مشاركة العراق في الفعاليات الدولية التي تركز على المناخ، لاسيما الاجتماعات السنوية لمؤتمرات الأطراف (COP)، قد توحي إلى أن صناع القرار المحليين يدركون عواقب التغير المناخي ويلتزمون بالتحول إلى الطاقة النظيفة. رُغم ذلك، حين تدعي الحكومة العراقية أنها تنتقل نحو طاقة أنظف، تَظِلُ غير راغبة الاعتراف بالأزمة المُناخية المحلية، وتستمر في إنكار التأثير البيئي للصناعة النفطية. لذا، يُعد العراق أحد أقوى المعارضين للحد من الوقود الأحفوري أو التخلص التدريجي منه، وفقاً لما اقترحته مسودة الاتفاق النهائي لمؤتمر الأطراف الثامن والعشرين في نوفمبر 2023، في حين ترفض وزارة البيئة، المسؤولة عن تحقيق أهداف العراق المناخية وتقليل التأثير البيئي المتصاعد لصناعة الهيدروكربون، بشدة المساس بالوقود الأحفوري مستشهدة بالأضرار التي تلحق باقتصاد البلاد. بدلاً من ذلك، "العقيدة البيئية" للحكومة العراقية تظل تستهدف الانخراط في المحافل الدولية المعنية بالمناخ لتأمين التمويل الدولي للحلول البيئية النظيفة دون احراز أي تقدمٍ، وفي الوقت تستمر فيه بزيادة إنتاج النفط والغاز.
لعبة المناخ: معلومات مضللة وخطط غير قابلة للتنفيذ
تستهدف الهياكل الحكومية إصدار وثائق مناخية قائمة على التجميع والتضليل المعلوماتي لتوصيف الحالة العراقية، مع التقليل من أثر الصناعة النفطية على الصحة العامة، وتسويق سرديّة مضلِّلة، كوثيقة "التغيرات المناخية في العراق: تحدي الواقع وصمود المستقبل"، التي أصدرتها اللجنة الوطنية الدائمة لمتابعة التغيرات المناخية في 2023، ادّعت بأن مستوى الانبعاثات في العراق ثابتٌ ولم يتغير لنحو عقدين، ما بين 2002 و2020، على أساس أن الصناعة الاستخراجية والبتروكيماوية تمر بفترة "ركود قطاعي"، فضلاً عن عدم وجود توجه حكومي نحو توسعة الاقتصاد النفطي، ما يتناقض مع خطط الحكومية العدائية الفعلية للبيئة، بإقرار جولتي التراخيص الاستخراجية الخامسة والسادسة بهدف الوصول إلى 8 ملايين برميل يومياً بحلول 2027؛ فضلاً عن اعتراف الورقة القطرية لجمهورية العراق المُقدّمة إلى مؤتمر الطاقة العربي العاشر، بأن "استهلاك وإنتاج العراق من الطاقة، قد تضاعف بمقدار أربع مرات تقريباً خلال العقود الثلاثة الماضية، وبدءاً من عام 2010، كان الطلب على الطاقة الأولية للبلاد ككل نحو 38 مليون طن من المكافئ النفطي (Mtoe)، أو 1.3 طن من المكافئ النفطي للفرد الواحد.
المؤشرات الحكومية غالباً ما تتجاهل أية إشارة إلى ملوّثات الاستخراج النفطي ومحروقات الغاز المهدورة، على الرغم من تأكيد وكالة الطاقة الدولية (IEA) أن العراق مسؤول عن 8% من انبعاثات غاز الميثان العالمية الناتجة عن النفط والغاز، مُحتلاً المرتبة 32 من بين 215 دولة ومنطقة تسهم بنحو 63% من الانبعاثات العالمية.
