ملخَّص تستكشف هذه الورقة المناقشات الدائرة بشأن اللامركزية في العراق، ولأي درجة كان تنفيذها ناجحاً. إذ ظهرت أجندة اللامركزية في مرحلة ما بعد 2003 لتهيئة توازن داخلي للسلطة وللتخفيف من خطر صعود نظام سلطوي جديد. وقد أضفى دستور 2005 طابعاً رسمياً على النظام الاتحادي في العراق الجديد، مع صدور القانون رقم 21 لعام 2008، الذي قنّن الإطار الإداري والقانوني للامركزية في العراق. على أن القانون 21 قد خضع للتعديل ثلاث مرات؛ مما يشير إلى الطبيعة الخلافية للمفاوضات بين النخب السياسية التي اعتمدت على مقاربة العمل من أعلى لأسفل، ولم يبدأ تنفيذ القانون بنحو فعال إلا في العام 2015، بعد سنة من سقوط الموصل.
باستكشاف الدوافع السياسية والحسابات الخاصة بالنخب، تسلّط هذه الورقة الضوء على أسباب إخفاق عملية تفويض السلطات المحلية في إحداث تغيير حقيقي في حياة المواطن العراقي. في حين تحققت اللامركزية إلى حد كبير في السلطات الإدارية، فلا يمكن قول الشيء نفسه عن اللامركزية المالية؛ فوزارة المالية أظهرت أكبر قدر من المقاومة لتنفيذ القانون 21 ولا يزال الفاعلون على المستوى المحلي قاصرين في ممارستهم للسلطات الممنوحة لهم مؤخراً.
ومن بين الأمثلة الأوضح على التوترات القائمة بين المركز والسلطات المحلية، محافظة البصرة الثرية بالنفط، التي طال إهمالها على مدة عقود، فقد شهد صيفها للعام 2018 انطلاق تظاهرات سلّطت الضوء على الإخفاق الممنهج لبغداد والحكومة المحلية معاً في تلبية الاحتياجات الأساسية لسكان البصرة. وقد كشفت لعبة لوم كل طرف للطرف الآخر التي بدأت بين الحكومة المركزية ومحافظ البصرة عن خلافات عميقة بشأن الطرف الذي يجب أن يتحمل مسؤولية تقديم الخدمات للبصرة. وظهرت هذه الخلافات في ساحات المحاكم العراقية، التي سعى الوزراء والمحافظون من خلالها إلى تأكيد سلطاتهم. وستتناول هذه الورقة بعض الخلافات القانونية القائمة سعياً لتسليط الضوء على الآراء المتباينة إزاء تفسير القانون 21. وعلى الرغم أن سنوات ستنقضي قبل أن تتكيف السلطات مع ترتيبات تشارك السلطة الجديدة هذه، فمن الضرورة بمكان أن يُرافق اللامركزية إصلاحات انتخابية وإدارية متكاملة من شأنها تحسين مرونة الحكومات المحلية وجاهزيتها. ومن المهم جداً ألا يتم تجاهل الإدارة المحلية على مستويي القضاء والناحية، إنما يجب تمكين هذه الوحدات الإدارية أكثر، بما أنها أطراف واعية كل الوعي باحتياجات سكانها.
اقرأ المزيد شهد المنطق المرشد أو المبرر للامركزية في العراق على مدار السنوات الخمسة عشرة الماضية تطوّراً لافتا، ففي حقبة ما بعد 2003 مباشرة، رأى الكثيرون في الحكم الاتحادي علاجاً ناجعاً يحول دون صعود نظام سلطوي جديد. وفي السنوات القليلة الماضية، وُصِفَ تفويض السلطات المحلية أداةً سياسيةً، من قبل الفاعلين المحليين والدوليين على السواء، كعلاج لتحديات العراق الكثيرة، سواء لاحتواء النزاعات العرقية-الطائفية، أو لتلبية مطالب السكان الذين أخذ سخطهم يتصاعد باطّراد.
وعلى مدار تلك المدة، استمرت المناقشات في مسألة لأي مدى يتعيّن على بغداد الاحتفاظ بقواها واستعراضها. ويدعي أنصار توجه الحكومة المركزية القوية أنه دون وجود عاصمة قوية تحافظ على وحدة البلاد، فسوف ينهار العراق في نهاية المطاف بسبب النزعات الانفصالية في الشمال ومن جراء التوترات القائمة منذ زمن طويل بين مختلف المكونات الإثنية-الدينية للمجتمع العراقي. وعلى الجانب الآخر، يؤكد الكثيرون أن وحدة العراق لن تستمر إِلَّا بتفويض السلطات وتمكين الناس على المستوى المحلي، بما يضمن حيازة الأطراف المحلية للسلطة الكافية الكفيلة باستمرار التزامهم بدولة موحدة. ويُعدُّ تأطير النقاش بصفته نقاش بشأن اللامركزية مهماً لفهم دوافع أنصار ومعارضي هذه القضية، فضلاً عن إتاحة إمكانية عمل تقييم متوازن ومتزن لمزايا وعيوب اللامركزية.
