يعدُّ الفقر من المشكلات الهيكلية المستعصية عبر المكان والزمان، ما يطرح سؤالاً حائراً منذ سنوات طويلة: لماذا لم تسفر الجهود المتعددة لمكافحة الفقر عن خلاص الفقراء من ربقته وأسره، إلى حرية الاكتفاء والكرامة الإنسانية؟ هل يكمن السبب في عدم كفاية هذه الجهود، أم لأنها لم تنطلق في تعاملها مع قضية الفقر من معالجة الأسباب الهيكلية المنتجة له، واقتصر التعامل على معالجة أعراضه فقط؟ عموماً، إن دواعي التساؤل والاستفهام حول هذه القضية كثيرة ومتنوعة الجوانب. وأدت هذه التساؤلات الحائرة إلى ظهور نوعٍ جديدٍ من التدخّلات التي جُرّبت على مجموعات سكانية كانت محدودة العدد في البداية، ويُعرّف عنها بعبارة "اقتراب التخارج من الفقر المدقع"
في الحقيقة، كان الدافع وراء ذلك نتيجة الاعتراف في أواخر التسعينيات بأن السبل التقليدية للحد من الفقر وبرامج التمويل متناهية الصغر، لا يمكن أن تصل إلى الأكثر فقراً لسببِ رئيسي يضاف إلى عائق التهميش نتيجة قلة الدخل، هو أن الفقراء يواجهون فقراً متعدد الأبعاد على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فضلاً عن الحواجز النفسية والثقافية.
تطرح برامج التخارج من الفقر حزمة متكاملة من التدخّلات، هدفها إخراج الفقراء من وضعهم، وضمان استدامة هذا الانعتاق خلال مدة زمنية محددة، تراوح بين 24 شهراً و36 شهراً. كانت بداية تلك البرامج في بنغلاديش في العام 2002، إذ طورت لجنة التنمية الريفية في بنغلاديش- Bangladesh Rural Advancement Committee BRAC، برنامجاً لاستهداف الطبقات الأكثر فقراً بهدف تحريرهم من وضعهم، وضمان أنماط عيش مستدامة. يذكر أن براك BRAC هي منظمة غير حكومية، تأسست عام 1972، واستمرت في العمل في البلاد حتى العام 2001، فتوسّع عملها لتشمل العديد من بلدان الجنوب الأخرى، عبر تطبيق تجربتها في التخارج من الفقر، كما أسست فروعاً في كثير من بلدان العالم. تسعى تدخّلات برامج التخارج من الفقر إلى الدمج بين إشباع ومخاطبة الاحتياجات الآنية للمستهدفين، مع استثمار طويل الأجل في المهارات الفنية، ومهارات الحياة، ونقل الأصول، وتنمية المشاريع الريادية، وتعزيز فرص الادّخار، والتخطيط للمستقبل لضمان الانعتاق من الفقر بشكلٍ مستدام، وتوفير حياة مستقرة لهذه الفئات الاجتماعية.
تهدف هذه الورقة إلى دراسة تجارب التخارج من الفقر التي نُفذت في سياقات اجتماعية واقتصادية وثقافية متنوعة حول العالم، لاستخلاص أهم النتائج عن قدرة هذه التجارب على التعامل مع أسباب الفقر والهشاشة. كما تتطلع الورقة إلى البحث في مدى قابلية هذه البرامج للتوسع، بمعنى التطبيق على مجموعات سكانية أكثر اتساعاً، ومدى استدامتها، وما يعنيه ذلك من ضمانات عدم ارتداد الفقراء إلى الفقر مرة أخرى. كما تسعى الورقة إلى التركيز على تحليل ثلاث تجارب من المنطقة العربية: تجربة اليمن، وهي الأسبق تاريخياً، إذ تعود إلى العام 2006، حين قررت مجموعة "سيجاب" ومؤسسة "فورد" التوسع في تجربة اقتراب التخارج من الفقر عبر سياقات متنوعة، وتجربتين من التخارج من الفقر في مصر هما تجربة "باب أمل "التي نفذتها مجموعة من الجمعيات الأهلية، وتجربة "فرصة" الحكومية لتخريج المستفيدات والمستفيدين من برامج التحويلات النقدية المشروطة – برنامج تكافل – تُطبّق بالشراكة بين وزارة التضامن الاجتماعي والجمعيات الأهلية. ويذكر أن هاتين التجربتين لا تزالان في مهدهما، فكانت تجربة "باب أمل" أسبق زمنياً وخضعت لتقييمات مبدئية، في حين لا تزال تجربة "فرصة" في مسار تطورها. وربما يُفيد البحث في تجارب التخارج من الفقر عالمياً هاتين التجربتين على صعيد تجنب ارتكاب الأخطاء نفسها خصوصاً في إطار التوسع.
بناءً على ما سبق، ستلقي هذه الورقة الضوء على ماهية برامج التخارج من الفقر، وكيف نشأت؟ وما هي أسباب ذلك؟ وما هو الدور الذي قامت به المنظمات غير الحكومية فيها؟ وكيف بدأت الحكومات في تبني هذه التجارب والسعي لتطبيقها على مجموعات صغيرة في البداية، ثم التوسع بعد ذلك؟ وما هي تحديات وإشكاليات التوسع؟ كما تعرض الورقة ثلاث تجارب عربية هي: تجربة اليمن 2006، وتجربتين حديثتي العهد من مصر. وتختم الورقة بتحليل عددٍ من التحديات التي تواجه هذه البرامج، وعلى رأسها بالطبع تحدي الاستدامة، وأخيراً الدروس المستفادة.
