ملخَّص
تتولى هذه الورقة تحليل خط زمني للحركة الحقوقية المصرية منذ مولدها في 1985، مرورا بمختلف أطوارها وأجيالها، وحتى 2016. تبدأ الورقة بتاريخ موجز للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وما واجهته من تحديات، والخلافات المفاهيمية التي أدت إلى تفتتها في أوائل 1994.
والتحديات الأربعة التي تعنى بها هذه الورقة هي: العلاقة بين العمل الحقوقي (سواء كان منظماتيًا أو غير ذلك) والسياسة، بما في ذلك الفصائل الإسلامية وسائر المجتمع المدني، والهياكل الداخلية للمنظمات الحقوقية وحوكمتها، وقضية التمويل الأجنبي، والعلاقة التنازعية مع نظم الحكم كما تتجلى في اللوائح القانونية المتعلقة بالمجتمع المدني.
فيما تستعرض الورقة خطًا زمنيًا لبزوغ مختلف الفاعلين الحقوقيين وأفولهم، ومساهماتهم في الحركة، فإن التحديات الأربعة تخضع لتشريح مستمر، يرسم الإطار الذي يتكشف بداخله جهد هؤلاء الفاعلين. ثم تختتم الورقة بأسئلة ومشاهدات، تزعم أن التصدي لها واجب على المجتمع الحقوقي المصري، من حيث فحص تاريخه الخاص بعين ناقدة، بغية التعلم من الماضي وبأمل مراجعة الاستراتيجيات لإحداث تأثير أكبر وإيجاد حلول بديلة في المستقبل، بينما يواجه تحديات هائلة في الحاضر.
(تستند هذه الورقة الى مراجع رئيسية وثانوية ومنها 15 مقابلة معمقة مع عدد من مناضلي حقوق الإنسان المصريات والمصريين من أجيال مختلفة أُجريت في إطار مشروع دراسة تاريخ ومستقبل حركة الإنسان في شمال أفريقيا. وسيتم الإشارة إلى بعض هذه المقابلات بأرقام حيث أُجريت بشرط عدم ذكر الأسماء حتى الانتهاء من المشروع البحثي كله والحصول على موافقات المشاركين على المقتبسات(.
اقرأ المزيدرغم ظهور خطاب حقوقي مصري في توقيت أسبق إلا أن المحاولات الجدية لإسباغ طابع مؤسسي ومهني وشعبي على النضال الساعي إلى تحسين حقوق الإنسان في مصر بدأت في 1983 مع إنشاء المنظمة العربية لحقوق الإنسان. أرادت المنظمة العربية لحقوق الإنسان أن "تمارس الاحتجاج الصريح على تآكل الحريات المدنية والسياسية في الدول العربية". وقد نسبت مجموعة المثقفين والنشطاء الذين أسسوا المنظمة، أوجه القصور العديدة التي تسم الدول العربية إلى الطبيعة السلطوية للنظم الحاكمة، والقمع المعمم للمشاركة السياسية في عملية اتخاذ القرار. وفي وقت لاحق، في أبريل 1985، تأسست المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، كفرع من المنظمة العربية، للتركيز على مصر في سياق تدهور الأوضاع الحقوقية، وحالة الانسداد السياسي في أعقاب اغتيال الرئيس محمد أنور السادات بأيدي جماعة إسلامية مسلحة. وخلال سنوات نشبت مواجهات عنيفة بين أجهزة الأمن والجماعات الإسلامية المسلحة، واتسع نطاق الحملة القمعية المنصبة على الإسلاميين، وصار التعذيب ممنهجًا، و"ممارسة تتم بتغاض رسمي"، كما تزايدت القيود المفروضة على حرية الفكر والاعتقاد. وأعلنت الحكومة عن حالة طوارئ في 1981، دامت طوال الثلاثين عامًا التالية. وعملت هذه الظروف بالتدريج على توليد ثقافة الإفلات من العقاب وسط أجهزة الأمن فيما يتعلق بالاعتقالات الجماعية، والممارسات التعسفية والعقاب الجماعي. وفي ظل ظروف كهذه، كان تأسيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في 1985 علامة على البداية الرسمية والأكثر وضوحا لما يسمى بالحركة الحقوقية في مصر، كما نعرفها اليوم، التي كانت، ولو في جزء منها، استجابة لاحتياجات محددة أخفقت المؤسسات والعمليات السياسية في تلبيتها على النحو الكافي.
وضمت صفوف مؤسسي المنظمة المصرية لحقوق الإنسان تشكيلة من مثقفي مصر العلمانيين واليساريين من أمثال هاني شكر الله، وأحمد نبيل الهلالي، وبهي الدين حسن، ومحمد السيد سعيد، وسعد الدين إبراهيم، وهشام مبارك، وعايدة سيف الدولة وغيرهم. كما انضم في وقت مبكر آخرون من المعسكر القومي الناصري، مثل نجاد البرعي وحافظ أبو سعدة، وما زال الأخير يرأس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان حتى تاريخه. وقد اتجه الكثيرون من هؤلاء المؤسسين فيما بعد إلى إنشاء منظمات حقوقية مستقلة في مطلع التسعينيات، عقب منازعات داخلية حول طبيعة المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وهيكلها والغاية التي تخدمها.
ومن المهم هنا أن نسلط الضوء على التحديات التي واجهتها المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، حيث أنها كانت تتعلق بقضايا لم تزل الحركة الحقوقية المصرية منكوبة بها. والتحديات الأربعة التي تعنينا في هذه الورقة البحثية هي: العلاقة بين التحرك الحقوقي (سواء كان منظما أو عفويا) والسياسة، بما في ذلك تيار الإسلام السياسي؛ والهيكل الداخلي للمنظمات الحقوقية وحوكمتها؛ وقضية التمويل الأجنبي؛ والعلاقة التنازعية مع النظم الحاكمة، كما تتجلى في القواعد القانونية الحاكمة لعمل المجتمع المدني. وسوف نبين في هذه الورقة كيف عملت هذه التحديات على صوغ تطور الحركة الحقوقية في مصر، فقطعت الطريق على تطور إمكانات بعينها بينما عززت ظهور إمكانات أخرى.
تاريخ موجز للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان
بحسب الأعضاء المؤسسين، ينبغي أن ترتبط البداية الحقيقية للحركة الحقوقية المصرية بانفصال المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عن نظيرتها العربية، وانتقالها إلى مقر جديد ومستقل في 1989. تزامنت هذه النقلة مع تحول القيادة من يد الأمين العام شريف حتاتة إلى الأمين العام بهي الدين حسن، الذي يعده الكثيرون الشخصية الأبرز في المنظمة المصرية لحقوق الإنسان. لم تقتصر النقلة على القيادة والمقر المكتبي، بل كانت أيضًا نقلة نوعية وقفزة جوهرية فيما يتعلق بإنتاج وتأثير المنظمة. لقد تغير نوع العمل الذي تؤديه المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، من مجرد تلقى الشكاوى وإحالتها للجهات الوزارية المختصة، إلى اتخاذ مواقف فاعلة، وإصدار التصريحات وعقد المؤتمرات الصحفية، إلى جانب حضور المحاكمات. ) بعبارة أخرى، تطورت المنظمة إلى ما يصنف اليوم على أنه منظمة حقوقية عمومية واحترافية ومتحفزة. وإذن فرغم أن التأسيس الفعلي قد تم بأيدي جيل أقدم يمثله محمد فايق وسعد الدين إبراهيم، إلا أن "الحركة" الفعلية بدأت بانخراط نشطاء أصغر سنًا وأقل ارتباطًا بالدولة، مثل بهي الدين حسن وهاني وهالة شكر الله وهشام مبارك وعايدة سيف الدولة ونبيل الهلالي ونجاد البرعي ومحمد السيد سعيد وآخرين كثيرين. كان هؤلاء جميعًا من الشباب النشط سياسيًا، القادم من حركات الطلبة في السبعينيات، أو من منظمات ماركسية سرية، أو من حزب العمال الشيوعي. كما كان لبعضهم خلفية قومية ناصرية. أما الجيل الأقدم فكان على النقيض التام، إذ تولى محمد فايق الوزارة في عهد ناصر، وعمل كضابط مخابرات في الخمسينيات، بينما كان سعد الدين إبراهيم مقربًا من الرئيس الأسبق السادات وأسرته.
بين أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات ثمة محطات زمنية ثلاث، وما يقابلها من جمعيات عمومية، تلقي الضوء على القضايا التي كان من شأنها لاحقًا أن تفتت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، وهي 1989، و1991، و1993.
1989
تمثل سنة 1989 أهمية للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، لكنها أيضًا محطة تاريخية هامة لفهم السياق الذي ظهرت فيه المنظمة، خاصة وأن الكثيرين من أعضائها أتوا من خلفية يسارية. كانت 1989 عند الكثيرين بداية مراجعة أشمل وانتقاد أعمق للتصورات الماركسية التقليدية الجامدة، فمع سقوط سور برلين، وانهيار الاتحاد السوفييتي قبل ذلك، كانت تلك هي السنة التي شهدت خلخلة القناعات الاشتراكية القديمة وصعود تصورات عن عالمية حقوق الإنسان في أرجاء العالم.