ومن المنظور التاريخي، تعدّ تجربة العراق مع اللامركزية مسألة معاصرة جداً، وإن كان القانون 159 الصادر عام 1969 قد أسس الإدارات المحلية، وإن كان مسؤولو حزب البعث هم من سيطروا عليها وكانت تأتيهم الأوامر من بغداد. وبعد حرب الخليج، تشكل إقليم كردستان الذي كان يتمتع بقدر من الحكم الذاتي، ما فرض على الأرض شكلاً من أشكال الاتحادية (الفيدرالية) غير المتماثلة. ففي حين تمتعت مناطق شمال العراق بقدر نسبي من الاستقلالية عن بغداد؛ بقيت سائر أنحاء العراق الأخرى تحت القبضة الحديدية لنظام صدام السلطوي. وفي عام 2005 مع التصديق على الدستور الجديد عبر استفتاء شاركت فيه جميع مناطق العراق، تحوّل النظام الاتحادي أخيراً إلى صيغة رسمية لتَشارك السلطة. وتشير المادة (116) من الدستور إلى أن: "يتكوّن النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية".
في حين يتناول الدستور بقدر من التفصيل السلطات الحصرية للحكومة المركزية وسلطات الأقاليم والمحافظات، فقد قُنّنت اللامركزية للمرة الأولى عبر القانون 21 المعروف بقانون (المحافظات غير المنتظمة في إقليم). وعلى مدار عشر سنوات، عُدّل القانون 21 ثلاث مرات، وكان آخر تعديل في نيسان/أبريل 2018، إذ نصّ على وضوح أكبر في تحديد سلطات المحافظات، مع إتاحة سلطة إدارية ومالية أكبر للفاعلين على المستوى المحلي، بما يشمل مجالس المحافظات والمحافظين.
لكن على أرض الواقع، لم تبدأ الجهود المكرسة لتنفيذ القانون 21 إِلَّا في عام 2014، وكان ما حرّك هذه الجهود هو سقوط الموصل وسيطرة تنظيم (داعش) على مساحات كبيرة من الأراضي. ففي تلك المرحلة الحرجة، ظهرت تساؤلات عن وحدة الدولة العراقية، على المستويين المحلي والدولي. فمع خروج نحو ثلث مساحة العراق من سيطرة الحكومة المركزية، ظهرت دعوات كثيرة من أصوات محلية ودولية تطالب بتوزيع السلطة رسمياً على مختلف المناطق، وكان من بين المطالبين ساسة عراقيون وفاعلون قبليون رأوا في تلك اللحظة فرصة لترسيخ مواقفهم في مواجهة بغداد، هذا فضلاً عن أن القيادة الكردية التي تطمح إلى الاستقلال منذ زمن، ودول مجاورة للعراق رأتا أن هنالك فرصة للاستفادة من الانقسامات العراقية الداخلية.
وكان مستوى الثقة في الجيش العراقي والقوات الاتحادية الأخرى قد تراجع إلى أدنى مستوى له على الإطلاق في المحافظات ذات الأغلبية السنية، وآمن قليلون بأن هذه القوات قادرة على هزيمة تنظيم (داعش). وفي الوقت نفسه، تحركت القوات الكردية في شمال العراق سريعاً للسيطرة على أراضٍ خارج مناطقها، بما يشمل محافظة كركوك المتنازع عليها. وقد زعم رئيس إقليم كردستان -آنذاك- مسعود بارزاني في تصريح له بأن الحدود الجديدة لإقليمه ستُرسم على الأرض بالدم. ودأبت دول جوار العراق في الخليج على تقويض مشروعية الحكومة في بغداد، إذ رأت فيها امتداداً لهيمنة إيران على المنطقة، في حين أعلن غلاف مجلة "تايم" الشهير، لعدد حزيران/يونيو 2014 عن "نهاية العراق". وفي ظل هذه الظروف، واجهت بغداد مهمة لا تحسد عليها، تتمثل في استرداد الأراضي من (داعش)، مع السعي في الوقت نفسه إلى توحيد المكونات السكانية المختلفة والمتباينة في العراق.
