أصدرت حركة مناهضة العنصرية، وهي حركة نسوية قاعدية للدفاع عن حقوق العمّال المهاجرين/ات والتضامن معهم في لبنان، مؤخراً تقريراً يوثق جهود عمّال وعاملات المنازل المهاجرين/ات للتنظيم من أجل الحصول على حقوقهم. يمثّل هذا البحث - الذي يغطي الفترة بين عامي 1980 و2022 - المحاولة الأولى لتوثيق التاريخ الحافل للتنظيم المجتمعي بصورة شاملة الذي اضطلع به عمّال وعاملات المنازل المهاجرين/ات في لبنان - والذين قدّر عددهم بحوالي 250 ألف في عام 2016.
على غرار العمال في دول الخليج، يعمل عمّال وعاملات المنازل المهاجرين/ات في لبنان بموجب نظام الكفالة الاستغلالي. وهو ليس قانوناً مكتوباً، بل مجموعة من الإجراءات التي تستند إلى قانون ينظّم دخول وخروج العمال المهاجرين/ات في لبنان ويديره الأمن العام. بالإضافة إلى أنظمة الهجرة التقييدية، فإن عمّال وعاملات المنازل – اللبنانيون/ات والأجانب على حد سواء – مستبعدين/ات من قانون العمل اللبناني، مما يجعل هذه الفئة من العمال، المعزولة أصلاً بحكم طبيعة عملها، عرضة للاستغلال.
في مواجهة الاستغلال واسع النطاق، سعى عمّال وعاملات المنازل المهاجرين/ات في لبنان إلى تنظيم أنفسهم لسنوات. في البداية، ركّزت الحركة على مبادرات الإغاثة القائمة على الجنسيات، غالباً بقيادة المنظمات الدينية وشخصيات قيادية من الرجال. تطورت الحركة مع تغيّر ديناميات العمل وتحولت نحو مزيد من التنظيم السياسي الذي تقوده النساء والذي يتحدى أسس نظام الكفالة مع محاولات متزايدة للتنظيم عبر الجنسيات المختلفة. هذا التطور غير خطي، ويتأثر بالأزمات والصراعات والمشهد السياسي المتغيّر في لبنان، والأوضاع في البلدان الأصلية، وجائحة كوفيد-19، والانهيار الاقتصادي الذي مُنيت به البلاد. يُحدّد البحث معالم هذه المبادرات المختلفة ويستخلص الدروس التي تسلط الضوء على التحديات والفرص والتوصيات.
أجرينا مقابلة مع سلمى صقر، مديرة المناصرة والتواصل في حركة مناهضة العنصرية لمناقشة النتائج والتوسّع في نضالات عمّال وعاملات المنازل المهاجرين/ات وتحليلها في سياق الحركة الأوسع لحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية في لبنان.
- هل يمكنكِ التعريف بحركة مناهضة العنصرية في لبنان؟
حركة مناهضة العنصرية هي حركة نسوية قاعدية أُطلقت في عام 2010 في بيروت، لبنان. وتشكلت في البداية كمجموعة من النساء اللبنانيات والمهاجرات، وكان الهدف الأساسي للحركة هو توثيق وزيادة الوعي حول السياسات والممارسات العنصرية من خلال المنصات الإلكترونية. ومع مرور الوقت، وسّعت الحركة نطاقها وأنشطتها، وأسست مراكز مجتمعية للمهاجرين في مناطق مختلفة من لبنان، على الرغم من أنها تعمل الآن بشكل أساسي في بيروت.
أحد المكونات الأساسية لنشاط حركة مناهضة العنصرية هو مركز العاملات المهاجرات، الذي يعمل كمساحة مادية للعمّال المهاجرين/ات لا سيما أولئك الذين يعملون كعاملات في المنازل. ويعمل المركز على تسهيل التنظيم السياسي والقاعدي وتعزيز الروابط الاجتماعية بين المهاجرين/ت من مختلف الجنسيات. ويكتسي هذا الأمر أهمية خاصة بالنظر إلى التحديات القانونية التي يفرضها نظام الكفالة الذي يحظر تشكيل الجمعيات والنقابات التي يرأسها العمال المهاجرون/ات. ويوفر المركز أيضاً فرصاً لبناء القدرات من أجل تزويد العمال المهاجرين/ات الذين يريدون أن يكونوا في طليعة النضال ضد نظام الكفالة بالأدوات التي يحتاجون إليها.