أما في مصر فقد كانت 1989 هي سنة إضراب عمال الحديد والصلب الذي أدى فضه العنيف إلى وفاة شخص واحد وعشرات الإصابات، ونحو 600 من حالات الاعتقال. وشملت صفوف المعتقلين بعض أبرز أعضاء المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ومنهم أمير سالم ومحمد السيد سعيد، اللذان تعرضا للتعذيب أثناء الاحتجاز. ) أدت الواقعة لرفع شعبية المنظمة وأعضائها. علاوة على هذا فقد مثلت السنة بداية لسلسلة اغتيالات لرموز الإسلاميين، وتصاعد الإرهاب انتقامًا لهم، ودخول أجهزة الأمن والجماعات الإسلامية المسلحة في حلقة خبيثة من العنف الذي أراق دماء وفيرة في التسعينيات. )
فيما كانت الحركات اليسارية تتراجع في مصر والخارج، مقرونة بصعود الحركات الإسلامية في مصر، كان طبيعيًا أن يتحول مؤسسو المنظمة المصرية لحقوق الإنسان من العمل السياسي فقط إلى العمل الحقوقي. وبحسب بعض المؤسسين فإن العمل الحقوقي لم يكن مجرد بديل، بل كان هناك إخلاص حقيقي في مراجعة بعض المفاهيم اليسارية وإعادة تعريفها. يحتج البعض بأنهم صدروا عن إيمان صادق بضرورة نشوء حركة حقوقية مصرية أثناء صعودها في سائر العالم. ويمثل هذا الرأي طعنًا في فكرة تعرض المنظمة المصرية لحقوق الإنسان للاستغلال كمنبر للنشاط السياسي. ويبدو أن العديد من مؤسسي المنظمة الذين أجريت معهم المقابلات متفقون على أنها لم تكن ساحة يلتمسون فيها مواصلة العمل السياسي، رغم مجيء أكثرهم من خلفية نشاط سياسي. لكنها كانت بالأحرى صحوة حقوقية "أصيلة وصادقة". ومن ثم فإن الخلافات اللاحقة بين مؤسسي المنظمة وأعضائها لم تنتج عن اختلافات أيديولوجية، بين الماركسيين والناصريين على سبيل المثال، بقدر ما نجمت فيما يبدو عن خلافات مفاهيمية، وشخصية أحيانًا، أدت في النهاية إلى تفتت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان.
في 1989 عقدت الجمعية العمومية الجديدة الأولى للمنظمة، ونوقشت فيها طبيعة عملها واختصاصها. ويستشهد البعض بهذه الجمعية العمومية على أنها الأكثر سلاسة، وبمجلس إدارتها على أنه الأفضل في تاريخ المنظمة. كان هناك اتفاق عام وقرار واع بأن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ستفتتح الحركة الحقوقية في مصر، وسوف تطمح إلى نموذج على غرار منظمة العفو الدولية Amnesty وهيومن رايتس ووتش Human Rights Watch من حيث نوعية العمل الذي تؤديه.
1991
شهدت الجمعية العمومية لسنة 1991 أولى موجات الخلاف، حول قضية التمويل الأجنبي ـ القضية التي ما برحت تثير أشد الجدل حتى الآن. ومع تصاعد المواجهة العنيفة بين الدولة والإسلاميين، اكتسبت الانتهاكات بحق الإسلاميين المحتجزين أو الطلقاء طابعًا ممنهجًا، وتواصل نمو أعمال المنظمة وبوجه خاص في التمثيل القانوني، مما يعني الحاجة إلى مزيد من التمويل لإعالة نفسها. وقد احتج المعترضون على التمويل الأجنبي من حيث المبدأ بالقول إن الغرب أقوى اقتصاديا، ومن شأن المانحين أن تكون لهم أجندات تكمن خلف تمويل المنظمات المصرية، الأمر الذي يخلق علاقة تبعية. وحتى بعد سنوات من تفتت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، صرح شكر الله بأن "تأثير.. المعونات الأجنبية.. كان سلبيا للغاية". كان التمويل في رأيه يأتي "بشروطه معه". وكان المثال الذي قدمه هو التركيز على الحقوق المدنية والسياسية، كاستنساخ تقليدي لأولويات المنظمات الغربية، التي لولا التمويل الأجنبي لما كان من شأنها بالضرورة أن تمثل اتجاه الحركة الحقوقية المحلية في مصر. ولكن شكر الله، رغم تشككه في التمويل الأجنبي، كان يدرك الحاجة العملية إليه، ومن ثم فقد تقبل اللجوء إليه، ولكن بشروط شديدة الصرامة. بل إنه عمد إلى صوغ تلك الشروط كتابة، ومنها ألا تقبل المنظمات تمويلا من جهات أمريكية، ومن الحكومات بصفة عامة، وأن يظل التمويل في أضيق الحدود بحيث يضمن للمنظمات مجرد البقاء، مع الحفاظ على العمل التطوعي نموذجا لها كمنظمات قائمة على العضوية. وقد وجد مفهوم التمويل الأجنبي في الناصريين معارضة أشد درامية، وبعد الجمعية العمومية التي صوتت على قبول استعانة المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بالتمويل الأجنبي (وإن بشروط صارمة)، استقال ناصريون مثل حلمي شعراوي ونادر فرجاني من المنظمة على خلفية القضية. أما المعسكر المقابل، بقيادة حسن وسعيد، فكان ينظر إلى "التفاعل الدولي على الصعيدين، غير الرسمي/غير الحكومي والرسمي/الحكومي، على أنه السبيل الوحيد لازدهار المجتمع المصري". كان سعيد يعترض على الرصد الحكومي المتقحم للمنظمات غير الحكومية والكيانات الأجنبية، مجادلًا بأن "الخونة" لا يحتاجون للعمل وراء ستار المنظمات غير الحكومية. وقد احتج سعيد بأن مصر لديها ما يكفي من القوانين لحماية الأمن القومي "بدون الحاجة إلى تقييد الأنشطة الخاصة غير الحكومية". علاوة على هذا، وبالاستناد إلى مقارنة المنظمة المصرية لحقوق الإنسان قبل بدء تلقي التمويل الأجنبي وبعده، احتج حسن بأن التمويل الأجنبي لا يؤثر بالضرورة في أجندة المنظمة، وبأن نتائج التمويل الأجنبي تعتمد على المانح بقدر ما تعتمد على المتلقي.
لقد اتخذ القرار بقبول التمويل الأجنبي تحت ضغوط مالية متزايدة، وبالتحكم فيه من خلال شروط صارمة فصّلها هاني شكر الله وبهي الدين حسن ونجاد البرعي وآخرون. ) وصوتت غالبية الأعضاء بقبول التمويل الأجنبي، وجاء أول تمويل للمنظمة من أوكسفام، بقيمة نحو أربعين ألف (40000) دولار أمريكي، استغل نصفها من أجل تأمين مقر للمنظمة.
1993
لأن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان كانت مفتوحة العضوية، فقد واجهت ما اعتبره بعض المؤسسين تهديدا بالاستيلاء عليها من قبل جماعة سياسية أو أخرى وبدأت محاولات مختلفة لتحييد التنافس فيما بين الفصائل السياسية منذ الجمعية العامة للمنظمة في مايو 1991. ومع ذلك فقد ظل السؤال ملحًا، عن كيفية تحرك المنظمة إلى الأمام من الناحية الهيكلية. كانت الخيارات المطروحة تتضمن تحويل المنظمة إلى جمعية مغلقة، أو فتح باب العضوية على النحو الذي يسمح بالتعبئة الجماهيرية على نطاق أوسع. ولعل الجدل الذي ثار بشأن الشكل الجديد للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان أن يلقي بعض الضوء على التحديات الثلاث الأخرى أيضًا، بما أنها كلها متشابكة.
في 1993 كانت المنظمة قد وقفت على قدميها بالفعل، وفي وضع قوي من حيث أنها المنظمة الحقوقية المصرية الوحيدة، مما جعلها منبرًا مغريًا لمختلف الفصائل، المتباينة من حيث رؤيتها لمستقبل المنظمة. ) وهكذا صار استمرارها بهذا المستوى من الخلافات مشكوكًا فيه، فكان ضروريًا أن تتخذ قرارات تتعلق بهيكلية المنظمة وفلسفة عملها، بعد أن ذاع صيتها. وفي أعقاب ورشة عمل للمنظمة في يوليو 1993، تقدم أبرز القادة بأوراق تطرح رؤاهم حول كيفية استمرار المنظمة في عملها، وتنتقد الرؤى المعارضة أيضًا. فظهرت ثلاث رؤى مقترحة للمنظمة في توقيت الجمعية العمومية لسنة 1993/4.
وقد عملت ورقة شكر الله، المشارك في التأسيس، على تلخيص الخيارات الثلاث الخاضعة للنقاش في 1993. وكان من السيناريوهات المطروحة، ومن أقلها شعبية، سيناريو "جبهة الدفاع عن الديمقراطية". كان من شأن هذا السيناريو أن يحول المنظمة المصرية لحقوق الإنسان إلى منبر تمثيلي لقوى المعارضة السياسية المصرية القانونية وغير القانونية على السواء. أي أنه، بعبارة أخرى، يحول المنظمة إلى صوت لكل الفصائل السياسية. وقد طرحت للنقاش في هذا السيناريو مسألة الموازنة بين دمج الإسلاميين مع الاحتفاظ بحقوق الإنسان كأولوية. وانتقاد شكر الله لهذا الخيار يطرح أسئلة منطقية وصعبة على العلمانيين والإسلاميين على السواء: ما إذا كان الإسلاميون سيقبلون عالمية مبادئ حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة، أو ما إذا كان العلمانيون سيقبلون التخلي عن حقوق من شأن غالبية الإسلاميين المصريين أن يعترضوا على بعضها على أسس دينية، مثل حقوق المرأة، والحق في حرية الاعتقاد والضمير، وحقوق الأقليات. بعبارة أخرى، كان السؤال هو ما إذا كانت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان مستعدة للتغاضي عن حقوق معينة في سبيل المكسب السياسي المتمثل في وجود الإسلاميين في صفوفها. لم يلق هذا السيناريو شعبية وسط المعسكر العلماني بأسره، ولم يكن مطروحًا كمنافس للرؤيتين الأخريين.