أولاً: برامج التخارج من الفقر: تجارب "براك"
مرّت برامج التخارج من الفقر بتطورات متتالية، كانت منظمة "براك" بنغلاديش - وهي منظمة غير حكومية - صاحبة النسخة الأولى منها. فقامت "نظرية التغيير" التي تبنتها على توفير مجموعة من التدخّلات، وتقديمها إلى الأسر التي تعاني من الفقر المدقع. سرت هذه التدخّلات بوتيرة تدريجية، على مدار فترة زمنية تمتد من 24 شهراً إلى 36 شهراً، بما يمكّن هذه الأسر من الخروج من الفقر المدقع إلى حياة معيشية كريمة ومستدامة. وكانت تجربة براك، باعتبارها منظمة غير حكومية، ملهمة لعدد كبير من المنظمات غير الحكومية عبر العالم، للانخراط في تجارب التخارج من الفقر. فالتجارب الرائدة ومحدودة العدد في كثير من البلدان نُفذت عبر المنظمات غير الحكومية.
انطلقت حزمة التدخّلات المقدمة من فهم الحاجات الملحة للفقراء التي تتركز في حصولهم على الغذاء، كون الهمّ الأول للأسر الأكثر فقراً هو البقاء، ثم شكّل دعم الاستهلاك الخطوة الأولى في مخاطبة الحاجات الآنية والأكثر إلحاحاً لهذه المجموعات. فمن الصعب الحديث عن حياة مستدامة، وانعتاق من الفقر من دون ضمان الأمن الغذائي. واتخذ دعم الاستهلاك شكلاً نقدياً للأسر التي اختيرت في غالبية الحالات. ارتبط التدخل الثاني بإتاحة الفرصة للأسر المستهدفة بتأمين نفسها ضد المخاطر، وزيادة قدرتها على التعامل مع الصدمات من خلال تشجيعها على الادّخار عبر تكوين ما يطلق عليه مجموعات الادّخار.
وفي المراحل التالية، تلقّت هذه الأسر المساعدة في تحديد ملامح الحياة المستدامة التي تناسب قدراتهم واهتماماتهم ومصالحهم، وتتلاءم في الوقت نفسه مع احتياجات الأسواق المحلية. وبناء على ذلك، مُنحت الأسر المستهدفة الأصول المطلوبة والمهارات الفنية الضرورية لإدارتها. وأخيراً، تلقى المشاركون تدريبات مكثفة ومشورة شخصية مخصصة طوال فترة تطبيق البرنامج. وفقاً لهذا الاقتراب، يقوم برنامج التخارج هذا على عدد من التدخّلات: الاستهداف، ودعم الاستهلاك، والادّخار، والتدريب على المهارات، والإرشاد المنتظم، ونقل الأصول. وعليه، تسعى برامج التخارج من الفقر إلى الدمج بين إشباع ومخاطبة الاحتياجات الآنية للمستهدفين، مع استثمار طويل الأجل في المهارات الفنية، ومهارات الحياة، ونقل الأصول، وتنمية المشاريع الريادية، وتعزيز فرص الادّخار، والتخطيط للمستقبل، لضمان الانعتاق من الفقر بشكلٍ مستدام، وتوفير حياة مستقرة لهذه الفئات الاجتماعية. يُذكر أن من أهم الدوافع المحفزة لـ BRACعلى ابتكار هذا البرنامج، هو إدراكها أن الفقراء لا يستفيدون من برامج التمويل متناهية الصغر التي تقدمها نظراً إلى مستويات مداخيلهم المنخفضة للغاية.
على الرغم من اعتماد كثيرٍ من التجارب على قواعد بيانات الفقر الحكومية كخطوة أولى للاستهداف، سواء الجغرافي أو الفئوي، إلا أنها تبنت بعض الأساليب الكيفية من أجل التحقق من صحة الاستهداف من جانب، وفهم ديناميكيات المجتمع المحلي المستهدف من جانبٍ آخر. فجرت زيارات إلى المجتمعات المحلية والأسر المستهدفة، وإجراء مقابلات معها، وتقصّي وضعها، والتأكد منها عبر لقاءات مع شخصيات من المجتمع المحلي بهدف التحقّق. وطوال فترة تنفيذ البرنامج، جرت زيارات ميدانية منتظمة من فرق المنظمات غير الحكومية المنخرطة في التنفيذ إلى الأسر المستهدفة.
مرت برامج التخارج من الفقر في مراحل متعددة، وخضعت لتقييمات مستقلة بشكلٍ مستمر بهدف تطويرها. بدأت المرحلة الأولى بين العامين 2002 و2006، وركزت على النساء المهمّشات في المجتمعات الريفية، عبر تقديم حزمة التدخّلات التي سبقت الإشارة إليها. وأسفر تقييم هذه المرحلة عن نتائج إيجابية، تمثلت في زيادة الدخل والاستهلاك والادّخار، في حين كان الأثر على انتظام الأطفال في المدرسة، والرعاية الصحية للأسر غير واضح. وتعرّض هذا التقييم إلى كثير من الانتقادات لسببٍ أساسي كونه غير تجريبي non-experimentally designed إذ لم تتوافر مجموعات ضابطة control groups للمقارنة من جانب، ولم يُطبق على سياقات اجتماعية وثقافية متنوعة من جهةٍ أخرى.