السياسات البيئية المقترحة من جانب الهياكل الحكومية العراقية والمُقدمة إلى منظومة التفكير الدولية بشأن التغير المناخي، فإنها نابعة من التحفيز الدولي وليس من تصورات أو استراتيجية وطنية، ونتيجة للضغوط الدولية، وكوسيلة للوصول إلى تمويل المناخي، عمل العراق على إنشاء كيانات ووحدات وطنية، استجابة لخطط تسهيل تنفيذ اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC)، مثل: وثيقة المساهمات المُحددة وطنياً بشأن تغير المناخ (NDCs)، وهي خطة التكيف مع تغير المناخ وخفض الانبعاثات التي يتم تقديمها كل خمس سنوات إلى الأمانة الأممية لتغير المناخ. السياسات التي يقترحها العراق غالباً ما تعتمد على الأطر الدولية وتدفقات التمويل أو تكون بمثابة رد فعل لها – وهي ديناميكية تُمكِن الحكومات العراقية من أجل الإفلات من اللوم الدولي على بطء إجراءات البلاد للحد من التدهور.
في 2011، أنشأ العراق "اللجنة الوطنية الدائمة للتغيرات المناخية"، مرتبطة بوزارة التخطيط، إذ لم تكن هناك وزارة للبيئة. لم تؤد انشطة اللجنة الى اية تغييرات تشغيلية أو مُخرجات عملياتية، في ظل اعتبار البيئة آنذاك، قطاعاً مُلحقاً بوزارة الصحة دون تمويل على مدى عقدٍ تقريباً. تمت إعادة هيكلة اللجنة في تموز/ يوليو 2023، استعدادًا لمؤتمر الأطراف الثامن والعشرين، وفصل قطاع البيئة عن وزارة الصحة.
آخر مرة أنتج فيها العراق استراتيجيتهُ الوطنية لحماية البيئة كانت في 2013، بالتعاون مع (UNDP) التي كان يفترض تنفيذها بحلول 2017، لكنها أُهملت لنحو عقدٍ تقريباً، ليتم تحفيز المبادرة مجدداً بفعل أممي، وإنتاج استراتيجية خمسية جديدة (2023 - 2028). لكن؛ لم يؤشر إلى وجود تمويل حكومي واضح لتنفيذها.
في 2015 انضم العراق إلى تحالف المناخ والهواء النظيف (CCAC) وفقاً لمسار (NDCs)، ضمن صفقة مُسيّسة ومشروطة لخفض الانبعاثات بحلول 2030 - 2035، ما بين 1 إلى 2% فقط كمساهمة وطنية من طرف واحد تمثل حالة الإنكار الحكومي لحجم الغازات الأحفورية، وقد ترتفع إلى 15% مشروطة بحصول العراق على تبرعات دولية تصل إلى 100 مليار دولار مقابل "خفض الانبعاثات وتكييف القطاعات وتحقيق الأمن".
وبينما اعترفت وثيقة التنمية الوطنية الحكومية (2018-2022)، بأن العراق ضمن "دائرة علاقة سلبية مزدوجة بين تدهور البيئة والنزاعات المسلحة"، تجاهلت الإجراءات الحكومية بناء منظومة "تضامن مناخي" قُطرية، قد تسهم بإعادة هيكلة الآثار الكارثية للتغيرات المناخية وأزمة المياه والجفاف، فضلاً عن عدم إطلاق تمويلات تستهدف تسوية الأضرار البيئية.
ولم تقدم الحكومة العراقية في منهاج الكابينة المُشكلة التي تولت مهامها في تشرين الأول/ أكتوبر 2022 أي مقترحات لمواجهة تغير المناخ والتدهور البيئي، باستثناء إشارة واحدة في البند السادس من المحور الثامن (الزراعة والموارد المائية) إلى "ربط تغير المناخ وتداعياته على بيئة العراق بالعلاقات الخارجية مع الدول الأخرى والمنظمات الدولية ومؤتمر الأطراف". ويكشف هذا الإحالة والربط العابر كيف أن القضايا البيئية بالنسبة لصناع القرار في العراق ليست أولوية ميزانية بل هي في المقام الأول للتفاعل مع المؤسسات الدولية والإفلات من اللوم الدولي. من جانبها، ذهبت وزارة البيئة باتجاه تعزيز سياق البيروقراطية البيئية، واقترحت في مقتبل العام 2024، ستة مسارات إجرائية للتخفيف من التأثير البيئي والمناخي:
- قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009. ثمة توجه لإصدار قانون جديد يتواءم مع التصورات الدولية والأممية نظراً لقدم القانون الحالي. وطرحت مسوّدة التشريع الجديد للقراءة الأولى في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2024.
