في 15 آذار/مارس، أعلنت الحكومة اللبنانية أن وباء كوفيد-19 يشكّل "حالة طوارئ صحية عامة"، وأصدرت قرارًا بتطبيق الحظر في البلاد. بعد أكثر من شهر من فرض تلك القيود، تشير البيانات إلى أن انتشار الفيروس يتباطأ، وأن لبنان يحتويه ببطء. بالرغم من ذلك، يجب توخّي الحذر عند صياغة تلك الاستنتاجات، نظرًا للتغيُّر في عدد الاختبارات التي تجرى يوميًا، ومواصفات الأشخاص الذين يطلبون إجراء الاختبار. لقد جاء نجاح استراتيجية الحظر بتكلفةٍ كبيرة، حيث أثقل كاهل الفئات ذات الدخل المتوسط والمنخفض، نظرًا لغياب أي تدابير للأمان الاجتماعي.
ما هو علم الأوبئة، ولماذا يُعَد مهمًا؟
يُعرَّف علم الأوبئة بأنه "دراسة توزيع و محدّدات الحالات أو الأحداث ذات الصلة بالصحة (بما في ذلك المرض) وتطبيق هذه الدراسة بغرض السيطرة على الأمراض والمشاكل الصحية الأخرى". يتم تدريب علماء الأوبئة على التعامل في أوقات الأزمات، ويكون دورهم هو مساعدة الجمهور على فهم التفاصيل المعقّدة للأمراض المعدية، وكيفية انتقالها وسبل احتوائها. في عصرنا هذا، حيث تنتشر المعلومات المغلوطة والمضللة، يمكن أن تؤدّي التوقعات غير الدقيقة والتوصيات التي لا أساس لها إلى خسائر كبيرة – ويعدّ تأخُّر إيطاليا والولايات المتحدة الكارثي في الاستجابة لجائحة الكورونا خير مثالٍ على ذلك. في لبنان، يعمل العديد من علماء الأوبئة الصغار والكبار والخبراء، بما في ذلك أعضاء جمعية علم الأوبئة اللبنانية، بلا كلل لفهم ديناميات فيروس كورونا المستجد وزيادة الوعي بالمخاطر الناتجة عن سوء تفسير البيانات.
ما هو وضع جائحة كورونا في لبنان؟
بدءًا من 19 أبريل/نيسان، أعلن لبنان عن 677 إصابة مؤكدة بـفيروس كورونا المستجد، منها 21 حالة وفاة و 99 حالة تماثلت للشفاء. تبلغ أعمار ثلثي الحالات المعلنة تقريبًا أقل من 50 عامًا، ولا تزال نسبة حالات الإصابة الشديدة/الحرجة التي تتطلب دخول المستشفى منخفضة (8-9٪) مقارنةً بالمتوسط العالمي الذي تم الإعلان عنه، والذي يبلغ حوالي 22٪ من الحالات الشديدة/الحرجة. هذا العدد من الحالات لم يتعدّ بعد طاقة النظام الصحي الاستيعابية لمرضى الفيروس، والتي تتكوّن، وفقًا لوزارة الصحة العامة اللبنانية، من 576 سرير في المستشفيات الحكومية، و 234 سرير في وحدات العناية المركزة، و 263 جهاز تنفس صناعي . حتى الأسبوع السادس من انتشار الوباء، كان عدد الحالات الجديدة المؤكدة يتضاعف كل خمسة إلى سبعة أيام، ولكن سبب هذه الزيادة يرجع جزئيًا إلى زيادة عدد اختبارات الفحص. فقد أصبحت المزيد من مراكز الاختبار الخاصة جاهزة للعمل، وبدأت في إبلاغ وزارة الصحة العامة بنتائج الاختبارات، مما جعل الاختبار متاحًا حتى للأشخاص المعرّضين للخطر الذين لم تظهر لديهم أعراض. في هذه المرحلة، يبدو أن البيانات تشير إلى أن لبنان يشهد انخفاضًا كبيرًا في معدّل نمو الفيروس، مع تشخيص عدد أقل من الحالات كل أسبوع، كما هو موضح في الشكل 1.

