلاً، ولا يُعترف بالاستنكاف الضميري. وقد يتسبب هذا في الشعور بالقمع والاستياء أو يزيد منه ويثير الاحتجاجات والاضطرابات في هذه البلدان. ومع ذلك، في هذه المرحلة، هذا الخطر منخفض ولكنه لا يزال محتملاً كما هو الحال في تايلاند وإسرائيل وأرمينيا.

ثالثاً، يمكن أن يؤدي تطوير الذات الوطنية العسكرية داخل الكويت والإمارات وقطر إلى حدوث توترات داخل الدول واستقطاب في المنطقة. حتى الآن، كان هناك دعم عام لإدخال التجنيد الإجباري في دول مجلس التعاون الخليجي. وفي عام 2016، نظمت الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي مؤتمراً بعنوان "الأمن في عيون الشباب" لتسليط الضوء على الحاجة إلى التجنيد الإجباري في ضوء التطورات الأخيرة في اليمن وإيران والنفوذ المتزايد لجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة.25  Halim, “Implementation of Military Conscription in the Gulf.” ومع ذلك، وكما اتضح من الحصار الذي فُرض على قطر، لا تزال الخلافات السياسية والاختلافات الأيديولوجية بين أعضاء مجلس التعاون قائمة حتى يومنا هذا. وإذا ما استمرت هذه الخلافات و/أو تفاقمت، فإن وجود جيوش من المواطنين أكثر تطوراً وقوة قد يزيد من تورط المنطقة عن طريق إثارة الاشتباكات المادية والأيديولوجية بينها. ومع ذلك، بالنظر إلى الطبيعة الرمزية للتجنيد الإجباري والخدمة الوطنية في المنطقة مع قلة أوقات الخدمة وانخفاض عدد المواطنين، لا تزال مثل هذه الاشتباكات غير مرجحة.

الخلاصة

منذ بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قامت قطر والإمارات العربية المتحدة والكويت بإدخال أو إعادة إدخال التجنيد الإجباري، بسبب مجموعة من الدوافع الاقتصادية أو الاجتماعية أو الجيوسياسية. ولكن، عند دراستها بعناية، يمكن تلخيص هذه الدوافع في إطار الرغبة في خلق شعور بالانتماء الوطني والذاكرة الجماعية الموالية للسلطة الحاكمة. والهدف النهائي ليس فقط أن تكون هذه الدول دولاً ريعية، بل أيضاً أن توحد مجتمعاتها كأمة ضد جميع التهديدات (الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وما إلى ذلك).

بيد أنه من السابق لأوانه استخلاص أي استنتاجات محددة بشأن فعالية التجنيد الإجباري في تعزيز الروابط الوطنية في سياق الخليج. لا شك أن جمع أبناء الوطن تحت سقف واحد من أجل هدف واحد هو خطوة إيجابية، ولكنها تحمل قيوداً عملية وعواقب محتملة. وثمة جهد واضح من قطر والكويت والإمارات العربية المتحدة لتعزيز الروابط الوطنية واستخدامها كأداة قوة ناعمة في المنطقة. لكن الوقت وحده سيظهر كيف ستتجسد هذه الرغبة لاحقاً. هل ستكون الحرب في اليمن، وتهديد إيران، وتناقص الاعتماد العالمي على النفط، والتأثير المتزايد للجهات المسلحة غير التابعة للدولة كافية لتكون بمثابة "أعداء مشتركين" لكي تجمع بين هذه المجتمعات معاً كأمم؟ وهل ستنجح الخدمة العسكرية الإلزامية في أن تصبح أداة تعليمية مهمة في سبيل تلقين المفاهيم القومية؟ أم أن مواطني هذه الدول سيستمرون في اعتبار مفاهيم مثل الخدمة العسكرية وحب الوطن والواجب الوطني رمزية ولا يكترثون بمشروع "بناء الأمة" في دولهم؟

 

