ملخَّص
نشأت الحركة الحقوقية في تونس في أواسط السبعينيات. وتأسس اول نشاط منظم مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان سنة 1977. وظلت الرابطة المنظمة الوحيدة الناشطة في الحقل الحقوقي طوال عشر سنوات، وتركّز عملها على الحقوق المدنية والسياسية رغم تبنيها لجميع الحقوق التي نصت عليها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وذلك نظرًا لطبيعة المرحلة التي نشأت خلالها والتي اتسمت بالاستبداد السياسي. وكانت الرابطة منذ نشأتها ملاذ النشطاء السياسيين بمختلف مشاربهم الإيديولوجية والسياسية، فاختلط السياسي بالحقوقي رغم حرص المؤسسين على فصل المجالين. وأثّر هذا التداخل على الرابطة في عدة مناسبات، كوضع الميثاق أو انتخابات الهيئة المديرة. ومنذ نهاية الثمانينيات ظهرت منظمات أخرى لحقوق الإنسان، إلى جانب الرابطة، سواء ذات طابع محلي أو دولي. واعتبر الناشطون في الحقل الحقوقي سواء في الرابطة أو غيرها من الجمعيات معارضين لنظام الحكم رغم تطور الخطاب الرسمي في مجال حقوق الإنسان، فتمت ملاحقة الناشطين والتضييق على عمل المنظمات. وشكّل 2011 لحظة فارقة في تاريخ الحركة الحقوقية التونسية التي تأثرت بمختلف التغييرات التي عرفتها البلاد في إطار تجربة الانتقال الديمقراطي، إذ عرف المجتمع المدني برمته إعادة هيكلة أهلته للعب دور أساسي في هذه المرحلة، وتبوأ عدد من نشطاء حقوق الإنسان و”ضحايا النظام السابق” مواقع في السلطة. ومن جهة أخرى، ظهرت منظمات جديدة ناشطة في مجال حقوق الإنسان بمضامين جديدة كالدفاع عن حقوق الأقليات العرقية والجنسية، كما أصبح للحقوق الاجتماعية والاقتصادية مكانة مركزية في نشاط عدد كبير من هذه الجمعيات. وبسبب الطريق الذي تطورت عبره وسياقها الحالي تواجه حركة حقوق الإنسان التونسية عدة تحديات منها علاقتها بالمجال السياسي، والهوة الجيلية بين النشطاء، وقضايا الحوكمة الداخلية للمنظمات.
اقرأ المزيدنشأت الحركة الحقوقية التونسية، مثلها مثل معظم حركات حقوق الإنسان في العالم، في أواسط السبعينيات من القرن الماضي مع ولادة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، رسميًا، في مايو 1977. وولدت الحركة في ظل نظام الرئيس السابق الحبيب بورقيبة الاستبدادي الذي قلص كل أشكال المعارضة الجدّية تدريجيًا، ثم تطورت الحركة في ظل نظام تصاعدت فيه سيطرة المؤسسات الأمنية بعد تولي الرئيس زين العابدين بن علي في انقلاب أبيض في عام 1987، رغم ادعاءات بن علي وزمرته الحاكمة بشأن تطوير الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
ومرّ مجال حقوق الإنسان، من حيث المضمون ومن حيث الفاعلين، في تونس بعدة مراحل منذ دخول مقولات حقوق الإنسان في المجال العام حتى قبل الاستقلال حيث أسست الحركة الوطنية مطلبها التحرري على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها مستندة إلى المواثيق الدولية. وغيّبت دولة الاستقلال، منذ 1956، حقوق الإنسان بسبب تركيز النخبة الحاكمة لمشروع البناء الوطني بقيادة بورقيبة على أولوية القضاء على رواسب الاستعمار، وتبنّيها لمشاريع تنمية فوقية، ونظرتها إلى المجتمع بصفته لا يتحمل "الاختلاف في الرأي والاحتكام للممارسات الديمقراطية". وشهدت الحريات العامة والسياسية تضييقًا كبيرًا وخصوصًا حرية التنظيم في شكل أحزاب وجمعيات وحرية التعبير والرأي. وعرفت تونس نظام الحزب الواحد من بداية الستينيات مع حظر الحزب الشيوعي سنة 1963 إلى حدود بداية الثمانينيات بمناسبة الانتخابات التشريعية لسنة 1981، حيث أُرسيت تعددية حزبية محدودة في إطار نظام الحزب المهيمن. وفي تلك الفترة سيطرت الدولة على وسائل الإعلام لحد الاحتكار ولاحقت كل من حاول التعبير عن رأي مخالف.
وقد تبلور خطاب سياسي رسمي إيجابي تجاه حقوق الإنسان منذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، في أول عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وذلك نظرًا لحرص النظام السياسي الجديد على تقديم نفسه، في الداخل والخارج، كنظام ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان. وفي الواقع، اتسم موقف النظام من حقوق الإنسان بالازدواجية حيث صادق على مواثيق دولية لحقوق الإنسان وأنشأ هياكل رسمية مختصة ووزع جوائز سنوية لحقوق الإنسان، وفي نفس الوقت قام بالتضييق على الحريات وتتبُّع النشطاء السياسيين واحتجازهم وتعذيبهم ومقاضاتهم في محاكمات غير عادلة وسجنهم. ورغم ما واجهته الحركة الحقوقية من صعوبات في مواجهة النظام السياسي، فإنها واصلت النضال من أجل أن يتمتع المواطن التونسي بحقوق الإنسان، خاصة أن أغلب هذه الحقوق كانت متضمنة في دستور 1959.
وتغيرت الخريطة السياسية التونسية بشكل درامي بعد 14 يناير 2011، حيث دخلت البلاد في مرحلة انتقال سياسي وانفتاح ديمقراطي. وانعكس هذا التحول على الحركة الحقوقية التونسية التي حكمتها متغيرات جديدة ليس أقلها تغير مواقع نشطاء حقوق الإنسان وانتقالهم من المعارضة في بعض الحالات إلى المسك بزمام السلطة ومواقع القرار، بل أيضًا بات الفضح والكشف والتوثيق وظائف أقل أهمية من اقتراح السياسات ومشروعات القوانين ومناصرة مؤسسات جديدة وهياكل مختلفة في ظل قبول واضح لدور المجتمع المدني والحقوقي في المجال السياسي.
وعمومًا مر المجتمع المدني التونسي برمته بتحولات هيكلية ووظيفية في ظل التحرر السياسي والقانوني الذي عرفته البلاد بعد انتفاضة 2011، مما أدى بشكل أو بآخر إلى التوسّع في مضامين حقوق الإنسان. فبعد أن كانت الحريات العامة والسياسية (حرية التنظيم والرأي والصحافة والتعبير والتجمهر على سبيل المثال) والحرمة الجسدية في ارتباطها بموضوع التعذيب من أولويات منظمات حقوق الإنسان، تحوّل الاهتمام بعد 2011 إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحريات الفردية. كما أن مسألة التعذيب لم تعد تخصّ المعارضين السياسيين على وجه الخصوص، بل أصبحت تشمل أيضًا المتهمين في قضايا الحق العام.
في المقابل، فرض هذا الواقع تحديات جديدة أهمها معارضة قوى اجتماعية وأحزاب إسلامية التوجه بعض الحقوق والحريات من جهة، وتنامي ظاهرة الإرهاب من ناحية أخرى. فالسلفيون، سواء كانوا جماعات أو جمعيات أو أحزابًا، انتقدوا حرية التعبير بحجة أنها تفتح الباب أمام الاعتداء على المقدسات كما رفضوا إدراج حرية الضمير في الفصل السادس من دستور 2014. وقد وجدت هذه الدعوات صدًى لها داخل المجلس الوطني التأسيسي حيث دافع نواب الحزب الإسلامي، النهضة، عن هذا الموقف وطالبوا بإدراج فصل لحماية المقدسات. كما تبنى الإسلام الرسمي (مفتي الجمهورية والمجلس الإسلامي الأعلى) نفس المطالب وطالبوا المجلس بتعديل الفصل السادس وحذف حرية الضمير التي تعني بالنسبة إليهم تخلي الدولة عن حماية الإسلام وتسهيل "الارتداد عن الدين" أمام المسلمين. أما مسألة الإرهاب فقد أثارت مجددًا المقابلة بين متطلبات الأمن واحترام حقوق الإنسان وهي مقابلة تعاني عادة من جدل سطحي ومثير للشقاق.