أما الرؤية الثانية والأكثر شعبية فكانت تتمثل في الاحتفاظ بـ"منظمة مغلقة". وقد تمتع هذا الخيار، بحسب شكر الله، بأكبر التأييد، بما فيه تأييد أناس مثل محمد السيد سعيد وبهي الدين حسن، اللذين سيقومان بعد عام واحد بإنشاء معهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بموجب هذا النموذج. في ظل هذا السيناريو كان من شأن عضوية المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ومجلس إدارتها أن تتكون من ممارسين حقوقيين معنيين في المقام الأول بالوضع الحقوقي في مصر، حرصا على بقاء المنظمة مستقلة تمام الاستقلال عن المشهد السياسي المصري مع تأكيد أن مرجعية المنظمة الأولى هي القانون الدولي لحقوق الإنسان ومواثيقه. وبحسب مؤيدي هذا الخيار فإن هذا هو السبيل الوحيد للحفاظ على موضوعية المنظمة واستقلالها، ومن ثم مصداقيتها أيضًا. ومن شأن سيناريو المنظمة المغلقة، من الناحية العملية، أن يعني تقييد العضويات الجديدة ومراقبتها، وتجنب تحويل المنظمة إلى منبر للفصائل السياسية تسعى من خلاله إلى السلطة السياسية على حساب الخطاب الحقوقي الوليد. أما بهي الدين حسن، الذي تصدر الدفاع عن هذا الخيار، فقد احتج أيضًا بأن إبقاء المنظمة مغلقة من شأنه أن يجنبها "التحدي الذي يشكله [الإسلاميون] بالنسبة للمنظمات الحقوقية".
أما معسكر شكر الله، الذي ضم عايدة سيف الدولة (التي أسست مركز النديم لاحقا) وأحمد نبيل الهلالي، وهشام مبارك وآخرين، فقد ظل ينتقد هذا الخيار. كانت الحجة هي أن تحول المنظمات الحقوقية إلى حركة، ومن ثم تحسين فرصها في إحداث التغيير، يتطلب "ربط المنظمات نفسها بالنضال الحقيقي للجماهير الحقيقية" بعد خمس سنوات كرر شكر الله إبداء موقفه، في أعقاب تأسيس بضعة منظمات مغلقة على غرار ما كان يعتبره النموذج الغربي للممارسة الحقوقية. وكانت حجته هي أن المنظمات الحقوقية "تكتسب طابعا مهنيا على نحو متزايد"، لكنها في نفس الوقت "تزداد انفصالا عن الجماهير".
وأخيرا كان ثالث سيناريو لهيكل المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، الذي طرح للنقاش في الجمعية العامة بالتنافس مع الثاني، هو سيناريو "منظمة شعبية وديمقراطية من أجل حقوق الإنسان". وقد فصّل شكر الله رؤيته ودعمه لهذا السيناريو، مقترحا بعض الإصلاحات الكبرى، ومن بينها توسيع قاعدة العضوية بحيث تتحول المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في النهاية إلى حركة حقوقية شعبية، والتوسع في العمل الميداني للمنظمة بحيث يشمل ضروب الانتهاكات الحقوقية كافة، بدون إعطاء الأولوية للحقوق المدنية والسياسية، على سبيل المثال، وتحويل لجنة المنظمة وأفرعها إلى كيانات مستقلة في محاولة لمقرطة المنظمة من الداخل.
عندما سئل بعض الأعضاء المؤيدين لهذا السيناريو عنه في 2016، قالوا إنهم كانوا يرغبون في بناء "حركة" حقوقية أكثر منها منظمة، وإن الجانب المهني منها ينبغي أن يقتصر على الحدود الدنيا حتى لا تتحول إلى مؤسسة بيروقراطية لها مصلحة ذاتية في إعادة إنتاج نفسها. كانوا يريدون خلق تيار. لكن بعضهم يعترف بعد إعادة النظر بأن سيناريو "المنظمة المغلقة"، عند أخذ ظروف التسعينيات في الاعتبار، ربما كان هو السبيل الوحيد العملي والواقعي. )
وقد قوبلت رؤية العضوية المفتوحة بالتشكك من جانب بقية أعضاء المعسكر العلماني بقيادة حسن، الذي رأى فيه مجرد نسخة أخرى من السيناريو الأول. وكانت حجته أن هذا السيناريو من شأنه، أولًا، أن يسيّس المنظمة، ورغم أنه لا يتضمن أو يدعو إلى عضوية الإخوان المسلمين كفصيل سياسي، إلا أنه لن يعرقل الاختراق أو الاستيلاء المحتمل [من جانبهم] إلا لفترة وجيزة. والأهم أن حسن كان قلقًا من أن سعي المنظمة وراء "وهم" الشعبية من شأنه أن يكبدها الثمن من خلال الاضطرار إلى التخلي عن حقوق أساسية قليلة الحظ من الشعبية. وفي طليعة تلك الحقوق، على سبيل المثال، حقوق المرأة وإلغاء عقوبة الإعدام.
خضعت هذه التحديات كلها للنقاش المطول في اجتماع خاص للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان في أغسطس 1993. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا كان هناك معسكر يقوده شكر الله، يدفع في اتجاه تصور التعبئة الجماهيرية ويؤيده، بينما يؤيد ذوو الخلفية الناصرية وآخرون تقييد توسعة المنظمة وتغيير هيكليتها إلى منظمة مغلقة. وفي الجمعية العامة الخامسة في يناير 1994، اكتسب الفصيل الناصري أغلبية في مجلس الإدارة، فأوغر صدور العديد من المؤسسين والأعضاء القياديين المنتمين إلى معسكرات أخرى. وينظر العديد من الأعضاء المؤسسين إلى هذه الجمعية العمومية كنقطة سوداء في تاريخ المنظمة، فمع احتداد الخلافات بين المعسكرين، كان ما حدث يتجاوز أي خلاف في وجهات النظر. وزعم البعض أن أحد الأعضاء، بالتنسيق مع مؤيدي سيناريو "العضوية المغلقة"، تلاعب في قوائم العضوية، بل وزور بعض العضويات بحسب بعض المزاعم، حتى يسمح لأفراد من بلدة مسقط رأسه بالحضور والتصويت في تلك الجمعية العمومية، بهدف استبعاد مؤيدي الفريق المنافس. كانت المسألة من وجهة نظر ذلك العضو تتعلق بالبقاء، وقد استعان بتكتيكات الفوز لأن هذه هي طريقة إجراء الحملات الانتخابية. ) كان يرى نفسه في حرب، وينبغي أن يخرج منتصرًا. لكن الواقعة، والجمعية العمومية كلها، من وجهة النظر الأخرى، كانت نقطة سوداء ومخزية في تاريخ المنظمة، تم فيها التلاعب بالأصوات وتزوير الانتخابات في منظمة حقوقية. ) قال بعض هؤلاء إنهم صدموا من مستوى التحايل السياسي الذي مورس لتحقيق غاية معينة. ويتذكر أحد الأعضاء بحسرة أنه "صحيح أن الخلافات كانت كثيرة، لكنها في نهاية المطاف كانت خلافات مفاهيمية وفلسفية. لم أتوقع قط أن ينحدر هؤلاء الأشخاص إلى هذا الدرك في سبيل الفوز، وتحويل الأمور إلى هجوم شخصي". ) ويعتبر عضو آخر أن ما حدث في ذلك اليوم "جريمة"، كما يحمل مسؤولية الجمعية العمومية لشخص واحد بعينه.
وتظل المفارقة، على كل حال، تتمثل في أن بعض مؤيدي سيناريو "المنظمة المغلقة" استغلوا طبيعة المنظمة ذات "العضوية المفتوحة" لاختطاف الانتخابات والتمكن بعدها من تحويل المنظمة إلى منظمة مغلقة، فور استبعاد أعضاء مجلس الإدارة المعارضين، وكأنما قاموا بتجربة عملية ليظهروا لمعارضيهم كيف ان العضوية المفتوحة على مصراعيها يمكن لها أن تسهل اختطاف المنظمة من جانب فصيل سياسي أكثر تنظيماً.
ورغم أن الفترة من 1989 إلى 1993 يمكن اعتبارها فترة الإنجازات الكبرى للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، من حيث إضفاء الطابع المهني على العمل الحقوقي، وتحسين توثيق الانتهاكات، إلا أن التحديات كانت أكبر منها، فتشرذمت الحركة الحقوقية في مصر بعد 1993. ورحل الكثيرون من قادة المنظمة المصرية لحقوق الإنسان لتكوين منظماتهم الخاصة المغلقة. ومع ذلك فقد كان لهذا التشرذم إيجابية وحيدة، هي مولد عدد من المنظمات الحقوقية المحلية العاملة على قضايا مختلفة باستراتيجيات متباينة. رغم أنها ظلت تواجه نفس التحديات التي سبقت مواجهتها في 1991-1993، بالإضافة إلى تزايد الضغط الواقع من القيود القانونية الحكومية، مما اضطر العديد من المنظمات للبقاء في منطقة رمادية تحت التهديد. فحتى اليوم ما زالت قضايا العلاقة مع الإسلام السياسي، والتمويل الأجنبي، والعداء من جانب الدولة، والهياكل الداخلية/الحوكمة، والتأثير الفعلي، تلاحق المجتمع الحقوقي المصري. ولعل المضي في تسلسل زمني من 1995 حتى 2015 أن يوضح هذه الاستمرارية وأن يعيننا على صوغ أسئلة جديدة ومجالات للبحث الإضافي، وهو ما سنلتفت إليه فيما تبقى من هذه الورقة.
