** هذه الورقة هي جزء من سلسلة أوراق تصدرها مبادرة الإصلاح العربي من أجل إثارة الجدل حول فعالية العقوبات الدولية ضد سوريا وتأثيرها على السوريين ومستقبل البلاد.
فرضت عدة دول، أبرزها الولايات المتّحدة والدول الأوروبيّة، عقوبات على النظام السوريّ ردّاً على قمعه الوحشيّ لشعبه وانتهاكاته المتكرّرة للقانون الدوليّ. ومنذ بدء سريان "قانون قيصر" في حزيران/يونيو 2020 وحجم العقوبات آخذ في الاتساع ليشمل شركاء أجانب للحكومة السوريّة.
إلى الآن، لم تتمكّن العقوبات من تغيير النظام السوريّ أو حتى تعديل سلوكه. يعزو ذلك إلى عدم وجود استراتيجيّة حقيقة تضمَن تفكيك البنية السلطويّة في سوريا من خلال العقوبات، فضلاً عن خبرة النظام الواسعة في التأقلم مع العقوبات والتغلّب عليها. لكن في الوقت ذاته وعلى الرغم من الأهداف المعلنة المتمثّلة في تخفيف وطأة العقوبات على الشعب السوريّ، تُظهِر عدّة مؤشّرات أنّ المواطنين السوريّين العاديّين هم الأكثر تضرُّراً من العقوبات، بما في ذلك العقوبات المفروضة بموجب "قانون قيصر".
ينبغي على المجتمع الدوليّ البحث عن خيارات أخرى تتجاوز التناقض المتمثّل في ثنائية الإبقاء على العقوبات بشكلها الحاليّ أو رفعها كلّيّاً. وينبغي بوجه خاصّ إجراء مناقشة حقيقيّة حول كيفيّة معالجة تأثير العقوبات الضعيف على سلوك النظام وفي الوقت نفسه اعتماد تدابير من شأنها التصدّي لأثرها السلبيّ على الشعب السوريّ.
توسيع العقوبات المفروضة على النظام السوريّ
فرضت الولايات المتّحدة في نيسان/أبريل عام 2011 أول حزمة عقوبات على النظام السوريّ، بوصفها إجراءً عقابيّاً على قمعه الوحشيّ للتظاهرات السلميّة التي اندلعت في آذار/مارس عام 2011، والتي كانت تطالب بالحرّيّة والكرامة واحترام حقوق الإنسان. جمَّدت هذه العقوباتُ أصولَ مسؤولين سوريّين رفيعي المستوى ومنعتهم من السفر. وفي الشهر التالي علّق الاتّحاد الأوروبيّ برامجَ واتّفاقيات التعاون المبرمة مع الحكومة السوريّة كافّة. وفي آب/أغسطس، فرضت الولايات المتّحدة عقوبات إضافيّة تضمّنت حظراً على جميع المعاملات التي تشمل النفط السوريّ أو المنتجات النفطيّة السوريّة.
ومع أنّ العقوبات كانت تستهدف في الأساس كيانات ومسؤولين عسكريّين وأمنيّين، وسع الاتّحاد الأوروبيّ القائمة بدايةً من أيلول/سبتمبر عام 2011 لتشمل مصرف سوريا المركزيّ ومصارف عامّة واستثمارات في قطاع النفط والغاز السوريّ ومحاسيب النظام ونشطاء موالون للنظام مثل أعضاء ما يعرف بـ"الجيش السوريّ الإلكترونيّ". فرضت تركيا أيضاً عقوبات تجاريّة ووافقت جامعة الدول العربيّة على تجميد الأصول السوريّة في البلدان العربيّة وإنهاء جميع المعاملات الماليّة مع الحكومة السوريّة (لكن قرارات جامعة الدولة العربيّة ليست ملزمة لأعضائها).