وفي هذا السياق يمكن فهم منطق اللامركزية في عام 2014 بصفته عملية انتهجت مقاربة العمل من أعلى لأسفل، وبصفتها عملية سياسية الدوافع غايتها إنقاذ الدولة. لقد كان تفويض السلطات في الصدارة وهو يعني طمأنة الشرائح المهمشة من الطبقة السياسية العراقية إلى إمكانية ترسيخ أقدام الدولة مرة أخرى عن طريق ترتيبات جديدة لتَشارك السلطة مصحوبة بضمانات قانونية ودستورية. وهذا الترتيب في الأساس كان يعني تمكين الفاعلين الأمنيين المحليين القادرين على تكريس انعدام الثقة في القوات الاتحادية التي تسيطر عليها بغداد. وكانت اللامركزية أيضاً مطلباً شجّع عليه التحالف الدولي ضد (داعش) بقيادة الولايات المتحدة، التي اشترطت -من حيث الممارسة- ربط تقديم المساعدة العسكرية لبغداد بزيادة تشارك السلطة فيما يخص الملف الأمني.
تم تفعيل المفهوم العام للامركزية بصفته "نظام اتحادي فعال"، يتيح مقاربة متعددة الأوجه، طويلة الأمد، على الصعيدين السياسي والعسكري، لهزيمة (داعش)، ومن ثم إبعاد العراق عن حافة الهاوية. وكان النظام الاتحادي الفعال قائماً على خمسة مبادئ، تتطلب أربعة منها إعادة تشكيل الجهاز الأمني العراقي لمواجهة (داعش) في ساحة المعركة، وللتعامل مع المظالم المتصورة التي عُدت سبباً لصعود الإرهاب المنظّم. وقد سعت هذه المبادئ فعلياً إلى تمكين الأطراف المسلحة المحلية من تولي قيادة تأمين المناطق المحلية، بالأساس على نهج الحرس الوطني الأمريكي. وصاحب هذا الحدّ من دور القوات الاتحادية -وتشمل الجيش العراقي- بحيث تركز على تأمين حدود المحافظات وحدود الدولة. وكان المبدأ الخامس متصلاً باعتماد سلسلة من الإصلاحات السياسية التي من شأنها "معالجة مظالم مشروعة وتبديد أي ذرائع لأنشطة (داعش)".
VIDEO
بينما تُركز المناقشات بشأن اللامركزية في العادة على الجوانب الإدارية والمالية من تفويض السلطات، تعد المسائل الأمنية في حالة العراق ضرورية لفهم الإحداثيات الأعمّ لمنطق اللامركزية القائم. فما بدأ كنقاش عن كيفية التعامل مع المخاوف الأمنية، تحوّل في النهاية إلى مناقشة أشمل بكثير بشأن تفويض السلطات (الإدارية، والقانونية، والمالية). بحلول النصف الثاني من عام 2017، ومع بلوغ الحرب ضد (داعش) ذروتها وبدء القوات العراقية في استرداد الجيوب الأخيرة المتبقية للإرهاب، تحول الاهتمام إلى قدرة اللامركزية على تحسين عمليات تقديم الخدمات. بدأت الحالة الأمنية في شتى أنحاء العراق تتحسن سريعاً، وهذا منذ تدشين عمليات استرداد الموصل. في بغداد على سبيل المثال: انحسرت كثيراً الاعتداءات التي تسفر عن خسائر بشرية كبيرة. وفي المحافظات الجنوبية، أصبحت الحوادث الأمنية أقل انتشاراً مقارنة ببغداد. وتحول اهتمام الناس من تهديد (داعش) الوجودي، إلى الاهتمام بمعاشهم اليومي. ومع استمرار إحساس المواطن العراقي بآثار الأزمة المالية التي كان سببها انهيار أسعار النفط، تزايد قلقه من نقص فرص العمل وعدم كفاية الخدمات الأساسية. وأدركت الحكومة المركزية أمرين. أولاً: أنه ومع النمو السكاني المتسارع، لم يعد بالإمكان إدارة خدمات كالتعليم والصحة والأشغال العامة عبر نموذج الإدارة شديد المركزية. ثانياً: بإمكان الحكومة المركزية أن تحوّل السخط الشعبي نحو المسؤولين المحليين؛ بعبارة أخرى: أصبح من المجدي سياسياً للحكومة المركزية أن توزّع اللوم على أوجه قصور الإدارة الحكومية، ومثّل هذا حافزاً رئيسياً باتجاه تسريع خطط تنفيذ القانون 21.
