مقدمة
في عام 2020، عانى لبنان من انهيار اقتصادي تام، ومن استمرار الاضطرابات الاجتماعية، والضغوط الناجمة عن تفشي جائحة فيروس كورونا، والتي تفاقمت جميعها مع الانفجار الذي شهدته بيروت في 4 آب/أغسطس والذي راح ضحيته أكثر من 200 شخص، وأُصيب إثره 7500 شخص بجروح، والذي أفضى كذلك إلى نزوح ما يقرب من 300000 شخص. وبدأت مؤشرات الانكماش الاقتصادي الوشيك تظهر في صيف عام 2019 عندما بدأت قيمة الليرة اللبنانية في التراجع. وأجّجت الضريبة المقترحة على مكالمات تطبيق "واتساب" في لبنان في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 ثورة استمرت لأشهر وسعت للإطاحة بالطبقة السياسية الفاسدة. واعتباراً من آذار/مارس 2021، انخفضت قيمة الليرة اللبنانية، المربوطة بالدولار الأميركي بمعدل 1500 ليرة للدولار الواحد منذ عام 1997، إلى ما متوسطه 23000 في آب/أغسطس 2021، وفقدت ما يقرب من 90٪ من قيمتها في 18 شهراً. وبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، تضاعف عدد من يعيشون تحت خط الفقر في لبنان، وتضاعف عدد من يعيشون بالفعل في فقر مدقع ثلاث مرات خلال العام الماضي. وبحلول آب/أغسطس 2021، بات يعاني معظم اللبنانيين من انقطاعات عديدة في التيار الكهربائي، وما كانوا ينعمون بالكهرباء سوى لبضع ساعات فقط في اليوم. وقد تفاقم هذا الوضع بسبب اتخاذ البنك المركزي قراراً برفع الدعم عن الوقود، ما ترك العديد من موزّعي الوقود يكدّسون مخزوناتهم ويبيعون الوقود بأسعار أعلى. لذا تجد المستشفيات نفسها في حالة يُرثى لها. وأصدر المركز الطبي في الجامعة الأمريكية في بيروت ( AUBMC ) بياناً في 14 آب/أغسطس 2021 مفاده أنه لن يكون لديه ما يكفي من الوقود في غضون يومين، ما قد يؤدي إلى وفاة 150 مريضاً موضوعين على أجهزة التنفس الصناعي وأجهزة الغسيل الكلوي.
وبسبب هذه الكوارث المتعددة، عانى اللبنانيون من ضغوط كبيرة أضرّت بصحتهم النفسية. وبرغم الاضطرابات السياسية التي عانى منها اللبنانيون على مر تاريخ طويل، تعتبر مناقشة القضايا المتعلقة بالصحة النفسية من المحرمات الثقافية في لبنان. ويُفضي ذلك بدوره إلى الفشل في معالجة القضايا ذات الصلة بالصحة العقلية والتي تعود إلى عدة أجيال، وتجلّى أثر ذلك عندما انتشر مرض فقدان الذاكرة في جميع أنحاء البلد الذي مُنيَ بالحرب الأهلية.
لا تزال الاستجابات المرتبطة بالصحة النفسية في لبنان والمنطقة بشكل عام غير مدعومة. وفي الأشهر المقبلة، ستعقّد التحديات المحيطة بهذا القطاع الصحي من عملية خروج لبنان من الأزمة. لذلك تسعى هذه الورقة إلى التحقيق في الوضع الحالي لنظام الصحة النفسية في لبنان وتقدم توصيات سياسية لتحسين قدرته على التكيف عند الاستجابة لهذه الأزمة متعددة الأوجه. ومن خلال نظام الصحة النفسية والبنية التحتية، سنُشرك في هذه المهمة المؤسسات العامة المهتمة بالصحة النفسية والمستشفيات الخاصة بالإضافة إلى العديد من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني (المنظمات الحكومية غير الهادفة للربح وما إلى ذلك) التي تقدم خدمات الدعم النفسي والاجتماعي. وستكون معالجة الصحة النفسية في لبنان ضرورية لتخفيف المعاناة التي يئن منها السكان، وستساعد أيضاً في تحقيق أهداف ثورة تشرين الأول/أكتوبر 2019 للانفصال عن الماضي وموروثاته. وسيتطلب الانتقال السياسي الجوهري أدوات لإدارة احتياجات الصحة النفسية، والتي ستعتمد بدورها على مدى قدرة المواطنين على إنشاء مؤسسات الدولة وتنظيمها وإعادة تصورها وعلى تحقيق الاستقرار السياسي العام للبلد.