تهدف العقوبات إلى إضعاف النظام عسكريّاً واقتصاديّاً من خلال استهداف كياناته وأفراده الرئيسيّين المتواجدين بصفة أساسيّة داخل البلاد. وقد اتسع نطاق تطبيق العقوبات في كانون الأول/ديسمبر من عام 2019 عندما وقع الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب "قانون قيصر لحماية المدنيّين السوريّين" الذي دخل حيز التنفيذ في 17 حزيران/يونيو. فبينما استهدفت العقوبات السابقة بصفة رئيسيّة الهيئات والكيانات المتواجدة داخل سوريا، سمح هذا القانون بفرض عقوبات على أيّة جهات أجنبيّة -سواء أفراد أو كيانات- لديها علاقات تجاريّة مع النظام. خلافاً للعقوبات الأخرى، مَثّل هذا القانون تهديداً مباشراً لحلفاء النظام وداعميه، ومن بينهم روسيا. ويُمكن أيضاً اعتباره بمثابة تحذير لدول الخليج وبعض البلدان الأوروبيّة التي قد تُقدِم على تطبيع علاقاتها مع النظام من خلال إبرام عقود إعادة الإعمار.
تستهدف العقوبات المفروضة بموجب "قانون قيصر" القطاع العسكريّ وقطاع النفط والغاز وكذلك أيّة أعمال إعادة إعمار تشرف عليها الحكومة، والغرض منها هو تعجيل التدهور الاقتصاديّ للنظام القائم حاليّاً من خلال تقييد إمكانيّة وصوله إلى شبكات التمويل الدوليّة، لا سيّما تلك الخاصّة بحلفائه. يزيد هذا القانون أيضاً من العبء الاقتصاديّ الواقع على كاهل شركاء الحكومة السوريّة بما أنّهم سيضطرّون إلى تكثيف جهودهم من أجل العثور على سبل لتجنّب إدراجِهم من قبل "مكتب مراقبة الأصول الأجنبيّة" التابع لوزارة الخزانة الأميركيّة، وهو ما سيدفعهم إلى إعادة النظر في علاقاتهم التجاريّة مع النظام وتقليصها.
على الرغم من الأهداف المُعلنة المتمثّلة في معاقبة النظام إلا أن الأثر السلبي لهذه العقوبات بات واضحاً على الأحوال المعيشية لمعظم المواطنين السوريّين. ويبدو ذلك جليّاً في قطاعَي الطاقة والماليّة حيث يجد معظم الناس داخل سوريا صعوبة في الحصول على المشتقات النفطيّة مثل السولار، ويواجهون صعوبات عند إجراء المعاملات الماليّة لا سيما عند استلام الحوالات الماليّة، التي أصبحت إحدى مصادر الدخل الرئيسيّة لدى كثيرٍ من الأسر السوريّة. كان لقانون قيصر أيضاً "تأثير مُثبِّط" على الشركات الأجنبيّة التي تفضِّل عدم المجازفة وتتجنّب التعامُل مع أيّ سوريّين سواء كانوا أفراداً أو كيانات، حتى لو كان ذلك في القطاعات والأنشطة التي لا تتأثّر بالعقوبات.
الآليّات التي يتّبعها النظام للتغلُّب على آثار العقوبات
فرضت الدول الغربيّة، منذ عام 1979، حزم عقوبات مختلفة على النظام السوريّ، ساهمت بدرجة كبيرة في تعزيز "خبرته" التراكميّة في مواجهة العقوبات الاقتصاديّة الحاليّة. فقد استحدث النظام آليّات مختلفة للتعامل مع هذه العقوبات وتخفيف تأثيرها على البنية الاستبداديّة في سوريا.