وبدعم من المجتمع الدولي -اشتمل على برامج دعم فني وبرامج لبناء القدرات من الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة والبنك الدولي والأمم المتحدة- سرّعت الحكومة المركزية من تفويض السلطات للمحافظات عبر لجنة حكومية معروفة بمسمى الهيئة العليا للتنسيق بين المحافظات. مع تكليفها بضمان التفويض الكامل للسلطات بموجب القانون 21، عملت الهيئة كأداة بيروقراطية مسؤولة مباشرة من رئيس الوزراء، ويسّرت المشاورات مع سلطات المحافظات؛ من أجل التغلب على المعوقات ولتسهيل تنفيذ اللامركزية. وقد اشتمل هذا على اجتماعات تنسيقية شبه شهرية في بغداد والمحافظات ترأّسها رئيس مجلس الوزراء بحضور المحافظون، للاستماع إلى مطالبهم وشواغلهم. وفي الوقت نفسه ركزت المساعدات الدولية في تحضير الأجهزة البيروقراطية للمحافظات لتنفيذ اللامركزية، عبر تقديم التدريبات الفنية في مجالات منها التخطيط الاستراتيجي والإدارة المالية؛ من أجل التعامل بفعالية مع تحديات توسع الميزانيات والموارد البشرية. وكان استقبال هذه التيسيرات والأعمال التنسيقية مقبولاً وإن كانت نتائجه محل تساؤلات، فالمنظمات الدولية كثيراً ما تجد مشقة في التغلب على مقاومة التغيير في أوساط المؤسسات الإدارية التي تعاني من كثرة الفساد والعدوانية للشفافية. وغالباً ما يكون تصميم البرامج التدريبية معيباً بسبب غياب الفهم العميق للمشكلات القائمة، ونتيجة للإخفاق في بناء شبكة من الملاكات التي تقدم أمثلة تُحتذى، لديها السلطة الكافية لضمان عدم النكوص عن الممارسات الجيدة المتحققة.
تطورات الإطار القانوني
عُدّل القانون 21 في عام 2010، وفي 2013، ثم عُدل مؤخراً في 2018. وأصبح القانون معروفاً بمسمى "قانون المحافظات"، ويسري على (15) من (18) محافظة، مع استثناء محافظات إقليم كردستان الثلاث.
إن هذا القانون الذي صدر في البداية في أكثر من 50 مادة، يحدّد خصائص الوحدات الإدارية واختصاصاتها وصلاحياتها المختلفة على مستوى المحافظة، مع استعراض الآليات الخاصة باختيار المسؤولين المحليين وانتخابهم، وتعريف إحداثيات تنفيذ مختلف المهام التنفيذية والتشريعية، ومن بين المواد الهامة في القانون 21، المواد التي تنص على مجالس المحافظات بصفتها أعلى سلطة تشريعية وإشرافية. وتستعرض تلك المواد المهام الأساسية للوحدات الإدارية، ومنها مجالس القضاء ومجالس الناحية، والمحافظ، الذي ينتخبه مجلس المحافظة. يشير القانون 21 إلى ضرورة تنظيم هذه الكيانات المحلية للشؤون الإدارية والمالية للمحافظة "وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، بما لا يتعارض مع الدستور والقوانين الاتحادية". وهناك سلطتان أساسيتان متاحتان للوحدات الإدارية، هما: الأولى: سلطة جمع الضرائب، والرسوم، والأجور (هذه السلطة أصبحت فيما بعد سبباً لقدر كبير من الخلاف، وسنناقشها لاحقاً). الثانية: قدّم القانون 21 للسلطات المحلية قدراً كبيراً من السيطرة على موظفي المحافظة من المستوى المتوسط للمستوى الأدنى من السلم الوظيفي.
وعلى مدار التعديلات المتعاقبة للقانون، توسعت هذه السلطات لتشمل السلطات القانونية، وقدراً أكبر من السيطرة على مؤسسات الدولة. وبموجب تعديل 2013، أصبحت سياسات المحافظة تسمو على السياسات الاتحادية في المجالات التي تُدار بالمشاركة بين المستويين؛ وأدّى هذا إلى تمكين المحافظات من تفعيل التشريعات واللوائح (الأنظمة) والتدابير الإدارية.
وفضلاً عمّا ذُكر، تقرر تنفيذ اللامركزية على مستوى 8 وزارات اتحادية، مع منح المحافظات سلطات فنية وقانونية وإدارية تمارسها على مستوى المديريات الخاصة بهذه الوزارات في المحافظات. وهذه الوزارات هي التعليم، والصحة، والبلديات والأشغال العامة، والزراعة، والإعمار والإسكان، والعمل والشؤون الاجتماعية، والشباب والرياضة، والمالية. وقد سعت هذه التدابير إلى مأسسة فكرة أن تكون عملية تقديم الخدمات بالأساس مسؤولية السلطات المحلية.