لماذا تعتبر الصحة النفسية مهمة لمعالجة الأزمة؟
غالباً ما تؤدي الصدمة إلى تشويه الذاكرة الجماعية أو الفردية. وفي سياق المجتمعات التي يمزقها الصراع، يقوم الأفراد بقمع ذكريات تواطؤ مجتمعهم في جرائم الحرب، ويصفون أفعالهم بأنها دفاع عن النفس. علاوة على ذلك، يمكن للعقيدة والتسلسل الهرمي الراسخ والمخاوف القائمة على الهوية المستمدة من الصدمة أن تجعل الناس يصوّتون أو يدعمون سياسياً الكيانات التي لا تخدم مصالح الفرد أو المجتمع المعني. وبالانتقال إلى الولايات المتحدة، يمكننا أن نلاحظ وضع الطبقة العاملة البيضاء، حيث يكون ولاء العديد من المواطنين في جميع أنحاء "أمريكا المنسية" للفاعلين السياسيين بسبب مخاوفهم من فقدان "أسلوب حياتهم" المتصوَّر أو الموارد المتمخّضة عن الحراك الاجتماعي المتزايد للأقليات. وفي الواقع، تضر سياسات الفاعلين السياسيين الذين يدعمونهم بهذه المجتمعات (فهي تحد من الوصول إلى الرعاية الصحية والاجتماعية، وتقوّض الحماية البيئية، وما شابه ذلك). وقد أدى الاضطراب الملحوظ لهويتهم المُتخيلة على قمة التسلسل الهرمي الاجتماعي في المشهد الأميركي إلى قيام البعض بالتعاطف مع القوى السياسية على حساب صحتهم وسبل عيشهم. على سبيل المثال، تزعم الحملات التي أطلقها "الاتحاد القومي الأمريكي للأسلحة" أن امتلاك الأسلحة سيعيد امتياز الرجل الأبيض و"توازن القوى"، في حين أن الأسلحة النارية في الواقع قد ثبت أنها أحد الأسباب الرئيسية لانتحار الذكور البيض. وسيستغل القادة الذين يسعون إلى تعزيز سلطتهم وتأمينها هذه المظالم المشحونة عاطفياً وتاريخياً. وهذه الطريقة فعالة بشكل خطير، خصوصاً أنها تربط المشاركة السياسية بهذه المظالم، وعليه تبرز قصة الضحية التخيلية والرغبة في الهيمنة.
وبالمثل، في الحالة اللبنانية، يمكننا أن نرى تشابهاً في كيفية مواصلة المجتمعات المختلفة دعم الأحزاب الطائفية وأفرادها سياسياً بغض النظر عن سجلهم الحافل بنشر المعلومات المضللة وبالإفلات من العقاب على سلوكهم الإجرامي والفساد. ووفقاً للاتجاهات الواردة في المؤلّفات، لا سيما فيما يتعلق بآثار المحسوبية، قد يجادل بعض العلماء بأن أعضاء المجتمعات المختلفة، المتأثّرين بسياسات الهوية القائمة على الخوف، يواصلون إما تجاهل أو تبرير تصرفات قادتهم الطائفيين بسبب اعتقادهم بأن حياتهم على المحك وأن مصيرهم يقع في أيدي هؤلاء القادة. ولا تتفاقم هذه التبعية إلا من خلال صدمات الماضي التي تزامنت مع الانقسامات الطائفية. والسمة الأخرى المشتركة بين المجتمعات المتضررة من الصراع العنيف هي الصدمات المتتابعة. ويحدث هذا عندما يتم بلا وعي معالجة سلسلة من الأحداث الصادمة التي تشمل الاعتداءات الخفية والكثير من الاعتداءات العلنية، والتي يمكن أن تتراكم لتشكّل اضطراب ما بعد الصدمة. وقد يؤثر تراكم الصدمات بين السكان على قدرتهم على الرد على التجاوزات التي تُرتكب من جانب الطبقة السياسية الحاكمة. لذا أضحت معالجة التداعيات النفسية للاضطرابات السياسية بشكل مناسب أكثر أهمية، وقد تساهم في تحقيق الاستقرار السياسي.
الصحة العقلية في لبنان
لطالما تعرض الشعب اللبناني للصدمات المرتبطة بالنزاع وعدم الاستقرار الداخلي، ما أحدث مجموعة من اضطرابات الصحة العقلية. وحتى قبل الأزمة الحالية التي طال أمدها، كان حوالي ربع البالغين في لبنان يعانون من اضطراب نفسي واحد، ما يدل على ارتفاع معدلات الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة (حوالي 25٪). ويعود تاريخ آخر دراسة شاملة أُجريت حول انتشار الاضطرابات المختلفة في لبنان إلى عام 2006. ووفقاً لهذه الدراسة، كانت الاضطرابات الأكثر شيوعاً بين اللبنانيين هي الرهاب والاكتئاب والقلق، وكانت هذه الاضطرابات مرتبطة غالباً بالصدمات التي أحدثتها الحرب. وتبّين أن الاكتئاب هو الاضطراب الفردي الأكثر شيوعاً في لبنان، حيث سُجّلت معاناة 16.7٪ من السكان باضطرابات القلق ومعاناة 12.6٪ من الاضطرابات المزاجية. وعانى ما يقرب من 4.3٪ من السكان أيضاً من الأفكار الانتحارية. والأفراد الذين تعرّضوا لصدمات مرتبطة بالحرب يكونوا مهددين أكثر للإصابة بواحدة من هذه الاضطرابات، حيث يكونون أكثر عرضة ثلاث مرات للإصابة باضطراب المزاج وأكثر عرضة مرتين للإصابة باضطراب القلق. ومن المحتمل أن يكون لهذا الخطر المضاعف تأثير واسع في لبنان، حيث تعرض ما يقرب من 70٪ من السكان لواحدة أو أكثر من حالات الصراع العنيف.
الهياكل الحالية
ثمة ثلاث جهات فاعلة رئيسية داخل لبنان مسؤولة عن تلبية الاحتياجات الأساسية للصحة النفسية؛ أولاً: هناك المؤسسات العامة التي تتكون من فروع مختلفة تحت مظلة وزارة الصحة. ثانياً: هناك المستشفيات والعيادات الخاصة، وهذه تمارس عملها خارج المجال العام. ثالثاً: هناك مجموعة من المؤسسات غير الحكومية -المحلية والدولية- التي تمارس أنشطتها داخل المجتمع المدني، وتضطلع بسد الفجوات التي تعجز هياكل الدولة عن سدها. تحاول الأقسام التالية في هذه الورقة استكشاف دور كل من هذه الجهات في علاج الصحة النفسية للسكان.