يكمن الدعم الخارجيّ من الحلفاء الاستراتيجيّين في صميم تلك الآليّات، خصوصاً إيران، وروسيا وإنْ كان بدرجة أقلّ. على سبيل المثال، زوَّدت إيران النظامَ السوريّ -إلى جانب الدعم العسكريّ غير المحدود- بالسلع والخدمات الأساسيّة، خاصّة النفط، خلال الصراع الحاليّ. علماً أنّ كافّة أشكال الدعم غير العسكريّة تُقدَّم من خلال الاعتمادات الائتمانيّة وهو ما يعني زيادة الدَّين العام السوريّ. بحسب التقارير، شحنت إيران كميات كبيرة من النفط إلى سوريا تقدر بنحو 1.7 مليار دولار سنويّاً في الفترة بين عامَي 2013 و2018. وبافتراض نفس المعدل في عامَي 2019 و2020، فإنَّ إجمالي صادرات إيران من النفط الخام إلى النظام السوريّ خلال الصراع الحاليّ قد يصل إلى 13.6 مليار دولار أميركيّ. إلى جانب ذلك، منحت إيران 2 مليار دولار أميركيّ لمصرف سوريا المركزيّ في الفترة بين عامَي 2013 و2015 لدعم العملة السوريّة وتيسير استيراد السلع الإيرانيّة الأخرى عدا النفط. وفي حزيران/يونيو عام 2020، صرَّح وزير الشؤون الخارجيّة الإيرانيّ أنّ سوريا ما تزال تمتلك خطّاً ائتمانيّاً في إيران لكن دون أنْ يذكر مقداره. استناداً إلى هذه الأرقام، يُمكن أنْ يُقدَّر الدعم الإيرانيّ غير العسكريّ المقدَّم إلى سوريا خلال الصراع بنحو 15.6 مليار دولار أميركيّ، وهو ما يعادل تقريباً 8.5 أضعاف الميزانيّة السوريّة في عام 2020.
تسهل روسيا أيضاً الأنشطة التجاريّة وتستثمر في قطاعات حيويّة في سوريا؛ إذ أصبحت روسيا المصدر الأساسيّ للقمح لدى النظام السوريّ الذي كان لديه اكتفاءٌ ذاتيّ من القمح قبل نشوب الصراع في البلاد. فقد ارتفعت الكمّيّات السنويّة من القمح الروسيّ المصدرة إلى سوريا بشكلٍ حادّ لتصل إلى أكثر من مليون ونصف المليون طنّ في 2018 بعد أنْ كانت 650 ألف طنّ في 2015. إضافةً إلى هذا لعبت عدّة شركات مسجَّلة في روسيا دوراً مهمّاً في تصدير النفط إلى سوريا وكسر العقوبات المفروضة على القطاع النفطيّ السوريّ.
لم يأتِ الدعم الإيرانيّ والروسيّ خالياً من العواقب؛ فقد خسرت البلاد سيادتها على عدّة أمور أساسيّة، ولكنّ بالنسبة للنظام فقد استطاع تجنّب الانهيار الاقتصاديّ التامّ. ربّما يحد قانون قيصر من تعاون الشركات الروسيّة مع الحكومة السوريّة، ولكنّ الكيانات الإيرانيّة المعاقبة بالفعل ليس لديها ما تخسره.
إضافةً إلى الدعم الخارجيّ، أثبت النظام السوريّ مهارته في تغيير ديناميّات القوّة الداخليّة للاستفادة من الريع الذي عادةً ما يرتبط بالعقوبات الاقتصاديّة. فشبكات محاسيب النظام الأثرياء وأمراء الحرب تتمتّع بذلك الريع وتسيطر على أنشطة السوق السوداء التي تزدهر نتيجة العقوبات. برز هؤلاء المنتفعون بوصفهم أطراف فاعلة قويّة يُمكنهم التأثير على صنّاع السياسات من أجل تحقيق مصالحهم على حساب غيرهم من الأطراف الفاعلة، بما فيهم مؤسّسات الدولة ورجال الأعمال التقليديّون والقطاعات الضعيفة من الشعب السوريّ. غير أنّ النظام دائماً ما يؤكّد أنّ على تلك الأطراف الفاعلة الجديدة تقديم الدعم الماليّ للنظام عند حاجته إليه؛ وإلّا فإنّه قد يَستخدم إجراءات وتدابير قسريّة ليأتي بمُنتفعين آخرين أطوَع له ويستطيع السيطرة عليهم.