بدأت المرحلة الثانية عام 2007، واستمرت حتى عام 2011. وتجنبت الانتقادات التي أحاطت بتجارب المرحلة الأولى، فطُبّقت حزمة التدخّلات مع مراعاة وجود مجموعة ضابطة، وجرى التوسع في التطبيق الذي غطى 1309 قرى بنغلادشية. وأوضحت نتائج التقييم التجريبي صحة غالبية نتائج المرحلة الأولى، فزاد الدخل بنسبة 21% للفرد، وارتفعت قدرته على الإنفاق بنسبة 11%، وسُجّلت زيادة في القدرة على الادّخار. كما أشارت هذه النتائج إلى تحسّن بعض المؤشرات الصحية للأطفال دون سن الخامسة، خصوصا المتعلقة بسوء التغذية، في حين لم تُرصد أي آثار تخص التعليم.
في سبيل مخاطبة أحد جوانب القلق الكبرى من برامج التخارج من الفقر، وهو مدى القدرة على تطبيقها في سياقات اجتماعية وثقافية مختلفة، اتفقت المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء (CGAP Consultative Group to Assist the Poor)، ومؤسسة "فورد" عام 2006، على تطبيق هذا البرنامج في سياقات مختلفة لاختبار مدى صلاحيته في بلدان متنوعة، وضمن ظروف مختلفة. فطُبقت عشر تجارب في ثمانية بلدان، تمثل تنوعاً على مستوى المناطق والأقاليم الجغرافية، إذ شملت هاييتي وباكستان وهندوراس وبيرو وإثيوبيا واليمن وغانا، وثلاث تجارب في الهند. وكانت المنظمات غير الحكومية هي الفاعل الرئيسي في هذه التجارب، إذ عقدت مجموعة "سيجاب" ومؤسسة "فورد" شراكات مع 34 منظمة غير حكومية لتنفيذ البرنامج في مناطق متنوعة في العالم.
حددت تجربة "براك" عدة معايير للفقر المدقع كالآتي: أن يكون الدخل اليومي للفرد أقل من 1,90 دولارٍ يومياً، إنفاق أكثر من 80% من الدخل على الطعام، أن تكون الأسرة بعيدة أو محرومة من الوصول إلى خدمات الحماية الاجتماعية، وموارد المجتمع المحلي، وأن تكون بعيدة عن الأسواق. يضاف إلى ذلك معايير أخرى مثل ارتفاع معدلات الإعالة، والتعرّض لصدمات صحية وكوارث طبيعية، والعيش في مكانٍ منعزل جغرافياً، وأخيراً أن تكون معيلة الأسرة امرأة. وسعت المعايير إلى الجمع بين الفقر النقدي، والفقر متعدد الأبعاد، لكن بشكلٍ غير كامل.
وبالفعل، أجرى عدد من الجهات البحثية، سواء في الجامعات أو مراكز البحوث، سلسلة من التقييمات لاكتشاف أثر البرنامج على تحسن مستوى المعيشة عبر قياس الزيادة في الاستهلاك. فوفقاً لتقييم جامعة ييل Yale University، ازداد إجمالي الاستهلاك السنوي للفرد في الهند بنسبة 15% في نهاية السنة الثانية من البرنامج، وبنسبة 11% في السنة الثالثة. وكان الوضع في أثيوبيا شبيهاً، فأصبح استهلاك الطعام وسلعٍ أخرى، أعلى بنسبة 15% في المجموعة المستهدفة، مقارنةً بالمجموعة الضابطة في السنة الثانية. ثم ارتفع إلى 18% في السنة الثالثة. أما في هندرواس، فكان الوضع مختلفاً، إذ انخفض الاستهلاك السنوي بسبب سلالة الدواجن التي وُفّرت كأصول من جهة احتياجها إلى تغذيةٍ خاصة من 4 إلى 6 أسابيع، ما وضع الأسر المستهدفة أمام معضلة صعبة هي الاستثمار في تغذية الدواجن أو ذبحها وتغذية أسرهم. وكشفت النتيجة المستخلصة من التقييم وجود عوامل فارقة مثل السياق، وخيارات الأصول في تحديد قدرة أي برنامج على النجاح من عدمه. وبيّنت الدروس المستفادة من تجربة هندوراس أن الاعتماد على مصدر واحد للأصول يعتبر أمراً خطيراً. وفي الإطار نفسه، كان فشل تجربة ولاية Andhra Pradesh في جنوب الهند، مؤشراً مقلقاً إلى أثر حالة السوق الاقتصادي على البرنامج. فكان السبب الرئيسي لفشل التجربة، هو قيود السوق من جهة ضعف القوة الشرائية، ثم صعوبة بيع الماشية. كما نفذت جامعة London School of Economics مسحاً على 26960 أسرة في عددٍ كبير من التجمعات الريفية في بنغلاديش الذي تجاوز الألف تجمع. وتوصلت إلى حدوث زيادة في دخل المجموعات المستهدفة من الفقراء بنسبة 40% أعلى من المجموعة الضابطة بعد عامين من انتهاء البرنامج، فضلاً عن تنويع مصادر الدخل في الأسرة.