شكل 1: حالات الإصابة المؤكدة بفيروس كورونا المستجد منذ رصد أول حالة في 21 شباط/فبراير
هل يعني هذا أن لبنان نجح في احتواء انتشار فيروس كورونا؟
للإجابة عن هذا السؤال، يبحث علماء الأوبئة عن نقطة الانعطاف التي يتوقّف عندها منحنى الوباء (الذي يصور توزيع الحالات الجديدة في اليوم) عن التصاعد ويبدأ في التناقص، ويظل منخفضًا لفترتي حضانة على الأقل، تتكوّن كل منهما من 14 يومًا . إذا ظل عامل نمو وباء الكورونا ثابتًا باستمرار فوق "1"، فهذا يعني أن الوباء ينتشر بشكلٍ كبير. أما إذا انخفض باستمرار تحت "1"، فتلك علامة على الوصول إلى نقطة الانعطاف. في حالة لبنان، كما هو موضّح في الشكل 2، تشير البيانات إلى أنه، بعد مرور ستة أسابيع من رصد أول حالة إصابة بالفيروس، بدأ عامل النمو الأسبوعي يستقر عند "1" أو أقل، وهو ما يدل على أن الوباء لم يعد ينتشر بشكل كبير. إذا ظل عامل النمو الأسبوعي عند المستوى الحالي للأسبوعين القادمين – وهي فترة حضانة الفيروس – فسيكون من الآمن أن نقول أن لبنان يحتوي الانتشار ببطء، ويجب أن يشرع في رفع إجراءات الحظر تدريجيًا.

شكل 2: عامل النمو الأسبوعي لحالات الإصابة المؤكدة بفيروس كورونا المستجد في لبنان منذ رصد أول حالة في 21 شباط/فبراير
ما مدى صحة البيانات الصادرة عن لبنان؟
تتيح وزارة الصحة العامة معلومات عن التركيبة السكانية والأعراض والنتائج الخاصة بحالات الإصابة المؤكدة بفيروس كورونا في لبنان. ورغم التزام وزارة الصحة بنشر تلك البيانات يوميًا، حثّ علماء الأوبئة والباحثون المستقلون الوزارة على تحرّي المزيد من الشفافية في مشاركة البيانات؛ إذ تظل معلومات مثل التوزيع الإقليمي للاختبارات وتتبع المخالطين ومعدل انتقال العدوى ومواصفات الأشخاص الذين أجروا الاختبار (العمر والجنس ووجود أعراض من عدمه، والوضع الاجتماعي والاقتصادي ومكان الإقامة، إلخ.) غير متاحة للجمهور، على الرغم من كونها ضرورية للوصول إلى استنتاجات أكثر دقة بخصوص الوضع الحالي.
وبينما تعدّ الأرقام الحالية مفيدة في فهم انتشار الوباء، يتطلب إجراء تقييمٍ أشمل وأوفَى المزيد من الاختبارات. على الرغم من أن معدل الاختبار في لبنان يتزايد تدريجيًا وقد يصل إلى ألفي اختبار يوميًا ، إلا أن هناك للأسف عوامل تحدّ من إمكانية زيادة الاختبارات – والمعروفة باختبارات PCR (تفاعل سلسلة البوليميراز) – نظرًا لأنها مكلفة. حيث يقتصر الاختبار المجاني الذي يُجرى في مستشفى رفيق الحريري الجامعي على الأشخاص الذين لديهم عوامل عالية الخطورة، في حين يتعين على الآخرين إجراؤه مقابل رسوم ضخمة قدرها 150 ألف ليرة لبنانية في المستشفيات الخاصة. كما أن معظم الأشخاص المصابين (حوالي 80٪) يعانون من أعراض خفيفة أو لا تظهر عليهم أي أعراض على الإطلاق، ممّا قد يجعلهم يحجمون عن طلب أي نوع من المساعدة الطبية؛ وهو ما يرجّح أن إجمالي عدد الإصابات المعلنة أقل من الواقع. ناهيك عن أن زيادة الاختبارات تعني "استيراد" المزيد من الموارد لإجرائها، مثل معدات الحماية الشخصية (PPE) وبدل الوقاية للقائمين على الاختبار، والكواشف والأدوات اللازمة التي تمثّل مشكلة في البلدان شحيحة الموارد مثل لبنان.