وثمة عنصر آخر هو فريق العمل المعني بمتابعة الحالات القانونية، الذي يقدم الدعم في المسائل القانونية والإدارية المتعلقة بالعمّال المهاجرين/ات.
ويركز فريق المناصرة في حركة مناهضة العنصرية، الذي تأسس في عام 2019، على البحوث وإنتاج المعرفة والحملات المتعلقة بحقوق العمّال المهاجرين/ات، مع التركيز بشكل خاص على مواجهة نظام الكفالة. ويعكس هذا التركيز على البحوث والمناصرة التزام حركة مناهضة العنصرية بمعالجة القضايا الهيكلية وأرشفة تاريخ الحركة.
- يوثّق البحث المنشور حديثاً تاريخ التنظيم المجتمعي لعمّال وعاملات المنازل المهاجرين/ات في لبنان من عام 1980 إلى عام 2022. لماذا في رأيك أنه من المهم، خاصة الآن، توثيق هذا التاريخ؟
لطالما أردنا القيام بهذا البحث منذ فترة طويلة. ونظراً إلى أن حركة مناهضة العنصرية بدأت كمنظمة قاعدية، لم يكن لدينا دائماً الوسائل اللازمة لأرشفة أنشطتنا على نطاق واسع. لكننا لطالما أدركنا أهمية الحفاظ على هذا التاريخ. فقد وقعت بعض الأحداث والتحركات المهمة، ولكن لم يتم تسجيلها بشكل كافٍ، لذا فإن جزءاً من هدفنا الآن هو إنقاذ هذه المعرفة الهامة وتوثيقها.
وفي عام 2023، أتيحت لنا أخيراً الفرصة لتخصيص الموارد للحديث مع الأشخاص الذين كانوا جزءاً من جهود تنظيم عمّال وعاملات المنازل المهاجرين/ات على مدار الأربعين عاماً الماضية. وتُعدّ هذه المبادرة البحثية بالغة الأهمية وذلك لأن هذا التاريخ، للأسف، لم يسبق أن حاولت أي جهة أخرى توثيقه.
علاوة على ذلك، يسلّط البحث الضوء على جانب غالباً ما يُغفل عنه: فكثيراً ما ينظر إلى عاملات المنازل المهاجرات من منظور إنساني فقط، متجاهلين أدوارهن في تنظيم العمل والحركة النسوية. بيد أن تجاربهن ومساهماتهن هي جزء لا يتجزأ من الحركات العمالية والنسوية المناهضة للعنصرية، ومن الضروري توثيق هذا التاريخ والاعتراف به وفقاً لذلك.
لذا، نرى أن بحثنا يسد ثغرة في تاريخ تنظيم العمل في لبنان من خلال التركيز على تجارب عاملات المنازل المهاجرات اللاتي حاولن التنظيم في ظل نظام الكفالة. وقررنا التركيز على التنظيم المجتمعي بشكل خاص بسبب القيود الخاصة تحت هذا النظام، وكذلك أيضاً لأن حركة مناهضة العنصرية تركّز بشدة على أهمية التنظيم المجتمعي. ونتفاعل بنشاط مع المجموعات والأفراد الذين يطمحون إلى تنظيم مبادرات مختلفة أو إنشاء مجموعاتهم الخاصة. إذ إنه أحد أبرز مجالات التركيز التي تتماشى مع مهمتنا وكان دائماً جزءاً لا يتجزأ من عملنا.