للتغلّب على العقوبات، قام المنتفِعون من الحرب الجديدة بالتنسيق فيما بينهم وأنشأوا شبكاتٍ إجراميّة وغير قانونيّة لديها طرق ومسالِك تهريب خاصّة بها من أجل تأمين السلع والخدمات، إمّا من البلدان المجاورة، وخصوصاً لبنان، أو من مناطق أخرى في الداخل السوريّ، مثل المنطقة الشماليّة-الشرقيّة للحصول على النفط والقمح. إضافةً إلى ذلك، أنشأ بعضُ المنتفِعين شركات ظلّ وحسابات في دول مختلفة، وذلك من أجل تسهيل الأنشطة التجاريّة مع الحكومة السوريّة. ومرّة أخرى، سيَزيد قانون قيصر وغيره من العقوبات الاقتصاديّة مخاطر التجارة لتلك الشركات، رغم أنّ المخاطر الإضافيّة عادةً ما يتمّ تعويضها من خلال هوامش ربح أعلى. من ثَمّ، يضطرّ المدنيّون السوريّون، في نهاية المطاف، إلى تحمّل الزيادات في أسعار السلع المستورَدة والمهرَّبة، نظراً إلى نقص الإنتاج المحلّيّ الذي تضرر كثيراً خلال الصراع الذي ما زالت تشهده البلاد. هذا النهج الذي يتّبعه النظام السوريّ يتيح له في نهاية المطاف توظيف العقوبات من أجل إعادة تخصيص الموارد لصالح محاسيب النظام وعلى حساب باقي المدنيّين.
تسعى الحكومة السوريّة أيضاً إلى الإفلات من الضغوط الشعبية التي تتعرض لها بسبب سوء أدائها، من خلال تحميل العقوبات مسؤوليّة جميع مظاهر الفشل والانهيار الاقتصاديَّين في البلاد. وهذا خطاب معتاد في النظم الاستبداديّة التي تصوّر العقوبات على أنّها تهديد خارجيّ للدولة نفسها، ومن ثَمّ ينبغي على جميع السوريّين الوقوف خلف الدولة في مواجهة تلك العقوبات. تصوِّر دعاية النظام وحملاته الإعلاميّة، بل حتّى الأسد نفسه، العقوبات على أنّها جزء من مؤامرة شاملة ضدّ البلاد بسبب دورها المحوريّ في مواجهة الإمبرياليّة وإسرائيل. وبالتالي فإنّ النظام يزعم أنّ بقاءَه يمثّل صخرةً تتحطّم عليها أمواج خطّة خبيثة غربيّة. وبَينما يستحيل قياس تأثير تلك الجهود بدقّة، فقد استطاع النظام إلى حدٍّ ما حرْف غضب كثيرٍ من السوريّين ليتحوّل من غضبٍ على أداء النظام إلى غضبٍ بسبب العقوبات، بدعوى أنّ تلك العقوبات هي السبب الرئيسيّ للأوضاع البائسة التي يعيشونها. يتّضح هذا من الحملة الأخيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، التي أطلقتها صفحة "المجتمع السوريّ الأهليّ Syrian Civil Society" على فيسبوك، من أجل "رفع الحصار عن سورية"، مع توظيف وباء كورونا من أجل جذب مزيد من الانتباه إلى الحملة. وقد غيّر آلاف السوريّين، وأغلبهم من داخل البلاد، صورَ حساباتهم على فيسبوك لتشمل جملة "ارفعوا الحصار عن سورية". وعبَّر أعضاء في البرلمان وفنّانون وشخصيّات دينيّة بارزة لها تأثير كبير في المجتمعات المحلّيّة -كالأب إلياس زحلاوي، وهو قسّ يحظى باحترامٍ واسع في دمشق- عن دعمهم الحملة، وسرعان ما تبارَت وسائل إعلام حكوميّة رسميّة في إبراز هذا.