موجة العمل القضائي:
في 1994 قام هشام مبارك، وهو محام حقوقي يساري شاب، بتأسيس مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان، أول المنظمات الحقوقية، و"أكثرها اندفاعا"، في استغلال التقاضي كاستراتيجية رئيسية لمكافحة الانتهاكات الحقوقية في مصر. كانت رسالة المركز الأساسية هي تقديم المساعدة القانونية المجانية لضحايا الانتهاكات الحقوقية، واستغلال العدد الوفير من القضايا التي يترافع فيها بغرض المناصرة من خلال الكشف عن الوضع الحقوقي في مصر من حيث التمويل كان مركز المساعدة القانونية يعتمد حصريًا على التمويل الأجنبي، مما أتاح له النمو وافتتاح فرعين آخرين في الإسكندرية وأسوان. )
ومع برهنة نموذج مركز المساعدة القانونية على قوته، تم تأسيس منظمات أخرى تستعين بدورها بالتقاضي للصالح العام كاستراتيجية رئيسية، وإن كان هذا في مجالات متخصصة هذه المرة. فتأسس مركز المساعدة القانونية للمرأة في 1995، لتقديم المساعدة القانونية المجانية للنساء في طيف واسع من أشكال التمييز، مع التركيز على العنف القائم على النوع الجنسي [العنف الجندري]. وعلى نحو مماثل كان مركز الأرض لحقوق الإنسان، المؤسس في 1996، يكرس عمله للفلاحين الذين يواجهون الإخلاء المحتمل من أرضهم في أواخر التسعينيات. وبحسب مصطفى فإن مركز الأرض ترافع بين 1996 و2000 فيما يزيد على 4000 قضية ومن المنظمات غير الحكومية "القانونية" الأخرى، مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء، المتخصص في توفير المساعدة القانونية للسجناء على خلفية مزاعم التعذيب، ورصد ظروف السجون، والاحتجاز المتكرر. قام مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء في سنواته الخمس الأولى برفع ما يزيد عن 200 دعوى سنويًا، وتقديم المساعدة القانونية المجانية (وخدمات أخرى) لما بين 7000 و8000 ضحية سنويًا.
كان العامل الحاسم في اختيار التقاضي كاستراتيجية لمكافحة الانتهاكات الحقوقية في مصر هو الثقة في قضاء مصري مستقل نسبياـ العامل الذي شهد تدهورا كبيرا في أعقاب ثورة 2011. وبحسب جاسر عبد الرازق، وهو مدير سابق لمركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان والمدير التنفيذي الحالي للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فإنه "في مصر، حيث يوجد قضاء مستقل نسبيًا، فإن السبيل الوحيد لدفع الإصلاح هو خوض معارك قانونية طوال الوقت. إنه السبيل الوحيد الذي يمكننا من التحرك كقوة من أجل التغيير". وبحسب مصطفى، بحلول 1997 كان الترافع في القضايا الحقوقية والطعن على التشريعات الحكومية المتعلقة بالحقوق قد "صار بغير مجال للشك الاستراتيجية المهيمنة للمدافعين عن حقوق الإنسان، بسبب صعوبة إيجاد حركة اجتماعية عريضة في ظل النظام المصري القمعي".
وقد أدى الاعتماد على التقاضي وتعزيز استقلال القضاء في 1997 إلى إنشاء المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، بإدارة ناصر أمين، المدير القانوني السابق للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان. كان المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، على الرغم من عدم مشاركته المباشرة في التقاضي، يتكامل مع الشبكة حديثة الإنشاء من المنظمات الحقوقية التي تبنت التقاضي كاستراتيجية رئيسية لها. أقام المركز العربي روابطًا مع منظمات حقوقية دولية، وتبنى استراتيجية المناصرة الدولية لممارسة الضغط على الحكومة المصرية والقضاء، من أجل تقليل التضييق على المحامين وضمان مهنية القضاء.
إضفاء المؤسسية على المناصرة والتوثيق
بخلاف المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، تكونت في الفترة نفسها منظمات حقوقية أخرى تتبنى المناصرة، سواء على الصعيد الدولي أو المحلي، كاستراتيجية رئيسية. ومن هذه المنظمات مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الذي صار تجسيدا لرؤية مؤسسيه حسن وسعيد، الرؤية التي أخفقا في تحقيقها في المنظمة المصرية لحقوق الإنسان. فمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان منظمة مغلقة ومرجعيتها الرئيسية هي القانون الدولي لحقوق الإنسان، وبؤرة اهتمامها إقليمية، كما أن نشاطها الأول هو المناصرة القائمة على الأبحاث، بغرض إصلاح السياسات والتشريعات.
في 1993 أُسس مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف، على يد عايدة سيف الدولة أستاذة الطب النفسي في جامعة عين شمس، بمشاركة طبيبين نفسيين هما سوزان فياض وعبد الله منصور، لتقديم المساعدة النفسية والقانونية لمن تعرضوا للتعذيب، ثم العنف الجنسي لاحقا. على صعيد شخصي، كان بين أصدقاء المؤسسين من تعرض للتعذيب بسبب النشاط السياسي، واحتاج للمساندة الطبية. ) وحينما حاول مؤسسو النديم مساعدة أصدقائهم، اكتشفوا عدم وجود كيان في مصر يتيح لضحايا التعذيب الحصول على تقارير طبية أو الطعن على التقارير الطبية الصادرة من السجون بشأن التعذيب، وهكذا قرروا إنشاء النديم بغرض إصدار تقارير طبية موازية وتقديم الدعم الطبي والنفسي لضحايا التعذيب، وهم يمثلون حتى اليوم العيادة الطبية الحقوقية الوحيدة التي تعمل مع ضحايا التعذيب في مصر. ومن الشائق أن مؤسسي النديم كانوا يتوقعون التعامل مع أناس قادمين من خلفية النشاط السياسي، لكنهم فوجئوا بأن المركز من 1993 وحتى 2000 لم يستقبل حالة واحدة من ضحايا التعذيب بسبب سياسي، وكان اكتشافا بالنسبة لهم أن وباء التعذيب في مصر لا يرتبط بالنشاط السياسي، بل هو واسع الانتشار وممنهج ويقع عادة على الأكثر استضعافا وفقرا. عقب هذه الخبرة توسع المركز بحيث يشمل المناصرة الحقوقية بدلا من الاقتصار على العمل الطبي البحت.
ورغم اقتراح أن يكون المركز في البداية جزءًا من المنظمة المصرية لحقوق الإنسان إلا أنه صار كيانًا مستقلًا لدواعي خصوصية المرضى وتفتت المنظمة المصرية. وفي عام 2000 قرر المؤسسون تقسيم المركز إلى برنامج للتأهيل النفسي لضحايا التعذيب، وبرنامج منفصل للنساء اللاتي تواجهن العنف بأشكاله كافة. وحتى أواخر 2016، وعلى الرغم من الضغوط الحكومية الشديدة، إلا أن مركز النديم يظل أنشط المؤسسات وأكثرها تمتعًا بالسمعة الطيبة في التعامل مع حالات التعذيب.
جيل جديد من المنظمات غير الحكومية، وهجمة مستمرة من الدولة:
يهمنا هنا أن نبرز أنه، منذ إنشاء المنظمة المصرية لحقوق الإنسان وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، كانت الحركة الحقوقية المصرية في نضال قانوني مستمر مع الحكومة المصرية. تغير قانون الجمعيات الأهلية المصري ثلاث مرات منذ الستينيات، وينتظر له أن يتغير مرة أخرى، حيث وافق البرلمان على مسودة شديدة القمعية في أواخر 2016، وصدق عليها الرئيس في مايو 2017. وتظهر النسخ المختلفة من قانون الجمعيات الأهلية منذ الستينيات بعض الضوء على "رغبة الدولة في الهيمنة على المساحة التي أوجدتها المنظمات الحقوقية، بدلًا من ترتيب هياكل تسهل علاقة التعاون".
منذ 1986 رفضت الحكومة المصرية الاعتراف بالمنظمة المصرية لحقوق الإنسان وتجاهلت طلبها للتسجيل كجمعية أهلية. وتتمثل المفارقة في أن المنظمات غير الحكومية، رغم بلوغها ذروة استغلال التقاضي كاستراتيجية أولية لتحدي النظام، إلا أنها بقيت محرومة من استقرار الوضع القانوني بسبب القيود التي يفرضها القانون 32 الصادر عام 1964، المعمول به منذ الحقبة الناصرية. فهذا القانون يحظر على منظمات المجتمع المدني العمل على "القضايا السياسية أو الدينية" وينشئ كيانًا رقابيًا من تعيين الحكومة، لمراجعة ماليات المنظمات غير الحكومية وأنشطتها، والغرض الظاهر منه هو تقييد التمويل الأجنبي.
تصاعد امتعاض النظام المباركي الحاكم من المنظمات الحقوقية على نحو درامي في 1998، فاتهم حافظ أبو سعدة، الأمين العام للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان في ذلك الوقت، بـ"تلقي الأموال من بلد أجنبي بهدف الإضرار بالمصالح الوطنية، ونشر شائعات تمس بمصالح البلاد، ومخالفة القرار بمنع تحصيل التبرعات بدون إذن مسبق من الجهات المعنية". كان أبو سعدة يواجه احتمال الحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات. وكانت الرسالة الرئيسية الموجهة إلى المنظمات الحقوقية هي أنه لا تسامح مع التمويل الأجنبي. في أعقاب هذا مباشرة، التزمت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بمطالب الحكومة وتوقفت عن تلقي التمويل الأجنبي.
وبعد عام تم تمرير قانون جديد يحكم أنشطة المنظمات غير الحكومية. وزاد القانون 153، الذي تم تبنيه في 1999، من القيود المفروضة في القانون 32/1964. فعمل القانون الجديد على منع منظمات المجتمع المدني من الانخراط في "أي نشاط سياسي تقتصر ممارسته على الأحزاب السياسية... وأي نشاط نقابي تقتصر ممارسته على النقابات". علاوة على هذا فإن أية منظمة "تهدد الوحدة الوطنية أو تخالف النظام العام والآداب العامة" يمكن حلها بموجب القانون. وأخيرًا، فيما يتعلق بالتمويل الأجنبي، وهو المورد الرئيسي لبقاء معظم المنظمات، فإن القانون يحظر على المنظمات غير الحكومية مجرد التواصل مع منظمات أجنبية بدون إبلاغ الحكومة أولًا. وعلى الرغم من انتفاض منظمات عديدة ضد هذا القانون، إلا أنه أحدث انشقاقًا حتى في داخل أشهر المراكز الحقوقية وقتذاك، ألا وهو مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان. ونتيجة لهذا انقسم مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان إلى منظمتين، فقرر أحد الفصائل أن يسجل جمعيته الجديدة، جمعية المساعدة القانونية لحقوق الإنسان، بموجب القانون الجديد، بينما قامت غالبية المحامين، بمن فيهم أحمد سيف الإسلام، بإنشاء مركز جديد هو مركز هشام مبارك للمساعدة القانونية، بقيادة جاسر عبد الرازق، والتصدي لقانون 1999. كان هشام مبارك، مؤسس مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان، قد توفي قبل عام. وبعد عام واحد آخر وجدت محكمة مصر الدستورية العليا أن القانون غير دستوري بما أنه ينتهك الحق في الانتظام والتجمع وتكوين الجمعيات. ويحتج البعض بأن القانون لم يحكم بعدم دستوريته إلا لأن تبنيه خالف الإجراء السليم، حيث لم يتم تمريره عبر مجلس النواب قبل التبني.