- الاستراتيجية الوطنية لوزارة البيئة 2013 -2017.
- الاستراتيجية الوطنية لمواجهة التلوث البيئي 2028 -2023 [وثيقة حكومية غير متداولة مع الفضاء العام].
- تفعيل الخطط السنوية لوحدات وزارة البيئة القطاعية لقياس وتقييم التلوث النفطي في مواقع النشاط الاستخراجي.
- الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية، كالاتفاقية الإطارية لتغير المناخ، واتفاقية بازل الخاصة بإدارة المخلفات الخطرة، فضلاً عن التشريعات الوطنية المتوافقة معها، والمضي باتجاه الخطط الممولة دولياً لخفض التلوث.
- فرض "المتطلبات البيئية" على جميع الأنشطة المتعلقة بالوقود الأحفوري، وإلزام أصحاب المصلحة بتنفيذ إجراءات التخفيف من الملوثات.
في العام الذي انقضى (2024)، ومنذ الإعلان عن هذه المسارات البيئية الست، لم يتحقق سوى تقدم ضئيل؛ إذ إن الإجراءات التنفيذية ظلّت تدورُ في فضاء المخاطبات الحكومية الداخلية، والإشعارات المقدمة إلى جهات التحفيز الدولية، ما يؤشر إلى خلل هيكلي عميق في آلية تفكير صُنّاع القرار البيئي، وعدم مبالاة من طرف الهياكل الحكومية ومن ضمنها أعلى مستوى هرمي (رئاسة الوزراء) على فرض الإجراءات الحمائية بقوة الدولة.
المساران الرابع والسادس من المسارات البيئية الحمائية الستة المقترحة، يفترضان وجود آلية رقابة على مواقع التلوث الكربوني للصناعة النفطية، لكنها تبقى في الوقت ذاته مجرد تصورات غير قابلة للتنفيذ بفعل مناخ القمع البيئي السائد الذي يُحرّم محاسبة أو مراقبة أو تجريم القطاع النفطي، ومنع دخول فرق التفتيش البيئي - حتى بموجب أوامر قضائية - إلى النقاط التي تشهد ارتفاعاً مُطّرداً في معدلات التلوث، فضلاً عن إسكات المُدافعة البيئية، واعتقال النشطاء والمسؤولين الحكوميين عبر استخدام أدوات مكافحة الفساد. في ظل المناخ القمعي، تظل المسارات البيئية غير قابلة للتنفيذ.
تُحاججُ الحكومة وطيفُ المنتفعين داخل النظام السياسي عن فشل الأدوار المناخية الرسمية، بالفجوة التمويلية التي تعيق تحقيق أهداف العراق المُستدامة، وهي وفقاً لأقل السيناريوات تَكلُفةً، تقدر بـ 290 مليار دولار، مُعتبرة أن الخسائر المالية للحرب على "داعش" وتداعيات جائحة كورونا، قد حطمت قدرات البلاد على توجيه التمويلات العامة نحو إصلاح القطاع البيئي، الذي يستوجب إصلاح قطاع الخدمات أولاً، ما يعني أن قدرة العراق على مواجهة آثار التغير المناخي مع بنية تحتية مدمرة شمالاً وغرباً ومتهالكة في الوسط والجنوب، تكاد تكون مستحيلة.