ثانياً: التوجه الحكومي نحو تطبيق برامج التخارج من الفقر وتحدي التوسع
بعد النجاح الإجمالي الذي حققته تجارب التخارج من الفقر التي كان للمنظمات غير الحكومية فضل الريادة فيها، بدأت حكومات عديدة، تحديداً منذ العام 2015، في تنفيذ برامج للتخارج من الفقر على نطاق أكثر اتساعاً، وفي إطار نظم الحماية الاجتماعية الخاصة بها. وكان الهدف من التركيز على الفئات المستهدفة من برامج التحويلات النقدية المشروطة هو تخريجها. مما لا شك فيه، أن هناك فوارق كبيرة بين تطبيق برامج التخارج من الفقر على مجموعات محدودة العدد، وبين التوسع فيها على صعيدٍ وطني، أو ما يطلق عليه scaling" up". وربما تتمثّل أهم التحديات في كيفية مخاطبة اختلاف السياقات الثقافية والاجتماعية، وكيفية تصميم برامج تناسب خصوصيات المجموعات المستهدفة، وفي الوقت نفسه تستهدف أعداداً كبيرة. بحلول العام 2016، كان هناك 58 برنامجاً للتخارج من الفقر في 36 بلداً. وكانت تجربة كولومبيا من أبرز التجارب التي استهدفت 35 ألف أسرة في نهاية العام 2018، وتجربة بيرو التي استهدفت 90 ألف أسرة في نهاية العام 2015. كان للتوسع سمات مختلفة إلى حد ما، فلم يعد الاهتمام مقتصراً على الفقر في الريف، لكنه امتد إلى الحضر أيضاً. كذلك، لم يعد التشغيل الذاتي self-employment عبر نقل الأصول هو الخيار الوحيد، بل اتسع ليشمل العمل بأجر لدى الغير.
وبرزت تحفظات عديدة على هذه التجارب، منها ما يتعلق بدقة استهداف الفقراء. فعلى سبيل المثال، كان أكثر من 80% من المستهدفين في بيرو وباكستان فوق خط الفقر حين أُدخلوا إلى البرنامج، كان يقدر بـ 1.25 دولار للفرد الواحد يومياً، و45% بالنسبة إلى بنغلاديش، ما أوضح وجود كم كبير من أخطاء الاستهداف والضم للبرنامج inclusion errors. وعلى صعيد آخر، رأى البعض أن النتائج تبدو متواضعة، وغير قادرة على إخراج الفقراء من فخ الفقر. فما تحقق من نتائج لم يختلف كثيراً عما حققته برامج التحويلات النقدية المستهدفة. وربما يعود السبب إلى تبني برامج التخارج من الفقر للمستفيدين من هذه التحويلات دون غيرهم. كما تواجه برامج التخارج من الفقر تحدي كيفية الانتقال من برامج التحويلات النقدية المشروطة إليها من دون مقاومة من المستفيدين. وأخيراً، نجاح هذه التجارب مرهون بتوفير بيئة مؤاتية، تتوافر فيها خدمات صحية وتعليمية ذات جودة، وبرامج مكملة ومساندة، خصوصاً في مجال توفير فرص العمل.
ثالثاً: تجارب عربية للتخارج من الفقر
طُبق برنامج التخارج من الفقر عبر ثلاث تجارب عربية، فتعد تجربة اليمن الأقدم تاريخياً، فهي طُبقت عام 2006، في إطار مبادرة مجموعة "سيجاب" ومؤسسة "فورد" لتجربة اقتراب التخارج من الفقر عبر سياقات متنوعة. وتجربتين حديثتين من مصر: تجربة "باب أمل" التي نفذتها مجموعة من الجمعيات الأهلية، وتجربة "فرصة" الحكومية لتخريج المستفيدات والمستفيدين من برامج التحويلات النقدية المشروطة – برنامج تكافل – تُطبق بالشراكة بين وزارة التضامن الاجتماعي والجمعيات الأهلية. ويذكر أن هاتين التجربتين لا تزالان في مهدهما، فكانت تجربة "باب أمل" أسبق زمنياً، وخضعت لتقييمات مبدئية، في حين لا تزال تجربة "فرصة" في مسار تطورها. وتعد تجربة "باب أمل" من التجارب الأولى للتخارج من الفقر في مصر، ونفذتها بعض المنظمات غير الحكومية، في حين تمثل "فرصة" التجربة الحكومية التي بـدأت في مراحلها التجريبية في العام 2023.
تجربة اليمن
بدأ التنفيذ الفعلي لها في العام 2009، وهي تجربة حكومية في مجملها نُفذت بالتعاون بين صندوق الرعاية الاجتماعية والصندوق الاجتماعي للتنمية – وهي مؤسسات حكومية – بمشاركة مجموعة "سيجاب" ومؤسسة "فورد". وحُددت ثلاث مناطق لتطبيقها تنقسم بين حضرية وريفية، هي عدن وتعز ولحج. واختير المشاركون من قاعدة بيانات صندوق الرعاية الاجتماعية الخاصة بالتحويلات النقدية غير المشروطة على أنهم يعانون فقراً مدقعاً، بينما كانت الحقيقة خلاف ذلك، فكانت غالبيتهم تتمتع بالارتباط بشبكاتٍ اجتماعية، بل وكان البعض يستفيد من تحويلات نقدية من الأقارب في الخارج، ولم يعانوا في الواقع فقراً مدقعاً، وإن كان يصعب القول إنهم ليسوا فقراء. واعتبر تقييم التجربة أن هذا أحد عيوب الاستهداف. أما التحدي الثاني الذي واجه التجربة، فكان الأزمة السياسية التي ضربت اليمن عام 2011، كجزء من انتفاضات الربيع العربي التي كان لها تأثير قوي على أداء البرنامج، ما طرح سؤالاً هاماً عن كيفية تعزيز قدرة البرنامج على مواجهة الصدمات والأزمات. فتسببت الأزمة في ارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكلٍ كبير، وتراجع حالة الأمن، ما أدى إلى صعوبة انتظام زيارات الدعم الفني والمتابعة. هذه التجربة استمرت من عام 2009 حتى العام 2013، وكان لها كثير من جوانب النجاح والفشل. فبلغت نسبة المتخرجين من الفقر في لحج 68%، وفي تعز 92%، وفي عدن 69%، في حين تلاعب بقية المستهدفين بالأصول، أو أفلسوا، أو تعثروا، بينما حققت نجاحاً واضحاً في إيصال الرسائل ذات الصلة بالصحة. وكانت تجربة الادّخار مختلفة قليلاً، إذ فضلوا الادّخار داخل المنزل عن مجموعات الادّخار، أو فتح حسابات مصرفية، بسبب ضعف الثقة.