تم تبنّي استراتيجية الاختبار العشوائي مؤخرًا، وهو قيد التنفيذ حاليًا في مناطق مختلفة في لبنان لمعرفة مدى انتشار فيروس كورونا المستجد في البلاد . وفي حين أن زيادة الاختبارات تعدّ أخبارًا جيدة، إلا أنها تحتاج إلى ثبات للحصول على تفسيراتٍ ذات معنى لمعدّل رصد الإصابات. يتراوح عدد الاختبارات اليومية خلال شهر نيسان/إبريل بين 250 و 1100 اختبار.
كم من الوقت يمكن أن يظل الناس قيد الحجر الصحي؟
يجب أن يستند قرار المسؤولين بتمديد الحظر على أساس منطقي واضح، ومعلومات تأخذ في الاعتبار مدى التوسُّع في إجراء الاختبارات، ومعدل انتقال الفيروس المتغير (أي عدد المصابين حديثًا بالعدوى من حالة واحدة) وتأثيره على الأشخاص؛ أي على رفاهيتهم وحالتهم الاقتصادية . تظهر الأبحاث أن طول مدة الحجر الصحي يمكن أن يؤدي إلى آثار طويلة الأمد على الصحة النفسية . وقد ثبت أيضًا أن وضع العبء على كاهل الفئات الاقتصادية الأدنى – التي غالبًا ما تحتاج إلى مغادرة منزلها لكسب لقمة العيش – يعمّق الفجوة الاقتصادية القائمة بالفعل ويؤدي إلى تفاقم انتشار الأوبئة والدوران في حلقةٍ مفرغة . فقبل تفشّي فيروس كورونا، كان العديد من اللبنانيين يعانون بالفعل من أوضاع عملٍ غير مستقرة، في ظل غياب شبكات حماية و/أو إجازات مدفوعة الأجر أو أي مزايا اجتماعية أخرى. في تلك الأوقات العصيبة، يمكن أن تأتي الخسائر المالية بنتائج كارثية على ذوي الدخل المنخفض وأصحاب الأعمال الخاصة، أو العاملين مقابل أجر الذين لا يستطيعون الحصول على إجازة مدفوعة. من أجل ضمان استمرار الالتزام بالتدابير الإجبارية كالحجر الصحي، على الحكومة أن تقدم بشكل عاجل وفي الوقت المناسب حزمة إغاثة كافية للمواطنين من ذوي الدخل المنخفض أو الذين لا دخل لديهم على الإطلاق.
حتى الآن، يتطور الفهم العلمي للجائحة كل يوم، ويعمل خبراء الأوبئة من مختلف التخصصات جنبًا إلى جنب مع خبراء الأمراض المعدية لمعالجة المشكلة. لم يعلن لبنان بعد كيف ينوي اتخاذ القرار الصعب برفع الحظر. مع ذلك، يجب أن تُبنى الاستراتيجيات والسياسات الناجعة على التواصل والتعاون الجيدَين بين الباحثين والسلطات المحلية والحكومية.
الصور التوضيحية من إنتاج فريق عمل فيروس "كوفيد-19" بجمعية علم الأوبئة اللبنانية، وهي المظلة المتخصصة للأكاديميين والعاملين في مجال الأوبئة والصحة العامة بلبنان. جميع البيانات منقولة عن وزارة الصحة العامة اللبنانية.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.