بينما رؤية النجاة والتدابير الانقاذية المتعلقة بالاستثمارات النظيفة التي اقترحها البنك الدولي بقيمة 233 مليار دولار بحلول 2040، لتمكين العراق من سد الفجوات التنموية ذات الأولوية والشروع في مسار النمو الأخضر الشامل، فضلاً عن حزمة تكيّف أولية وإنفاق تشغيلي لمواجهة ندرة المياه بقيمة 70 مليار دولار حتى عام 2040، تبدو كخطة قياسية، لكن في الوقت نفسه مستحيلة التحقق، مع تنامي مستوى الاستنزاف المالي سنوياً، لتغطية كُلف شبكة الرواتب المتشعبة وتشغيل المصالح العمومية، فضلاً عما تستنزفه شبكة الفساد وسوء استغلال المال العام وتمويل التسليح والهياكل المسلحة الرسمية وغير الرسمية التي تتنامى يوماً تلو آخر. فيما خلا التقرير الطوعي الوطني الثاني للمتحقق من أهداف التنمية المُستدامة، من الإشارة إلى هدف تحسين البيئة والتغير المناخي، وما خصص حكومياً لدعم الاستراتيجية الرابعة للأمم المتحدة في العراق من بين أهدافها الخمسة، المعنية بتعزيز الموارد الطبيعية وإدارة أخطار الكوارث والقدرة على مواجهة التغير المناخي، يُعد تمويلاً مايكروياً ضئيلاً بقيمة 255 مليون دولار فقط، انتهت صلاحيته منذُ عامين.
في التفاتةٍ نادرةٍ من طرف النظام السياسي لتشخيص مَظاهر اختلال التعامل مع الأزمة البيئية، ادعت الحكومة المؤقتة التي قادها مصطفى الكاظمي (ايار/ مايو 2020 – تشرين الأول/أكتوبر 2022)، ضمن ما سمّته بـ"الورقة البيضاء للإصلاح المالي"، أن "لدى العراق رغبة قوية تجاه إعادة إعمار المدن المدمرة وفق الأنظمة الحديثة للبناء لتصبح مدناً خضراء مستدامة صديقة للبيئة، لتكون شواهد سلام حية داخل المجتمع العراقي لتشجيع استخدام الطاقة المتجددة والبناء الأخضر لضمان الاستدامة في مواجهة مخاطر تغير المناخ"، غير أن الإجراءات التطبيقية المقترحة للورقة نفسها، ظلّت تدور في دائرة الإجراءات البيئية المُسيّسة المُرتبطة هيكلياً بالاقتصاد الريعي المُكربن.
إذ رغم الإشارات المُتكررة إلى ضرورة تقليل الاعتماد على الريع النفطي، قبالة زيادة مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج الوطني، إلا أن الإصلاح المالي المُقترح ضمن الورقة، ظَلَّ مُعتمداً بشكل أساس على الواردات الاحفورية؛ فيما لَم تُشر الخطة إلى كيفية إنعاش القطاع غير النفطي عبر تمويلات حكومية منخفضة الكربون أو تغيير أنظمة السوق والاستثمار لتكون أكثر جذباً. بل اقترحت خفض الإنفاق الحكومي بنسبة 30% سنوياً وصولاً إلى التمويل الذاتي في 2024، عبر إيقاف تمويل طيف واسع من شركات القطاع العام غير النفطي التي يفترض أن تستهدف إشباع الاستهلاك المحلي لخفض الاعتماد على الاستيراد المفرط الذي يستنزف الوفرة المالية، فضلاً عن تعظيم الواردات الحكومية عبر مصادر نظيفة.
رغم الإعلانات الحكومية بتبني مسار بيئي استباقي في "مؤتمر العراق للمناخ" الذي عقد في البصرة، المدينة الأكثر تضرراً من الإنتاج الكثيف الكربون في آذار/ مارس 2023، لم يخصص العراق ميزانية واضحة أو أموالاً لدعم مساراته البيئية التكيّفية، رغم إطلاقه أربع موازنات غير مسبوقة ما بين (2021 - 2025) قدرت بنحو أكثر من 400 مليار دولار، خصص منها نحو 68 مليون دولار سنوياً لوزارة البيئة فقط، وهي أول ميزانية مخططة لقطاع البيئة في تاريخ الحكومات العراقية، ولم يُنفق منها سوى 48% في عام 2023 على الضروريات التشغيلية (معظمها رواتب الموظفين)، في حين لم يُنفذ أي مشروع بيئي أو مبادرة مناخية. وزارة البيئة هي أصغر هيكل حكومي بموارد بشرية محدودة، حيث يبلغ عدد موظفيها 3308 موظفاً في مختلف أنحاء البلاد.