ومن الناحية العملية، كان هذا يعني تحويل الموظفين الحكوميين الذين يعملون بالمديريات المحلية المتصلة بهذه الوزارات الثماني، إلى سلطة الحكومة المحلية بالمحافظات المختلفة. وفي واقع الأمر، لا يمكن تنفيذ القانون إلا جزئياً، فأكبر مقاومة له جاءت من وزارة المالية، التي لم تمتثل بعد للقانون 21 بما يوائم القصد الفعلي منه. وقد اعترض مسؤولو المالية على مسألة تمكين المحافظات من تدبير العوائد المالية على المستوى المحلي، على الرغم من أن القانون 21 يمنح الحكومات المحلية سلطة جمع الضرائب والرسوم والأجور طالما عملية الجمع هذه متسقة مع القوانين الاتحادية. ظهرت خلافات حول التعريفات الدقيقة للضرائب والرسوم، وكثر اقتباس المادة (28) من الدستور، من قبل المسؤولين الاتحاديين، لتأكيد ادعاءاتهم بعدم إمكانية فرض ضرائب جديدة دون تشريعات بذلك. ومن حيث الممارسة، كان هذا يعني استمرار اعتماد المحافظات بالكامل تقريباً على مخصصات الميزانية التي تقدّرها بغداد، مع اقتصار آليات توليد العوائد المالية المحلية المتاحة لها. حتى في وزارتي الصحة والتعليم -حيث بدأت عملية اللامركزية في 2017-، تم تعليق العملية فجأة في العام التالي؛ مما أدى إلى نقل جزئي فقط للموظفين الحكوميين إلى عهدة المحافظات. أدى هذا إلى ارتباك شديد حول العلاقة بين الرؤساء والمرؤوسين وقنوات التواصل الإدارية الخاصة بالعاملين.
وعلى المستوى الفني، هناك خلاف بشأن إمكانية تعريف هذه العملية بصفتها عملية تحوّل لامركزي أو أنها عملية لإعادة توزيع المركزية؛ أي مجرد نقل سلطة الوحدة الإدارية من مستوى الحكومة المركزية إلى المستوى المحلي. أما ما يخصّ الموظفين الحكوميين، فلم يكن أمام الحكومات المحلية سوى قبول جميع الموظفين المتواجدين. وعلى الرغم من تحوّل إدارة إنفاق الميزانية الخاصة برواتب الموظفين إلى ميزانية المحافظة؛ فقد كانت يد السلطات المحلية مغلولة من حيث القدرة على إصدار توجيهات للعاملين في المديريات الخاصة بالوزارات على مستوى المحافظات.
القانون 21 من حيث الممارسة
على الرغم من أن تعديلات القانون 21 قد أعطت ثقلاً أكبر لسلطات المحافظات، فقد صعّدت العملية أيضاً من التنازع على السلطة بين الفاعلين على المستوى الوطني وعلى المستوى المحلي. ولقد انتقلت تلك الخلافات إلى ساحات المحاكم، حيث طعن مسؤولو المحافظات على قرارات وزراء اتحاديين، وزعموا أنهم تعدّوا على الصلاحيات المفوضة إليهم، وحدث العكس أيضاً. وعلى الرغم من إنجاز التعديلات المتعاقبة للقانون 21 عبر عملية تشاورية بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية؛ فما زال تنفيذ القانون محفوفاً بالخلافات.
تدخلت الحكومة الاتحادية العليا - التي لها السلطة الحصرية في تفسير الدستور والفصل في الخلافات المتصلة بأحكامه - عدة مرات للفصل في هذه الخلافات، وقد برز مساران أساسيان للخلاف. أولاً: مسألة من له سلطة تعيين وفصل كبار المسؤولين. ثانياً: لأي مدى يجب تحقيق اللامركزية المالية. ومن منظور الاقتصاد السياسي، كانت هذه الخلافات متوقعة، نظراً لأنها متصلة كل الاتصال بالصراع على الاحتفاظ بالسلطة والنفوذ. حتى إذا كانت هناك إرادة سياسية على أعلى مستويات الحكومة للاتجاه نحو اللامركزية، فسوف يسعى الوزراء إلى حماية شبكاتهم الزبائنية، ولاسيما تلك القائمة على المستويات العليا بالحكومة؛ إذ تعد مناصب المديرين العامين في أحيان كثيرة تعيينات سياسية متصلة بشبكات نفوذ الفرد أو الحزب. والحق أن المسؤولين بالمحافظات ليسوا بمِنعة من تبني مصالحهم الخاصة والسعي إلى توسيع نفوذهم السياسي عبر هذه التعيينات بدورهم.
