إدارة التنوع في سوريا

شكلت منطقة شرق المتوسط، والتي تحتل المنطقة المعروفة باسم سورية الطبيعية قسما هاما من خارطتها، منطقة استقطاب وعبور للعديد من الشعوب والحضارات. ويحصي علماء التاريخ ثمانٍ وثلاثين حضارة مرت فيها، منها ما عَبَرها ومنها ما استقر ليشكل أقلية قومية فيها، وليترك بصماته في ثقافتها. وكانت هذه المنطقة قبلة لشعوب هاجرت إليها هربا من غوائل التاريخ. كما كانت أيضا مهد الديانات التوحيدية الثلاث الكبرى، منها انطلقت رسالاتها، وفيها حدثت كبرى صراعاتها الداخلية والبينية. واليوم، كما في الأمس، لا تزال المنطقة مسرحا لصراعات قائمة، وأخرى تلوح في الأفق، يتداخل فيها الديني مع القومي وتنذر بانفجارات يتجاوز شررها حدود المنطقة ليصيب مناطق بعيدة في العالم. تقدّم سورية، بحدودها السياسية الحالية الموروثة من ألاعيب السياسة العالمية في المنطقة، نموذجا مصغرا للخليط العجيب المتعايش في المنطقة. وهذا ما شكّل على الدوام، وفي الآن ذاته، موضع فخر وقلق للنخب الثقافية والسياسية. فالاختلاف نعمة إن أُحسن التعايش معه ونقمة إن ساءت إدارته. كانت الصورة المهيمنة في العقود الماضية تظهر سورية بلدا يتعايش أهله مع تنوعاتهم في إطار وحدة وطنية جامعة لا يتسنى لدول أخرى في المنطقة أن تحلم بها. غير أن بعض التوترات كانت تظهر من حين إلى آخر لتنبئ بأن ثمة جمرا يتوقّد تحت الرماد، فما أن يلامسه الهواء حتى يلتهب نارا تهدد بحريق. ولعل الأزمة التي تعيشها سورية اليوم، بعد سنة على اندلاع الثورة، مثال واضح على هذا الخطر الكامن. إن السبب الرئيسي في اتساع الشروخ بين المكونات المجتمعية المختلفة في المجتمع السوري لا يعود برأينا إلى تنوّع هذه المكونات وإنما إلى وجود إدارة سيئة للتنوّع كانت تضغط بثقلها الأمني عليه لتحافظ على صورته التعايشية الجميلة غير آبهة بما تخلقه في داخله من احتقانات وأحقاد. إن الأزمة التي تعصف بسورية اليوم، وأيا كانت مآلاتها، تشكل فرصة تاريخية لوضع حد لهذه الإدارة السيئة للتنوع، ولقيام حوار وطني ينتهي بتعاقد اجتماعي جديد يرسي قيم مواطنة قانونية ودستورية واجتماعية حقيقة. ويجنب البلاد مخاطر تحول نعمة التنوع إلى نقمة احتراب أعمى قد لا يبقي ولا يذر.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.