أزمة البطالة في لبنان: نموذج لخلق فرص عمل في ظل اقتصاد منعدم

* هذه الورقة هي المشاركة الفائزة في مسابقة مقال الطالب لعام 2023. تم تحريرها لغويا بشكل طفيف ؛ الحجج والأسلوب والمحتوى خاصة بالمؤلف.

يعيش لبنان منذ اندلاع الاحتجاجات فيه في تشرين الأوّل/أكتوبر 2019 أزمة اقتصادية خانقة تعتبر من الأسوأ في العالم منذ 1850 حسب مسؤول في البنك الدولي. تعرّض اللبنانيّون لسرقة جنى أعمارهم في المصارف في مشهدٍ سريالي، تلتها انتشار وباء كورونا، لينفجر فيهم الفساد على شكل جريمة تفجير مرفأ بيروت عام 2020، ليقضي على عمود أساسي مما تبقّى من عواميد الاقتصاد اللبناني.

يعتبر اقتصاد لبنان من الاقتصادات الريعيّة، يعتمد بنسبةٍ تصل إلى 40 % على التحويلات المالية من المهاجرين في الخارج. بذلك، يستفيد مهندسو الاقتصاد اللبناني من أزمة البطالة في لبنان ليصدّروا صناعتهم الوحيدة: الشباب اللبناني العامل. فإذاً، مشكلة البطالة في لبنان هي خطّةٌ ممنهجة للطبقة السياسية اللبنانية التي استلمت الحكم منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990. بحيث لم يتم تطوير القطاع الصناعي (كصناعة الأحذية أو الصناعات التحويلية) التي كانت موجودة سابقاً في لبنان، ولا القطاع الزراعي من خلال استغلال المساحات الخصبة ومتابعة التطّور التقني في هذا المجال. بل تم إعطاء الأولوية للقطاعين المصرفي والسياحي، مع تعاقب الفساد وسياسات اللامحاسبة ليتم بذلك بناء الاقتصاد اللبناني كاقتصاد ريعي على أساسٍ هش، يتعرّض للانهيار في صورة متتالية.

تقديم الحلول والتوصيات في هذا السياق سيكون من الأكثر تعقيداً بين الدول العربيّة لأنَّ معالجة أزمة البطالة الممنهجة في دولة اقتصادها ريعي، "تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تصنع"، يعتمد بشكلٍ أساسي على إعادة بناء النظام المالي والاقتصاد، وبذلك، إصلاح النظام السياسي من جذوره. إنّ خلق توصيات سياسية لحل مشكلة البطالة المتفاقمة في لبنان، يقدّم نموذجاً للدول العربية التي تعاني من الأزمة ذاتها، لأنّ علاج الأزمة اللبنانية هو علاج للنظام السياسي المتربّع منذ أكثر من ثلاثين سنة، وهو واقع أكثرية الدول العربية التي تعيش في ظل أنظمة سياسية إن تغيّرت، تبدّل القشور والاسماء، ويبقى النهج السياسي والاقتصادي واحد.

شرح دوّامة البطالة في لبنان

يبلغ حجم الانفاق على التعليم في لبنان حوالي 9.9  % عام 2020  من اجمالي الانفاق الحكومي، وهي نسبة تُعتبر عالية بالنسبة لبلد يعاني من أزمة اقتصادية حادّة مثل لبنان، حيث تعتبر هذه النسبة مشابهة لتلك في تركيا (9.4 %) وألمانيا (9.2 %) في العام نفسه. عمل النظام السياسي اللبناني طوال فترة حكمه الممتدّة منذ اتفاق الطائف عام 1990 وحتّى حصول الانهيار الاقتصادي عام 2019 على تحويل التعليم الجامعي إلى قيمة اجتماعية لا تتناسب مع الوضع الاقتصادي بحيث يتم تخريج آلاف الشباب من ذوي الاختصاص الذين لا يجدون فرص عمل تتناسب مع اختصاصاتهم. هذا الإنتاج الكبير من الايدي العاملة المتخصّصة اللبنانية لم يُقابل بأي تطوير للقطاع الصناعي التحويلي أو الزراعي، وبالتالي لم يعطِ للشباب اللبناني حديث التخرّج خياراً سوى الهجرة. هذه الدوّامة الممنهجة وهذا الشكل من الاقتصاد القائم على تصدير الشباب كبضاعة أساسية يتم تصنيعها وتطويرها محلّيا،ً يغذي بشكلٍ واضح العائدات النقدية أو العقارية على رأس المال الريعي، على حساب العائدات على العمل والإنتاج.