التمويل الأخضر: آفاق جديدة للفساد
في كانون الأول/ ديسمبر 2023، وخلال مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين، أعلن البنك المركزي العراقي ووزارة البيئة بشكل مشترك عن تأسيس "المصرف الأخضر للتنمية المستدامة" برأسمال 400 مليار دينار، من بينها 350 مليار دينار سيتم استثمارها في مشاريع خضراء من قبل القطاع الخاص ما بين عامي 2024 و2027، فضلاً عن خلق 100 ألف فرصة عمل في مشاريع التنمية الخضراء.
عملياً، يكتنف الغموض مصير المصرف الأخضر، إذ ترفض الأوساط الحكومية الكشف عن بيانات التأسيس والمشاريع المقترحة، فضلاً عن مجهولية المكاتب الإدارية ونقاط الاتصال بمسؤوليه، بينما صرح مصدر لم يكشف عن هويته في البنك المركزي العراقي، الطرف المسؤول عن تشغيل المصرف، أن "البيروقراطية وعدم الجدية الحكومية تأتي في مقدمة الأسباب التي تقف عائقاً أمام التنفيذ الفعلي لمشاريع المصرف" وأن المشروع اصتدم بالإجراءات البيروقراطية والمحسوبية والضغط الحزبي، ناهيك ببحث كل طرف من الأطراف السياسية عن حصصه المالية في المشاريع الاقتصادية".
المعرقلات التشغيلية مُتزامنة مع تفشي حالة الفساد في الاقتصاد الأخضر. في العام 2021، أصدر البنك المركزي "سندات خضراء" بقيمة 859 مليار دينار. وتهدف هذه الأدوات المالية نظرياً إلى جمع الأموال لمشاريع الحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري وتعزيز الاستدامة البيئية. بالمُحصلة؛ لا توجد معلومات عن كيفية إصدار هذه السندات، ومن حصل عليها، وأين ذهبت الأموال التي تبخرت الآن دون أن تترك أثراً.
الحلول الاقتصادية المرتبطة بتغير المناخ أصبحت منطقة ربح جديدة داخل الاقتصاد السياسي العراقي حيث يستشري الفساد على نطاق واسع.
في العام 2023، أعلنت الحكومة العراقية أيضاً عن إنشاء الشركة العامة لاقتصاد الكربون (GCEC) لتحويل انبعاثات القطاعين النفطي والصناعي إلى سلعة وعرضها للبيع كـ "سندات كربونية" لدعم تمويل الموازنة العامة. تأسست الشركة برأسمال 10 مليارات دينار عراقي تحت إشراف وزارة البيئة، بهدف معلن يتمثل في تحويل 95٪ من أرباح الشركة إلى الخزينة العامة. ومن المفترض أن يتم توليد الأرباح عبر تسجيل "شهادات الكربون" بالتنسيق مع اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC). سلعنة الكربون للحد من الانبعاثات لا تتطلب تحديد سياسات عامة واضحة وخالصة من أجل تدبير الانقاذ المناخي فحسب، بل تتطلب أيضاً التغلب على تحديات الاقتصاد السياسي.
العراق في مؤتمر المناخ COP 29
قبل انعقاد مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين، شنت الحكومة العراقية حملات دعائية وعلاقات عامة واسعة النطاق حول جدية مساهمة العراق في الاجتماع السنوي، معتبرةً اختيار العراق لتمثيل المجموعة العربية في المجالات الفنية للمفاوضات في مؤتمر بون لتغير المناخ، "إنجازاً فنياً وسياسياً ودبلوماسياً كبيراً للعراق".
هيأ العراق أربع وثائق أساسية للمشاركة في (COP 29) [راجع الشكل. 1]، وهي خطة التخفيف الملائمة وطنياً (NAMA) وثيقة الاحتياجات التكنولوجية (TNA)، وثيقة البلاغ الوطني الثاني للتغيرات المناخية في العراق، البرنامج الوطني لصندوق المناخ الأخضر.