في حزيران/يونيو 2018 رفضت المحكمة الاتحادية العليا نظر قضية مرفوعة ضد مادة في القانون 21 تنص على تفويض صلاحيات الوزارات الثماني على مستوى المحافظات. أكد الحكم سريان المادة (12) من قانون 21 المُعدّل، مع تأكيد عدم تعارض المادة المذكورة مع أحكام الدستور.
وفي الشهر التالي طُلب من المحكمة النظر في طعن مقدم من رئيس مجلس محافظة ميسان ادعى فيه بأن مادة من القانون 21 - تطالب بحصول الحكومة المحلية على إذن من الوزارات لإنفاذ التعيينات رفيعة المستوى (درجة مدير عام فأعلى) - غير دستورية. رفضت المحكمة الطعن وأكدت سمو مجلس الوزراء كأعلى سلطة تنفيذية مسؤولة عن وضع توجيهات التعيينات الخاصة بكبار المسؤولين. واستمرت هذه الخلافات في شتى أنحاء العراق. وعندما أصدر محافظ الموصل قراراً باستبدال مدير بلدية الموصل في أيار/مايو 2018، ردّت وزيرة البلديات سريعاً بتوجيه منها يؤكد افتقار المحافظ لهذه الصلاحية.
وقد سعى مسؤولو المحافظات إلى تأكيد سلطتهم في الملف الأمني. ومن بين الخلافات الأبرز، كان تعيين قائد الشرطة الجديد في البصرة قبيل انتخابات 2018 النيابية، فحينئذ، استبدل رئيس الوزراء -آنذاك- حيدر العبادي اللواء عبد الكريم المياحي باللواء جاسم السعدي؛ مما أدى إلى موجة استنكار على مستوى الحكومة المحلية. وأعلن محافظ البصرة أسعد العيداني وأعضاء مجلس المحافظة اعتراضهم الشديد على التعيين، وادعوا بأن سلطة فصل وتعيين قائد الشرطة هي بالكامل في يد سلطات المحافظة. وأشار العيداني إلى أنه وبصفته رئيس اللجنة الأمنة بالبصرة، يرى ضرورة تنسيق قرار كهذا بين الحكومتين الاتحادية والمحلية. وتذرّع مجلس المحافظة بالقانون رقم 21 كأساس لسلطته في الموافقة على تعيين قائد الشرطة. وكان من اعتراضات مسؤولي البصرة الأساسية الأخرى أن قائد الشرطة الجديد جاء من محافظة ديالى، وأصرّوا على ضرورة بقاء المنصب في يد شخص من محافظة البصرة.
جاء رد فعل وكيل وزير الداخلية مشتملاً على التذرع بالموقف الأمني شديد الصعوبة في المحافظة كسبب لتعيين شخص من خارجها. وأشار إلى أنه نظراً للارتباطات العشائرية والمصالح والأهواء الشخصية، فمن الصعب على شخص من البصرة تولي دور قائد الشرطة في المرحلة المقبلة من العمليات الأمنية بالمحافظة، مضيفاً أن وزارة الداخلية، وبعد إتمام العمليات الأمنية المزمعة، سوف تعيد النظر في تعيين شخص من المحافظة في هذا المنصب. وفيما يخص القانون رقم 21، أصرّ وكيل الوزير على أن الشؤون الأمنية هي حصراً من اختصاصات الحكومة الاتحادية، كما ورد في الدستور.
تحقيق الأداء الأمثل للامركزية
في نهاية المطاف، يُقاس النجاح في تحقيق اللامركزية إلى مدى ثقة الجمهور في السلطات الاتحادية والمحلية معاً. لقد أظهرت استطلاعات الرأي – على طول الخط – تآكل الثقة وتراجعها، ويتصل هذا إلى درجة غالبة بعدم الرضا إزاء توفر فرص العمل والخدمات، وارتفاع معدلات الفساد. في حين يبقى الأمن شاغلاً أساسياً، فقد كشف استطلاع للرأي شمل جميع أنحاء العراق وأجراه المعهد الديمقراطي الوطني في أيلول 2018، عن أن نحو 60% من المبحوثين يرون أن توفر الخدمات الأساسية يعاني من التدهور. وتبين من الاستطلاع أن الفساد من بين أهم ثلاث أولويات التي يجب على الحكومة الجديدة التعامل معها، وأنها قضية تعتبر أهم من الأمن، بحسب من أجريت معهم المقابلات. وإجابة على سؤال حول مدى الثقة في مؤسسات الدولة، أعرب 27% فقط من المبحوثين عن درجة من الثقة في مجالس المحافظات. وكانت نسبة الثقة في مؤسسات الحكومة المركزية 24% فقط.