- هل يمكنكِ تحديد الأحداث الرئيسية في هذا التاريخ: كيف ظهر التنظيم المجتمعي بين عاملات المنازل، وما هي المبادرات الهامة، وما هي الأشكال التي اتخذها هذا التنظيم؟
تضمّن بحثنا إنشاء جدول زمني للأحداث المهمة التي أثّرت على مجتمعات المهاجرين في لبنان. فقد بدأ كل ذلك مع الحرب الأهلية اللبنانية والأزمات الاقتصادية اللاحقة في دول جنوب شرق آسيا، مما أدى إلى تدفّق العمال المهاجرين/ات السريلانكيين والفلبينيين بشكل أساسي إلى دول الشرق الأوسط، بالتزامن مع التطورات في الحركة العمالية في لبنان. على سبيل المثال، كان في لبنان دائماً عمالة أجنبية. ولفترة طويلة، كانوا عمالاً عرباً، معظمهم من السوريين والمصريين والفلسطينيين. وفي أعقاب الحرب الأهلية، فُرضت الكثير من القيود على حركة السوريين والفلسطينيين. ونتيجة لذلك، بدأت العائلات اللبنانية التي كانت قادرة على تحمّل تكاليف توظيف عمّال أجانب باستخدام وكالات التوظيف ليتمكنوا من العثور على شخص لا يتحدث اللغة العربية. هذه كانت الحالة السياسية آنذاك، مما أدّى إلى ازدياد تدفق الهجرة.
في البداية، كان التنظيم المجتمعي للمهاجرين/ات يتم بمساعدة مجموعات دينية تُنظمت نفسها حسب الجنسيات مثل السريلانكية والفلبينية والبنغلاديشية، وغيرها. وركّزت هذه المجموعات في البداية على تقديم المساعدات والأنشطة الاجتماعية، ولم تكن تنوي أن تصبح حركات سياسية أو عمالية. بيد أنه مع مرور الوقت، حدث تحول ملحوظ نحو التسييس وتلبية الاحتياجات والمطالب المحددة لعاملات المنازل المهاجرات.
غالباً ما كان يقود جهود التنظيم في البداية شخصيات من الرجال، مثل القساوسة أو قادة المجتمع. ومع ذلك، تغيرت هذه الديناميات تدريجياً، وأصبحت العديد من المجموعات في لبنان تقودها بنسبة كبيرة نساء، مع التركيز بشكل خاص على دعم النساء المهاجرات.
يعود هذا الجهد التنظيمي إلى التهميش الذي واجهه العمال المهاجرون، سواء سياسياً أو ضمن جهود الإغاثة. على سبيل المثال، في ظل الحرب الأخيرة على غزة، بدأنا مراجعة وضع العمال المهاجرين/ات في الحرب اللبنانية الإسرائيلية في عام 2006. وكما هو متوقع، فقد عانى العمال المهاجرون من التهميش والاقصاء من الدعم والإغاثة، مما يؤكد على الحاجة إلى التنظيم والاكتفاء الذاتيين.
- ما هي بعض العقبات الرئيسية التي يواجهها المهاجرون/ات في محاولتهم للتنظيم؟
ثمة العديد من العقبات الكبيرة التي أعاقت الجهود التي يبذلها المهاجرون/ات لتنظيم صفوفهم. أولاً، تُشكل طبيعة العمل المنزلي بحد ذاتها تحدياً، نظراً إلى أن عاملات المنازل يفتقرن إلى مكان عمل مشترك حيث يمكنهن التجمع والتنظيم بشكل جماعي. على عكس مجالات العمل الأخرى التي يشترك فيها العمال في ظروف وأماكن العمل، فإن عاملات المنازل غالباً ما يعملن في منازل مغلقة، مما يجعل عملية التنظيم أكثر تعقيداً.
كما أثّرت القيود القانونية بشكل كبير. إذ لا يتمتع العمال المهاجرون/ات بالحق القانوني في التنظيم في لبنان، الأمر الذي لم يجعل جهود التنظيم غير قانونية فحسب، بل فرض أيضاً قيوداً على فرص التمويل، نظراً إلى أن العديد من المانحين يشترطون التسجيل الرسمي لتقديم دعم تمويلي.