وسنركز في هذه الورقة على دراسة المجتمع المدني الحقوقي، بمختلف مكوناته منذ نشأته، والنظر في تطوره في إطار التحولات التي عرفتها الظروف السياسية في مختلف مراحل التاريخ السياسي لتونس المستقلة التي عرفت ثلاث محطات كبرى للنظام السياسي، بداية من عهد بورقيبة الأبوي وبناء الأمة مرورًا بعهد بن علي حين سيطرت المؤسسات الأمنية وصولًا للتحولات الكبرى لما بعد انتفاضة 2011.
أولًا: نشأة الحركة الحقوقية في ظل حكم بورقيبة (العشرية الأولى:1977-1987)
تمثّل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان أول منظمة في هذا المجال في تونس، وهي من بين أوائل المنظمات على المستوى العربي والإفريقي، فقد تأسست سنة 1976 "من قبل جماعة من المستقلين والمعارضين المعتدلين". ويعتقد المنصف المرزوقي أن الدولة قبلت، بعد مماطلة، بنشأة الرابطة "نتيجة الضغط الذي كانت تمارسه آنذاك إدارة (الرئيس الأمريكي جيمي) كارتر التي جعلت من حقوق الإنسان أحد أهم محاور سياستها، وأساسًا للتنفيس بأقل ثمن ممكن عن الغليان الكبير داخل المجتمع التونسي ... (حيث كان) قبول السلطة برابطة حقوق الإنسان حسب ظنها أقل ضررًا من القبول بحزب سياسي معارض يكسر الاحتكار السياسي للحزب الحاكم."
وقامت مجموعة من الديمقراطيين الاشتراكيين والليبراليين المستقيلين من الحزب الحاكم، الذي تحول أسمه إلى الحزب الاشتراكي الدستوري في عام 1964، بتقديم طلب ترخيص إلى وزارة الداخلية لإنشاء الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان يوم 22 مايو 1976. وأمام سكوت السلطات الذي يعتبر رفضًا ضمنًا من الناحية القانونية، قامت هذه المجموعة بإحداث "لجنة الحريات" برئاسة الحسيب بن عمار، وزير الدفاع السابق. وتقدمت هذه اللجنة بقضية لدى المحكمة الادارية للطعن في القرار، وفي نفس الوقت أرسلت بعريضة ممضاة من قبل خمسمائة شخص إلى رئيس الجمهورية تطالب بالسماح بانعقاد ندوة حول الحريات وحقوق الإنسان. أما على الصعيد الخارجي، فقامت بحملة دولية في عدة عواصم أوروبية إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للضغط على الحكومة التونسية. ولمس وزير الداخلية حينها الطاهر بلخوجة مدى تأثير هذه الحملة على الرأي العام الدولي خلال زيارة لواشنطن آنذاك. وبعد معارضة، قرر الوزير الأول الاعتراف بالرابطة بعد مفاوضات حول تركيبة الهيئة التأسيسية المتركبة من 22 عضوًا من بينهم سبعة أعضاء منتمين إلى الحزب الحاكم.
وجمعت الرابطة تيارات فكرية وسياسية مختلفة بل ومتعارضة ولكنها، سويًا، شكلت قطب صراع دار بينها من جهة وبين نظام الحكم/الدولة من جهة أخرى. وصارت الرابطة واستمرت على مدى تاريخها ملاذ النشطاء السياسيين، وحلت، إلى حد ما، محل أحزاب السياسية محظورة أو غير قادرة على العمل بحرية. واختار مؤسسو الرابطة منذ البداية تأسيس منظمتهم في إطار ثقافة ديمقراطية تقوم على قبول التعددية الفكرية، وذلك بادعاء أنهم يحملون "رسالة حضارية إنسانية هي كسب لكل وطني ولكل إنسان، وهي رسالة بعيدة عن الحزبية والتعصب والتمييز ضد الإنسان بكل أشكاله... فحقوق الإنسان، أينما كان، كل لا يتجزأ. ورسالة كهذه تتطلب تكاتف الجهود وتعبئة كل قوى الخير المؤمنة بحقوق الإنسان وكرامته... لذا فالرابطة مفتوحة أمام كل الطاقات الوطنية الإنسانية الخيّرة." وهكذا جمعت الرابطة، إضافة إلى النقابيين والمستقلين، تيارات سياسية مختلفة من بينها الدستوريون واليساريون والإسلاميون والقوميون، الذين ينتمون إلى أحزاب وجماعات سياسية مختلفة أغلبها محظورة وتعمل في كنف السرية. وضمت الرابطة في البداية شخصيات من الحزب الحاكم والحزب الشيوعي المحظور وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين.
وشهدت تونس في السبعينيات تأسيس فصائل سياسية يسارية مختلفة وفي نهاية العقد تأسست حركة الاتجاه الإسلامي التي صار اسمها حركة النهضة منذ 1988. وانخرط إسلاميون في الحركة الحقوقية في عام 1982 ومنهم صلاح الدين الجورشي الذي ينتمي إلى اليسار الإسلامي أو الإسلاميين التقدميين في تونس، وهي مجموعة انفصلت عن حركة الاتجاه الإسلامي سنة 1981 رفضها انخراط الحركة بالعمل السياسي، ودعت إلى العمل على المستوى الفكري ومراجعة الموروث الديني. أما حركة الاتجاه الإسلامي فقد تمثلت في الهيئة المديرة سنة 1985 من خلال سحنون الجوهري المنتمي لهذه الحركة التي عرف مناضلوها موجة من الاعتقالات منذ سنة 1981. ورغم هذا التوجه القائم على الانفتاح على مختلف التيارات السياسية، لم تعرف الرابطة منذ نشأتها سوى رؤساء من التيارات اليسارية. وكان للانفتاح على السياسة ثمنا آخر بسبب ضيق النظام الحاكم به كما سنرى فيما بعد.
لم تكن مختلف التيارات الإيديولوجية قبل إنشاء الرابطة تعير أهمية كبيرة لمسألة حقوق الإنسان، بل ورفضها البعض، إذ نظرت لها بعض فصائل اليسار الماركسي على أنها "مجرد ملهاة تمارسها البورجوازية لإبعاد الكادحين عن جوهر الصراع الطبقي وإقامة الاشتراكية"، وبالنسبة للإسلاميين فقد كانوا آخر من أدرك أهمية تبني المنظومة الحقوقية، وإن كان الجدل لا يزال مستمرًا في صفوفهم حول بعض جوانبها.
وسعت الرابطة دائمًا إلى تأكيد استقلاليتها عن السلطة السياسية من ناحية وعن كل تبعية سياسية من ناحية أخرى، وهو ما أكده رئيس الرابطة سعد الدين الزمرلي خلال المؤتمر الوطني عندما قال أن الرابطة "إطارًا للتحالف بين الأحزاب السياسية ولا مجالًا مفتوحًا للتنظيمات السياسية تمارس فيه نشاطها. ولا يكون الانخراط في الرابطة إلا بعنوان شخصي" وكانت عضوية الرابطة مفتوحة أمام كل شخص يؤمن بضرورة الدفاع عن حقوق الإنسان وتكريسها مهما كان انتماؤه السياسي، حتى لو كان عضوًا في الحزب الحاكم. ولكن في حقيقة الأمر كان هناك شبه اتفاق غير مكتوب على تمثيل متناسب للقوى السياسية المختلفة وهو اتفاق أدى إلى مشاركة عدد محدد من الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في الهيئة التأسيسية. وكان هناك تقاسم سياسي للمناصب الرئيسية وخاصة في الهيكل الإداري الأعلى للرابطة. وحافظ كثير من نشطاء حقوق الإنسان على انتمائهم ونشاطهم في أحزاب وتيارات سياسية مختلفة، بينما نظرت المؤسسات الأمنية إلى بعضهم بصفتهم معارضين سياسيين للنظام بسبب عملهم الحقوقي. وتعرض عدد من نشطاء الرابطة للملاحقة والسجن، من بينهم محمد الخميلي الكاتب العام لفرع قفصة وبلقاسم العيساوي رئيس فرع سيدي بوزيد.