جيل جديد وقانون تقييدي جديد:
حل مركز هشام مبارك للقانون محل المركز السابق، مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان، لا من حيث اجتذاب غالبية موظفي الأخير فقط، بل أيضًا من حيث الأهمية في الميدان الحقوقي. ومرة أخرى وقف أبرز المحامين، من أمثال سيف الإسلام وطاهر أبو النصر والمدير عبد الرازق، في صدارة النضال من أجل حقوق الإنسان، مع اختيار التقاضي كاستراتيجية لهم. وتوسع المركز ثانية ليفتتح فرعًا في أسوان أيضًا. كانت المنظمة تلهم صغار المحامين والنشطاء الحقوقيين الذين تدربوا فيها على المضي قدمًا، لإنشاء جمعياتهم الخاصة وإضافة قوة أصواتهم إلى النضال الحقوقي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكان من بين هؤلاء الخريج الشاب حسام بهجت، الذي أسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في 2002، بعد أن استدان 5000 جنيه مصري من سيف الإسلام. وكان المحفز الرئيسي لإنشاء المبادرة المصرية للحقوق الشخصية هو رد فعل المنظمة المصرية لحقوق الإنسان ـ أو بالأحرى تقاعسها عن الفعل ـ بإزاء قضية "كوين بوت" الشهيرة. لم تكتف المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بالتفرج من بعيد، بل إنها رفضت التفاعل مع بعض جوانب القضية التي تشكل جزءًا لا يتجزأ من تخصصها، مثل محاكم أمن الدولة طوارئ، والتعذيب أثناء الاحتجاز. بل إنها صرفت بهجت من عمله فيها، في منصب منسق العلاقات الدولية، بعد شهرين فقط، لأنه كتب مقالًا ينتقد تقاعس المنظمات الحقوقية المصرية تجاه المحاكمة، وكذلك استهداف أجهزة الأمن لمجتمع المثليين في مصر.
كان صمت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في قضية "كوين بوت"، والاستغناء اللاحق عن بهجت، مؤشرين على ما آلت إليه المنظمة. وعبر نشطاء حقوقيون، ولا سيما الأصغر سنًا منهم، عن انتقادات ساهمت في تدني مصداقية المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، فزعموا أن المنظمة صارت أكثر انشغالًا بالحقوق "الآمنة" من حيث الدفاع عنها، من قبيل التعذيب، في مقابل الحقوق المثيرة للجدل كالحقوق الجنسية. كما أضافوا، ثانيًا، أن تقاعس المنظمة يعكس العقلية المحافظة لفردية اتخاذ القرار، في ظل أبو سعدة، في مقابل الهيكل الديمقراطي الذي كان مأمولًا للمنظمة في التسعينيات. وقد جاء تأسيس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية كرد فعل جزئي على الواقعة الأخيرة، فبحلول 2002، كان مدراء الموجة الأولى من المنظمات ما يزالون في مناصبهم، يعينون الأفراد من نفس الدوائر منذ أوائل التسعينيات. وبالنسبة لشباب الممارسين الحقوقيين، كان العمل في هذا المجال، في منظمة محلية، يعني الالتزام انطلاقًا من اهتمام شخصي، برواتب رمزية، وحس بالتضحية. أما المبادرة المصرية للحقوق الشخصية فقد هدفت منذ اليوم الأول إلى اجتذاب كوادر من المهنيين الشباب الذين يسعون عادة للعمل في المنظمات الدولية أو الأمم المتحدة، بسبب فقر الإمكانات التي كانت توفرها المنظمات المحلية في مطلع الألفينيات. كانت الفكرة أن تتمكن المنظمات الحقوقية المحلية من توفير الترقي المهني للممارسين الشباب الطموحين، بدلا من تسربهم إلى منظمة دولية تتمركز بالخارج، فينصب عملهم على مصر ولكن من لندن أو نيويورك. ) علاوة على هذا فإن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية لم تمثل نموذجا جديدا من حيث الكوادر التي اجتذبتها فقط، وإنما أيضًا من حيث الموضوعات التي اشتغلت عليها، فقد اختارت الانشغال بـ"الحقوق المنسية أو المسقطة من الحسبان"، وبدأت بتصدر النضال من أجل الحقوق الجنسية أو الدينية للأقليات.
نجحت المبادرة أيضًا في وضع الحق في الصحة على خريطة الخطاب الحقوقي المصري، سواء من خلال التقاضي الاستراتيجي (حيث نجحت المبادرة في وقف خصخصة نظام التأمين الصحي عن طريق التقاضي الاستراتيجي أمام مجلس الدولة في 2008)، أو من خلال العمل والتفاوض المستمر مع وزارة الصحة الذي قاد إلى مشاركة مدير برنامج الحق في الصحة داخل المبادرة في صياغة المادة 18 من دستور 2014، المتضمنة للحق في الصحة كحق دستوري لأول مرة في تاريخ مصر. ) لم تتبن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية اختيارًا معينًا فيما بين التقاضي والمناصرة، بقدر ما كانت تختار الاستراتيجية وفق القضية والموضوع. وتواصل نموها من حيث أنشطة التقاضي والمناصرة والأبحاث والتوثيق، لكي تصبح واحدة من أبرز المنظمات الحقوقية المصرية اليوم، بإدارة جاسر عبد الرازق في الوقت الحاضر.
في 2004 قام المحامي الحقوقي جمال عيد، المشارك في تأسيس مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان الأصلي، بإنشاء الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، في أعقاب ما أُطلق عليه "استيلاء الناصريين على المنظمة المصرية لحقوق الإنسان".
تبنت المنظمة المناصرة كاستراتيجية رئيسية وانشغلت في المقام الأول بانتهاكات حرية التعبير في مصر والعالم العربي.
وبالمثل، تأسست مؤسسة حرية الفكر والتعبير في 2006، في البداية بهدف الدفاع عن حقوق الطلبة والنضال من أجل الحرية الأكاديمية، على المنابر الرقمية وفي الإنتاج الفني. وكما اختارت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية الانشغال بالحقوق الأقل تمثيلا، فقد اختارت مؤسسة حرية الفكر والتعبير العمل مع قطاع مجتمعي محدود التمثيل -هو الشباب- وبحسب مؤسسها فقد كان مخزيًا أن المنظمات الحقوقية المصرية، منذ الموجة الأولى وعلى مدار 20 عامًا، لم تقرر إحداها التركيز في الدفاع عن حقوق شبابها الناشط سياسيًا، الذين يمثلون مستقبل مصر، ويتعرضون للقمع المستمر والاستجواب من قبل جهاز أمن الدولة داخل الحرم الجامعي. أسس المنظمة وأدارها عماد مبارك، الذي جرب هذا القمع بنفسه وهو طالب، إيمانًا منه بأن الحرية الأكاديمية وحرية التعبير والنشاط الطلابي تحتاج كلها إلى مؤسسة متخصصة، تستطيع أن ترصد هذه القضايا وتمثلها وتناصرها. وبعد 10 أعوام صارت جمعية حرية الفكر والتعبير من أبرز المنظمات المعنية بتلك القضايا، وقد استقال مؤسسها من منصبه التنفيذي لكنه الآن عضو بمجلس إدارتها.
وتأسست نظرة للدراسات النسوية على يد مزن حسن في 2007، بهدف تغيير الخطاب المنصب على حقوق المرأة في مصر. تبنت المنظمة التركيز على حقوق المرأة بالاستناد إلى الأبحاث، وانخرطت في المناصرة لتشجيع المشاركة السياسية للنساء، كما أنشأت برنامجًا مكرسًا على نحو حصري لحماية المدافعين عن حقوق المرأة.
وفي 2009 قام المحامي الحقوقي البارز خالد علي بإنشاء المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، الذي انخرط في معارك قانونية ضد فساد الدولة في إبرام عقود الخصخصة في ظل حكومة رجال الأعمال التي عينها مبارك. وكان من أهم إنجازات المركز وخالد على الحكم القضائي الصادر في 2010 بإرغام الدولة على الالتزام بحد أدنى للأجور.
وفي 2008، عند وقوع إضراب عمال المحلة الشهير، تأسست جبهة الدفاع عن متظاهري مصر بمثابة تجمع غير رسمي من النشطاء والعاملين في المنظمات غير الحكومية الوطنية، للدفاع عن حقوق المواطنين في التجمع، وتزويدهم بالمساعدة القانونية. وشرح أحد المؤسسين أن الجبهة كانت تتشكل بالتدريج حتى من قبل 2008، حين كان المحامون يتطوعون للترافع عن محتجزين سياسيين من المظاهرات الصغيرة أو من حركة كفاية بين 2005 و2008. والجبهة نموذج مشوق على نحو استثنائي، تنامى وتم استنساخه في أعقاب ثورة 2011. فالجبهة، التي ينتمي إليها 34 منظمة غير حكومية وما لا يقل عن 55 محاميا، تقدم المساعدة القانونية المجانية للمتظاهرين المحتجزين وتنشر المعلومات عن أوضاع المتظاهرين وخاصة عند اعتقالهم أو إحالتهم إلى المحاكمة في جميع أرجاء البلاد. وانعقدت اجتماعات الجبهة في مركز هشام مبارك ومقرات منظمات أخرى من أعضائها، منها مؤسسة حرية الفكر والتعبير، ومركز النديم، وغيرها. وتتمتع الجبهة بهيكل فضفاض، ومنصب منسق يتناوب عليه عدة أشخاص، لإدارة التمثيل القانوني في أنحاء البلاد وفيما بين المحامين المتطوعين. وبحسب أحد المؤسسين فإن سبب استمرارية الجبهة، في مقابل نماذج أخرى، هو تمنعها عن التسييس، فهي لا تصدر تصريحات ولا تتخذ مواقف في أية قضية، بل ببساطة تقوم باعمال الدفاع والتمثيل القانوني كتجمع من المحامين. وعلاوة على هذا فمن الممكن ربط استدامة الجبهة بأن جميع أعضائها هم إما من المحامين الحقوقيين في المنظمات أو محامين مستقلين، ومن ثم فإنهم لا يعتمدون على الجبهة لكسب العيش.