وكان القياس الحقيقي الأول لفوائد اللامركزية في صيف 2018، حينما اندلعت المظاهرات العنيفة في البصرة جراء النقص في المياه النظيفة والكهرباء. ورغم تكرر المظاهرات سنوياً أثناء أشهر الصيف الحارة، فاضطرابات 2018 كانت مقلقة بصفة خاصة بسبب طبيعتها السياسية. فقد خرج المتظاهرون في مسيرات أثناء مرحلة انتقالية، في لحظة شهدت ظهور نتائج الانتخابات النيابية ولم يكن الاتفاق على تشكيل الحكومة الجديدة قد أبرم بعد. ولهذا السبب، كانت للمظاهرات تداعيات عريضة النطاق على نتائج مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة بين الكتل السياسية.
كشفت أزمة المياه عدم قدرة الحكومة المحلية على التصدي لتوفير الخدمات الأساسية دون دعم كبير من الحكومة المركزية. الحق أن الجانبان سعيا إلى لوم أحدهما الآخر على الأزمة، التي بلغت ذروتها في المواجهة غير المسبوقة بين رئيس الوزراء ومحافظ البصرة أثناء جلسة برلمانية كان من المفترض أن يتم خلالها مناقشة سبل التصدي للأزمة. وبدلاً من استعراض حلول الأزمة، تبادل الطرفان الاتهامات بالإخفاق في الوفاء بالمسؤوليات المترتبة عليهما، وسرعان ما تراجعت المظاهرات بعد إرسال بغداد لجنة عمل رفيعة المستوى إلى البصرة للتدخل بصورة مباشرة في الأزمة ولمحاولة حل المشكلة.
وكي تُحقق اللامركزية نتائجها التنموية والسياسية المرجوّة، فلابد من اعتماد مجموعة من السياسات الأساسية، وإن كانت التوقعات تتباين بقوة فيما يخص الترتيبات المثلى المطلوبة:
أولاً : على المسؤولين المحليين الاستمرار في الحصول على المساعدات الفنية الكافية للتمكن من ممارسة سلطاتهم الآخذة في التوسع، فأغلب أوجه القصور على المستوى المحلي قائمة في بغداد أيضاً، وهي بالأساس نقص الخبرات الفنية مثل كيفية انتهاج التدابير البيروقراطية الحديثة، وتشمل الحوكمة الإلكترونية، بدلاً من تسيير الأعمال الحكومية ورقياً، وتقنيات المحاسبة والمراجعة الحديثة، واستراتيجيات التخطيط. يجب أن يكون التدريب متسقاً لا متفرق المسارات، والمسألة تحتاج إلى وقت حتى يتكيف الموظفون الحكوميون مع الترتيبات الجديدة. وتستمر أيضاً الإشكالية القانونية، وسوف تمر فترة طويلة قبل أن تؤدي سوابق قانونية كافية إلى استحداث معايير جديدة لتشارك السلطة.
وتفتقر سلطات المحافظات في الوقت الراهن إلى القدرة على تنفيذ ميزانياتها وإدارة عدد الموظفين الكبير الذي أصبح في عهدتها. هناك دائماً خطر قائم، يتمثل في أن يؤدي توسع الميزانيات ببساطة إلى مفاقمة الفساد، من ثم فلا بدّ أن تتواكب إجراءات تدعيم المحاسبة والمساءلة مع تنفيذ اللامركزية. طبقاً لموازنة 2019 التي تستعرض تفصيلاً عدد الموظفين التابعين لبنود الميزانية الخاصة بكل محافظة، ففي البصرة حالياً أكثر من 70 ألف موظف. ومحافظة المثنى الصغيرة بها نحو 22 ألف موظف. وإجمالي مخصصات الميزانية للبصرة في عام 2019 يبلغ نحو 1.6 مليار دولار – وهي ميزانية كبيرة للغاية مقارنة بميزانيات السنوات الماضية التي تجاوزت 780 مليون دولار إنفاق رأسمالي. دون وجود التخطيط الاستراتيجي المتقدم وخبرات إدارة المشروعات بشكل مهني، سوف يصبح من المستحيل على حكومة البصرة المحلية أن تتصرف في هذه الأموال بنحو فعال وكفء.