Endnotes

Endnotes
1 علّقت بعض الدول مثل إيطاليا التجنيد الإجباري في "وقت السلم".
2 بلغاريا والبوسنة والهرسك وكرواتيا وجمهورية التشيك وفرنسا وألمانيا والمجر وإيطاليا ولاتفيا ومقدونيا والجبل الأسود وبولندا والبرتغال ورومانيا وصربيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وإسبانيا والسويد والمغرب وبيرو والأرجنتين.
3 الاستنكاف الضميري هو رفض أداء الخدمة العسكرية الإلزامية على أساس حرية الفكر والوجدان والدين. في بعض البلدان، يمكن للمستنكفين ضميرياً أداء خدمات مدنية مختلفة بدلاً من الخدمة العسكرية، بينما في بلدان أخرى - مثل تركيا - يعتبر الاستنكاف الضميري غير قانوني ويعاقب عليه القانون.
4 Zoltan Barany, “Foreign Contract Soldiers in the Gulf,” Carnegie Endowment for International Peace, 5 February 2020, https://carnegie-mec.org/2020/02/05/foreign-contract-soldiers-in-gulf-pub-80979.
5 Jean-Loup Samaan, “The Rise of the Emirati Defense Industry,” Carnegie Endowment for International Peace, 14 May 2019 https://carnegieendowment.org/sada/79121;  Elenora Ardemagni, “The UAE’s Military Training-Focused Foreign Policy,” Carnegie Endowment for International Peace, 22 October 2020, https://carnegieendowment.org/sada/83033; Melissa Dalton and Hijab Shah, “Evolving UAE Military and Foreign Security Cooperation: Path Toward Military Professionalism,” Carnegie Endowment for International Peace, 12 January 2021,  https://carnegie-mec.org/2021/01/12/evolving-uae-military-and-foreign-security-cooperation-path-toward-military-professionalism-pub-83549; Elenora Ardemagni, “ Building New Gulf States Through Conscription,” Carnegie Endowment for International Peace, 25 April 2018, https://carnegieendowment.org/sada/76178; Elenora Ardemagni, “Gulf Monarchies’ Militarized Nationalism,” Carnegie Endowment for International Peace, 28 February 2019,https://carnegieendowment.org/sada/78472; Zoltan Barany, “Big News! Conscription in the Gulf,” Middle East Institute, 25 January 2017, https://www.mei.edu/publications/big-news-conscription-gulf; Dr. Eman Ahmed Abdel Halim, “Implementation of Military Conscription in the Gulf,” Future for Advanced Research Studies, 12 December 2016, https://futureuae.com/m/Mainpage/Item/2250/pressing-threats-implementation-of-military-conscription-in-the-gulf
6 Natali Gak, “The Distinction Between Levee en Masse and Wars of National Liberation," Slovenian Law Review 5, no. 1 (2008): 116.
7 Mehmet Beşikçi, “Mobilizing Military Labor in the Age of Total War: Ottoman Conscription before and during the Great War,” in Fighting for a Living: A Comparative Study of Military Labour 1500-2000, ed. Erik-Jan Zürcher, (Amsterdam: Amsterdam University Press, 2013), 547.
8 يعود تاريخ مصطلح "أمة مسلحة" إلى نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وهو يشير إلى التعبئة العامة للأمة بكاملها في أوقات الصراع، بغض النظر عن العمر والجنس والطبقة. من ناحية أخرى، يقع مصطلح الأمة العسكرية على الخط الرفيع بين محوري العسكرة والقومية، ويشير إلى القدرات التاريخية لدولة معينة في تعبئة أمة مسلحة إلى حد أنها تصبح سمة متأصلة لتلك الأمة المعينة.
9 Uri Ben Eliezer, “A Nation-in-Arms: State, Nation, and Militarism in Israel's First Years.” Comparative Studies in Society and History 37, no. 2 (1995): 267; Gak, "The Distinction Between Levee en Masse and Wars of National Liberation," 116.