وأدار الرابطة هيئة مديرة مؤلفة من 25 عضوًا تنتخبهم الجلسة العامة. وينتظم أعضاء الرابطة في فروع محلية، توافق الهيئة المديرة على انشائها بناء على طلب المشتركين الذين لا يجب أن يقل عددهم عن خمسين عضوًا. وسرعان ما توسعت الرابطة لتغطي مناطق عديدة حتى شارك 24 فرعًا في مؤتمر الرابطة في سنة 1982، ويمارس كل فرع مهام الرابطة في حدود دائرته الجغرافية.
وتستند الرابطة في بلورة مفاهيمها على ثلاثة روافد متكاملة، وهي "الرافد التاريخي المتمثل في المبادئ التحررية في قيم حضارتنا العربية الإسلامية"، وما نص عليه الدستور التونسي من حريات، والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. وقد وردت هذه الروافد الثلاثة في ميثاق الرابطة الصادر سنة 1985. وتمت صياغة هذا الميثاق بعد نقاشات معمقة، وحادة أحيانًا، بين مختلف التيارات الفكرية والإيديولوجية التي تكوّن المنظمة. وواجهت الرابطة، عند وضعها لميثاقها الأول سنة 1985، مشكلة المقابلة بين كونية حقوق الإنسان التي آمنت بها وقامت على أساسها من جهة، وبين الخصوصية العربية الإسلامية التي تتبناها التيارات الإسلامية والقومية الممثلة بها من جهة أخرى.
وشملت مطالب الحركة الحقوقية، منذ البداية، حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية باعتبارها "كلًا لا يتجزأ"، فجعلت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان هدفها "الدفاع والمحافظة على الحريات الاساسية الفردية والعامة للإنسان المنصوص عليها بالدستور التونسي وقوانين البلاد وبالتصريح العالمي لحقوق الإنسان”. ونص ميثاق الرابطة لسنة 1985 على كل هذه الحقوق ولكن تركيزها على الحقوق تفاوت حسب الظروف السياسية. فمن المطالب الأساسية التي نادت بها الرابطة في كل أزمة سياسية تحدث في البلاد إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمطالبة بالعفو التشريعي العام. وشكّل التعذيب أحد الانتهاكات الرئيسية التي ناضلت ضدها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وتكونت من أجلها جمعيات أخرى لاحقًا، مثل الجمعية التونسية لمناهضة التعذيب والجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين (والأخيرة ذات توجه إسلامي).
ونظّمت الرابطة التونسية سنة 1980 اليوم العالمي لحقوق الإنسان تحت شعار "العفو التشريعي العام" حيث شكّل هذا العفو أحد المطالب الرئيسية والأساسية، وما فتئت الرابطة تطالب بهذا العفو في كل اجتماع مجلس وطني تعقده. وتكمن أهمية العفو التشريعي العام في أنه الآلية القانونية الوحيدة التي تضمن لمن تعرض للمحاكمة السياسية العودة إلى الحياة الاجتماعية واسترجاع حقوقه المدنية بما فيها الحق في الشغل، كما يخوّل للمغتربين السياسيين العودة إلى البلاد. ولم تستجب السلطات في عهدي بورقيبة وبن علي لهذا المطلب. وكان إطلاق سراح المعتقلين السياسيين يتم بمقتضى عفو رئاسي أو إجراء سراح شرطي أو عفو تشريعي خاص. ولم يتم إقرار العفو التشريعي العام إلا بعد ثورة 2011 حيث كان من القرارات الأولى التي اتخذتها حكومة محمد الغنوشي المؤقتة. وشمل هذا العفو كل من تعرض للمحاكمة السياسية قبل 2011.
ودافعت الرابطة التونسية عن حق المواطن في الإعلام الحر وعن حرية الصحافة وحرية التنظيم في شكل جمعيات وأحزاب، خاصة أن المجتمع المدني والسياسي كانا يعانيان الكثير من التضييق. ومن بين الحقوق التي دافعت عنها الرابطة التونسية حقوق المغتربين وظروف عملهم والحصول على جوازات السفر وظروف التجنيد بالنسبة للخدمة العسكرية، كما أنها دافعت عن حرية العقيدة وناهضت كل أشكال التمييز العنصري أو الديني. وقامت الرابطة التونسية برصد الانتهاكات والتحقيقات القضائية في هذه المسائل وذلك منذ نشأتها، فقامت بالتحقيق والرصد في الانتهاكات التي وقعت خلال المواجهات بين قوات الأمن وعمال الاتحاد العام التونسي للشغل في 26 يناير 1978 وما تلتها من محاكمات سنتي 1978 و1979، وكذلك في أضطرابات قفصة سنة 1980، ومظاهرات الخبز سنة 1984، مع التركيز على مناهضة التعذيب والأوضاع في السجون.
ومثلت حقوق المرأة أحد شواغل الحركة الحقوقية التونسية، وشاركت نساء بشكل فعال في إدارة الرابطة سواء من خلال الهيئة المديرة أو من خلال اللجان، وخصوصًا تلك المتعلقة بشؤون المرأة. وكانت الرابطة هي المنظمة الأفريقية والعربية الوحيدة التي شاركت في مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في نيروبي سنة 1985 لتقييم عشرية المرأة. كما تم تخصيص المادة الثامنة من ميثاق الرابطة للحديث عن مجلة الأحوال الشخصية باعتبارها "مكسبًا حضاريًا وخطوة هامة في سبيل تدعيم حرية المرأة."
ولم تقتصر الرابطة التونسية على الدفاع عن حقوق المواطن التونسي وحرياته، حيث ساندت القضية الفلسطينية وتضامنت مع منظمة التحرير الفلسطينية في إطار حق تقرير المصير، كما نظمت حملة تضامن مع الشعبين الفلسطيني واللبناني ضد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982.
ويرجع المرزوقي نجاحات الرابطة في الثمانينيات ليس فقط لاعتدالها وقدرتها التكتيكية في التغلب على تناقضات الاختلافات السياسية بين الفئات المكوّنة لها وذلك عن طريق التزامها المبدئي بحقوق الإنسان وفقا لمرجعية الشرعة الدولية، ولكن أيضًا بسبب "ضعف ثم انهيار الأحزاب الديمقراطية المعارضة وضرب الحركة النقابية وهو ما جعل الرابطة تتشكل كملجأ لكل الديمقراطيين وكقلعة تدافع عن قيم الحرية عندما استطاعت الدولة الشمولية ابتداء من التسعينيات استرجاع كل المواقع التي خسرتها في الثمانينيات نتيجة هرَم الرئيس بورقيبة وضعف الحزب الحاكم وانتشار المنظمات والحركات الديمقراطية وتصاعد الموجة الإسلامية."
ويثير المرزوقي وغيره إشكالية رئيسية مسّت تقريبًا كل منظمات حقوق الإنسان العربية فيما يخص علاقتها بالدولة من جهة وعلاقتها بالمعارضة السياسية وبقية المجتمع المدني من ناحية أخرى. ففي نهاية المطاف يخاطب فاعلو حقوق الإنسان الدولة والسلطات من أجل الامتناع عن انتهاك الحقوق السياسية أو المدنية، أو من أجل العمل على ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولكنهم لا يسعون إلى السيطرة على مؤسسات الدولة عن طريق الصراع السياسي بل عن طريق دعم ومناصرة ونقد الفاعلين السياسيين، أو كما يقول المرزوقي في توصيفه لكيف ينبغي أن تكون العلاقة بين المنظمة الحقوقية والدولة: "رديف للقوى الإصلاحية بداخله." وحيث افتقر نظام بن علي في أغلب سنواته لوجود مثل هذه القوى الإصلاحية داخله كانت العلاقة مع الدولة صراعية بالدرجة الأولى وخاصة في التسعينيات.