تجربة "باب أمل" في مصر
في يوليو/تموز عام 2018، عقدت مبادرة براك اتفاقاً مع مؤسسة "ساويرس للتنمية الاجتماعية" (SFSD)، ومختبر جميل عبد اللطيف لدراسات الفقر (J-PAL) في الجامعة الأميركية في القاهرة، والمؤسسة المصرية للتنمية الإنسانية (EHDA)، وجمعية عطاء بلا حدود (GWLA)، من أجل مكافحة الفقر المدقع في الوجه القبلي للبلاد.
استهدف هذا التحالف تطبيق برامج للتخارج من الفقر. أُجريت الدراسة الاستطلاعية على 2400 أسرة ريفية، يعيشون في فقرٍ مدقع، في أسيوط وسوهاج، وهما من أفقر محافظات مصر. طُبقت التدخّلات نفسها التي تتبناها براك في كل مكان. وهي تبدأ بمخاطبة الحاجات الأكثر إلحاحاً: نقص الطعام، وانعدام الأمن الغذائي. ثم ظهرت تحديات أخرى، مثل السلوكيات، والممارسات الصحية غير السليمة، والنفاذ المحدود إلى الخدمات الحكومية خصوصاً المالية، وانخفاض مستويات التعليم، والمشاركة المحدودة للنساء في العمل، والافتقار إلى تقدير الذات، وغياب النظرة المستقبلية.
قامت منهجية التدخل على استهداف جغرافي لاختيار القرى الأكثر فقراً، واستهداف الأسر الأكثر فقراً بتطبيق معادلة الفقر، أو منهجية الاستهداف التقريبية، المعروفة بالـ proxy means test، مع التحقق من صحة البيانات عبر دراسة المجتمعات المحلية عن كثب. كان دخل الأفراد المستهدفين أقل من 1.25 دولار يومياً، وكانوا يعانون من الحرمان من معظم الخدمات الأساسية: فـ7% منهم لا يملكون وصلة مياه شرب، و8% ليس لديهم دورة مياه خاصة، و19% يعيشون في منازل متداعية، و43% يعانون من البطالة، و55% يمارسون عملاً مؤقتاً، و66% أميين.
تمثلت التدخّلات الأساسية في تقديم دعم مالي من أجل الغذاء إلى الأسر التي لا تحصل على أي تحويلات نقدية من وزارة التضامن، تقدر بـ 400 جنيه شهرياً لمدة 6 أشهر. توجه التدخل التالي نحو توفير سبيل للعيش، يُولّد من خلاله دخل وتحسين وضع هذه الأسر الاقتصادي عبر توفير أصول للأسر المستهدفة لمرة واحدة فقط (asset transfer) مثل الماشية، أو الدواجن، أو أصول لممارسة الخياطة، أو تحويلات نقدية لبدء عملٍ تجاري صغير. وصاحب ذلك تدريب على مهارات إدارة العمل: الفنية والإدارية والمالية لضمان الاستدامة. وفي ما يتعلق ببقية عناصر حزمة التدخّلات، كان الشمول المالي حاضراً عبر برامج لمحو الأمية المالية، وبناء قدرات الأسر المستهدفة على الادّخار، من خلال تكوين مجموعات ادّخار، تدار بشكلٍ دوري، وتشمل توزيع القروض متناهية الصغر، والتدريب المالي.
كما هدفت التدخّلات إلى تعزيز التمكين الاجتماعي عبر التدريب على المهارات الحياتية، والإرشاد الأسري، وتأسيس لجان التضامن على مستوى القرية بهدف تعزيز التماسك الاجتماعي، ودعم قيم المساواة بين الذكور والإناث. وفي ما يتعلق بالمتابعة، حُددت زيارات نصف أسبوعية إلى الأسر المستهدفة، من أجل الرصد المباشر للحالة المعيشية للأسرة. وأُخذت، أثناء التنفيذ، بعض الاعتبارات التي تساعد على استدامة التقدم، مثل مساعدة الأسر على الوصول إلى شبكات الأمان الاجتماعي والدعم المجتمعي حين تواجه صدمة صحية أو اقتصادية، وخلق الروابط مع الخدمات الحكومية، سواء في الصحة أو التعليم. كما أُعطيت أولوية لإضفاء طابع رسمي على مجموعات الادّخار لتعزيز قدرة المستهدفين على الوصول إلى الخدمات المالية الرسمية أو الحكومية.