المؤسسات العامة
قبل عام 2013، كانت مهمة إنشاء البنية التحتية لمؤسسات الصحة النفسية منوطة -في المقام الأول- بالقطاع الخاص، وبعبارة أوضح: المستشفيات الخاصة. وكانت المنظمات غير الحكومية -المحلية والدولية- تعمل جنباً إلى جنب مع هذه المؤسسات الخاصة. أطلقت وزارة الصحة العامة في 2014 البرنامج الوطني للصحة العقلية، بجانب استراتيجية الصحة النفسية واستخدام المواد المسببة للإدمان التي تمتد لخمس سنوات، وذلك لتعزيز الالتزام بخطة العمل الدولية التي أقرتها منظمة الصحة العالمية بخصوص الصحة النفسية 2013-2020. كان الهدف من هذه الإستراتيجية هو تدريب العاملين في مجال الرعاية الأولية، ونشر العلاجات التي ثبتت فاعليتها بالأدلة، وزيادة إمكانية وصول اللاجئين السوريين للخدمات. أما الدعامة الأخرى التي قامت عليها هذه المبادرة، فهي توسيع نطاق الدعم الممنوح للأبحاث في هذا المجال؛ تلك الأبحاث التي تشمل المشاريع التي تهدف إلى تحسين إمكانية الوصول لبرنامج المعالجة المطورة للمشكلات باستخدام التكنولوجيا الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية، كما هدفت المبادرة إلى تعزيز وإثراء البرامج المماثلة لخدمة الأطفال والمراهقين، وتطوير الدعم النفسي والاجتماعي الذي يركز على الأسرة للشباب المعرضين للخطر. جرت عادة وزارة الصحة العامة في أغلب الأحيان بالتعاقد مع المستشفيات الخاصة لخدمة المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية داخلية. وقبل انفجار بيروت، كان هناك فقط ثلاثة مستشفيات للأمراض العقلية وخمس وحدات للأمراض النفسية عاملة داخل المستشفيات العامة.
إذا ما نظرنا إلى الشمولية والتغطية، سنجد أن وزارة الصحة العامة تخصص 1% فقط من ميزانيتها للمرضى الباحثين عن علاج للاعتلالات النفسية؛ وهذه النسبة تُوجه لدعم الحالات التي تحتاج إلى الاستشفاء في واحدة من ثلاثة مستشفيات حكومية مخصصة للأمراض النفسية، بجانب نسبة ضئيلة للاستشفاء في الوحدات الخاصة. كما توفر الوزارة الأدوية النفسية. يغطي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الاستشفاء في إحدى المستشفيات الثلاثة المحددة، والأدوية النفسية، وجزءًا من رسوم الاستشارة النفسية في الوحدات الخاصة. كما يتمتع أفراد الجيش وموظفي الحكومة بدعم يغطي نفقات الأدوية، ونسبة من تكاليف الاستشارة، والاستشفاء.
يحظى موظفو الحكومة -على وجه الخصوص- بتأمين صحي تتكفل به تعاونية موظفي الخدمة العامة؛ كما تغطي المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ما بين 85 إلى 90% من الرسوم المطلوبة من اللاجئين السوريين، وتكلفة اختبار تفاعل البوليمرات التسلسلي PCR لفيروس كورونا (كوفيد-19)، بينما تتكفل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين بدفع الرسوم المطلوبة من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وثمة مؤسسات غير حكومية مختلفة في المجتمع المدني تتكفل بنفقات اللبنانيين الآخرين غير القادرين على تحمل تكاليف التغطية أو التأمين. وبالنظر إلى المهمشين والضعفاء، فقد حددت الحكومة 13 جماعة مهمشة/مستضعفة، وذلك ضمن استراتيجيتها التي تهدف إلى تحسين خدمات الصحة النفسية في البلاد. غالباً ما يكون هؤلاء من الأفراد الذين ليس لديهم هوية قانونية لدى الدولة، ويواجهون عراقيل عدة في سبيل الوصول إلى الخدمات. أيضاً لا يزال دعم مجتمع الميم مقصوراً على الخدمات المتاحة في بيروت، إذ تضطلع المؤسسات غير الحكومية مثل موزاييك Mosaic والجمعية الطبية اللبنانية للصحة الجنسية و جمعية العناية الصحية SIDC والهيئة الطبية الدولية بدور حاسم داخل هذه الجماعة.
في عام 2013، أنشأت وزارة الصحة العامة -بالاشتراك مع منظمة الصحة العالمية واليونيسيف- فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي ووفقاً لموظف سابق في هذا الفريق، فإن هذه الوحدة تنسق عملها مع 62 جهة فاعلة من الجهات غير الحكومية في مجال النفسية والعقلية، كما تسعى إلى تنفيذ مختلف التدخلات التي ثبتت فعاليتها بالأدلة. تتضمن هذه الاستراتيجيات دمج الصحة النفسية ضمن برامج الرعاية الصحية الأولية، وتطوير فرق عمل مجتمعية متعددة التخصصات في مجال الصحة النفسية، وتدريب مقدمي الخدمة على العلاج النفسي القائم على التواصل الشخصي، وتجربة تقديم خدمات الصحة النفسية إلكترونياً. وبعد انفجار بيروت، قدمت هذه المبادرة أيضاً لأخصائيي الصحة النفسية دليلاً شاملاً عن تقديم الدعم النفسي للمتضررين.