من جهةٍ أخرى، تكمن أيضاً مشكلة البطالة في عدم تناسب اختصاصات الخرّيجين اللبنانيين مع متطلّبات سوق العمل. فبحسب مسح للبنك الدولي في لبنان، فإن 88 % من شركات التكنولوجيا الباحثة عن عمّال اختصاصيين في لبنان غير قادرة على العثور على المواهب المناسبة. أضف إلى ذلك أن المجتمع اللبناني غير متقبّل اجتماعياً لفكرة العمل غير التخصصي (زراعة، أعمال يدوية، أعمال منزلية...) لأسباب اجتماعية وثقافيّة تم توارثها بحكم الاقتصاد الريعي اللبناني غير الداعم للمهن الحرفيّة واليدوية التي تعتمد غالبا على العمّال الأجانب والمهاجرين. هذه الحلقة المفرغة من انتاج الشباب المتخصّص كُسرت بعد الانهيار الاقتصادي الأخير بسبب عدم توفّر أموال لدعم الجامعة اللبنانية والمدارس الرسميّة وبالتالي تحويل التعليم إلى رفاهية محصورة بالطبقة الميسورة من المجتمع.

إذاً، مشكلة البطالة المرتفعة في لبنان تعود إلى جوهر النظام الاقتصادي اللبناني الذي يعتمد على الأيدي العاملة الأجنبية من اللاجئين في الأعمال الحرفية والزراعية والبناء وغيرها من أشكال العمالة غير الماهرة. أضف إلى ذلك أن معدّلات البطالة لدى المرأة أعلى مقارنةً بالرجل، مما يجعلها تدفع ثمن التدهور الاقتصادي ضعف الرجل لهشاشة موقعها الاقتصادي في المجتمع حيث تبلغ نسبة النساء العاطلات عن العمل 32.7 % مقارنةً بمعدّل الرجال 28.4 %  من اجمالي القوى العاملة في لبنان عام 2022 بحسب منظمة العمل الدولية.

اليوم، وبعد أزمة مالية واقتصادية خانقة من دون أي بوادر لإصلاح سياسي واقتصادي هيكلي، باتت هذه الدوّامة التي خلقها النظام اللبناني لتصدير الشباب إلى الخارج غير مجدية، لأن القطاع التعليمي اللبناني اليوم شبه متوقّف في المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية ويقتصر على التعليم الخاص الذي تفوق كلفته قدرة المواطن اللبناني العادي. إن القطاع التعليمي في لبنان، وخاصّةً الرسمي منه، يعاني اليوم من أزمة كبيرة على صعيد أجور الأساتذة في المدارس والجامعة اللبنانية بجميع فروعها، مما أثّر على سير العام الدراسي بشكل طبيعي. في حين تخصص الدولة حوالي 64 % من المساعدات والمخصصات الحكومية للتعليم الخاص الذي يستفيد منه ذوو الدخل العالي مقابل 16 % فقط للمدارس الرسمية بحسب دراسة أجراها المركز اللبناني للدراسات، مما يثبت منهجية الدولة في ضرب القطاع التعليمي الرسمي الذي تستفيد منه الأغلبية السكّانية.

من هنا تأتي ضرورة إيجاد حل لمشكلة البطالة اللبنانية من جذورها، أي بدءاً من مبدأ اعتبار الشباب اللبناني أهم سلعة للتصدير والربح. يعتبر الحل الأهم والأبرز في هذه المرحلة سياسيّاً بالدرجة الأولى، حيث إن الطبقة الحاكمة لم تبدِ أي بوادر للتعاون مع صندوق النقد الدولي، أو إصلاح سياسي قد يشجّع الاستثمار الأجنبي في لبنان. إن أيّة توصيات اقتصادية بما يخص الوضع اللبناني لا يمكن التعويل عليها من دون اتفاق سياسي بين الأطراف أو خلق حكومة اختصاصيين ذات صلاحيّات استثنائية هدفها حل أصل المشكلة بعيداً عن المحاصصة الطائفية لا يكون لأحزاب السلطة فيها أيّة صلاحيات. في حال وجود هكذا حكومة تنوي الإصلاح والنهوض بالاقتصاد اللبناني وتغيير بنيته التي اعتمدت على القطاع المصرفي والفوائد والصيرفة وغيرها من الخدمات المالية، الأمر الذي أدّى إلى انهياره. إذاً، يمكن تقسيم حل مشكلة البطالة إلى قسمين أساسيين، يعتمد فيهما الواحد على الآخر: الحل السياسي والحل الاقتصادي.