أظهر التقييم المبدئي بعد ثلاث سنوات من التنفيذ، وبالتحديد في العام 2021، إذ كانت بداية التنفيذ في العام 2018، عدداً من النتائج، منها انخفاض عدد الأسر التي ليس لديها وصلة مياه شرب من 7% إلى 3%، وتراجع نسبة من لا يملكون دورة مياه خاصة من 8% إلى 6%، وانخفاض نسبة ساكني المنازل المتداعية من 19% إلى 13%، وأخيراً تراجع نسبة الأميين من 66% إلى 54%. وفي ما يتعلق بالنتائج المحققة في الدخل الناتج عن نقل الأصول التي اقتصرت غالبيتها العظمى على الماشية، تعددت المنافع، فنمت الأصول بنسبة 50%، وتنوعت مصادر الدخل (لما يقارب 3 مصادر للدخل)، وتراكم مدخرات منتظمة وكافية لفترة تمتد من ثلاثة إلى أربعة أشهر. وبالفعل، كنتيجة نهائية، 83% تخرجوا من: باب أمل" نهاية العام 2021. ومع ذلك، لا يزال الوقت مبكراً للحكم على استمرار الاستدامة، خصوصاً في ضوء ارتفاع معدلات التضخم في مصر بشكلٍ كبير.
تجربة برنامج "فرصة" في مصر
يعد "فرصة" في مصر، برنامجاً حكومياً للشمول الاقتصادي، بدأ تنفيذه في العام 2023، بالتعاون مع عدد من الجمعيات الأهلية التي ستؤدي الدور التنفيذي للبرنامج، بهدف تخريج المستفيدين من برنامج "تكافل" للتحويلات النقدية المشروطة عبر تمكينهم اقتصادياً، سواء من خلال إيجاد فرص عمل بأجر لهم، أو العمل في مشاريع صغيرة منتجة. يُطبق البرنامج حالياً في 8 محافظات كمرحلة أولى تشمل بني سويف والشرقية والقليوبية والأقصر والفيوم، والمنيا، وسوهاج، وأسيوط. ووفقاً لوزارة التضامن الاجتماعي، زاد عدد الأسر التي استلمت أصولاً إنتاجية من 3000 إلى 10302 أسرة، أي من 9% من الأسر المستهدفة البالغ عددها 53000 أسرة، إلى 29% في النصف الثاني من العام 2023. كما ارتفع عدد الحاصلين على وظائف بأجر من 3324 (23%) في آب/أغسطس عام 2023، إلى 5392 (38%) في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2023، من إجمالي المستهدفين، وهم 14314 أسرة.
لكن أوضح تقرير التقييم الذي أجراه المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية IFPRI، تراجع الإقبال على المشاركة في برنامج "فرصة"، فبلغت نسبتهم ثلث الأسر المؤهلة للالتحاق بالبرنامج بالنسبة إلى المسجلين في "تكافل"، أو المؤهلين للانضمام من غير المستفيدين من "تكافل". وترفض الغالبية العظمى من المستفيدين والمستفيدات من "تكافل" تماماً الانتقال إلى "فرصة"، وترك "تكافل". وبهدف فحص مدى قبول الانخراط في البرنامج عن كثب، وُجّه سؤالٌ افتراضي إلى العينة، عن تفضيلهم البقاء في "تكافل" أو الانضمام إلى "فرصة"، فأشار 35% من المستجيبين إلى استعدادهم للانضمام إلى "فرصة"، في حين فضّل 58% البقاء في "تكافل"، وتأرجحت مواقف النسبة الضئيلة المتبقية. والحقيقة، تقف وراء هذا الوضع عوامل تاريخية، ارتبطت بنشأة "تكافل". إذ غابت الشفافية حينها، ولم يُعلم المستهدفون أن معاش "تكافل" مرهون بمدة زمنية محددة، وأنه لا بد من التخارج منه، والانضمام إلى برنامج "فرصة". كما أن غياب الثقة لدى المستهدفين، جعلهم أميَل إلى البقاء في "تكافل"، إذ لم يُبلّغوا، في حالة فشلهم في "فرصة"، إن كانوا سيتمكنون من العودة إلى "تكافل" أو لا. وبناء على ذلك، كان من ضمن توصيات التقييم، عدم توقف التحويلات النقدية لفترة انتقالية لتشجيع الأسر على الالتحاق بـ “فرصة"، والاستمرار فيه. حتى بالنسبة إلى غالبية الأسر التي نُقلت إليها أصول، فأشاروا إلى عدم تحقيق ربح أو خسارة، ما يهدد البرنامج بالفشل، ويستدعي استمرار الدعم المالي عبر "تكافل" لفترة معينة، حتى يتحقق الربح من مشاريع "فرصة".
رابعاً: تحدي الاستدامة والسعي إلى بناء مؤشر لقياس التخارج من الفقر
في ضوء وجود بعض الأدلة على صعوبة تحقيق الاستدامة ومخاطر الارتداد للفقر مرة أخرى، سعت بعض الجهود البحثية إلى طرح مؤشر للتخارج من الفقر طُوّر بناءً على نتائج تجارب التخارج من الفقر الخارجية التي طُبّقت سابقاً. وربما يُعتبر من أبرز هذه المحاولات، المؤشر الذي طرحته هيئة إنقاذ الطفولة نتاج تطبيقها لتجربة "شيري" للتخارج من الفقر SHIREE Graduation Model في بنغلاديش في العام 2011، ثم عادت وطورته في العام 2014.