أتاحت آليّات تدبّر الأمور هذه للنظام السوريّ تخفيف أثر العقوبات عليه، بينما ظلّ الناس والبنية التحتيّة للدولة يعانون منها. ونتيجةً لهذا، أسهمَت العقوبات بشكلٍ غير مباشر، وإنْ لم يكن عمداً، في إضعاف قدرات الناس على تدبّر أمورهم في ظلّ الحرب، بل حتّى على مواجهة قمع النظام؛ إذ اضطرّ الناس إلى بذل كثير من طاقتهم وجهودهم على مدار اليوم لتوفير احتياجاتهم اليوميّة، وخصوصاً بعد التراجُع الحادّ في مستويات المعيشة التي نتجَت عن الانخفاض الحادّ في سعر صرف الليرة السوريّة في العام 2020. بالتالي، فإنّ من المهمّ للغاية بالنسبة للدولة التي تفرض العقوبات أنْ تقوم بإعادة هيكلة تلك العقوبات على سوريا من أجل تخفيف أثرها على السكّان وجعلها أكثر فاعليّة ضدّ النظام.
جعل العقوبات أكثر فاعليّة ضدّ النظام
بعد عشر سنواتٍ تقريباً، فشلت العقوبات المفروضة حاليّاً في تحقيق أغراضها المتمثّلة في إيقاف قمع النظام السوريّ وإجباره على تسوية الأزمة بما يتّفق مع قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي يدعو إلى انتقال سياسيّ حقيقيّ. ينبغي لهذا الفشل في تحقيق الأهداف أنْ يحفّز المجتمع الدوليّ على تحليل أسباب عدم كفاءة العقوبات والتغلّب عليها.
تتمثّل الخطوة الأولى في إجراء تقييم شامل ودقيق للدور الذي تلعبه العقوبات الحاليّة في التأثير على النهج الذي يتبنّاه النظام في التعامُل مع قرار الأمم المتّحدة رقم 2254، الذي يزعم الاتّحاد الأوروبي والولايات المتّحدة أنّه إطار استراتيجيّ لسياساتهما في سوريا. ينبغي أنْ يشمل التقييم أيضاً دراسة أثر العقوبات على سلوك الداعمين الدوليّين للنظام السوريّ، وعلى وجه الخصوص روسيا وإيران والصين.
أمّا الخطوة الثانية فهي قيام الدول التي تفرض تلك العقوبات بتحديث استراتيجيتها الشاملة من أجل إنهاء الصراع في سوريا ولتكييف استخدام تلك العقوبات في إطار هذه الاستراتيجيّة. يتعيَّن على الدول الغربيّة الاتّفاق على مجموعة من الأهداف التفصيليّة ضمن الإطار المتّفَق عليه في قرار الأمم المتّحدة رقم 2254 لحل الصراع وربط العقوبات بأهداف يُمكن قياسها وتحقيقها. ومن بين الأمثلة على ذلك ربط بعض سياسات العقوبات بإجراء تحسينات معيَّنة تتعلّق بقضايا حقوق الإنسان مثل الإفراج عن المعتقلين، والسماح بإجراء زيارات مستقلّة لمَرافق الاحتجاز، ووقف الاعتقالات التعسّفيّة من قِبَل الأجهزة الأمنيّة لتوفير بيئة عمل ملائمة وآمنة لمُبادرات المجتمع المدنيّ. ويُمكن أنْ تتّخذ الأهداف الأخرى طابعاً سياسيّاً بدرجة أكبر، بما في ذلك إحراز تقدُّم بشأن الجوانب الرئيسيّة للدستور أو التركيز على الإصلاحات والجهود الرامية إلى تحقيق المساءلة في القطاع الأمنيّ. ومع أنّ النظام سيُقاوم بلا شكّ هذه الإجراءات، فعلى الأقلّ ستكون المعايير القياسيّة والتوقّعات أوضح ممّا هي عليه اليوم.