علاوة على ذلك، عانى تنظيم المهاجرين/ات من التهميش في إطار الحركات العمالية والنسوية اللبنانية الأوسع نطاقاً. أدّى هذا الاستبعاد إلى الحد من الدعم والاعتراف بالجهود التنظيمية المهاجرين/ات من قبل المجموعات التي يفترض أن تكون حلفاء طبيعيين.
فضلاً عن أن عزل تنظيم المهاجرين/ات في المنطقة عن الحركات العمالية الأوسع نطاقاً له تأثير مباشر على موقع نضالهم. على سبيل المثال، كانت ظروف عاملات المنازل المهاجرات غالباً ما تُصاغ على أنها قضايا إنسانية، مما يقلل من أبعادها السياسية ويزيد من عزل جهود التنظيم للمهاجرين/ات عن القضايا العمالية الأوسع نطاقاً. وقد ساهمت هذه التحديات مجتمعة في تعزيز الطابع غير السياسي لتنظيم المهاجرين/ات وحصره بوصفه قضية إنسانية.
- على الرغم من مواجهتهم لأنظمة قانونية غير عادلة، وظروف عمل تقييدية، وتحديات اجتماعية واقتصادية، أظهر العمال المهاجرون/ات في لبنان تضامناً ملحوظاً، ومعونة متبادلة، وتنظيم مجتمعي. في رأيكِ، ما هي العوامل الرئيسية التي سهّلت هذا التنظيم؟
ثمة العديد من العوامل الرئيسية التي سهّلت التنظيم المجتمعي بين العمال المهاجرين/ات في لبنان على الرغم من التحديات العديدة التي يواجهونها. أحد العوامل الجوهرية المساعدة كان تأسيس مركز العاملات المهاجرات الأول عام 2011. وقد وفر ذلك مجالاً للتنظيم غير القائم على الجنسية، مما عزّز الشعور بالتضامن بين مختلف الفئات. وقد لعب المركز دورًا محوريًا في تمكين العمال المهاجرين/ات من التجمع ومعالجة مشاكلهم بشكل جماعي. وقد سلط البحث الضوء على الدور المهم الذي يؤديه وجود أماكن اجتماعات نسوية وآمنة. وقد أوجدت هذه التجربة المشتركة رابطة قوية دفعت بالعمل الجماعي وجهود التنظيم قدماً.
بالإضافة إلى ذلك، كان لمحاولة تشكيل نقابة في عام 2015 تأثير كبير. فعلى الرغم من مواجهة المحاولة العديد من التحديات، فقد ساعدت التجربة على تسييس القضية وشجّعت العديد من المجموعات على تنظيم صفوفها والدفاع عن حقوقها، مما أثار موجة من النشاط النضالي وأدّى إلى تشكيل عدة مجموعات جديدة تركز على حقوق العمال المهاجرين/ات.
فضلاً عن أن المنظمات النسوية أدت دوراً حاسماً أيضاً في ترسيخ فكرة أن قضية المهاجرين/ات ليست مجرد قضية إنسانية، بل هي سياسية في الأساس. وقد ساعد التعاون مع هذه المساحات النسوية في تغيير السردية والتركيز على معالجة الأسباب الجذرية لاستغلال العمال المهاجرين/ات.
وعلاوة على ذلك، أثرت التغيرات في تدفقات الهجرة والعوامل الديمغرافية للعمالة المهاجرة في لبنان على المشهد التنظيمي. فقد أدت التغيرات في جنسيات المهاجرين/ات على مر السنين، مع تدفق المهاجرين/ات من وسط وغرب أفريقيا، إلى تغيير الديناميات وتعقيدها مضيفةً إلى البعد الطبقي للنضال أبعاداً عرقية.