كما أوضح الموظف السابق في فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي كيف أن مخاوف الجمهور التي تكتنف ثقتهم في الحكومة لم تؤثر على عمل الفريق، وذلك لأنهم كانوا خبراء في هذا المجال، ومحايدين سياسياً، ويتمتعون بالشفافية. تتمثل إحدى الطرق التي قال الفريق إنه يعمل من خلالها في تحديد أي الجهات الفاعلة التي تضطلع بمسؤولية قضية معينة، وتسليط الضوء على الخدمات المتاحة والاضطرابات العقلية الأكثر انتشاراً، وذلك عبر منصة تديرها الوزارة. وقّعت المنظمات والجهات الفاعلة ذات الصلة اتفاقيات تفاهم مع الفريق، والتي بموجبها وافقت هذه الجهات على تقديم تقارير عن أنشطتها، وفي المقابل سيكون بإمكانهم الوصول إلى المعلومات المتعلقة باحتياجات عموم السكان التي رصدها الفريق. لكن على الرغم من العلاقات الإيجابية التي يقال إنها تربط فريق عمل الصحة النفسية و الدعم النفسي الاجتماعي بهذه المنظمات، إلا أن هذه الأخيرة لا تقدم تقارير شاملة للفريق عن كل الأنشطة التي تقوم بها بسبب عبء المهام التي تقع على عاتقها، بدايةً من الالتزامات تجاه المانحين الخارجيين و/أو عدم ارتباط تقديم هذه التقارير بأي دعم يحفزها على إنجازها.
أجرينا مقابلة مع دكتور جورج كرم لنفهم المزيد عن الدور الذي تقوم به الجهات الفاعلة من المجتمع المدني في وقت الأزمة.
المنظمات غير الحكومية (المحلية والدولية)
على العكس من الادعاءات التي أطلقتها وزارة الصحة، فإننا نرى لدى الجهات الفاعلة من المجتمع المدني سردية مختلفة تماماً فيما يتعلق بعملها مع الوزارة على أرض الواقع. فقد أكد الدكتور جورج كرم، رئيس "معهد التنمية والبحث والمناصرة والرعاية التطبيقية" (إدراك) -وهي منظمة غير حكومية- أن وزارة الصحة العامة لم تبذل ما يجب من جهدٍ من أجل توفير الموارد اللازمة للجهات الفاعلة من المجتمع المدني، والتي تؤدي دورها باعتبارها جزءًا من فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي. بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وادعى أن الوزارة لم تفِ بما عليها من التزامات تجاه معالجة القضايا التي أثارتها المنظمات غير الحكومية المختلفة. فمثلاً؛ فيما يتعلق بنقص الخدمات والمرافق النفسية للمرضى الداخليين بسبب الجائحة، لم تفعل الوزارة شيئاً بعد عام ونصف من التقاعس، سوى أن فوضت إلى عدد من المنظمات غير الحكومية المختلفة مسؤولية جلب الأموال اللازمة لبناء مرافق جديدة.
من بين المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال الرعاية الصحية النفسية؛ تظل الهيئة الطبية الدولية، وأبعاد ABAAD، منظمة "أمبريس" وإدراك، ومنظمة أطباء بلا حدود أكبر الجهات التي تجمعها شراكة مع وزارة الصحة العامة. وفيما يتعلق بفيروس كورونا (كوفيد-19) على وجه التحديد، كان هدف فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي من العمل مع هؤلاء الشركاء هو رفع الوعي حول طرق التعامل مع الضغوط الناتجة عن الأزمة، وإرشاد الأفراد إلى خطوط الخدمات المحلية ومراكز الاتصال، وتوفير الدعم النفسي لكل من المعزولين في الحجر الصحي، والعاملين في الخطوط الأولى في مجال الرعاية الصحية.
قدمت جمعية "إدراك" بعض الأمثلة على الأنشطة التي تقوم بها المؤسسات غير الحكومية لدعم وتحسين الصحة النفسية. فقد اضطلعت "إدراك" بدور حيوي في العمل الأكاديمي المتقدم في مجال الصحة النفسية، وذلك بإنتاج أكثر من 200 منشور علمي. علاوة على ذلك، فقد دعا المعهد إلى ضرورة إصلاح التشريعات المتعلقة بالصحة النفسية. من ناحية أخرى، تمثلت استجابتهم لتفجير ميناء بيروت في تدشين عيادة مجانية لتقديم الإسعافات الأولية النفسية والتشخيصات والتقييمات النفسية، بالإضافة إلى خط ساخن يعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع.