بناءً على نتائج المرحلة الأولى من هذه التجربة في العام 2011، وُضعت المؤشرات الآتية:
- الحد من استمرار المعاناة من انعدام الأمن الغذائي طوال العام.
- زيادة نصيب الفرد في الأغذية المولدة للطاقة يومياً.
- ضمان تنوع غذائي أكبر في الطعام.
- زيادة في عدد وقيمة الأصول المملوكة للأسرة.
- مصادر متنوعة للدخل.
- زيادة في إنفاق الفرد اليومي داخل الأسرة.
- حضور الأطفال في سن الدراسة إلى المدرسة.
وخضع هذا المؤشر للتعديل في المرحلة الثانية في العام 2014 ليضيف أبعاداً أكثر تفصيلاً لقياس التقدم الذي طرأ على الأسر المستهدفة، وشملت المؤشرات الآتي:
- الأمن الغذائي (طعام كافٍ على مدار العام).
- تنوع غذائي (على الأقل، استهلاك أسبوعي لخمس مجموعات غذائية).
- ثلاثة مصادر للدخل أو أكثر.
- القدرة على شراء الأصول من الدخل.
- أصل إنتاجي بقيمة مالية محددة.
- القدرة على ادّخار أموال في معظم الشهور.
- منزل آمن من التغيرات المناخية، وقادر على الصمود في وجه تقلبات الطقس.
- منزل فوق مستوى الفيضان، في حال حدوثه.
- حصول أفراد الأسرة على ملابس لائقة.
- القدرة على تغطية النفقات الصحية.
- ضمان النفاذ إلى الأرض.
- الحصول على مياه شرب نظيفة.
- وجود دورات مياه متصلة بصرف صحي.
- تسجيل الأطفال في المدارس الابتدائية.
والحقيقة أن وراء وضع المزيد من المعايير لقياس التخارج من الفقر، الرغبة في ضمان قدر أكبر من محددات الرفاه، بما يضمن تحقيق الاستدامة. ومع ذلك، وعلى الرغم من إعادة صياغة المؤشر ليضمن الاستدامة بشكلٍ أكبر، إلا أنه لم يضع في اعتباره أثر معدل التضخم على تآكل الدخول الحقيقية.
خامساً: شروط لا بد منها ودروس مستفادة
لعل الأولوية في التحليل هي للشروط أو المتطلبات، فمن دون توفيرها سيكون مصير برامج التخارج من الفقر كمصير كل برامج مكافحة الفقر، وهو النجاح في التخفيف من أعراض الفقر من دون التعامل مع أسبابه. لذا، لا بد من:
- إعادة النظر في ماهية الفقر. فهو ليس مجرد الافتقار إلى الدخل النقدي. لكنه فقر متعدد الأبعاد، ما يزيد من عبء الفقر، ويرفع حدّته، إذ يمتد الأمر من فقر الأسرة إلى افتقار المجتمع المحلي إلى الموارد والفرص، وتردي الخدمات الأساسية. ومن الصعب تصوّر وجود مثل هذه الحالة المركبة من دون أن تصاحبها أعراض نفسية مثل الشعور بانعدام الحيلة، والعجز، والخشية من التعبير عن الرأي، أو المطالبة بالحقوق، فضلاً عن تدني تقدير الذات. ويشير هذا إلى ضرورة أن يتواكب مع برامج التخارج من الفقر تحسين حالة المجتمع المحلي، عبر توفير خدمات أساسية في الصحة، والتعليم، والبنية الأساسية ذات الجودة، وتنشيط الأسواق، وتوفير الفرص والموارد، وما يقتضيه ذلك من إعادة توزيع الإنفاق العام والاجتماعي إلى المناطق المحرومة والأكثر فقراً. لذلك، من الضروري، عند وضع معايير للأسر المستهدفة من تطبيق برامج التخارج من الفقر، أن تتسع كي تتجاوز حد الفقر المادي إلى الفقر متعدد الأبعاد.
- إعادة النظر بشكلٍ جذري في السياسات الهيكلية، خصوصاً الاقتصادية التي تنتج الفقر والتهميش الاجتماعي، وتحول الملايين يومياً إلى ضحايا للفقر لتلتقطهم آليات تخفيف أعراض الفقر على أنواعها.
- التخارج من الفقر لا يعني الخروج من مظلة الحماية الاجتماعية، فهي حق من حقوق الإنسان طوال دورة حياته، ولا تقتصر على الفقراء. كما يتعارض هذا التصور جملةً وتفصيلاً، مع التوجه العالمي الذي ينادي بالشمول. وعليه، لا بد من الإقرار بأن التخارج من الفقر هو جزء لا يتجزأ من سياسات الحماية الاجتماعية، وينبغي تصميمه بشكلٍ فعال وعادل على هذا الأساس. كما أن تحسن مستويات معيشة المستهدفين ربما يخرجهم من أحد برامج الحماية الاجتماعية، لكنه في الوقت نفسه قد يوفر لهم الشروط للانضمام إلى برنامج آخر، بحسب ظروفهم الجديدة.