ومن حيث كون الرابطة التونسية خليطًا من توجهات سياسية مختلفة، فقد أدى هذا لخلافات متتالية حتى أن أول ميثاق للرابطة لم يصدر سوى عام 1985 أي بعد ثماني سنوات من نشأة الرابطة، وتخلل التصديق عليه خلافات عميقة أبرزها معارضة الإسلاميين لأربعة بنود رئيسية تتعلق بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة وحرية المعتقد والحدود والتبني. ورغم المصادقة على الميثاق بصيغة أقرب إلى مقررات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإن الخلاف ترك "شروخًا داخل جسم الرابطة". ولم يحل تبني الرابطة لمبدأ الاستقلالية دون استعمالها كحلبة صراع بين السلطة السياسية من جهة والمعارضة السياسية من جهة أخرى، بل وبين فئات المعارضة المختلفة وبعضها سياسيًا، وهو ما تجلى مثلًا في الخلاف الحاد الذي ضرب الرابطة بخصوص غزو العراق للكويت في 1990.
وأخيرًا، شكلت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان النواة الأولى والرئيسية للحركة الحقوقية التونسية التي تستند في مبادئها ونشاطها إلى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ودافعت عن مجموعة واسعة من الحقوق بطرق مختلفة، وهو ما ميزها عن منظمات أخرى كانت تدافع عن حقوق بعينها كالاتحاد العام التونسي للشغل الذي يدافع عن حقوق الطبقة الشغيلة والاتحاد النسائي الذي جسد نسوية الدولة.
ثانياً: تطور الحركة الحقوقية في ظل حكم بن علي (1987-2011)
عرف النظام السياسي في بداية هذه الفترة نوعًا من الانفتاح والتحرر السياسي تجسد عبر وضع أول قانون للأحزاب سنة 1988 وإمضاء الفرقاء السياسيين على الميثاق الوطني والعفو عن المساجين السياسيين. كما تصدرت حقوق الإنسان منذ بداية التسعينيات خطب الرئيس السابق بن علي. وصادقت الدولة على عدد من اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية. وأنشأت الحكومة الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية في يناير 1991 وهي أول هيكل رسمي يُعنى بحقوق الإنسان في تونس. وفي يونيو نفس العام تم تعيين مستشار لدى رئاسة الدولة مهمته متابعة سياسة الدولة في مجال حقوق الإنسان ودعمها، وإعلام رئيس الجمهورية بواقع حقوق الإنسان في البلاد وإبداء الرأي في الجانب التشريعي المتعلق بهذا المجال سواء على مستوى القوانين الداخلية أو على مستوى التصديق على الاتفاقيات الدولية. وينسق هذا المستشار عمله مع وحدات حقوق الإنسان التي تم إنشاؤها بعدد من الوزارات وعلى رأسها وزارة الداخلية. وتمثل هذه الخلايا همزة وصل بين الدولة والمواطنين حيث تتلقى الشكاوى وتجيب عنها، ومن المفترض أنها تسيّر العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني. وأضيفت عبارة "حقوق الإنسان" إلى اسم وزارة العدل في أواسط العقد الأول من هذا القرن. وأُدرجت مادة حقوق الإنسان في برامج الدراسة الجامعية مهما كان الاختصاص، وشاركت تونس في العديد من المؤتمرات الدولية في هذا المجال واستضافت عددًا منها. وتطورت المنظومة التشريعية في مجال حقوق الإنسان شيئًا فشيئًا. إذ تمّ إلغاء الأشغال الشاقة من سلّم العقوبات الأصلية بمقتضى القانون عدد 3 المؤرخ في فبراير 1989. وأضيف الفصل 101 مكرر إلى المجلة الجنائية بمقتضى قانون عدد 89 المؤرخ في أغسطس 1999 الذي يقرّ جريمة التعذيب ويعرفها تماشيًا مع ما ورد باتفاقية مناهضة التعذيب.
ويندرج إحداث هذا الكم من الهياكل الرسمية التي تعنى بحقوق الإنسان في عهد الرئيس السابق بن علي في إطار الحرص على تقديم صورة إيجابية لتونس في المحافل الدولية كدولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتعمل على تطويرها. وفي هذا السياق، سعى النظام السياسي الجديد إلى استقطاب بعض مناضلي حقوق الإنسان رغم تواصل الملاحقات، كما سمح بتعدد المنظمات الحقوقية.
1- نشطاء حقوق الإنسان بين الاستقطاب والملاحقة
عمل النظام السياسي، خصوصًا مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، على استيعاب الناشطين في مجال حقوق الإنسان فيما بدا أنه محاولة لتقليص المعارضة السياسية لنظام الحكم الذي بدا منفتحًا وديمقراطيًا في أول عهده، ثم بدأ في الميل نحو الاستبداد شيئًا فشيئًا، فتمّ على سبيل المثال، تعيين محمد الشرفي، رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان على رأس وزارة التعليم سنة 1989. وأصبحت الرابطة عضوًا بالهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية من بين المنظمات الأعضاء التي تُعنى بحقوق الإنسان، لكن مع تجنّب أن يكون الشخص الممثل للرابطة في الهيئة من المعارضين السياسيين لنظام الحكم.
وتواصلت المضايقات بالتوازي مع محاولات الاستيعاب للناشطين في مجال حقوق الإنسان وخاصة الرابطة التونسية. وعقب شهر عسل لم يدم سوى سنوات قليلة تفجرت الأزمة بين الحكومة والإسلاميين وقامت أجهزة الأمن بملاحقتهم ومحاكمتهم إثر الإعلان عن محاولة انقلاب سنة 1991. وهكذا، باستثناء الاتحاد العام للشغل، لم تعد هناك من قوة منظمة في المجتمع المدني تؤرق نظام بن علي سوى أولئك العاملين في حقوق الإنسان، فعمدت السلطة السياسية، سنة 1992، إلى تغيير قانون الجمعيات وإعادة تصنيف الرابطة التونسية لحقوق الإنسان على أساسه، بحيث يسهل اختراق هذه المنظمة من قبل أعضاء جدد موالين للحكومة.
وقسم قانون 1992 الجمعيات إلى تخصصات محددة: النسائية، والرياضية، والعلمية، والثقافية والفنية، والخيرية، والإسعافية والاجتماعية، والتنموية، وأخيرًا، الجمعيات ذات الصبغة العامة. وأضيفت إلى هذا الفصل فقرة تتعلق بهذا الصنف الأخير وتنص على أنه "لا يمكن للجمعيات ذات الصبغة العامة أن ترفض انخراط أي شخص يلتزم بمبادئها وقرارتها إلا إذا كان فاقدًا لحقوقه السياسية والمدنية أو كانت له أنشطة وممارسات تتنافى وأهداف الجمعية". وإذا وقع خلاف حول حق الانخراط، يمكن لطالب الانخراط أن يرفع دعوى لدى المحكمة الابتدائية الكائن بدائرتها مقر الجمعية. وأصدرت وزارة الداخلية قرارًا، في 14 مايو 1992، يقضي بتصنيف الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان كجمعية ذات صبغة عامة، مما يعني أنه فُرض على الرابطة قبول عضوية من يطلبها، مما كان له أن يؤدي عمليًا إلى انخراط عدد كبير من الموالين للسلطة السياسية، وبالتالي قلب موازين القوى داخل الرابطة وإفقادها القدرة على اتخاذ مواقف نقدية حيال النظام الحاكم.