لكن في أثناء تأسيس كل هذه المنظمات الحقوقية المستقلة، كان ضغط الحكومة يتعاظم، وخاصة بعد تمرير القانون الثالث الخاص بالجمعيات الأهلية: القانون 84/2002. وقانون 2002، بحسب عبد الرازق، ليس إلا استعادة لقانون 1999 الذي تم إلغاؤه. فهو يفرض أحكامًا قاسية بالسجن على المنظمات التي تمارس نشاط المجتمع المدني بدون إذن مسبق. ويجيز للحكومة حل تلك المنظمات. وكما في القانون السابق فإنه يحظر على المنظمات أيضًا ممارسة النشاط السياسي أو النقابي، الذي يظل توصيفه ملتبسًا وفضفاضًا بحيث يمكن أن ينطبق، مثلًا، على مناصرة الحقوق النقابية أو تمكين المرأة من المشاركة في الانتخابات. وكانت محصلته أن العديد من المنظمات سالفة الذكر لجأت إلى مراوغة القانون بالتسجيل على أنها مكاتب محاماة أو شركات تجارية، بدلًا من أن تكون منظمات غير حكومية وغير ربحية.
شرعت المنظمات الحقوقية، بين التسعينيات و2015، في محاولات واتجاهات مختلفة للتعامل مع قوانين الحكومة القمعية، وكانت منظمات مثل النديم وهشام مبارك قد حافظت على موقف ثابت منذ 1993، وهو رفض وجود قانون للجمعيات الأهلية أصلًا. بحسب هذا الموقف الذي تبنته منظمات حقوقية أخرى فإن إنشاء جمعية أهلية ينبغي أن يكون بمجرد الإخطار، وأن يتم التعامل مع أية أنشطة إجرامية أو مخالفة للقانون من جانب العاملين أو المؤسسين بموجب القانون الجنائي المصري والهيئات الرقابية المصرية. وكانت طريقة تعامل وزارة التضامن والشؤون الاجتماعية مع تسجيل الجمعيات، وطريقة تطبيقها للقانون، مؤشرًا على الذهنية الكامنة خلف التشريع، فقد استغل دون أدنى شك كوسيلة للسيطرة على الجمعيات بدلا من تنظيمها.
في 2003 قررت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية التسجيل بموجب القانون 84 لسنة 2002، وكان أحد الأسباب حداثة إنشائها وعدم ذيوع اسمها نسبيًا، مما يعني عدم تمتعها بالذيوع والثقل اللذين تتمتع بهما جمعيات مثل النديم وهشام مبارك، وبالتالي فمن شأن إغلاقها ألا يشكل قضية رأي عام. ثم أن برنامج المبادرة الخاص بالحق في الصحة يتطلب الكثير من التفاعل مع هيئات حكومية، وهو ما قد يمثل صعوبة بدون وثائق الجمعية الأهلية.
بحسب خبرة المبادرة، ظلت الوزارة تعيد الأوراق بالبريد وتطلب المزيد من الشروط لقبولها. وبعد عملية طويلة ومضنية، استمرت 6 أشهر، رُفض تسجيل المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بدون إبداء أسباب. وحينها، في مطلع 2004، كانت معظم المنظمات المسجلة بموجب قانون 2002 تواجه اعتراض الوزارة على بعض البرامج وأيقافها. وكانت الأوراق المرسلة إلى الوزارة تحول مباشرة إلى أمن الدولة، فتتعامل المنظمات مع مسؤولي أمن الدولة دون وسيط، وهذا بالإضافة إلى مستوى من البيروقراطية كان مقصودًا لجعل أي نشاط يتسم بالكفاءة مستحيلًا. وعند تلك النقطة أدركت المنظمات الجديدة أن عملية التسجيل هي فخ منصوب، فاختارت عدم التسجيل لدى الوزارة، وبحلول منتصف الألفينيات كان قد ترسخ اتجاه إنشاء المنظمات غير الحكومية بعيدًا عن متناول الوزارة. وفي ظل "قضية التمويل الأجنبي" المنظورة حاليا، يظل التنبؤ بالخطوة القادمة مستحيلًا فيما يتعلق بشكل المنظمات الحقوقية، وقد أجمع مدراء المنظمات الذين أجريت معهم المقابلات، سواء من الجيل الأول أو الثاني، على أن وضع الانسداد الراهن بينهم وبين الحكومة يعلن عن نهاية الممارسة الحقوقية كما نعرفها في مصر، فوفقًا لهم، ليس ثمة إمكانية لاستمرار المنظمات في ظل نموذج الحوكمة الراهن، مع التمويل الأجنبي وعدم التسجيل كمنظمات غير حكومية لدى وزارة التضامن الاجتماعي.
كما أن السياق الذي تعمل فيه تلك المنظمات كان يشهد تغيرات سريعة، سياسية وجيو-استراتيجية وتقنية، إذ كان نظام مبارك يتخبط في عملية انتقالية ملتبسة نحو توجه نيو-ليبرالي صريح، بما لذلك من تبعات هائلة على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. كانت المنطقة (وخاصة بين 2005 و2010) تشهد نهاية النظام الأمني الإقليمي المتداعي، وبداية تحلل الدول المريضة التي خضعت لضغوط شديدة محلية و/أو دولية (العراق، سوريا، السودان إلخ). وقد أدت التطورات التقنية الهائلة في مجالات الاتصالات الشخصية، مع تزايد الوصول إلى التقنيات المحمولة ومنابر التواصل الاجتماعي، أدوارًا في تعزيز أشكال التنظيم وتداول المعلومات.
ما بعد 2011، خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء؟
في يوليو 2011 قامت الحكومة المصرية الخاضعة لسيطرة الجيش، والتي حكمت البلاد في أعقاب تنحي مبارك، بتشكيل لجنة للنظر في وضع التمويل الأجنبي لكل منظمات المجتمع المدني، وتحديد المنظمات المسجلة بموجب قانون 2002. ثم استغل تقرير اللجنة بعد ذلك في قضية 2012-2013 المرفوعة ضد قائمة كاملة من المنظمات غير الحكومية. وكانت نتيجة القضية 173 أن حكمت إحدى محاكم الجنايات بالقاهرة على 43 من الموظفين الأجانب والمصريين العاملين في منظمات غير حكومية أجنبية بالسجن لمدد تراوحت بين عام وخمسة أعوام. صدر الحكم غيابيًا على معظم العاملين الأجانب، وكان قد سمح لهم قبل ذلك بمغادرة البلاد. أما المتهمون المصريون فقد غادروا البلاد أو انتظروا انقضاء مدد أحكامهم التي أوقف تنفيذها. علاوة على هذا فإن مقرات المعهد الجمهوري الدولي، والمعهد الديمقراطي الوطني، وفريدم هاوس، والمركز الدولي للصحفيين، ومؤسسة كونراد أديناور، تعرضت للإغلاق بحكم المحكمة. وأعيد فتح القضية نفسها في 2016، لاستهداف حسام بهجت، المدير الأسبق للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية وأحد أبرز الصحفيين الاستقصائيين في البلاد حاليًا، وجمال عيد مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، ومزن حسن مديرة نظرة للدراسات النسوية، وبهي الدين حسن مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ضمن آخرين من النشطاء الحقوقيين. لم تكن أية استجوابات أو محاكمات قد بدأت حتى مايو 2016، رغم قيام إحدى المحاكم بالنظر في طلب من النيابة بتجميد حساباتهم المصرفية، مع آخرين من أبرز النشطاء الحقوقيين، وبل بعض أفراد أسرهم.
صعّدت الحكومة معركتها القانونية مع المنظمات الحقوقية إلى مستوى جديد، حين أصدرت وزارة التضامن الاجتماعي إنذارًا في يوليو 2014، يدعو جميع المنظمات غير الحكومية إلى التسجيل بموجب قانون 2002 في موعد غايته نوفمبر من نفس العام، وإلا واجهت العواقب القانونية، التي قد تشمل الإغلاق وأحكام السجن. ولم يكن إنذار 2014 إلا طلقة البداية في حرب استنزاف ضد المنظمات الحقوقية، وقد أدى إلى قيام منظمات دولية بإغلاق مكاتبها في مصر والانتقال إلى بلدان أخرى. كما قرر مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان نقل جميع برامجه الإقليمية والدولية إلى الخارج، إلى تونس في المقام الأول، حيث كان قد سجل مكتبًا له. والحق أن "أحد أبرز إنجازات تونس في الأسابيع الأولى من الثورة تمثل في إصدار قانون ديمقراطي لمنظمات المجتمع المدني، يلبي المعايير الدولية".