أوّلاً: القرار السياسي مدخلاً لحل أزمة البطالة اللبنانية

إن مشكلة البطالة كأي مشكلة اقتصادية-اجتماعية في لبنان، المدخل الأساسي لحلّها سياسي بحت. تكمن علاقة مباشرة بين القرار السياسي والمشاكل الاقتصادية شهدناها في العديد من الدول العربية حيث تبقي الأنظمة على بعض الملفّات الاقتصادية الأساسية كالبطالة في الأدراج، للاستثمار بها وتحويلها إلى ورقة سياسية تلعبها عند الحاجة. لذلك فإنَّ الخطوة الأولى نحو علاج مشكلة البطالة في لبنان تكمن في اتخاذ القرار السياسي: تشخيص المشكلة، الاعتراف بالخسائر وتحميل أصحاب المصارف والطبقة الحاكمة كلفة الانهيار، وتحييد أملاك الدولة والمودعين عن سد العجز ورسم خارطة طريق لتعافٍ اقتصادي. لا بد من اشراك الشباب اللبناني في الهيئات النيابية التي تسن القوانين المتعلّقة بواقع البطالة الذي يطال فئة الشباب بشكلٍ أساسي، كونه يتمتّع بقدرة على تشخيص المشكلة وإيجاد حل لها. لذلك فإنّ وجود ممثلين عن فئة الشباب توصية أساسية لا يمكن التخلّي عنها. المدخل للحل الاقتصادي إذاً يكون في تشكيل حكومة اختصاصيين ذات صلاحيّات استثنائية، تكون التسميات فيها تأتي من خارج المنظومة السياسية والمحسوبيات الحزبية والطائفيّة، ويكون عنصر الشباب طاغٍ فيها، بالإضافة إلى المناصفة بين الذكور والاناث في آلية صنع القرار. من المهم والاساسي إنشاء فريق عمل قادر على انتشال البلد من الأزمة، غير مقيّد بأجندات سياسية حزبية تحاصصية، ويضع مشاكل الشباب وأهمّها البطالة على أعلى سلّم الأولويات. في حال وجود حلحلة في الانكماش السياسي، ستبدأ محادثات جدّية مع صندوق النقد الدولي وسيتم وضع خطّة تعافي للبنان، سيلمس مواطنوه آثارها على المدى القريب والبعيد. إن للحل السياسي آثار مباشرة على الاقتصاد اللبناني، أهمّها توفير بيئة مناسبة للاستثمار الأجنبي والمحلّي، وبالتالي وجود مشاريع جديدة وتأمين فرص عمل للشباب اللبناني.