وبادرت الرابطة إلى الطعن في قرار وزير الداخلية أمام المحكمة الإدارية لعدم دستوريته. وأصدرت هذه الأخيرة حكمها بإلغاء قرار التصنيف بعد أربع سنوات من رفع الدعوى، فأصبح بإمكان الرابطة انتقاء منخرطيها، بشكل نهائي. ولكن هذا لم يمنع السلطة السياسية من مواصلة التضييق على الرابطة وعرقلة تنظيم مؤتمراتها السنوية. وبعد مؤتمر 1994 لم تتمكن الرابطة من عقد مؤتمرها الخامس إلا سنة 2000 الذي ألغي بحكم قضائي. وبدأت القضية إثر الإعلان عن نتائج انتخابات الهيئة المديرة حيث عمد أربعة مرشحين، محسوبين على الحزب الحاكم، لم يفوزوا بالانتخابات إلى رفع دعوى طعن قضائية في النتائج، ممّا أدى إلى تجميد نشاط الرابطة ووضعها تحت الادارة القضائية منذ ٢٧ نوفمبر 2001. ومُنعت الرابطة من عقد مؤتمرها السادس وأحيلت إلى القضاء ثلاث مرات بين عامي 2000 و2009.
وزادت حدة الملاحقات في نهاية العقد الأول من القرن الحالي خصوصًا بعد احتجاجات الحوض المنجمي (2008)، فتعرض عدد من النشطاء المنتمين إلى مختلف المنظمات الحقوقية (الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، منظمة حرية وإنصاف، المجلس الوطني للحريات، الخ.) للمساءلة بطرق غير قانونية. وعملت السلطات الأمنية على منع النشطاء المحليين من الاتصال والتعامل مع المنظمات الإقليمية والدولية، والتضييق على هذه الأخيرة في تحرّكاتها في تونس. فتمّ، على سبيل المثال، التحقيق مع جلولة عزونة في نوفمبر 2009 بعد استقباله لوفد الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان في منزله. وتمت ملاحقة هذا الوفد لمنعه من القيام بالعمل الميداني ولقاء نشطاء حقوق الإنسان أو ضحايا الانتهاكات.
وسرق مجهولون مقرات بعض المنظمات الحقوقية ومكاتب بعض المحامين الحقوقيين الناشطين وشمل هذا مقر الرابطة التونسية سنة 2010 حيث سُرقت بعض محتوياته وخصوصًا الوحدة المركزية للكمبيوتر المخزن فيها وثائق الرابطة. وشنت بعض الصحف، بإيعاز من السلطات الأمنية، حملة تشويه للنشطاء السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان نالت من أعراضهم واتهمتهم بالخيانة والعمالة.
وإضافة إلى الملاحقات الأمنية، عمدت السلطة إلى التضييق على الجمعيات الحقوقية من حيث التمويل، حيث اعتمدت جمعيات حقوق الإنسان غير الموالية للسلطة على التمويل الأجنبي نظرًا لعدم حصولها على دعم مالي من الدولة شأن بقية الجمعيات، إلا أن السلطات ضيقت عليها حتى لا يتسنى لها الاستفادة من هذه الأموال، وذلك عن طريق البنك المركزي الذي جمد أرصدة جمعيات أو منع وصول التحويلات إليها. فعلى سبيل المثال، تمّ، في مناسبتين منع منحة من الاتحاد الأوروبي للرابطة التونسية، إحداهما كانت مخصصة لإقامة مركز توثيق وإرشاد قانوني على مستوى مركزي وأخرى من أجل دعم الفروع. وطالما استغل النظام الحاكم التمويل الخارجي لمنظمات حقوق الإنسان لتشويه سمعتها واتهامها بالعمالة والخيانة وبالاستقواء بالأجنبي. ففي مجلس وزاري بحضور رئيس الجمهورية تم بثه في النشرة الرئيسية للأنباء سنة 2009، طعن رئيس الجمهورية في وطنية مناضلي حقوق الإنسان واتهمهم بتشويه تونس في الخارج والحقد على بلادهم.
2- منظمات أخرى تنضم للرابطة في النضال من أجل حقوق الإنسان
مع بداية عهد الرئيس السابق بن علي، في أواخر الثمانينيات، ربطت نسويات تونسيات بين النضال من أجل حقوق المرأة والمطالبة بدمقرطة النظام وكانت هذه بداية تبلور حركة نسوية جديدة من خارج نسوية الدولة، وهي الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، تعتبر المساواة التامة والفعلية بين الجنسين وتكافؤ الفرص شرطًا أساسيًا لتحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وأن الديمقراطية الحق هي التي تضمن الحريات العامة والخاصة وتكفل الحقوق والكرامة في الفضاء الخاص كما في الفضاء العام.
وتأسست هذه الجمعية في سبتمبر 1989 على يد عدد من النسويات الناشطات بشكل مستقل منذ عدة سنوات عن المنظمة النسوية الرسمية (الاتحاد الوطني للمرأة). وتعود بداية نشاط هؤلاء النسويات إلى نادي دراسة قضايا المرأة بالنادي الثقافي الطاهر حداد سنة 1978 ولجنة دراسة قضايا المرأة العاملة بالاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1982. وأصدرت هؤلاء النسويات مجلة "نساء" من أجل بث الوعي بالقضايا النسوية سنة 1983. ونشطت المؤسِّسات ضمن لجنة المرأة بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان منذ 1985. وتنتمي مؤسسات الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات إلى التيار اليساري، بعضهن مستقلات بينما تنتمي أخريات إلى الحزب الشيوعي. وقد حرصن على عدم التداخل بين العمل الحزبي والنشاط في الجمعية وأكدن على استقلالية جمعيتهن عن كل حزب سياسي. ورغم ذلك فقد كن مصنفات ضمن المعارضات لنظام الحكم في عهد بن علي حيث كان لهن رصيد نضالي فيما يتعلق بالقضايا السياسية عامة. وأعلنت الجمعية، من بين أهدافها، العمل على فصل الدين عن الدولة مما وضعها في مواجهة فكرية وإيديولوجية مع التيار الإسلامي. وأعلنت الجمعية أنها تعمل من أجل "مناهضة النظام الأبوي والقضاء على كافة أشكال التمييز بين الجنسين ومناهضة كافة أشكال العنف المسلط على النساء وتطوير خطاب نسوي علماني تقدمي وتعميمه من أجل بناء تونس على أسس من الكرامة والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية." وشملت مطالب الجمعية المساواة في الإرث وحرية المرأة في اختيار القرين مثلما جاء في الاتفاقيات الدولية، وهو ما يعني إمكانية زواج المسلمة بغير المسلم، وهو أمر ما زال محظورا للنساء المسلمات كلهن تقريبا في البلدان ذات الأغلبية المسلمة. وأسست هؤلاء النسويات، في يناير 1989 جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية والتي ضمت مجموعة من الباحثات المهتمّات بإنتاج معرفة نقدية حول أوضاع النساء في تونس والعمل من أجل دعم المشاركة الفعلية للمرأة في التنمية على مختلف المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
أما في مجال رصد انتهاكات حقوق الإنسان وخاصة مسألة التعذيب، وفي سياق انغلاق المجال السياسي وتلاحق موجات القمع ضد الإسلاميين في بداية التسعينيات، واليساريين بعد ذلك، وفي ظل التضييق على الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، بدأت تتأسس تباعًا منظمات حقوقية لرصد انتهاكات حقوق الإنسان والتضييق على الحريات العامة والفردية، فتأسس سنة 1998 المجلس الوطني للحريات بتونس من قبل ناشطين بالرابطة من بينهم المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر وسهام بن سدرين. كما أسست راضية النصراوي، المحامية وزوجة زعيم حزب العمال الشيوعي التونسي حمة الهمامي، سنة 2003 الجمعية التونسية لمناهضة التعذيب. أما الإسلاميون، فقد أسسوا سنة 2001 المنظمة الدولية لمساندة المساجين السياسيين، وكان بين المؤسسين القيادي بحركة النهضة والمحامي سمير ديلو. وأسس محمد النوري، أحد ناشطي الحركة الإسلامية، منظمة حرية وإنصاف في عام 2009 بعد ان عاد من مهجره في فرنسا.