أما في ما يتعلق بالدروس المستفادة من مراجعة تجارب التخارج من الفقر في عالم الجنوب، فتبرز أهمية الآتي:
- اعتبار برامج التخارج من الفقر جزءاً لا يتجزأ من السياسة الاجتماعية، ودمجها خصوصاً بالتحويلات النقدية - سواء المشروطة أو غير المشروطة - خصوصاً بعد توجّه الكثير من الحكومات نحو تبني هذا النوع من البرامج. هكذا تبدأ الدورة بالتحويلات النقدية بهدف التخفيف من عبء الفقر من جهة، والمساهمة في بناء رأس المال البشري من جهةٍ أخرى. وتنتهي ببرامج التخارج من الفقر كطريق لحياة معيشية مستدامة. كما ينبغي التذكير بأنه، كما كان نجاح برامج التحويلات النقدية المشروطة مرهوناً بتحسين جودة الخدمات العامة، وتوفير الخدمات المكملة والمساندة، فإن الأمر نفسه ينطبق على برامج التخارج من الفقر.
- على الرغم من تطبيق منهجية استهداف أكثر شمولاً عبر الجمع بين الأساليب الكمية (الاستبيانات) التي يُحدد على أساسها خط الفقر من جانب، والأساليب الكيفية التي تعتمد على المقابلات الفردية مع الأسر المستهدفة والتحقق المجتمعي من جانب آخر، فإن أخطاء الاستهداف، سواء باستبعاد من يستحق بسبب عدم دقة البيانات أو تحيزات المجتمع المحلي، وأخطاء ضم من لا يستحق، بسبب سطوة نخبة المجتمع في الاختيار، لا بد من معالجتها. وربما يكون تبني منهج الشمول للمجتمع المحلي الفقير ككل حلاً، مع التفكير في تطوير البرنامج بما يتوافق مع استهداف المجتمع المحلي ككل.
- اعتبار المنظمات غير الحكومية شريكاً أساسياً للحكومات في تصميم البرامج، بحكم قربها من المجتمع المحلي، وملامستها الواقعية للفئات الهشة في مجتمعاتها، فضلاً عن قدرتها على المساهمة في بناء الثقة بين الحكومات والمستهدفين، وللاستفادة من مواردها في التحقق من الأهلية للانضمام إلى هذه البرامج، وضمان لامركزية هذه التدخّلات جغرافياً. والحقيقة أن الكثير من التجارب الناجحة انتهجت هذا السبيل لتأهيل المجتمعات المحلية، للانخراط في مثل هذه البرامج، وتنفيذها. فعلى سبيل المثال، اعتمدت تجربة كولومبيا الحكومية على التحقق من صحة البيانات بمساعدة المجتمعات المحلية، وانتهجت تجربة بيرو الحكومية نهجاً لا مركزياً في التنفيذ والمتابعة عبر المنسقين المحليين. ومع ذلك، هناك تجارب اكتفت باقتصار دور المنظمات غير الحكومية على التنفيذ من دون إشراكها في التصميم، مثل برنامج "فرصة" في مصر.
- تبني منهجية مختلفة عن منهجية الحكومات المعتادة في إدارة هذه التجارب. فحجر الزاوية في نجاح تجارب التخارج من الفقر التي نفذتها المنظمات غير الحكومية، هو الاهتمام الكبير بمكوّن الإرشاد والنصح والمتابعة للأسر المستهدفة بشكلٍ دوري ومنتظم، وتقديم الدعم الفني والإرشاد النفسي، خوفاً من الفشل. وهذا أمر ربما يسهل تطبيقه في التجارب محدودة النطاق، لكنه في غاية الصعوبة عند التوسع إلى نطاقات أكبر، ما يستدعي تجهيز أطقم إدارية مدربة على تقديم الدعم النفسي والفني من جانب، وإدارة الوقت من جانبٍ آخر لتحقيق متابعة دورية منتظمة. ومما لا شك فيه، أنه إذا استُثمر في الموارد البشرية القائمة بالفعل في المجتمعات المحلية، سيشكل ذلك أحد سبل النجاح.
- إن تطبيق برامج التخارج من الفقر على نطاقٍ واسع لا بد أن يصحبه تطوير المجتمعات المحلية، من البنية الأساسية، والخدمات العامة، والاتصالات، مع مراعاة المواقع التي تعاني من عزلة جغرافية وتحتاج إلى تشييد الطرق وخطوط المواصلات. وفي ما يتعلق بتحليل الأسواق المحلية والمركزية، وفهم المزايا النسبية للمنتجات، وما يترتب عليه من تحديد نوعية الأصول التي ستقدم إلى المستفيدين.
- مواجهة تحدي كيفية تحويل فرص العمل التي تتيحها برامج التخارج من الفقر إلى فرص عمل لائقة، خصوصاً من جهة المعايير الخاصة بالحماية الاجتماعية، مثل الانضمام إلى التأمينات الاجتماعية، والتأمين الصحي الشامل. وربما يقتضي ذلك التفكير في حزم للتأمينات الاجتماعية تتوافق إلى حدٍ كبير مع ظروف عمل المتخارجين من الفقر.
- اعتبار الادّخار جزءاً أصيلاً من برامج التخارج من الفقر، والسعي إلى تنظيم المستفيدين في مجموعات ادّخار، وإضفاء الطابع الرسمي عليها عبر الشمول المالي، هو أحد تجليات الاقتصاد التضامني، وما يعنيه ذلك من ضرورة توافر رؤية حول تدعيم الاقتصاد التضامني، عبر التعاونيات، والأشكال الأخرى التي تعزز العمل الجماعي وتضفي عليه الطابع الرسمي من جانب، وتحد من المخاطر المحتملة من جانبٍ آخر.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.