- يسلط التقرير الضوء على التحديات المتكررة؛ مثل الفراغ القيادي ومشكلات الحوكمة في هياكل صنع القرار لحركات المهاجرين/ات. من وجهة نظركِ، كيف تُعالج هذه التحديات حالياً أو كيف تتمظهر داخل الحركة؟ وهل هناك أي تحديات كبيرة أخرى تواجهها الحركة اليوم؟
كشف البحث عن نمط سائد؛ ألا وهو اعتماد العديد من المجموعات على قائد واحد، وعادة ما تظهر المشكلة فور أن يتقدم هذا "القائد" في السن، أو يغادر البلاد، أو يُرحّل؛ مما يؤدي إلى فراغ قيادي أو حل المجموعة. وقد سلط هذا الضوء على الحاجة إلى إعادة التقييم وفحص ومراجعة فعالية نماذج القيادة الفردية داخل حركات المهاجرين/ات.
أما المجموعات الأحدث فإنها تتعلم من هذه التحديات، وتحوّل تركيزها نحو إنشاء هيكليات منظمة لصنع القرار تتضمن مشاركة جماعية، بدلاً من أن تتمحور حول قائد واحد، مع التركيز بشكل خاص على مشاركة الفئات المختلفة والنساء. ويعكس هذا التحول تغيراً بين الأجيال؛ حيث تختلف استجابة المهاجرين/ات الأصغر سناً – الذين يتعرضون لأحداث وتجارب متنوعة – تجاه قضايا المجتمع، ويكونون أكثر ميلاً نحو تعزيز المبادرات والمجموعات التي يقودها العمّال المهاجرون/ات بشكلٍ جماعي.
وإذا تجاوزنا القيادة والحوكمة؛ فلا تزال حركات العمّال المهاجرين/ات تواجه تحديات إضافية. أحد التحديات الهامة هو ما نشير إليه باسم "فرض طابع المنظمات غير الحكومية" على جهود التنظيم المجتمعي، وهي مشكلة سُلّط الضوء عليها خلال المناقشات مع المجموعات المختلفة. غالباً ما يكون تدخّل المنظمات غير الحكومية مصحوباً بنوايا حسنة وموارد مالية؛ بيد أنها أثناء عملها مع المجموعات القاعدية، تنزع نحو فرض هيكل المنظمات غير الحكومية ونموذج عملها على هذه المجموعات، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى مشاكل عدة. تتجلى هذه المشكلة بشكل خاص في المجموعات الأحدث، وهو ما يعكس تزايد الاهتمام والدعم للمبادرات التي يقودها المهاجرون/ات حديثاً. ولكن قد تجد هذه المجموعات نفسها تتبنى أنظمة لم تختارها عن قرارٍ واعٍ، أو قد لا تناسب احتياجاتها الخاصة، وهذا يضعنا مباشرة أمام التحديات التي تفرضها ظاهرة "فرض طابع المنظمات غير الحكومية". بالإضافة إلى ذلك، لا يزال التنظيم العابر للجنسيات أمراً صعباً بسبب الحواجز اللغوية والثقافية.
علاوة على ذلك، يؤدي نظام كفالة إلى تفاقم الانقسامات بين العاملين/ات، لأنه يخلق طبقات بينهم، مما يؤدي إلى إدامة الصور النمطية والتسلسلات الهرمية التي تعيق جهود التنظيم الجماعي. يستخدم نظام كفالة استراتيجية "فرِّق تسُد"؛ فعلى سبيل المثال، كرّس هذا النظام لسنوات الصورة النمطية التي ترى أن العمال الفلبينيين أفضل من العمال الإثيوبيين، وبالتالي يستحقون ظروف عمل أفضل، وهذا يعمّق الانقسام والتشرذم داخل مجتمع المهاجرين/ات.
كذلك تمثّل مسألة القنصليات الفخرية (والتي غالباً ما تتكون من مواطن لبناني يعمل ممثلاً لدول العمال المهاجرين/ات مستغلاً العلاقات التي قد تربط هذا اللبناني بذاك البلد) تحدياً واضحاً. ففي أعقاب أزمة 2019 - التي شهدت تحركات كبيرة حول مطلب العودة إلى الوطن - سعى العديد من العمال المهاجرين/ات إلى العودة إلى بلدانهم الأصلية، لا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت في عام 2020. خلال هذه الفترة، وُجّهت الجهود التنظيمية في المقام الأول نحو معالجة الإجراءات والتعامل مع غياب الدعممن القنصليات الفخرية.