من بين نقاط الضعف الأخرى التي تعيب النهج الحاليّ في التعامُل مع العقوبات هو ذلك الافتقار إلى التنسيق بين الدول المختلفة. إذ يستخدم الاتّحاد الأوروبيّ العقوبات باعتبارها السبيل الرئيسيّ للتدخّل في سوريا، في حين تبنّت الإدارة الأميركيّة سُبُلاً مختلفة إلى جانب العقوبات؛ منها التدخّل العسكريّ المباشر في شمال شرق البلاد، إضافةً إلى الدعم الاقتصاديّ للمناطق الخاضعة لسلطة "قوّات سوريا الديمقراطيّة" التي يسيطر عليها الأكراد. علاوةً على ذلك، يصرّ الاتّحاد الأوروبيّ على ضرورة الانتقال السياسيّ للسلطة في سوريا كشرط لرفع العقوبات وتقديم الدعم الماليّ لعمليّة إعادة الإعمار في البلاد، في حين تستغلّ الولايات المتّحدة العقوبات -بما في ذلك "قانون قيصر"- لزيادة قدرتها على المساومة السياسيّة والحدّ من نفوذ إيران وروسيا في سوريا، بدلاً من تلبية احتياجات وتطلّعات السوريّين الأساسيّة في بناء دولة ديمقراطيّة. ولذا من شأن الحدّ الأدنى للتنسيق بين الدول التي تفرض العقوبات في سبيل الاتّفاق على هدف رئيسيّ واحد -وهو هدف لا بدَّ أنْ يكون طبقاً لقرار الأمم المتّحدة رقم 2254، المتعلّق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسيّة حقيقيّة للوضع في سوريا- أنْ يقلِّص القدرة السياسيّة للنظام السوريّ على تطويق المخطّطات المختلفة للدول الغربيّة وفتح قنوات متعدّدة للتفاوض مع كلٍّ منها.
يتمثّل التحدّي الأخير الذي يواجه سياسات العقوبات في عدم وجود إجماع عالميّ حول أهمّيّة إجراء إصلاحات سياسيّة جوهريّة في سوريا. فقد عارضت دولٌ مثل روسيا وإيران والصين إجراءَ مثل هذا التغيير، وتصدّت للعقوبات التي فرضتها الدول الغربيّة، وذلك من خلال تقديمها المزيد من الدعم والتبادل التجاريّ مع النظام السوريّ. وبالتالي، تتمتّع هذه الدول بنفوذ متزايد في سوريا، وهو ما أعطاها مزيداً من الأسباب لحماية النظام الحاليّ. ولذا يتعيَّن على الدول التي تفرض العقوبات -بعد الاتّفاق على أهدافها النهائيّة في سوريا- بحثُ السبل الكفيلة بتقديم الحوافز والدوافع الضروريّة لهؤلاء الداعمين الأجانب للنظام السوريّ من أجل قبول الإصلاح السياسيّ في البلاد. وقد تتضمّن الحوافزُ السلبيّة فرضَ عقوبات مثل "قانون قيصر" الذي يزيد من تكاليف دعمهم للنظام، في حين قد تشمل الحوافز الإيجابيّة تقديم الضمانات التي تؤكّد أنّ إرساء قواعد دولة ديمقراطيّة من شأنها أنْ تحمي أيضاً مصالحَهم الاقتصاديّة واستثماراتِهم في سوريا.
توصيات ومقترحات للتخفيف من آثار العقوبات على الشعب السوريّ
لدى المجتمع الدوليّ طائفة من الخيارات السياسيّة تتجاوز الثنائيّة المتمثّلة في الإبقاء على العقوبات بشكلها الحاليّ أو رفعها كلّيّاً. فعند التفكير في كيفيّة تخفيف أثر العقوبات على المواطنين السوريّين العاديّين، يمكن مثلاً تقديم الدعم الماليّ المباشر إلى رجال الأعمال السوريّين التقليديّين والشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم في سوريا، عن طريق فتح قنوات ماليّة موازية معهم كبديل للقنوات الرسميّة التي تخضع للعقوبات ويسيطر عليها أفرادٌ وكياناتٌ موالون للنظام. يُمكن أنْ تكون هذه القنوات على غرار "اتّفاق التجارة الإنسانيّة السويسريّ" (SHTA)، وهو عبارة عن آليّة دفع لإتاحة إيصال السلع والموادّ الإنسانيّة إلى إيران، أُطلقت في كانون الثاني/يناير 2020، وتسمح للشركات بإرسال أدوية وسلع حيويّة أخرى إلى إيران دون الوقوع تحت وطأة العقوبات الأميركيّة. تعمل مثل هذه الآليّات على الحدّ من "التأثير المُثبِّط" على الشركات والمنظّمات الأجنبيّة من خلال جعلها قادرة على التبادل التجاريّ مع الدول الخاضعة للعقوبات دون خوفٍ من انتهاك العقوبات. في الوقت نفسه، تزوِّد هذه الآليّات المجتمعَ الدوليّ بأداة لتلبية احتياجات الناس من السلع والخدمات الأساسيّة دون تمكين أزلام النظام في الدول الخاضعة للعقوبات.