الفجوات والتحديات
ما قبل الأزمة
هناك فجوات في البنية التحتية للصحة النفسية في لبنان. بغض النظر عن الاحتياج العام لمزيد من التمويل والخبرات، فإن أحد التحديات الرئيسية يتمثل في إرساء نظام إحالة قوي بين كافة مستويات الرعاية، وذلك لضمان وصول الأشخاص المصابين باضطرابات نفسية للخدمات الطبية الداخلية والخارجية. في لبنان، هناك 1.5 طبيب نفسي لكل 100 ألف نسمة، وغالب هؤلاء الأطباء يعملون في عيادات خاصة أو منظمات غير حكومية. وبالإضافة إلى النقص الحاد في الموارد، فإن الغالبية العظمى من اللبنانيين الذين يعانون من اضطرابات نفسية مزمنة لا يبحثون أصلاً عن المساعدة أو العلاج بسبب انخفاض الوعي بهذه الاضطرابات، بجانب عوائق أخرى (مثل العجز المالي، ونقص الموارد) والوصم الاجتماعي. فقد أظهرت دراسة أُجريت في لبنان أن الأفراد الذين يعانون من أعراض القلق المرضي، ربما يمكثون من 6 إلى 28 عاماً قبل البحث عن العلاج المناسب وتلقيه، وذلك بسبب العوائق المجتمعية سالفة الذكر. يمكن أن يؤدي عدم التعرف على تلك الحالات إلى تفاقم هذه الاضطرابات المزمنة بسرعة وتحولها إلى حالة من الوهن والتدهور. تحظى خدمات الصحة النفسية بأقل القليل من دعم الدولة، والتغطية التأمينية المخصصة لها قليلة جداً، أو معدومة. تتركز هذه الخدمات في المناطق الحضرية، ولا تزال ترسف في القيود التي يفرضها نقص التمويل. تتبدى القيود الجغرافية بجلاء في مناطق مثل عكار ومرجعيون والمناطق القريبة من الحدود اللبنانية الإسرائيلية ومنطقة بعلبك/الهرمل، التي لا تزال منطقة نائية، وتعاني نقصاً في العاملين بقطاع الصحة النفسية.
الأزمة الراهنة
تفاقمت هذه التحديات المتعلقة بالصحة العقلية بسبب الانهيار الاقتصادي الذي شهدته البلاد بدءاً من تشرين الأول/أكتوبر 2019، الأمر الذي أدى إلى زيادة هذه العوائق أمام أولئك الذين يعانون من أمراض عقلية مزمنة أو اضطرابات جديدة، ولا سيما بالنسبة للفئات السكانية المستضعفة بصفة خاصة، مثل الفئات ذات الدخل المنخفض، والمجتمعات المهمشة (مثل اللاجئين والعمال المهاجرين وغيرهم). في حين أصبحت نوبات الاكتئاب أكثر انتشاراً في أعقاب الاحتجاجات التي اندلعت في مختلف أنحاء البلاد في الفترة نفسها وما تلاها من أزمة اقتصادية. وفي أعقاب انفجار بيروت في آب/أغسطس 2020، وصل العديد إلى مستويات من الاكتئاب المرضي.
فضلاً عن ذلك، انتكست الحالة الصحية للأفراد الذين يعانون من اضطرابات نفسية أخرى منذ ذلك الحين. في حين تُشير التقارير الصادرة عن البرنامج الوطني للدعم النفسي والخط الساخن للوقاية من الانتحار في لبنان، الذي أطلقته منظمة "أمبريس" غير الحكومية، أنها تلقت ثلاثة أضعاف المكالمات في عام 2020 مقارنة بما كانت عليه في عام 2019، وهذا يعزى جزئياً إلى العوامل الموضحة أعلاه بالإضافة إلى الضغوط الناجمة عن إجراءات الإغلاق المرتبطة بفيروس كورونا. وقد تزامنت هذه الزيادة في الاحتياجات مع ضربة قاصمة لقدرة الدولة على الاستجابة لتلبيتها.
وفي عام 2020، تسبب انفجار بيروت في تدمير وحدتين للأمراض النفسية لرعاية المرضى المقيمين في المستشفى، في حين أُغلقت وحدات أخرى بسبب النقص في الأسرّة في ظل جائحة كورونا. بيد أن لبنان كان يعاني بالفعل من نقص في الأسرّة في هذه الوحدات حتى قبل انفجار بيروت. وحث رئيس جمعية "إدراك" على ضرورة توفير مزيد من المرافق النفسية لرعاية المرضى الداخليين بسبب هذا الوباء، وهو ما أخفقت وزارة الصحة في تنسيقه. وأضاف الدكتور كرم أن نقص الأدوية أصبح أكثر شيوعاً لأن المرضى قاموا بترشيد ما يكفي لأشهر من أدوية العلاج النفسي عند تخزينها مجدداً بسبب الأزمة الاقتصادية وقرار البنك المركزي بعدم تقديم الدعم للأدوية.
وعلاوة على ذلك، يتعين على التنظيمات والمبادرات الحالية أيضاً بذل مزيد من الجهود للاعتراف بمستويات الضعف المختلفة التي يعاني منها مختلف الفئات السكانية، ولا سيما اللاجئين والأشخاص عديمي الجنسية والعاملين في الخدمة المنزلية، والاستجابة لها على نحو ملائم. وفي ضوء جائحة كورونا، تفاقمت أوجه الضعف القائمة هذه، مما أدى إلى ظهور مجموعة من اضطرابات الصحة العقلية. وبالنسبة لكثير من الأفراد في هذه المجتمعات، أدى القلق بشأن التهجير والإخلاء والتمييز واحتمال فقدان سبل معيشتهم إلى معاناة نفسية اجتماعية هائلة.
وفي نيسان/أبريل 2020، أفادت التقارير بوقوع مزيد من حوادث الانتحار بين اللاجئين، إلى جانب ارتفاع حالات التهديد بإيذاء النفس وإيذاء الآخرين والعنف المنزلي والطلاق. وبسبب الضغوط المحيطة بالسكن وعمليات الإخلاء، تتعرض اللاجئات بصفة خاصة لخطر التعرض للعنف الجنسي والعنف الجنساني في هذا الصدد. ونتيجة لهذه العوامل، يعاني اللاجئون من مستويات أعلى من اضطرابات الصحة العقلية، ولا سيما القلق، الذي قد يؤدي إلى عودة هذه الاضطرابات بصورة متكررة على المدى الطويل وعلى نحو أكثر حدة. في حين يُقدر انتشار الاكتئاب بين اللاجئين بنحو 1 من كل 4 لاجئين.