بعد إصدار الإنذار قامت الحكومة في الوقت نفسه بصياغة قانون جديد، أشد قمعية، للجمعيات الأهلية. وقد انبرت تسع وعشرون منظمة غير حكومية لمشروع القانون، لأسباب عديدة منها أنه ينتهك دستور 2014 الذي يكفل الحق في تكوين الجمعيات بمجرد الإخطار، بدون الحاجة إلى "إذن". في بيان مشترك، وصفت تلك المنظمات مشروع القانون بأنه أشد المحاولات القانونية قمعية منذ قانون 1964، ومن شأنه لا أن ينظم المنظمات الحقوقية بل أن يخنقها. على سبيل المثال، يسمح مشروع القانون بالتدخل الإداري على هيئة "لجان تنسقية، تعمل فعليًا على منح ممثلي وزارة الداخلية والأمن الوطني مقعدًا في كل اجتماع لمجالس إدارات المنظمات غير الحكومية". علاوة على هذا يجوز لتلك اللجنة بالممارسة الاعتراض على أي مانح أو اتفاقية تمويل لأية منظمة غير حكومية، وبالتالي سلطة الاعتراض على أنشطتها. كما تعلقت الاعتراضات على مشروع القانون باستمرار احتوائه على مصطلحات غامضة من قبيل "المساس بالنظام العام"، باعتبارها باب خلفي للتدخل.
ومع ذلك فقد ظلت تتكون منظمات حقوقية جديدة في ظل هذه الظروف. فبينما توسعت منظمات مثل المبادرة المصرية وجمعية حرية الفكر والتعبير ونظرة في برامجها وأفرادها على نحو ملحوظ بعد 2011، ثم عاودت الانكماش بعد 2013، إلا أن منظمات جديدة ظلت تتكون على نفس المنوال. والشائق هنا أن الممارسين الحقوقيين الذين بدأوا في إنشاء منظماتهم في 2013، في ذروة القمع الحكومي، كان لهم رأي مختلف، حيث كانت الحملة القمعية في نظرهم مصممة للانتقام من منظمات بعينها وأفراد بعينهم. وعلى هذا فقد اتبعت تلك المنظمات الجديدة مسلك التسجيل كمكاتب محاماة، والاعتماد على التمويل الأجنبي، وتجريب أشكال أقل مركزية في الحوكمة. وهم يرون أن هذا هو الشكل الوحيد للعمل الحقوقي الذي يمكن اتباعه في ظل قوانين تقييدية وحكومة بهذه القمعية. وقد اتخذت واحدة من المنظمتين حديثتي الإنشاء اللتين أجرينا معهما المقابلات، طريق التسجيل كمكتب محاماة، بالنظر لطبيعة المساعدة القانونية التي تقدمها. وفي رأي المدير أن أي عمل حقوقي مضطر للنفاذ من هذه الثغرة القانونية والتسجيل كشركة خاصة. وحجته هي أن السبيل الوحيد لتلقي المنح، كشركة خاصة، هو من خلال ما يسمى بـ"عقد التفويض" تحت مسمى الاستشارات القانونية، وعلى المانحين في رأيه تفهم المخاطر التي تتعرض لها المنظمات غير الحكومية في مصر اليوم، وينبغي أن يعدلوا عملهم للتكيف مع تلك الظروف، بحيث يقدموا المنح إما نقدا أو تحت مسمي "عقود التفويض". أما المنح أو البروتوكولات أو الاتفاقيات المبرمة خارج هذين الخيارين فلن تناسب الأنشطة القانونية "للشركة"، ويلزم استبعادها، على الأقل مؤقتًا حتى نشهد تغييرًا في السياسات القمعية.
في المقابلة نفسها، أفاد هذا المدير بأنه يدرك، هو وآخرون في نفس وضعه، أنه يخوض معركة مع الحكومة بشأن الممارسات الحقوقية، وهو أمر منفصل عن التمويل الأجنبي. وكل ما يمكن للممارسين الحقوقيين عمله هو استخراج الأوراق القانونية السليمة، لكي يصعبوا على الحكومة تصدر المعركة. لكن المعركة لا تتعلق بالتمويل الأجنبي، ولن تتوقف بتوقف ذلك التمويل. وإذا قررت الحكومة التضييق على منظمته فسوف يصعّب عليها مهمة إقامة الحجة عليه من خلال حيازة الأوراق السليمة.
على نحو مماثل، يعتقد مدير آخر أنشأ منظمته هو أيضًا في 2013، أن حملة الحكومة على المنظمات مستقلة عن قضية التمويل الأجنبي. إلا أن توجهه في التعامل مع المتاهة القانونية المنصوبة للمنظمات هو أن ينشئ نظامًا موازيًا، يتم فيه تسجيل المقر الرئيسي كشركة خاصة، مع أن المنظمة في الواقع هي الأولى التي تحاول تطبيق سيناريو العضوية المفتوحة، الذي كان هاني شكر الله ومعسكره هم آخر من اقترحه في الأيام الأولى للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان. ويبدو أن هذه هي أول محاولة جدية لإحياء ذلك النموذج منذ ذلك الحين. تتبع المنظمة نموذج اللامركزية، حيث بدأت في محافظات مختلفة بالتزامن، وتختلف البرامج من محافظة إلى أخرى بحسب الاحتياجات المباشرة والانتهاكات الخاصة بالموقع الجغرافي. ويتولى مكتب المنظمة في كل محافظة تدبير تمويله ذاتيًا، بعضوية وانتخابات منفصلة. حين سألنا عن مدى التطبيق الفعلي لهذا النموذج على الأرض، شرح لنا مدير المنظمة أنهم يحاولون إيجاد طريقة لتطبيق نموذج العضوية [المفتوحة] بدون التسجيل كجمعية أهلية، وأنهم نجحوا حتى الآن في استيفاء بعض الجوانب، مثل اللامركزية والتمايز في أولويات البرامج، بينما لم تستوف بعض الجوانب الأخرى مثل رسوم العضوية والانتخابات، بالنظر لصعوبة التطبيق في غياب هيكل قانوني رسمي يتيح هذا.
وفي افتراق عن النموذج المنظماتي السائد، ظهر اتجاه وشكل جديد في المناصرة الحقوقية، أقرب إلى حملات الشارع وتنظيماته من المنظمات غير الحكومية. ومن الأمثلة الدالة جبهة الدفاع عن متظاهري مصر، التي صارت إلى جانب "الحرية للجدعان" و"ويكي-ثورة"، المصدر الرئيسي للمعلومات عن المحتجزين السياسيين في مصر، رغم وجود منظمات رسمية وراسخة.
وتعرّف "الحرية للجدعان" نفسها بأنها حملة وشبكة إلكترونية، انطلقت ردًا على موجة الاعتقالات التعسفية الهائلة وغير المسبوقة في 2013، في أعقاب تظاهرات الاحتفال بذكرى ثورة 25 يناير. تم تصميم الحملة للتوثيق ومناصرة حقوق السجناء والمعتقلين السياسيين. وهي تقدم التمثيل القانوني، وتتولى التوثيق في عموم البلاد، والأهم أنها تنشر أخبار أي معتقل سياسي على الإنترنت. والحرية للجدعان شبكة من المتطوعين الذين يقومون بالعمل اقتطاعًا من وقتهم وجهدهم وعلى حسابهم الخاص.
كما تأسست حملة "لا للمحاكمات العسكرية" على يد منى سيف في 2011 لتوثيق قضايا المدنيين الخاضعين للمحاكمة أمام محاكم عسكرية، والترافع عنهم. وهي بدورها حملة من المتطوعين المكونين في معظمهم من أمهات وأقارب المحتجزين في سجون عسكرية. تتمتع الحملة بهيكل شديد المرونة، وتقدم التمثيل القانوني المجاني للمدنيين عند محاكمتهم أمام محاكم عسكرية.
كانت تلك الأشكال الجديدة من التنظيم تستجيب لاحتياجات فعلية، دون أن تتبع نموذج "المنظمة المغلقة" ولا نموذج العضوية الرسمية. غير أن تأثير مثل تلك التنظيمات، وهياكلها وقابليتها للاستدامة، من القضايا المثيرة للتساؤل، فقد أجمع أفراد تلك الحملات عند سؤالهم على أن القيام بالعمل لم يكن ممكنا إلا لانتماء الأعضاء المسبق إلى منظمات حقوقية أخرى بصفة عاملين نظاميين. ومن ثم فقد تمكنوا من التطوع، ودمج عملهم في الحملات مع عملهم الحقوقي في منظمات أخرى أحيانًا. ومن هنا يتردد أعضاء تلك الحملات في اعتبار هذا العمل شكلًا جديدًا من الممارسة الحقوقية في مصر، بالنظر لاعتمادها المباشر على أفراد المنظمات الحقوقية. ويبدو أن تلك الحملات قادرة على سد العجز مؤقتًا في أوقات القمع الاستثنائي، لكن من الصعب أن نفترض فيها تمثيل الوجه الجديد للعمل الحقوقي في مصر.