الشكل 1 - وثائق العراق المُقدمة إلى (COP 29):
| الوثيقة |
التوصيف |
| خطة التخفيف المُلائِمة وطنياً (NAMA)
Nationally Appropriate Mitigation Plan |
وثيقة غير متداولة مع الفضاء العام حتى الآن، لكنها مُعدة بناءً على تصورات دولية - أممية ضمن ملء تعهدات العراق البيئية البيروقراطية تمهيداً للمشاركة في 29 COP، منسقة مسبقاً من قبل (UNFCCC). |
| وثيقة الاحتياجات التكنولوجية (TNA) |
وثيقة تقييم الاحتياجات التكنولوجية (TNA) وخطة العمل المرتبطة بها للتخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه في القطاعات الأكثر عرضة للخطر في العراق.
TNA تستهدف القطاعات ذات الأولوية والتي تقدم تخفيضات قابلة للقياس الكمي لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
قد يُسهم التمويل المتأتي من قناعة المجتمع الدولي بالوثيقة العراقية، في تحديث قائمة جرد الانبعاثات الوطنية في العراق التي أنجزت آخر مرة في عام 1997.
طلب العراق في نيسان/أبريل 2019، تمويلاً على مدى 18 شهراً بقيمة 374 ألف دولار لاستكمال إنجاز الوثيقة على أن يدار التمويل تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (UNIDO). |
| وثيقة البلاغ الوطني الثاني للتغيرات المناخية في العراق |
وثيقة غير مكتملة وفي طور الإعداد، لكنها تستند بشكل أساسي إلى ما جاء في وثيقة البلاغ الوطني الأول للتغيرات المناخية في العراق التي صدرت في 2016. |
| البرنامج الوطني لصندوق المناخ الأخضر (NDA) |
شكل العراق بتحفيز أممي، السلطة الوطنية لصندوق المناخ الأخضر (NDA) في حزيران/يونيو 2018، للاستفادة من التمويل الدولي لشؤون المناخ والتصدي للتحديات البيئية، وباشرت الحكومة عبر منحة من صندوق المناخ الأخضر، في إعداد برنامج الجاهزية الوطني مدته عامان 2018- 2019، لكنها أخفقت في ذلك أيضاً. |
الملاحظات الاولية حول استراتيجية العراق في مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين:
أولاً: إنها مُعدة بتصورات غير قُطرية، إذ تفتقر إلى تحليل شامل لتعدد القضايا والمشكلات البيئية المحلية، ولا تأخذ في الاعتبار المستويات المتعددة للأزمة وشدتها المحتملة. وبدلاً من ذلك، فقد صُممت وفقاً لمنطق الحلقة المفرغة من التعهدات البيروقراطية: إعداد الوثائق للحصول على المزيد من الأموال لإعداد المزيد من الوثائق.
ثانياً: إن الفريق التفاوضي العراقي ووزارة البيئة أهملوا - ربما عمداً - سلسلة من الوثائق الأكثر أهمية من تلك المذكورة أعلاه، والتي قد تُسهم في رسم تصورات أكثر منطقية عن التدهور البيئي والتعرضات المناخية العاصفة، من بينها وثيقة الاستراتيجية الوطنية لحماية وتحسين البيئة في العراق (2024-2030)، و"خطة التكيّف الوطني لمكافحة تغيّر المناخ" (NAP) ، التي أعدت وفقاً لوثيقة المساهمات المحددة وطنياً بشأن تغير المناخ (NDC)، التي لم تُدرج أيضاً ضمن مسار العراق التفاوضي في (COP 29)، فضلاً عن إهمال "الخطة المحلية للتكيف مع تغير المناخ في إقليم كردستان العراق" التي أطلقت في أيار/مايو 2024، إضافة إلى عدم إشراك خطة العراق للتنمية المُستدامة 2023، التي أطلقت في 2019 في المسار التفاوضي، كرؤية مستقبلية متصوَّرة.