والصورة في المحافظات المحررة من (داعش) مختلفة إلى حد ما. فبينما تُنفّذ مراحل التحول للامركزية فيها ببطء، فهي تحدث بمعدل أبطأ بكثير بسبب اقتصار قدرة الحكومات المحلية المختلفة. كمثال على هذا، فإن محافظة الموصل -ثاني أكبر محافظة عراقية من حيث تعداد السكان- بها 1400 موظف فقط على ذمة ميزانيتها. وما زال إنفاق مخصصات الميزانية يخضع إلى حد بعيد لقرارات الحكومة المركزية، لدرجة أن 180 مليون دولار فقط قد خصصت بصورة مباشرة للسلطات المحلية لعام 2019.
ثانياً : يجب ألا تتجاهل اللامركزية مستوى القضاء ومستوى الناحية في الإدارة. في واقع الأمر، ومن تجربة دول أخرى -منها إندونيسيا- تبيّن أن تسليم الخدمات يجب أن يُركّز على هذه المستويات الأدنى من الوحدات الإدارية. فعلى هذه المستويات تتفاعل السلطات بنحو أوثق مع الجمهور. ومن ثم فهي تحوز على قدر أكبر بكثير من الفهم للاحتياجات وللمشكلات اليومية على هذا المستوى من الإدارة.
ثالثاً : لا بد من أن تتزامن الإصلاحات الانتخابية مع أية جهود قائمة لتحسين فائدة اللامركزية. ويستمر الجمود السياسي وتفشي الاختلافات بين الأطراف المختلفة في الهيمنة على مجالس المحافظات في شتى أنحاء العراق؛ وهذا يعني أنه بدلاً من تحسين عمل المحافظ والتنفيذيين الآخرين عبر الإشراف وفرض الأنظمة، فإن هذه المجالس تُعقّد من المشكلة. هناك "وصفة" سياسات محتمل أن تكون مفيدة، وهي تقييد سلطات مجالس المحافظات تماماً وتحويل سلطات أكبر إلى كل من المحافظ -المنتخب بالاقتراع المباشر- وإلى مجالس الأقضية والنواحي. يجب أن يحتفظ البرلمان بمهام إشرافية ومن شأن هذا الأمر أن يبسط من التنسيق والتواصل بين بغداد والمحافظات. في كانون الأول 2018 اقترحت اللجنة القضائية بالبرلمان تجميد أعمال مجالس المحافظات القائمة، لكن لم يحز الطلب على تأييد الأغلبية في اللجنة. وبطبيعة الحال، فإن الكتل السياسية المهيمنة على مجالس المحافظات تعارض بقوة مثل هذا التحرك. وقد انعكس هذا على مستوى البرلمان الوطني؛ وعلى ذلك، يشير هذا الأمر إلى تنامي الإحساس بأن ضرر مجالس المحافظات أكبر من نفعها.
إجمالاً، فإن تجربة العراق مع اللامركزية كانت تجربة مختلطة. ففي حين زاد كثيراً تقدير الإطار القانوني المنظِّم لتفويض السلطات، فقد حصدت تجارب قليلة نتائج إيجابية في نظر الرأي العام. وعلى الرغم من تطور منطق اللامركزية على مدار العقد الماضي، فإن التحديات التي تواجه العراق منذ زمن طويل، والمتمثلة في إعادة بناء البنية التحتية وتهيئة فرص العمل، مستمرة في إملاء الأولويات على السلطات المحلية. والأهم، يجب أن يُنظر إلى اللامركزية بصفتها غير معزولة عن القضايا الأساسية الأخرى، مثل إصلاح القطاع الأمني، وسياسة الانتخابات، والتعليم، بصفتها جزءاً لا يتجزأ من تحسين الإدارة الحكومية واستعادة الثقة بين السلطات والشعب. إن طبيعة السياق العراقي في مرحلة ما بعد النزاع -ويتسم بتحسن الوضع الأمني وتنامي الثقة في قوات الأمن الاتحادية- تعني ضرورة تشارك السلطات كوسيلة لتخفيف آثار القوى التي تقوض من وحدة الدولة، قد تراجعت في الوقت الراهن. فالنزعات الانفصالية في شمال العراق قد جُمدت، لكن التحدي الآن هو ضمان أن تتمكن الدولة من استرداد مشروعيتها عن طريق إظهار قدرتها على العمل بفعالية على المستويين الاتحادي والمحلي.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.