ونحن حالياً نجري بحثاً يركّز على القنصليات الفخرية نظراً لطبيعتها المؤسسية المثيرة للاهتمام. هذه القنصليات - التي يرأسها عادة رجال لبنانيون - مكلفة بتمثيل مصالح النساء المهاجرات؛ بيد أنهم يفتقرون إلى آليات المساءلة وغالباً ما يُنظر إليهم على أنهم يستغلون مناصبهم لتحقيق مكاسب مالية. وهذا الافتقار إلى المساءلة واحتمال إساءة استخدام السلطة يؤدي إلى تعقيد الجهود التنظيمية ضدهم.
علاوة على ذلك، غالباً ما يشغل القناصل الفخريون مناصب سياسية في لبنان، مما يسهّل لهم بناء علاقات وصلات تمكّنهم مناعتقال وترحيل المهاجرين/ات الذين ينتقدونسلوكهم، أو الذين يعتبرونهم مثيرين للمشاكل. وفي حين لا تظهر جميع القنصليات الفخرية سلوكاً مثيراً للشبهات، إلا أن عدداً كبيراً منها يعمل للأسف ضد مصالح الأقليات التي من المفترض أن تمثلها أو تحميها. وهذه الديناميكية تزيد من حِدّة التحديات التي تواجهها حركات المهاجرين/ات في لبنان.
- كيف أثرت الأزمة الاقتصادية في لبنان على الحركة؟
كان للأزمة الاقتصادية في لبنان تأثيراً عميقاً على الحركة؛ فبعد الأزمة، تحوّلت جهود التنظيم نحو الإغاثة والمساعدات الإنسانية والعودة إلى الوطن، مما أدى إلى تهميش البُعد السياسي مرة أخرى. كما أدت عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية إلى إعاقة التنظيم السياسي، وهذا بدوره قاد إلى عودة التنظيم على أساس الجنسية خصوصًا خلال احتجاجات العمال المهاجرين/ات في عامي 2020 و2021 والتي ركزت بشكل كبير على مطالب العودة إلى الوطن.
قبل الأزمة، كان هناك اتجاه للتنظيم العابر للجنسيات، إلا أن الانكماش الاقتصادي أعاد توجيه الاهتمام نحو الاحتياجات التي تتحد وفقاً للجنسية، متأثراً بعوامل مختلفة مثل الوضع في بلد المنشأ، والجائحة، والتفاوتات في التمثيل الدبلوماسي. وقد أدى هذا التحول إلى تعطيل جهود التنظيم التي كانت مستمرة قبل عام 2019.
ولكن على الرغم من هذه التحديات، ثابرت العديد من المجموعات واستمرت في تنظيم نفسها، كما أُنشأت مجموعات جديدة أيضاً. وقد سلط تفاقم الوضع الضوءَ على ضرورة التنظيم للاستجابة للأزمات، حيث لا يمكن الاعتماد على مساعدات من جهات أخرى. وكان هذا الشعور واضحاً بشكل خاص بعد انفجار مرفأ بيروت، حيث استُبعد العمال المهاجرون من جهود إعادة الإعمار، ولا يوجد حتى احصاء لعدد العمال المهاجرين/ات الذين قُتلوا أو تأثروا بالانفجار.
وقد استمرت الممارسات الإقصائية خلال الجائحة، حيث استُبعد من برامج التطعيم العمالُ المهاجرون/ات غير المسجلين، مما أدى إلى زيادة تهميش جزء كبير من المهاجرين/ات. كان هذا الإقصاء بمنزلة حافز لتنظيم الجهود، حيث أدركت المجتمعات ضرورة التنظيم من أجل الحصول على حقوقها واحتياجاتها في مواجهة الإهمال والتمييز الممنهج.