وإضافة للمنظمات التي تعنى أكثر بتوثيق الانتهاكات وتقديم المساعدة القانونية والنشر والفضح، شهدت تونس في وقت لاحق مراكز تعني أكثر بالدراسات ونشر الوعي الحقوقي، وكان في مقدمتها المعهد العربي لحقوق الإنسان. وتتمتع المراكز الحقوقية المشتغلة بالتدريب والدراسات بحرية أكثر في العمل الذي يقوم أساسًا على إجراء البحوث والدراسات وتنظيم دورات تدريبية، حيث إنها لا تتخذ مواقف صريحة ومباشرة حول الانتهاكات.
وجاءت نشأة المعهد العربي في 1989 بمبادرة من المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي عقدت مؤتمرها التأسيسي في قبرص سنة 1983 والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان واتحاد المحامين العرب وبمساعدة الأمم المتحدة. وسمحت حكومة بن على في إطار الانفتاح النسبي للنظام السياسي في بداية عهد الرئيس السابق بأن يقوم المعهد في تونس مثله مثل منظمات غير حكومية عربية ودولية سُمح لها بفتح فروع في تونس. ونظم المعهد دورات تدريبية ومحاضرات وندوات من أجل نشر الوعي والمعرفة بحقوق الإنسان والمهارات اللازمة للعمل في مجالها، كما قام بدراسات أكاديمية ووفر للباحثين والناشطين مكتبة متخصصة تحتوي على كتب ودوريات وتقارير ووثائق الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان. ورغم اندماج المعهد العربي في النسيج الحقوقي التونسي، فإنه حافظ على بعده الإقليمي العربي. وإضافة إلى المقر في تونس، للمعهد فرعان في مصر والمغرب، كما تضم الهيئة العلمية للمعهد خبراء وناشطين في مجال حقوق الإنسان من جنسيات عربية مختلفة.
وسمح الانفتاح النسبي للنظام السياسي بفتح فرع لمنظمة العفو الدولية في تونس في 12 أبريل 1988، كما انخرطت كل من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وجمعية النساء الديمقراطيات في الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان. وتمثل هذه الخطوات أحد أوجه التشبيك بين مختلف منظمات حقوق الإنسان على المستوى المحلي والتمفصل بين المحلي والدولي.
ثالثًا: تحولات المجتمع المدني الحقوقي بعد 2011
بعد 14 يناير 2011، ورحيل الرئيس السابق بن علي تحول عدد غير قليل من نشطاء حقوق الإنسان من المعارضة إلى العمل السياسي المباشر في هيئات ولجان ومجالس منتخبة ووزارات. ومع ذلك، تظهر عدة تقارير، صادرة عن منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان المحلية والدولية، أن حقوق الإنسان في تونس ما زالت تحتاج لعمل كثير لضمانها والدفاع عنها رغم ما تم إقراره من حريات وحقوق تكاد تكون شاملة بدستور 2014 ومختلف النصوص التشريعية التي تم وضعها منذ 2011 ورغم أن التعذيب لم يعد سياسة ممنهجة.
ويبدو أن التداخل المضطرب بين السياسي والحقوقي أمر لا مفرّ منه بالنسبة للحركة الحقوقية التونسية، وربما لحركة حقوق الإنسان في الدول التي عانت من الديكتاتورية ولم تصل لنظام تمثيلي وحر مقبول ومستقر. ففي هذه الحالات يكون المناضلون من أجل احترام حقوق الإنسان هم أيضًا بالضرورة مناضلون ضد الدكتاتورية والسلطوية والنظام الحاكم الذي يجسدهما، كما أن إغلاق مجال العمل السياسي الحزبي يدفع المهتمين بالشأن العام للانخراط في واستغلال المساحات الأصغر الممنوحة للجمعيات الأهلية وقنوات العمل المدني الأخرى. واتضح هذا التداخل قبل 2011 في انضواء المعارضين السياسيين تحت لواء المنظمات الحقوقية والنشاط ضد السلطة السياسية من خلالها في ظل غياب الحريات السياسية والتضييق على العمل الحزبي. وهو ما يفسر أيضًا رجوع نشطاء حقوقيين، سواء إسلاميين أو يساريين، إلى حلبة العمل السياسي ووصول العديد منهم إلى مواقع القرار بعد سقوط نظام الديكتاتور بن علي، بل ورحل إلى نفس الحلبة بعض المناضلين الحقوقيين الذين لم يكن لهم تاريخ في العمل السياسي.
وفي نفس الوقت تنامى عدد الجمعيات الحقوقية المنزع الجديدة وتنوعت أنشطتها أكثر وركز عدد منها على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحقوق الفئات المهمشة والأقليات.
1- نشطاء حقوق الإنسان: من المعارضة إلى السلطة
انقلبت الموازين بعد 2011، ليمسك بعض ضحايا الأمس ببعض مقاليد السلطة، بل وجلس بعضهم على أعلى مقاعد البلاد وشغلوا أهم مناصبها. وكانت البداية مع الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي ضمت عدة شخصيات حقوقية سواء بصفتها شخصيات عامة أو ممثِّلة لمنظمات وجمعيات. وتكمن أهمية هذه الهيئة في أنها المؤسسة التي جمعت ممثلين من مختلف المشارب السياسية والإيديولوجية لوضع الآليات القانونية من أجل الانتقال الديمقراطي السلمي (القانون الانتخابي وقانون الصحافة وقانون الأحزاب وقانون الجمعيات). ومثلت الهيئة حلبة تفاوض بين مختلف الفاعلين سواء من المجتمع المدني أو من المجتمع السياسي. وضمت الجمعيات الحقوقية العضوة في الهيئة كلًا من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وجمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية والمجلس الوطني للحريات بتونس والجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين وجمعية حرية وإنصاف. وسمح هذا بدخول عدد كبير من مناضلي حقوق الإنسان إلى الهيئة سواء عبر تمثيل منظماتهم الحقوقية أو من خلال منظمات أخرى. وعلى سبيل المثال، شارك كمال الجندوبي بصفته ممثل أحد منظمات التونسيين بالخارج ومثّل علي بن سالم جمعية قدماء المقاومين. وعُيّن في الهيئة عدد لا بأس به، كشخصيات وطنية عامة، من بينها عبد الستار بن موسى رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعبد الباسط بن حسن رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان وأحلام بلحاج رئيسة جمعية النساء الديمقراطيات.
وتم تعيين عدد من مناضلي حقوق الإنسان في الهيئات الرسمية التي تم احداثها. فعُيّن توفيق بودربالة الرئيس السابق للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان على رأس اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق حول التجاوزات والانتهاكات في يناير 2011. وكان من بين أعضاء هذه اللجنة بشرا بلحاج حميدة الرئيسة السابقة لجمعية النساء الديمقراطيات وحياة الورتاني وشريفة التليلي عضوتان بنفس الجمعية وعبد الرحمن الهذيلي عضو الهيئة المديرة للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وصلاح الدين الجورشي من الرابطة أيضًا. كما تولت سهام بن سدرين، الرئيسة السابقة للمجلس الأعلى للحريات رئاسة هيئة الحقيقة والكرامة سنة 2013. ومن بين أعضاء الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري نجد هشام السنوسي، الممثل عن شمال أفريقيا لمنظمة "المادة 19" (Article 19).
وشارك العديد من نشطاء حقوق الإنسان في الانتخابات المختلفة. وعلى سبيل المثال خاض الانتخابات التشريعية سنة 2014 بشرى بلحاج حميدة، الرئيسة السابقة لجمعية النساء الديمقراطيات التي ترشحت على قائمة نداء تونس لدائرة تونس 2، وعلي بن سالم رئيس فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ببنزرت على قائمة نداء تونس دائرة بنزرت، وسمير ديلو الرئيس السابق للمنظمة الدولية للدفاع عن المساجين السياسيين على قائمة النهضة دائرة بنزرت. وصار الرئيس السابق للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، المنصف المرزوقي، أول رئيس منتخب للبلاد وتولى المنصب لمدة ثلاث سنوات من 2011 حتى 2014 بعد أن أعاد تنشيط حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وترأسه حتى نجاحه في الانتخابات. وتولى ديلو وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في عهد حكومة الترويكا. وتولى عبد الكريم الهاروني، العضو السابق بالهيئة المديرة لجمعية حرية وإنصاف، وزارة النقل في عهد نفس الحكومة، وشغل مصطفى بن جعفر، أحد مؤسسي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ورئيس حزب التكتل من أجل العمل والحريات، رئاسة المجلس الوطني التأسيسي حتى 2014.