بالنسبة لسوريا، قد تشمل تلك الآليّة، بالإضافة إلى المساعدات الإنسانيّة، توفيرَ السلع والخدمات الأخرى اللازمة للأسواق المحلّيّة، مثل الموادّ الخام والمعدّات الخاصّة بالقطاعات الصناعيّة، ومنها صناعات النسيج والأدوية والصناعات الزراعيّة والغذائيّة. على أرض الواقع، يتطلّب ذلك وجود مكتب فنّيّ مستقلّ يتمتّع بسلطة اتخاذ القرار والموافقة على المعاملات التي يُمكن إجراؤها مع سوريا دون التأثّر بالعقوبات. ولا بدَّ من إنشاء مثل هذا المكتب وَفقاً لقرار صادر عن الأمم المتّحدة يحدِّد حوكمته الداخلية وموقعَه وسلطاتِه. ويتعيَّن على التجّار السوريّين والشركات والبنوك الأجنبيّة إرسال طلبات المعاملات إلى هذا المكتب، الذي بدوره يدرسها كلّها، ولا يوافق إلّا على المعاملات التي لا تخدم النظام ومحاسيبه. وعلى هذا، يحتاج ذلك المكتب إلى نظام مراقبة قويّ وفعّال يتمتّع بقدر كبير من الاطّلاع على محاسيب النظام في سوريا وعلى أنشطتهم. ومن الممكن أنْ يعمل بالتنسيق مع الوكالات التابعة للأمم المتّحدة والمنظّمات الدوليّة، ويديره خبراء فنّيّون سوريّون وأجانب.
ثمّة خيار آخر أمام المجتمع الدوليّ يتمثّل في تقديم الدعم الفنّيّ والماليّ لمبادرات المجتمع المدنيّ من خلال قنوات مباشرة ومرنة وخاضعة للرقابة على غرار الآليّات المذكورة أعلاه، لتجنّب بيروقراطيّة قنوات الأمم المتّحدة الحاليّة وإتاحة فرص أفضل أمام مبادرات المجتمع المدنيّ المحلّيّ للحصول على التمويل الخارجيّ. ففي الوقت الراهن، لا يحقّ سوى للمنظّمات غير الحكوميّة (NGOs) المرخَّصة في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام -وهي جميعها موالية للنظام- الحصولَ على أموال من المنظّمات الدوليّة. ويُعدّ المجتمع المدنيّ السوريّ الجهة الفاعلة الوحيدة التي يُمكنها أنْ تغيِّر بشكل إيجابيّ ديناميّات القوّة الداخليّة في البلاد؛ فهو يدرك الأسباب الحقيقيّة وراء التدهور الاقتصاديّ، وبالتالي قادر على مواجهة خطاب النظام بشأن العقوبات واعتباره إيّاها السببَ الوحيد وراء الفشل الاقتصاديّ في البلاد. يُمكن أيضاً للمجتمع المدني إيجاد بدائل اقتصاديّة عمليّة لتخفيف المصاعب الاقتصاديّة على المستوى الأسريّ.
لا ينبغي استخدام المقترحات الفنّيّة المذكورة أعلاه إلّا كحلول مؤقّتة للتغلّب على الآثار السلبيّة للعقوبات على الشعب السوريّ. ويظلّ الهدف النهائيّ في نهاية المطاف هو رفع العقوبات كافّة شريطة أنْ تمرَّ البلاد عبر إصلاح سياسيّ حقيقيّ يحقّق طموحات العديد من السوريّين في بناء دولة عادلة ونزيهة وديمقراطيّة.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.