- ما هي الأولويات والمطالب الرئيسية للحركات اليوم؟
اليوم لدينا الكثير من المجموعات التي تركّز على مستهدفات دقيقة أو متخصصة. على سبيل المثال، هناك مجموعات تركّز على تنظيم الأمهات المهاجرات، وأخرى تنظم نفسها بحسب العرق، مثل النساء السوداوات وليس النساء المهاجرات بشكل عام. هناك قضية أخرى مثيرة للاهتمام وهي تنظيم عاملات المنازل المهاجرات "المستقلات" [النساء المهاجرات اللاتي قد تكون أوراقهن مرتبطة بصاحب عمل معين أو انتهت صلاحية إقامتهن القانونية، ولكنهن يعملن لدى العديد من أصحاب العمل وغالباً ما يعشن بشكل مستقل]. بالإضافة إلى ذلك، هناك مجموعات مخصصة للمعونة المتبادلة، والمساعدة الإنسانية، والمناصرة، مما يعكس الطبيعة متعددة الأوجه لأنشطة الحركة.
ومن التطورات الملحوظة زيادة الجهود التي تركّز على البلدان الأم؛ حيث تهدف مبادرات عدّة إلى رفع مستوى وعي من قبل المهاجرين/ات العائدين إلى بلدانهم الأصلية بالظروف في لبنان وتشجيع التنظيم قبل المغادرة ودعم من ينوون القدوم. هذا المستوى من التواصل غير مسبوق وقد أثبت فعاليته العالية؛ فهناك منظمات مثل DoWan، التي تساعد العمال من سيراليون قبل وبعد هجرتهم إلى البلدان التي تطبق نظام الكفالة، تعكس الفعالية والطبيعة الواعدة لمثل هذه المبادرات.
بشكل عام؛ يظل الإدماج أولوية قصوى للحركة، بما في ذلك الإدماج داخل الحركة العمالية والأطر القانونية، وكذلك داخل الحركة النسوية الأوسع. وتعد معالجة الممارسات الإقصائية مطلباً مركزياً، لا سيما فيما يتعلق بحقوق العمل، مثل عدم وجود حد أدنى لأجور عاملات المنازل المهاجرات. قبل الأزمة، كانت الرواتب محدّدة حسب توقعات غير رسمية سائدة في العلاقة التعاقدية بين عاملات المنازل المهاجرات وصاحب العمل اللبناني. في حين شهدت فترة ما بعد الأزمة غياب التنظيم الشامل للرواتب، مما خلق قضية عمالية مستجدة أثرت على مختلف القطاعات، بما في ذلك العمال المهاجرون/ات.
- كيف تصفين العلاقة بين حركة عاملات المنازل المهاجرات وحركة حقوق الإنسان الأوسع (بما في ذلك حقوق المرأة والحركات النسوية) وكذلك الحركة العمالية في لبنان والمنطقة؟ هل هناك حالات تعاون أو مطالب مشتركة أو تحركات مشتركة؟
إن القضايا التي تواجه عاملات المنازل المهاجرات لا ينبغي تصنيفها فقط على أنها من قضايا حقوق الإنسان، بل على أنها مشاكل جذرية تتطلب العمل والتدخل السياسي. بيد أن هذا المنظور ظل غائباً إلى حد ما عن الحركة النسوية حتى السنوات الأخيرة.
وقد شهدت العلاقة بين حركة عاملات المنازل المهاجرات وحركة حقوق الإنسان الأوسع - خاصة الحركة النسوية - بعض التحسن في السنوات الأخيرة، لكنها لا تزال إقصائية إلى حد كبير. إذ ظهر هذا الإقصاء مرة أخرى خلال محاولات التنظيم الأخيرة التي قادتها مجموعات نسوية وكويرية لبنانية متعددة أثناء مظاهرة نسوية في تموز/يوليو 2022 رداً على قرار وزير الداخلية بحظر جميع فعاليات أسبوع الفخر ووسط تزايد الجرائم ضد المرأة في المنطقة. وعلى الرغم من محاولات ادماج النساء المهاجرات، إلا أن غياب الترجمة أو تعدّد اللغات خلال الاجتماعات نتج عن اقصاء العاملات المهاجرات اللاتي لا يتحدثن العربية.