ثانياً: خطّة اقتصادية عصبها الشباب

في حال اكتمال المشهد السياسي اللبناني الفعّال، يتّجه أصحاب القرار نحو دراسة الأزمة وانشاء خطة تعافٍ مالي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي والتقيّد بشروطه الأساسية ومنها تحرير سعر صرف الليرة وإعادة هيكلة النظام المالي وغيرها من الشروط الأساسية للنهوض بالاقتصاد اللبناني والتي تضمن تحويل الاقتصاد اللبناني من اقتصادٍ ريعي يعتمد على القطاعين المصرفي والسياحي حصراً إلى اقتصاد انتاجي يدعم الزراعة والصناعة. سوف تكون هذه الخطّة المدخل للانطلاق نحو انتعاشٍ اقتصادي في دولةٍ تتغنّى بكل المقوّمات والموارد الطبيعيّة والبشرية والموانئ الضروريّة لأيّ اقتصادٍ متين.  بالإضافة، يحتاج النهوض ببلدٍ منهار اقتصادياً إلى بنى تحتيّة جديدة تجذب المستثمرين إلى لبنان، ويؤمّن بناؤها فرص عمل للشباب اللبناني. إنّ لبنان، بنظامه التعليمي ذو البنية عالية المستوى وامكانياته العالية التي يمكن تطويرها من خلال استغلال منهجه المركّز ومعلّميه الكفوء يمكن أن يصبح قبلة لشركات التكنولوجيا التي ستستثمر بجودة اليد العاملة الكفؤة، وبالمناخ الاقتصادي والسياسي المشجّع، بكلفة هي المحفِّزة مقارنةً بالكلفة التي ستترتب عليها في أيّة دولة عربية أخرى أكثر تطوّراً حالياً. من جهة أخرى، يستوجب دراسة متطلّبات سوق العمل وادراجها إلى المناهج التعليمية، كما أنّه من الضروري تأمين منح دراسية ممولة من خزينة الدولة لدعم الفئات المهمّشة وتمكينها للتأقلم في سوق العمل. على صعيدٍ آخر، إنّ الاستثمار في القطاع الزراعي يعتبر من ضرورات النهوض بالاقتصاد وبخاصة مع توفّر الأراضي الزراعية الخصبة الواسعة في المناطق البعيدة عن العاصمة التي هُمّشت بسبب المركزية الإدارية في بيروت وبالتالي توظيف هذا القطاع كمصدر رئيسي لواردات الدولة، مما يؤمّن وظائف لسكّان هذه المناطق المنسيّة عن سابق إصرار وتصميم. إن للقطاع الزراعي اللبناني، في حال تم تنظيمه ودعمه من الحكومة اللبنانية، إمكانيّات كبيرة يمكن أن تؤمن فرص عملٍ عديدة للشباب من عدة مجالات أبرزها الزراعية وإدارة الأعمال. إلّا أن هذا القطاع يحتاج للحماية أيضاً من خلال إقرار روزنامة زراعية وضبط معابر التهريب غير الشرعية وفرض ضرائب على البضاعة المستوردة لضمان حماية الإنتاج اللبناني من البضاعة المستوردة المنافسة. من جهة أخرى، تتحمّل الدولة مسؤوليّة التوزيع العادل للاستثمارات بشكل ينصف القطاع الصناعي الذي تميّز في لبنان منذ أوائل القرن العشرين، فتخصص جزءاً من ميزانية انفاقها لإنعاش الصناعات المحلية كصناعة الانسجة، الأحذية، المعلبات الصابون... وغيرها من الصناعات التحويلية التي تجعل من الاقتصاد اللبناني اقتصاداً منتجاً. من المهم أيضاً دعم هذا القطاع الصناعي وحمايته من خلال تنفيذ إصلاحاتٍ مالية تشمل محفزات وضمانات أمنيّة، سياسية ومالية لرأس المال المحلي من جهة، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية من جهة أخرى بطريقة لا تنافس الأولى وتهدد وجودها، بل تحقق قيمة مضافة للاقتصاد اللبناني. كما ونعيد التأكيد على أهمّية التقيّد بإصلاحات تجارية تنظّم عروض الأسعار على الصادرات وتفرض رسوماً جمركية على الواردات من البضائع المستوردة المشابهة لتلك المصنّعة محلّياً للحفاظ على الميزة النسبية للمنتجات اللبنانية. وبالتالي إعطاء الأفضلية بالسعر للشركات المصنّعة اللبنانية المنتجة لها محلياً. يمكن للتوازن في التمويل بين القطاعات الزراعية والصناعة والريعيّة أن يخلق فرص عمل جديدة ويعزّز القطاع السياحي بتميّز الصناعات اللبنانية وجذبها لكل سكّان العالم.

إن حل مشكلة البطالة في لبنان، وفي أي بلد عربي يواجه تحدّيات اقتصادية وسياسية مشابهة، ينطلق من الجذور، كي لا يكون الحل المقترح مجرّد تجميل واخفاء لجوهر المشكلة المتأصّلة في النظام السياسي المتعفّن والذي أثبت فشله عبر السنين. إنّ الشباب اللبناني لم يُعطَ الفرصة كي يطرح حلولاً لمشاكل بلده تناسب تطلّعاته وطموحه التخصصي، أو كي تكون له مساهمة في مشاريع القوانين التي تخصّه. آن الأوان كي يكون الشباب العربي حيث ينتمي: في مقدّمة صناعة القرار.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.