وتفاوت أداء هؤلاء الناشطين الحقوقيين تجاه قضايا حقوق الإنسان من خلال المواقع الرسمية التي بلغوها. ويمكن ملاحظة أن عددًا كبيرًا من الناشطين في مجال حقوق الإنسان قبل 2011 والذين كان نشاطهم الحقوقي مرتبطًا بنشاطهم السياسي، تركز اهتمامهم بعد 2011 أساسًا في المجال السياسي في إطار استراتيجيات الأحزاب التي ينتمون إليها. ولم يمنع وجود هؤلاء في السلطة وفي مواقع القرار من حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان، ومن ذلك وفاة شابين من السلفيين، اتُّهِما في أحداث السفارة الأمريكية في السجن نتيجة إضراب طويل عن الطعام سنة 2013 واحداث الرش بسليانة . من جهة أخرى عانى أداء بعض النشطاء، الذين لم تكن لهم انتماءات حزبية قبل 2011، من الضعف تجاه بعض القضايا الحقوقية الحساسة مثل حقوق الأقليات الجنسية.
في المقابل، كان تواجد نشطاء حقوق الإنسان في بعض المواقع إيجابيًا، وخصوصًا داخل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي والهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية. فقد وضعت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة أهم النصوص القانونية التي حررت الحياة السياسية. وعملت حفيظة شقير، المناضلة الحقوقية وإحدى مؤسِّسات جمعية النساء الديمقراطيات وعضوة هيئة الخبراء بالهيئة العليا ضمن المجموعة المكلفة بإعداد القانون الانتخابي، على إدراج مبدأ التناصف على القوائم الانتخابية. وعمل داخل الهيئة العليا للحقوق والحريات الأساسية عدد من الشخصيات الحقوقية بصفتهم الشخصية أو كممثلين عن منظمات حقوقية، ومن بينهم الهذيلي (الرابطة ومنتدى الحقوق الاقتصادية) وسعاد التريكي (إحدى مؤسسات جمعية النساء الديمقراطيات) ومنية بن جميع (الرئيسة الحالية لجمعية النساء الديمقراطيات) ورامي الصالحي (الشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان)، وشارك في الهيئة من جانب الجمعيات الجمعية التونسية لمناهضة لتعذيب وجمعية النساء الديمقراطيات والنقابة الوطنية للصحافيين. وعمل أعضاء الهيئة على إصدار قانون أساسي جديد للحقوق والحريات أكثر فاعلية.
2- تنوع منظمات حقوق الإنسان
يوجد نحو 21 ألف جمعية أهلية مسجلة في تونس وفقًا لبيانات الحكومة منها 350 جمعية حقوقية. وحسب دراسة قام بها المرصد الوطني، إيلاف، حول الجمعيات في 2013، فإن الجمعيات الحقوقية تمثل 28٪ من مجموع الجمعيات. ويعدد المعهد العربي لحقوق الإنسان في قاعدة بياناته 856 جمعية فاعلة في مجال حقوق الإنسان في معناها الواسع. وربما يعود هذا التفاوت في الأرقام إلى الاختلاف في تعريف العمل الحقوقي والزيادة وعدم تطابق فترات القياس ولكن كل الأرقام تشير الى زيادة ضخمة في عدد الجمعيات الحقوقية بعد الثورة.
وقد اتسعت مجالات عمل الفاعلين في مجال حقوق الإنسان، بعد 2011، لتشمل حقوقًا أخرى لم تكن تلقى اهتمامًا كبيرًا من قبل مثل حقوق الأقليات الجنسية والعرقية والدينية. وجرى طرح موضوع الأقليات عموما في إطار نقاش عام حول الهوية عرفته تونس منذ الأشهر الأولى من المسار الانتقالي. ففي إطار الصراع السياسي، قسّم البعض التونسيين إلى مسلمين "محافظين على هويتهم العربية الإسلامية" من جهة وإلى علمانيين تغريبين أو "معادين للإسلام" من جهة أخرى. وفي هذا السياق، نوقشت قضايا التنوع في مناخ عدائي هوياتي محمل بافتراضات وآليات هجومية ودفاعية عن الدين والعرق والجنسانية وهو أمر شرخ التجانس المفترض للمجتمع التونسي. وطالبت أقليات مختلفة باحترام حقوقها وعملت من أجل ذلك على تأسيس منظمات أهلية تمثلها وتتكلم باسمها.
ورغم أن حقوق المثليين جنسيًا طرحت للنقاش العام منذ انتخابات 2011 بل وتم توظيفها سلبيًا من قبل أنصار التيار الإسلامي من أجل الانتقاص من مرشحي اليسار في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، لم تعلن أول جمعية مثلية عن وجودها حتى عام 2015. وتكونت جمعية شمس وفق قانون الجمعيات القائم على نظام التصريح. وبعد جدل حاد حول قبول وجود مثل هذه الجمعيات وحقها في النشاط العلني، سعت الحكومة لتعليق نشاطها بذريعة أنها "غالطت رئاسة الحكومة عند تقديمها لطلب التأشيرة" وقضت محكمة في يناير 2016 بإيقاف نشاط الجمعية 30 يوما بينما تعرض أعضاء شمس وقادتها إلى مضايقات واعتداءات عنيفة دفعت البعض منهم إلى محاولة الانتحار، او ترك البلاد، ولكن نشاط الجمعية التي تسعى لمنع تجريم المثلية عن طريق الغاء الفصل 230 من القانون الجزائي، لم يتوقف بل ويبدو انه ينال قبولا اكبر وإن كان ببطء.[63] وفي نفس الوقت اتسع نطاق طرح مسألة الحرمة الجسدية لتتعدى سياق مناهضة التعذيب ورصد الانتهاكات الجسدية ضد المحتجزين، وصارت تشمل، مثلًا، معارضة اجراء الفحص الشرجي بغرض اثبات تهمة اعتياد اللواط حيث يُعد معاملة قاسية، أو مهينة، أو لا إنسانية مما يجعله محظورًا تحت اتفاقية مناهضة التعذيب، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.
ورغم ضمان الفصل السادس من دستور 2014 لحرية الضمير والمعتقد، فإن الكثير من الناس لا يزالون غير قادرين عن التعبير عن خياراتهم الدينية بحرية مثل البهائيين أو الشيعة أو الذين يرفضون الالتزام ببعض العادات الدينية أو الاجتماعية مثل الالتزام بصوم شهر رمضان في المجال العام. وطلب بهائيون الموافقة على منح صفة قانونية لجمعية أسسوها في عام 2011 لكن السلطات رفضت بدعوى أن الجمعية تحمل اسم "الجمعية البهائية". ونشطت جمعيات شيعية مطالبة بالسماح لهم بالتعريف بمذهبهم وإقامة طقوسهم الدينية. ورغم غياب النص القانوني الذي يجرم الردة أو تغيير الديانة، شأن دول عربية أخرى، لا يجرأ أولئك الذين يتحولون إلى اعتناق المسيحية في تونس على المجاهرة بقرارهم في ظل الضغط الاجتماعي الذي يُمارس في هذا الصدد. كما لا يمكن المجاهرة بالإلحاد خوفًا من العنف الذي يمكن أن يسلط على صاحب هذا الخيار. ولعل الهجوم ضد دار عرض قدمت فيم ما حدث للمخرجة السينمائية نادية الفاني بعد عرضها لفيلم "لا الله ولا سيدي" سنة 2011 مثال واضح على تعقيد وحساسية هذه المسألة.