10 Ayşe Gül Altınay and Tanıl Bora, “Ordu, Militarizm ve Milliyetçilik,” Iletişim Yayınları, (2002): 140.
11 Eliezer, “A Nation-in-Arms: State, Nation, and Militarism in Israel's First Years,” 267; Beşikçi, “Mobilizing Military Labor in the Age of Total War: Ottoman Conscription before and during the Great War,” 548.
12 إليونورا أردماني، "القومية العسكرية في الأنظمة الملَكية الخليجية".
13 زولتان باراني، "الجنود الأجانب المتعاقدون في الخليج".
14 ومن بين هذه الدول السعودية التي لم تتبع خطى الكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة فيما يتعلق بإدخال التجنيد الإجباري.
15 زولتان باراني، "الجنود الأجانب المتعاقدون في الخليج".
16 إليونورا أردماني، "القومية العسكرية في الأنظمة الملَكية الخليجية".
17 إليونورا أردماغني، ""شهداء" من أجل مركزية دولة الإمارات"، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، 13 حزيران/يونيو 2019، https://carnegieendowment.org/sada/79314
18 تتكون إمارة رأس الخيمة من جزئين: الجزء الشمالي (حيث تقع مدينة رأس الخيمة ومعظم المدن)، وجيب داخلي كبير في الجنوب (بالقرب من خليج حتا في دبي)، مع بعض جزيرتين في الخليج العربي. وتقع الإمارة على الحدود مع سلطنة عمان بالقرب من محافظة مسندم، وهي أقرب إمارة إلى إيران.
19 "اتساع حملة قمع الحكومة الإماراتية لجمعية إسلامية"/ منظمة هيومن رايتس ووتش، 10 أيار/مايو، https://www.hrw.org/ar/news/2012/05/10/246233
20 إليونورا أردماني، ""شهداء" من أجل مركزية دولة الإمارات".
21 منذ عام 2015، شاركت الإمارات العربية المتحدة بشكل مباشر مع المملكة العربية السعودية في اليمن لتحقيق أهداف متعددة من بينها كونها حليفاً وثيقاً للسعودية، مما قلل من نفوذ جماعة الإخوان المسلمين الذي يتجلى في حزب الإصلاح اليمني والسيطرة على خطوط الشحن في البحر الأحمر التي تقع في اليمن. بيد أنه، على عكس المملكة العربية السعودية، لم تستطع الإمارات العربية المتحدة دعم وجودها في البلاد بسبب الادعاءات المتكررة بالتعذيب والاغتيالات والاختفاء القسري، وتكبدت خسائر كبيرة في الأرواح (خاصة في الإمارات الصغيرة).
22 إليونورا أردماني، ""شهداء" من أجل مركزية دولة الإمارات".
23 في هذه الحالة، من الممكن القول إن أيديولوجية القيادة الإماراتية وآرائها السياسية تتفق مع أيديولوجية القيادة الفيدرالية. ويُعزى ذلك في الغالب إلى أن البلاد هي اتحاد للممالك المطلقة. ومع ذلك، لن يكون من الخطأ تعميم أن أيديولوجية الجيش تعكس دائماً أيديولوجية حكومات كل إمارة. في الواقع، غالباً ما تحدث التدخلات العسكرية والانقلابات بسبب الانقسام بين هذين الكيانين في وجهات النظر حول السياسة والمجتمع.
24 بعد حصولها على استقلالها، انخرطت معظم دول المنطقة (أو بالأحرى الزعماء الأفراد) في تدابير مختلفة لمنع الانقلاب بهدف إبقاء جيوشها تحت السيطرة. وقد كانت هناك أنواع مختلفة من استراتيجيات منع الانقلابات. على سبيل المثال، حتى عام 2011، حاول حسني مبارك، وهو نفسه رجل عسكري، محاصرة المؤسسة العسكرية المصرية من خلال منح الضباط والمؤسسة العسكرية منافع اقتصادية وتقديم منافسة غير عادلة إلى حد ما. في تونس، اتبع زين العابدين بن علي نهجاً مختلفاً واختار الإطاحة بالجيش كمؤسسة بالكامل وتمكين قوات الشرطة. أما في السودان وليبيا، اتبع الرئيسان السابقان البشير والقذافي نهجاً اجتماعيًا أكثر، وحاولا موازنة مختلف فئات المجتمع، وخاصة المؤسسات القبلية، كرادع ضد الجيش. وفي الخليج، لجأ الملوك الحاكمون إلى استخدام الجنود الأجانب لإبعاد الجيش عن الشؤون الاجتماعية والسياسية قدر الإمكان.
25   Halim, “Implementation of Military Conscription in the Gulf.”

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.