ثالثاً: المسار التفاوضي المُقدم إلى (COP 29)، حافظ على "العقيدة البيئية" الحكومية بعدم تضمين تأثيرات الصناعة النفطية وحرق الغاز على البيئة العراقية، حيث لم يتم إعداد أية وثيقة على صلة بالانبعاثات الكربونية ومستويات التلوث الكثيفة المُسببة للإصابات السرطانية وأمراض الجهاز الرئوي المزمنة وتردي جودة الهواء. كما أن المسار نفسه تجنب الإشارة إلى الحمل البيئي الصناعي المسؤول عن 95% من تلوث الهواء مصدره مؤسسات القطاع العام، على الرغم من انخراط وزارة البيئة في "المبادرة الوطنية لدعم الطاقة وتقليل الانبعاثات" التي شُكلت في آب/أغسطس 2021، وتعد أكبر جهدٍ حكوميٍ منظم بيروقراطياً على صلة بالعمل المناخي، ينخرط فيه 540 فريقاً و 2250 موظفاً حكومياً.
رابعاً: استبعد المسار التفاوضي إلى COP 29، أية تصورات أو حقائق مُعدة وطنياً بشأن العناصر الإقليمية والجيوسياسية المؤثرة على أزمة المناخ القُطرية، والتي من الممكن أن تكون وثائق مُعتمدة لدى مؤتمر الأطراف، وتُشكل عوامل ضغط تفاوضية مطروحة أمام منظومة التفكير الدولية المناخية على صلة بملف المياه وممارسات دولتَي المنبع، ومدى الأثر المُدمر لسياسات إيران وتركيا على حُزمة الاستقرار الأهلي، المتضمنة حق الوصول إلى المياه، الهجرة المناخية بسبب الجفاف، الأثر البيئي على قطاع الأمن، فضلاً عن التأثيرات المريعة على واقع نساء المجتمعات المتضررة، ومستقبل الأطفال والشباب في ظل تدهور بيئي متسارع.
خامساً: لم يُشرك المجتمع المدني والأهلي في مناقشات الأعداد للمسار التفاوضي المُقدم إلى (COP 29)، واعتمدت وزارة البيئة وسلسلة الهياكل الحكومية المعنية وطنياً بالمناخ على التصورات المبنية حكومياً بفعل التحفيز الدولي، إذ يُؤشَّرُ إلى غياب تام لدور المنظمات البيئية والفاعليات النشطة عند صياغة أجندة العراق إلى مؤتمر الأطراف، بالتالي غياب صوت المجتمعات المدينية والريفية المتضررة، فضلاً عن حجب الحقائق الميدانية، وتفضيل التصورات المُعدة مُسبقاً. بالمقابل؛ المنظمات غير الحكومية المعنية بالبيئة والمناخ لم تَنشط باتجاه إعداد أجندة موازية، كأداة ضغط مُستقلة للمشاركة في مؤتمر الأطراف، ما عدا دعوة "المركز العراقي للرصد البيئي" إلى "تشكيل مجلس أعلى لمكافحة التغير المناخي" قبل الذهاب إلى (COP 29)، من أجل "تبني استراتيجية وطنية موحدة بمشاركة الوزارات والحكومات المحلية وحكومة إقليم كردستان". بيّنما تحركت الحكومة لتشكيل "فريق الشباب الوطني لتغير المناخ" في كانون الثاني/ يناير 2024، من خلال اختيار 1000 متطوع وتنظيم محاكاة لمؤتمر الأطراف التاسع والعشرين من قبل وزارة البيئة. ومع ذلك، لا يوجد دليل على عقد اجتماعات المحاكاة هذه.
سادساً: من الجدير بالذكر أن مؤتمر الأطراف التاسع والعشرين، لم يذكر إعلان العراق قبل عام واحد تأسيس البنك الأخضر للتنمية المستدامة.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار هذه الملاحظات حول مشاركة العراق في مؤتمر الأطراف الأخير، فإن العقيدة البيئية للحكومة العراقية القائمة على التظليل لا تزال راسخة.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.