بالإضافة إلى اللاجئين والمشردين، فقد تفاقمت أيضاً الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المماثلة التي يتعرض لها المهاجرين العاملين في الخدمة المنزلية في لبنان بسبب تلك الأزمة المتعددة الجوانب. فوفقاً لمنظمة أطباء بلا حدود، ظهرت أشد أعراض اضطرابات الصحة العقلية على العاملات المهاجرات اللاتي تواصلن معهن لتقديم الخدمات النفسية والاجتماعية، إذ تعاني 30% منهن من اضطرابات اكتئابية وتعاني 27% منهن من أعراض الاضطرابات النفسية منذ بداية الجائحة.
بحسب ما ذكره عضو سابق في فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، لا تزال الوصمة الاجتماعية والشواغل المتعلقة بالسرية المحيطة باضطرابات الصحة العقليّة من أكبر التحديات التي تواجه العلاج في لبنان اليوم. وفي دراسة حديثة، أشار المشاركون إلى عدم الثقة في نظام الرعاية الصحية، وكمية الخدمات المُقدمة، وقدرة المتخصصين على تلبية الاحتياجات بشكل ملائم واحترام السرية. وعلاوة على ذلك، لا يدرك الكثير من الناس مدى قرب المنظمات والخدمات المتاحة لهم. ونتيجة لذلك، لا تستهدف هذه المنظمات في كثير من الأحيان سوى الفئة نفسها أو الأشخاص أنفسهم في حملاتها، وهم عادة من المراهقين ومن لديهم إمكانية الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي.
وبالرغم من أن وزارة الصحة نظمت العديد من الحملات المختلفة على شاشات التلفزيون، فقد أصبح هذا النهج نادر الحدوث منذ اندلاع الأزمات الأخيرة. في حين بات الأشخاص الذين يعانون من وضع اجتماعي واقتصادي متدني، وكبار السن وأولئك الذين يعانون من اضطرابات عقليّة شديدة، هم على الأرجح الذين لا ينالوا نصيبهم من الرعاية والاهتمام وتقديم الخدمات. فضلاً عن أن العضو السابق في فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي، أشار إلى أن التمويل شكل مصدر قلق حتى انفجار بيروت. بيد أنه في أعقاب الانفجار، حدث تدفق في التمويل والخدمات، الأمر الذي أدى بدوره إلى زيادة جهود التوعية.
توصيات بشأن السياسات العامة واستراتيجيات مستقبلية
توصيات بشأن السياسات العامة
يبدو أن تحسين طرق معالجة احتياجات الصحة العقلية في لبنان أمراً بالغ التعقيد، غير أنه في ضوء الأحداث الأخيرة، أصبح له أهمية قصوى. ويتطلب التصدي لمجموعة التحديات ذات الصلة وجود طائفة متنوعة من الأدوات والحلول.
على صعيد الحوكمة والإدارة، حث عضو سابق في فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي على سن بعض مشاريع القوانين التي أهملها البرلمان، على سبيل المثال، أحد القوانين التي من شأنها أن تجعل فريق عمل الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي جهازاً رسمياً تابعاً لوزارة الصحة، وله ميزانية كبيرة. ومن شأن هذا الاعتراف أن يضفي على الإدارة المعنية بالصحة العقلية مزيداً من الشرعية، وبالتالي يؤدي إلى جعل دورها في الصحة العامة طبيعياً على نطاق أوسع. ومن شأن تخصيص مزيد من التمويل لهذه الإدارة أن يسمح أيضاً بتوفير مزيد من الخدمات إلى الأفراد، نظراً إلى أن 1% فقط من الأموال تصل إلى هذه الإدارة، ولا سيما من أجل تحسين سُبل تقديم الرعاية للمرضى الخارجيين، فضلاً عن الاستشفاء داخل المستشفيات. ومن الأمثلة الأخرى على أحد مشاريع القوانين الذي قدمه البرلمان وأهمله، هو قانون تقنين الماريجوانا والأشخاص المتضررين من الاضطرابات الناشئة عن إساءة استعمال المواد المخـدِّرة، الذي من شأنه أن يُشجع على زيادة التركيز على إعادة التأهيل وإعادة الإدماج بدلاً من إخضاع مُتعاطي الماريجوانا لعقوبات قاسية بالسجن.
علاوة على إساءة استعمال المواد المخـدِّرة، فإن القانون الوحيد القائم والمتعلق بالصحة العقلية في لبنان هو قانون "رعاية وعلاج وحماية المرضى العقليين" (مرسوم اشتراعي رقم 72، بتاريخ: 09/09/1983). وقد أشار المحاميان نزار صاغية ورنا صاغية إلى أن هذا القانون لا يتوافق مع المعايير الدولية. وفي عام 2014، قامت جمعية "المفكرة القانونية" بمراجعة وتنقيح القانون، واقتراح بعض التعديلات، التي أقرها البرنامج الوطني للصحة النفسية التابع لوزارة الصحة. ومن شأن مشروع القانون أن يحدد مفهوم الصحة العقلية على أساس المعايير الدولية، وأن ينص على إجراءات واضحة لتعزيز العلاج ومسؤولية الدولة الواضحة عن تحقيق هذه الأهداف. وستفي الدولة بالتزاماتها سواء من خلال التمويل المخصص للرعاية المجانية للمرضى الخارجيين وإنشاء مراكز مجتمعية للرعاية الصحية النفسية من أجل الوقاية والعلاج وإعادة التأهيل. فضلاً عن ذلك، سيعطي هذا القانون الأولوية لثلاثة أهداف: أولاً، حماية حقوق الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية وحقوقهم الأساسية، وخاصة ضد التمييز والوصم. وثانياً، سيتناول القانون المخاوف المتعلقة بالمساواة في الحصول على الخدمات، وثالثاً، سينظم القانون حالات إدخال المرضى ضد رغبتهم إلى مصحات الأمراض العقلية من خلال ضمانات قضائية. غير أن هذه النسخة المحدثة من القانون لا تزال مجرد مشروع حتى الآن.