ما الذي نحتاج إلى دراسته بعناية أكبر؟
على مدار تطور الحركة الحقوقية في مصر، أثبتت بعض القضايا أنها من المشاكل المزمنة لدى المنظمات غير الحكومية. وتحتاج هذه القضايا إلى دراسات متعمقة ومنفصلة، يمكن صياغتها على النحو التالي:
أولًا، رغم تطرق هذه الورقة إلى الجدل الدائر حول العمل مع الفصائل الإسلامية في التسعينات، إلا أنه يلزم الرجوع إلى هذه المسالة بتعمق، خاصة في سنوات أواخر الألفينيات وما بعد 2011. وقد وصف إسماعيل الإسكندراني ثلاث خبرات من العمل الحقوقي مع الإخوان المسلمين في الألفينيات. ومن أمثلة هذه الخبرات مركز سواسية، ومركز الضحايا، ومركز الشباب، التي زال وجودها جميعا بعد ثورة 2011. بصفة عامة كانت محاولات العمل الحقوقي الخاص بالإخوان المسلمين تواجه عقبتين رئيسيتين، بحسب الإسكندراني: الأولى هي ما وصفه بـ"أداء الهواة وغياب الاحترافية"، والثانية في الافتقار العام إلى المعرفة والاقتناع بأدبيات حقوق الإنسان ومواثيقها. ورغم زوال هذه المبادرات الحقوقية الإخوانية من الوجود بعد الثورة، إلا أنها تظل تلقي بعض الضوء على علاقة الإخوان المسلمين بالخطاب الحقوقي في سنوات ما قبل 2011. وهكذا تنشأ حاجة إلى فحص التناقضات والمشتركات النظرية بين العلمانيين والإسلاميين العاملين في المجال الحقوقي في مصر، وكيفية تطور تلك العلاقة. كم يختلف التعامل مع القضايا الحقوقية بين الإخوان المسلمين، والسلفيين، وغيرهم من المنظمات الإسلامية الأقل نفوذًا؟ وكيف عمل النشطاء الحقوقيون من تلك الخلفيات المتباينة والمتصادمة معًا، إذا كان قد تسنى لهم العمل؟ وكم من الخلاف والتصادم أيديولوجي المنشأ، وكم منه يرجع للمصالح السياسية؟
ثانيًا، رغم وجود أدبيات كافية عن نزاعات المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بشأن الحوكمة الداخلية في الثمانينيات ومطلع التسعينيات، إلا أن المتوافر عن بقية المجتمع الحقوقي في العقود التالية لا يكاد يذكر. ومن شأن المقابلات والأبحاث المعمقة أن تفيد في بلورة رؤى المنظمات الأحدث، وممارساتها بشأن قضايا الحوكمة والتمويل الأجنبي والعلاقات مع المانحين وعمليات اتخاذ القرار الداخلية. في دراسة معمقة من المقرر ان تنشرها مبادرة الإصلاح العربي لاحقا هذا العام، تركز شاهين على المسائل التالية: اعتماد المنظمات على التمويل الأجنبي الذي قد يؤثر في أجنداتها وأولوياتها، والعلاقات بين المنظمات ودوائر جمهورها، وقضية المساءلة أمام العاملين، وأمام المانحين، وأمام الحكومة، والأهم أمام دوائر الجماهير المزعوم ان هذه المنظمات تمثلها. ) تتناول الورقة هذه القضايا على نحو شامل، وتقارن بين نماذج مختلفة لمنظمات تصدت لتلك القضايا بطرق مبتكرة. ومع ذلك، ورغم تعاقب أجيال الممارسين الحقوقيين في مصر، يبدو أن وجود المنظمات المستقلة وسط متاهة قانونية قد جعل من قضايا الحوكمة الداخلية والمساءلة أولوية ثانوية. علاوة على هذا فإن مجرد وقوع المنظمات في منطقة رمادية قانونية يحيل مسائل الحوكمة والمساءلة إلى أعمال تطوعية، قد تتبناها بعض المنظمات لإيمانها بفائدتها وضرورتها، في مقابل الإلزام القانوني بها. وإلى جانب الوضع القانوني للمنظمات، ترى المؤلفة أن الحملة القمعية الأخيرة منذ 2013 قد "عرقلت المراجعة الممكنة والمتوقعة لمسائل الحوكمة التي ووجهت بها المنظمات وهي تنمو وتتوسع". بينما كانت إمكانات النمو قد أتت معها بإصلاحات ضرورية في مجالي الحوكمة والمساءلة، فإن الاضطرار للانكماش تحت وطأة القمع انحدر بمسائل الحوكمة والمساءلة على سلم الأولويات.
ثالثًا، هناك حاجة إلى تفكيك وتحليل العلاقات بين المنظمات الحقوقية والأطراف الأخرى في المجتمع المدني، مثل الأحزاب السياسية، والنقابات العمالية، والمؤسسات الدينية، واتحادات الطلبة، بل أيضًا المنظمات غير الحكومية الأخرى التي تركز في الأنشطة التنموية والخيرية. وقد تولى عمرو عادلي، بالتنسيق مع بحثنا هذا وبالتركيز على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في ورقته البحثية "الحركة الحقوقية والسياسة التنازعية في مصر (2004-2014)"، استكشاف مثال لتلك العلاقات، فهو يفحص التفاعل بين ما يسميه حركة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي يغلب عليها مهنيون حقوقيون ومنظمات معنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والاستعانة بخطاب حقوقي، والحركة التنازعية الأوسع نطاقا، المكونة أساسا من تحركات جمعية أهلية ضد حكومات مصر النيوليبرالية منذ 2004. يفحص عادلي التفاعل و(محاولات) التعاون بين هاتين المجموعتين، ثم يخلص ـ رغم بعض أمثلة النجاح ـ إلى أن الحركة الحقوقية أخفقت في "استنبات" الروابط التنظيمية مع الحركة التنازعية الأعرض، وأخفقت من ثم في ترقية "الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية بوصفها مطالب عامة، بإزاء تصرفات الدولة وسياساتها التوزيعية." لقد أخفقت أساسًا في إعداد الحركة التنازعية للارتكاسة السلطوية التي وقعت في 2013.
وبالمثل لم تستفد الحركة التنازعية الأعرض، بحسب عادلي، من المهنية والمؤسساتية اللتين تطورتا في قلب الحركة الحقوقية، بل واصلت الاتصاف بما أطلق عليه "المحلية والخصوصية الضيقة" مما أضعف فرص صياغة تغيير شامل وعمومي في السياسات العامة، في مقابل الأهداف المحلية المحددة. إن المؤلف في هذا الاستعراض يصور الحركة التنازعية على أنها جسم بلا قيادة، برأس مفصول عنه، هو الحركة الحقوقية، العاجزة عن نقل الإشارات إلى الجسم أو تنسيق حركته. في تصور بديل، يقترح المؤلف أن دور اليد المعينة، لا الرأس المسيطر، أثبت أنه الدور الأنجح للحركة الحقوقية، بحيث تضمن للحركة التنازعية استقلاليتها ونموها العضوي اللازمين للتنظيم والتغيير السياسي. ويبدو من دراسة عادلي أن افتقار مصر إلى طبقة سياسية يلقي على الحركة الحقوقية عبئًا ومسؤولية أكبر بكثير، لا يمكنها ولا ينبغي لها أن تتولاها. ورغم تركيز دراسة عادلي على الحركة التنازعية وعلاقتها بالمجموعات الحقوقية، فإن أنماط العلاقات الأخرى بين أطراف المجتمع المدني المصري تستوجب المزيد من البحث.
إن دراسة هذه الدوائر والأنشطة، المتداخلة على الأرجح، قد تساعد في إعادة طرح وتوضيح نقاشات المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في التسعينيات بشأن دور المدافعين عن حقوق الإنسان في توليد التغيير السياسي، والكيفية التي ينبغي لهم بها العمل مع الجماهير الأعرض.
وأخيرًا، لا يمكن لهذه الورقة تجاهل الأسئلة المتعلقة بتأثير المنظمات الحقوقية في مصر بعد أكثر من 30 عامًا من ظهورها إلى الوجود. كيف أثرت في الخطاب العام، إن كان ثمة تأثير؟ هل ساعدت في رفع الوعي العام والاشتباك مع تلك القضايا؟ وكيف؟ وبخلاف المساعدة المباشرة في شكل المعونة القانونية لآلاف المتهمين في القضايا الحقوقية، كيف أحدثت تدخلاتها تأثيرًا في العملية التشريعية، وفي القضاء، وفي وسائل الإعلام، وفي أجهزة إنفاذ القانون والمؤسسات التنفيذية في مصر؟
هناك صعوبة في قياس تأثير الفاعلين الحقوقيين الذين تعاملت معهم هذه الورقة، فالآراء تختلف من حيث إمكانية اعتبار أن الأثر الذي خلفوه يشكل نجاحاً ملموساً. وعند طرح سؤال عما إذا كانت هناك "حركة" حقوقية مصرية في الحاضر أو الماضي، كانت معظم الإجابات من أبرز الممارسين الحقوقيين المصريين بالسلب. ومع ذلك فهناك نقاط نجاح واضحة يتفق عليها عدد من أبرز الشخصيات، فيما يبدو. فهناك اتفاق على أن نشاط المنظمات الحقوقية منذ مطلع التسعينيات وحتى 2011 قد ساهم مباشرة في الانتفاضة/الثورة في يناير 2011. وقد يختلف الممارسون الحقوقيون فيما بينهم حول مستوى التأثير الذي حظيت به المنظمات، لكن لا مجال للشك في أنها، على الأقل، قد ساهمت في الحدث.
ولا مجال للشك أيضًا في أن مستوى الوعي الحقوقي في الشارع المصري قد ارتفع إلى حد كبير، فـ"ليس لمصري اليوم أن ينكر وجود مشكلة تعذيب ممنهج في مصر" كما قال واحد ممن أجرينا معهم المقابلات، وكما اتفق معه كثيرون آخرون. ثم أن "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية" ـ وكلها حقوق أساسية ـ كانت في صلب شعارات ثورة 2011. بل إن الحكومة نفسها اضطرت لاستخدام الخطاب الحقوقي وتكييفه من أجل التواصل مع الجماهير، المطالبة بالحقوق بلسان الخطاب الحقوقي.
وإذا أُعتبر هذا في كثير من الأحيان أكبر إنجازات المجتمع الحقوقي على مر السنوات، فإن الإخفاق المتفق عليه هو غياب المساندة والتعاون البناء المتنامي بين الأطراف الحقوقية بعضها بإزاء بعض.ورغم حاجة الجميع الماسة إلى الدعم، إلا أن هناك إخفاقاً واضحاً في تجاوز الخلافات في وجهات النظر، لإدراك الصورة الكلية والاصطفاف كجبهة موحدة في القواسم المشتركة الدنيا على الأقل أمام حكومة شديدة القمعية. بدلًا من هذا نجد أن التشرذم وشخصنة الخلافات المفاهيمية، اللذين نكبا المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في منتصف التسعينيات، يعاودان الظهور اليوم ولكن بين منظمات مختلفة.
لم يكن مقصودًا بهذه الورقة البحثية أن تجيب عن كل هذه الأسئلة، وإنما أن تصوغها. فإن كانت هي الأسئلة الصحيحة، ذات الصلة، فإن الإجابة عليها بشيء من التدقيق قد تعين الحركة الحقوقية المصرية على استيعاب دروس تاريخها، والتصدي للتحديات الراهنة، ورسم سيناريوهات أكثر إبداعًا لتحركاتها بتأثير أكبر في المستقبل، كما نرجو.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.