أما بالنسبة للأقليات العرقية، فقد نشأت منذ عام 2011 وحتى 2016 عشر جمعيات أمازيغية على الأقل يركز معظمها على النشاط الثقافي والسعي للحفاظ على اللغة وتأكيد الخصوصية الثقافية للأمازيغ باعتبارهم السكان الأصليين للبلاد ولكن يُلاحظ في مواقعهم ومنشوراتهم انتشار المصطلحات الحقوقية والمطالبة بالمساواة القانونية والتنموية إضافة للمطالب المتعلقة بالاعتراف باللغة والهوية بما يشمل المؤسسات التعليمية. وطالب السود الذين يزيد عددهم عن المليون شخص في تونس باحترام حقوقهم وكشفوا في حملاتهم ومنشوراتهم عن مدى تعرضهم للمعاملة المهينة والتمييز في الحياة اليومية وفي وسائل الإعلام، ونظموا وقفات احتجاجية وتأسست جمعيات مثل "منامتي" (أي "حلم" بالعامية التونسية) و "آدم للمساواة والتنمية" بهدف مناهضة التمييز العنصري. ويسعى بعض الناشطين لإقرار قانون يجرم التمييز.
وقد احتلت الحقوق الاجتماعية والاقتصادية مكانة مهمة بعد 2011 نظرًا لارتباط الثورة بالمطلبية الاقتصادية وتعلق أغلب شعاراتها منذ بداياتها بالحق في العمل والعدالة الاجتماعية. وظهرت عدة منظمات تدافع كلها عن الحق في العمل وانتشرت في عدد من ولايات الجمهورية وان كان أنشطها من يعملون على حق أصحاب الشهادات الدراسية وخاصة الجامعية في الحصول على وظائف. وفي إطار الرصد والمناصرة، ظهرت عدة منظمات تقليدية وغير تقليدية، ويتصدر النوع الأول المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي يصدر تقارير دورية حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ويرصد ويدعم الحركات الاجتماعية وخاصة في منطقة الجنوب الأفقر والأقل تنمية، ويرأس عبد الرحمان الهذيلي المكتب التنفيذي للمنتدى وهو مناضل حقوقي ويساري لعدة عقود وينتمى للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. ومن النوع غير التقليدي ظهرت منظمات مثل "أنا يقظ" التي تعمل بشكل أساسي على قضايا الشفافية ومحاربة الفساد المالي والإداري وضمان نزاهة الانتخابات وتتابع أعمال البرلمان عن قرب وتستعمل وسائل التواصل الاجتماعي من اجل الضغط والحشد والمناصرة. وساهمت "أنا يقظ" بدور واضح في محاربة قوانين للتصالح مع قضايا فساد ضخمة من فترة ما قبل الثورة كما تتميز عن معظم منظمات المجتمع المدني بانها تنشر موازناتها ومصادر تمويلها بانتظام على موقعها الالكتروني. وجغرافيا، زاد عدد الجمعيات الحقوقية وتنوعت أنشطتها خارج العاصمة في مجالات عديدة مثل حقوق الطفل والمعاقين والحق في التنمية. ولا تكاد تخلو ولاية من واحدة من مثل هذه الجمعيات.
الخاتمة: مستقبل الحركة الحقوقية في تونس: الفرص والتحديات
حققت حركة حقوق الإنسان التونسية مكاسب متعددة في نضالها المستمر منذ خمسين عامًا، وليس أقل هذه المكاسب بقاؤها على قيد الحياة في ظروف استبدادية حالكة. ودخل إلى صفوف الحركة واحتمى بها وخرج من بينها عدد من أهم السياسيين الذين ساهموا في تشكيل مسار الدولة والمجتمع التونسي عقب ثورة يناير 2011 وسقوط نظام بن على الديكتاتوري. وشهدت السنوات الست التالية للثورة تأسيس عدد كبير من الجمعيات التي تستخدم الخطاب الحقوقي في المناصرة والحشد والتوثيق في قضايا اجتماعية واقتصادية وثقافية مثل البطالة والمساواة العرقية والجنسية ومحاربة الفقر والفساد. واستمرت الجمعيات والمنظمات التاريخية في عملها وتزايد نشاط فروع الجمعيات الدولية العاملة على الصعيدين المحلي والعربي حيث صارت تونس ربما البلد العربي الوحيد الذي يمكن فيه بسهولة تسجيل منظمات حقوقية أجنبية وممارسة نشاط حقوقي إقليمي بحرية.
ولكن الحركة تواجه عددًا من التحديات بعضها قديم والآخر جديد، ومنها:
- تداخل الجانب السياسي مع العمل الحقوقي (سواء عن طريق الدخول مباشرة في الصراع على السلطة أو تبوأ مناصب سياسية أو الصراعات داخل أو بين بعض المنظمات بسبب الانتماءات السياسية) وينتج عن هذا التداخل تعثر العمل الحقوقي وضعف في التنسيق والتعاون بين المنظمات الحقوقية. وهناك حاجة ماسة إلى مواقف أكثر وضوحًا وعلانية بشأن علاقة العمل الحقوقي بالانخراط في صراعات سياسية بما فيها صراعات مباشرة على السلطة والمناصب التنفيذية. وهناك أيضًا حاجة لدراسة الفارق بين أن يستغل الفاعلون الحقوقيون المجال السياسي والفاعلين السياسيين لتحقيق مكاسب حقوقية وأن يسعوا هم أنفسهم ليكونوا جزءًا من النظام السياسي الحاكم (سواء كأفراد أو كمنظمات). وأخيرًا هناك حاجة إلى تمفصل أوضح (أو اعتراف بغموض وعدم تحديد لا مفر منه) للعلاقة بين الفاعلين الحقوقيين وبقية مكونات المجتمع المدني والسياسي (النقابات العمالية والمهنية والأحزاب السياسية والإعلام).
- يوجد ما يشبه قطيعة جيلية حيث يعمل عدد قليل من الشباب في المنظمات الحقوقية العريقة بينما تفضل أغلبية منهم الانخراط في أو إنشاء منظمات أو شبكات جديدة أو العمل مع فروع المنظمات الدولية في تونس.
- تطرح أعمال العنف الإرهابية أيضًا تحديًا كبيرًا أمام الحركة الحقوقية، وخصوصًا مع الميل المعتاد لدى الحكومات والأجهزة الأمنية في أنحاء العالم، وتونس ضمنه، للتذرع باعتبارات أمنية من أجل التضييق على الحقوق عمومًا وحقوق المتهمين بالإرهاب خصوصًا. ويعيد هذا للحياة الحجة التي استعملها الرئيس السابق بن علي سنوات طويلة في قمعه للإسلاميين وللتضييق على الحريات السياسية والشخصية.
- ويواجه المجتمع الحقوقي التونسي حزمة تحديات داخلية تتعلق بالتنظيم الداخلي (الحوكمة) وسبل اتخاذ القرار والتمويل (المحلي والأجنبي) وفتح باب العضوية (في مقابل المنظمات المهنية المغلقة) والمهنية (تطوير وأحكام النظم الداخلية الإدارية والمالية مثلًا). وعلى سبيل المثال بدأت منظمات عدة في عامي 2015 و2016 من المعاناة من انخفاض معدلات التمويل الأجنبي واضطرارها إلى تقليص البرامج. ورغم أنه لا يوجد في الأغلب سبيل أمثل لبناء منظمة فضلى لحقوق الإنسان لكن هذه التحديات المتعلقة بمسائل الحوكمة والشفافية والتمويل والاستدامة أمور بات من المتعين مقاربتها بصورة مختلفة وأكثر فاعلية من أجل ضمان تطوير وزيادة تأثير العمل الحقوقي.
Chaker Mustapha (1972), “Idées dans l’histoire : les idées politiques du parti communiste tunisien”, Paris : Mémoire de D.E.S, Université Paris I Pantheon-Sorbonne.
[63] انظر "نائب رئيس جمعية شمس يحاول الانتحار"، 11 يوليو 2016، الرابط bit.ly/2xy5Fql وأسامة الحمراوي، "بعد هروبه من تونس إلى فرنسا، نائب رئيس جمعية شمس يكشف: الجميع في تونس هددوني بالقتل"، 27 يوليو 2017، الرابط bit.ly/2h1kqL9 وصفحة شمس على فيس بوك bit.ly/2hf8xBm
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.