وعلى صعيد البحث، فإن آخر دراسة شاملة حول اضطرابات الصحة العقلية وانتشارها في أوساط اللبنانيين جرت منذ ما يزيد عن 10 سنوات، مما يؤكد ضرورة إجراء دراسة حديثة وشاملة، لا سيما في أعقاب الحالات المختلفة للصدمات الجماعية التي شهدها العامين الماضيين، وما تلاها من احتياجات الصحة النفسية. وبصفة عامة، ثمة حاجة إلى إجراء مزيد من البحوث لتبرير السبب وراء تغيير التشريعات والسياسات والتمويل والخدمات إلى نُهج بديلة فعالة من حيث التكلفة بالنسبة لمن هم في حاجة إليها، وضرورة أن تظل متأصلة في النماذج القائمة على حقوق الإنسان والنماذج المجتمعية التي تخضع للمراقبة المستمرة.
وأما فيما يتعلق بنظام الرعاية الصحية نفسه؛ فيجب أن تكون هناك حملات يسهل على غير الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي ومن يعانون من وضع اجتماعي واقتصادي متدنٍ الوصولُ إليها؛ فمن الممكن لهذه الحملات أن تضع ضمن خططها الظهورَ على القنوات الإخبارية المحلية، وهي القنوات التي يتابعها مشاهدون من مختلف الديموغرافيات نظراً لانتشار التلفاز على نطاق واسع أكثر من مواقع التواصل الاجتماعي. وفقاً لما أدلى به موظف سابق في وزارة الصحة، فإن ظهور أخبار حملات الصحة النفسية على القنوات الإخبارية كان شائعاً قبل انفجار بيروت، ولكن يبدو أنه آخذ في التراجع منذ ذلك الحين. يجب على هذه الحملات أن تتصدى بقوة لأكثر عوائق العلاج النفسي انتشاراً، وتحديداً الوصم الاجتماعي والتكتم اللذان يلاحقان من يبحثون عن دعم الصحة النفسية في لبنان. كذلك يجب أن تتضمن الحملات التوعوية التي تدشنها هياكل الدولة توعيةً حول استراتيجيات المواجهة والوقاية التي تقدم وتطبّع ثقافة الرعاية غير الرسمية، قبل وصول الأفراد إلى اضطرابات الصحة العقلية التي تتطلب دخول المستشفى. وعند هذه النقطة، يجب إنشاء نظام إحالة فعّال، من شأنه أن يوسع الروابط التي بناها فريق عمل الدعم النفسي والاجتماعي والجهات الفاعلة من المجتمع المدني، وذلك لضمان أن يتلقى الأفراد رعاية مستمرة. وبحسب ما ذكره مؤسس جمعية "إدراك"، فإن الدراسات التي أجرتها الجمعية تُظهر أن عدم سعي الأفراد وراء رعاية الصحة النفسية هو في المقام الأول بسبب نقص المعلومات عن الخدمات المتاحة، أكثر من كونه ناتجاً عن محدودية الموارد المالية. وهذا بدوره يسلط الضوء على الحاجة المتزايدة لرفع الوعي باضطرابات الصحة النفسية، وكذلك الموارد المتاحة.
وأخيراً؛ نظراً للطلب المتزايد على خدمات الصحة النفسية عن بُعد بسبب جائحة كورونا (كوفيد-19)، فيمكن للمبادرات التي توفر خدمات الصحة النفسية عن بُعد أن تمثل طوق نجاة للفئات الضعيفة والمهمشة في لبنان، لا سيما في المناطق التي تكون فيها الخدمات لا تسمن ولا تغني من جوع؛ كما أن هذه المبادرات قد تكون فعّالة بالنظر إلى تكلفتها، ومرنة بما يكفي لتتكيف مع السياقات المتغيرة. ورغم مخاوف هذه الفئات بشأن سرية المعلومات الحساسة، وحماية البيانات والخصوصية، والعراقيل الناتجة عن تدهور البنية التحتية (الكهرباء والاتصال بالإنترنت)، إلا أن هذه المبادرات يمكنها أن تساعد في رفع جزء من العبء الذي يتحمله نظام الرعاية الصحية بسبب الزيادة الهائلة في احتياجات الصحة النفسية.
توصيات حول السياسة الخاصة بالصدمات
فيما يتعلق بالسياسات الخاصة بالصدمات الناتجة عن الكوارث، فإن السياسات الحكومية مطلوبة بشكل عام من أجل تحديد أهداف ومقاصد استجابات الرعاية الصحية النفسية والاجتماعية والعقلية في حالات الكوارث؛ ويجب أن تكون الاستراتيجيات التي تعتمدها هذه السياسات لوضع البنية الأساسية للرعاية مبنيةً على الأدلة. كما يجب وضع السياسات السريرية المناسبة لموظفي الرعاية الصحية بشأن الفحوصات المناسبة.