أما في سياق الحركة العمالية في لبنان، فلا تزال التحديات قائمة، حيث إن تنظيم العمل مجزأ وضعيف أساسًا، وغالباً ما يعتمد على الجنسية وإعطاء الأولوية للعمال اللبنانيين. وقد تفاقم هذا الوضع بسبب الأزمة الاقتصادية، مما أدى إلى اشتداد المنافسة على الوظائف وزيادة التوترات. غالباً ما يستهدف هذا التوتر اللاجئين/العمال السوريين، ولكنه يؤثر أيضاً على جميع فئات العمال المهاجرين/ات.
علاوة على ذلك؛ أثّر توقف تنظيم مسيرة يوم المرأة بعد الجائحة على التنسيق والتعاون بين مجموعات المهاجرين/ات والحركة النسوية. ومع ذلك، هناك علامات تضامن بدأت تلوح في الأفق، لا سيما في أعقاب حرب غزة، المستمدة من التحديات المشتركة بين النساء الفلسطينيات، والنساء السودانيات، والنساء المهاجرات في لبنان.
لا تزال الجهود المبذولة لبناء التضامن والتعاون بين هذه الحركات في مراحلها الأولى، حيث يركز التعاون في المقام الأول على مشاريع محددة بدلاً من الشراكات الشاملة والمستدامة. هناك إمكانية في المستقبل لمزيد من التضامن بين بلدان الجنوب والتحول نحو نضالات جماعية بدلاً من الانقسام على أسس وطنية قائمة على مشكلات محددة. ومع ذلك، فإن هذه الجهود تحتاج إلى مزيد من الوضوح ولا تزال في مراحلها الأولى.
- فيما يتعلق بالجهود المستقبلية، يشير البحث إلى أن هذه هي المحاولة الأولى لتوثيق هذا التاريخ؛ هل هناك أي مبادرات قادمة في طور التنفيذ؟ وما هي أولوياتكم في المرحلة القادمة من العمل؟
فيما يتعلق بالمبادرات المستقبلية، هناك العديد من الجهود المقبلة التي نخطط للقيام بها بناءً على نتائج البحث والتطورات المستمرة في مشهد العمال المهاجرين/ات في لبنان.
نعمل أولاً على التعمق في فهم الاقتصاد اللبناني بشكله الكلّي، وكيفية تشكيله وتصنيفه لأنواع مختلفة من العمال. هذا البحث أساسي لفهم تفكّك القوى العاملة وتأثيره على التنظيم والتضامن داخل الحركة. وعلى وجه التحديد، نحن نسعى إلى التعمّق في فهم الاقتصاد السياسي للعمالة المهاجرة في لبنان. ويستلزم ذلك تحليل الشبكة المعقدة من السياسات الاقتصادية وأنظمة العمل والديناميات الاجتماعية التي تؤثر على تجارب وحقوق العمال المهاجرين/ات في البلاد.
علاوة على ذلك، فإننا ندرك الترابط بين مختلف القضايا التي تؤثر على العمال المهاجرين/ات، مثل نظام الكفالة وحقوق العمال السوريين. وبالتالي، تتضمن المرحلة التالية من عملنا ربط هذه القضايا المترابطة – رغم تباينها – لتشكيل إطار عمل لمناصرة أكثر شمولاً.
بالإضافة إلى ذلك، سلطت الأحداث الأخيرة - مثل حرب غزة - الضوء على أهمية التضامن بين النساء من خلفيات متنوعة، ويواجهن صراعات مماثلة متجذرة في الأنظمة الاستعمارية والاستغلالية. وبناءً على هذا الإدراك، فإننا نعمل على تعزيز حركة تؤكد على التضامن والعمل الجماعي ضد الخصوم المشتركين.
وبشكل عام، تدور أولوياتنا للمرحلة التالية من العمل حول تعميق فهمنا للاقتصاد السياسي الذي يشكل العمالة المهاجرة، وإقامة روابط استراتيجية بين مختلف القضايا التي تؤثر على العمال المهاجرين/ات، وبناء حركة ترتكز على التضامن والمقاومة الجماعية ضد الاستغلال الممنهج.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.