تتجه نماذج علم نفس الكوارث نحو اتخاذ التدابير النفسية الوقائية، وذلك من أجل الاستعداد بشكل أفضل قبل وقوع الكوارث. , لذلك من الضروري أن يكون لدى لبنان خطط مستقبلية لتوفير الرعاية الصحية النفسية والاجتماعية والعقلية في حالة وقوع كارثة، على أن تتضمن هذه الخطط كلاً من المراحل الفورية وطويلة المدى فيما بعد الكوارث. إذ إن الافتقار إلى هذه الأنواع من السياسات يتسبب في تأخيرٍ كبير في تقديم الرعاية النفسية المناسبة.
من المهم أثناء التخطيط الوقائي، وتحديداً في مرحلة وضع السياسات؛ الأخذُ في الاعتبار أن كل مرحلة من مراحل ما بعد الكارثة لها مجموعة محددة من الأهداف الضرورية. ففي المراحل الفورية يُنصح بإجراء تقييم مبدئي للاحتياجات النفسية، وتحديد الفئات الأكثر عرضة للخطر، والإسعافات النفسية الأولية؛ وهذه الأخيرة تتضمن اتخاذ تدابير مدعومة بالأدلة لتهدئة ضحايا الكوارث، وتقليل فرص تفاقم اضطرابات نفسية مستقبلية. ومن الممكن تحقيق هذا الغرض عن طريق البحث عن الأفراد المعرضين للخطر، وتوفير وسائل السلامة والراحة، والعمل على إعادة الاستقرار للمرضى المنهكين، وتوفير المعلومات اللازمة حول أساليب التأقلم وتوصيلهم بمراكز تقديم الخدمات التي يحتاجونها، إذا لزم الأمر. ومن الممكن أن يقوم على تقديم هذه الخدمة متخصصون غير مدربين مثل العاملين في الاستقبال، أو غرف الطوارئ. كما يجب أن توفر هذه العملية الدعم لمقدمي الرعاية الصحية المتأثرين بآلام الضحايا والواقعين تحت وطأة ضغط شديد.
حتى قبل أن تحل الكارثة؛ لا يزال من الضروري التخطيط للخدمات الموجودة، وإنشاء شبكات لتعزيز التعاون بين مختلف الجهات الفاعلة. في هذه المرحلة، من الأهمية بمكان تحديد الفئات الأكثر عرضة لردود الفعل النفسية السيئة تجاه الصدمات؛ وبحسب المؤلفات العلمية، فهذه الفئات تشمل: النساء والأطفال وكبار السن والمعاقين والأقليات العرقية والسكان النازحين، وكذلك العاملين في خطوط الاستجابة الأولى، وذوي الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدني، أو من يعانون من تعاطي المخدرات مثل التدخين، وفقدان سبل العيش الاقتصادية، ولا يتلقون سوى دعم اجتماعي وأسري ضعيف ...وهذا يضمن أن الفئات المهمشة الأخرى مثل العمال المهاجرين واللاجئين سيتلقون الرعاية المناسبة من خلال التواصل مع المراكز المحلية الخاصة بهم.[57]
أما في المراحل المتوسطة من التعافي، فيجب وضع السياسات اللازمة لتثقيف وتوعية مقدمي خدمات الرعاية الأولية حول الفحص والعلاج المناسبين للاضطرابات الصحية وردود الأفعال التي تلي الصدمة. وعلى المدى الطويل، قلةٌ من الأفراد سيواجهون اضطرابات طويلة المدى في الصحة العقلية، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، وغيرها من الاضطرابات المزاجية مثل الاكتئاب والقلق. من الضروري عدم رفع التمويل أو تعليق السياسات الخاصة بالصدمات قبل اكتمال التعافي؛ إذ إن الاضطرابات النفسية المزمنة تتطلب متابعة جيدة بعد الصدمة بسنوات. وكما أثبت انفجار ميناء بيروت، لم تعد لبنان في مرحلة التخطيط الوقائي. بل يتوجب على الدولة الآن أن تخطط للمستقبل من خلال ترسيخ أدوات فعالة للتأهب للكوارث النفسية كما سبقت مناقشته، وفي الوقت نفسه -لكي تخرج من الأزمة الحالية- يجب عليها أن تركز على تشخيص وعلاج حالات الصحة العقلية الناجمة عن الصدمات على المدى الطويل. ولا يمكن تحقيق الإصلاح الحقيقي والموضوعي إلا من خلال هذه المقاربة ذات الشقين.
من أجل إصدار حكم أفضل على الاستراتيجيات النفسية، يجب توفير مزيد من الأبحاث والأطروحات حول أي الاستراتيجيات النفسية نجحت في لبنان وأيها فشل. وما توفره المؤلفات البحثية يجب تعديله ليتماشى مع الحساسيات الثقافية في لبنان.
خاتمة
مع اندلاع ثورة 2019، تعرضت جوانب عدة من النظام اللبناني (السياسي والاقتصادي...إلخ) لتحديات غير مسبوقة. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل الدور الأساسي الذي تضطلع به الصحة النفسية في توجيه التغيير السياسي والاجتماعي. إن إصلاح البنية التحتية للصحة النفسية يرفع المعاناة، ويفتح آفاق الازدهار أمام كثير من الفئات، من خلال تمكينهم من اتخاذ خيارات سياسية واقتصادية واجتماعية تراعي رفاههم في المقام الأول. في السياق اللبناني، فإن ضمان صحة نفسية جيدة للجميع كان -وسيظل- ضرورياً لتعزيز أهداف الثورة في كافة جوانب الحياة، ولبناء دولة عاملة وعادلة.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.