سمعت صرير السلاسل قبل أن رأيتهم يدخلون: أربعة صبية في عمر المراهقة مكبلين معاً من المعصمين والكاحلين حيث وضعوا في قفص الإدعاء في قاعة المحكمة الصغيرة. وبدا ان أحدهم بشكل خاص، ويدعى أحمد*، صغيراً في العمر، لدرجة انه كان يقف على رأس أصابعه محاولاّ النظر خارج القفص، بانتظار سماع الحكم الصادر في حقه من المحكمة العسكرية، حيث كانت تهمته -والتي أنكرها- هي إلقاء الحجارة.
وقد كانت المحاكمات القصيرة بحق الصبية الاربعة -والتي لم تتجاوز الخمس دقائق لكل منهم - تعقد بالكامل باللغة العبرية، وأحياناً يقوم جندي بالترجمة إلى لغة عربية ركيكة، من الصعب على الصبية أن يفهمونها. وقد بدا الصبية خائفين ومرتبكين وهم ينتظرون النطق بمصيرهم، وحاولوا مراراً وتكراراً التحدث مع محاميهم، من دون جدوى.
زرت محكمة عوفر العسكرية في الضفة الغربية في شباط، حيث حضرت محاكمات يديرها قضاة عسكريين إسرائيليين ضد مدنيين فلسطينيين. ومن الجدير ذكره ان نظام المحاكم هذا لا ينطبق على الأطفال الإسرائيليين الذين يخضعون للقانون المدني - كما هو الحال بالنسبة لمعظم الأطفال في جميع أنحاء العالم.
عندما حان دور أحمد*، أقر القاضي بإعادة المحاكمة بعد الإحضار بالمزيد من الأدلة. نظر أحمد بيأس إلى والده منذر*، الجالس بجواري، والذي أحكم نظره بابنه المقيد بالسلاسل قبل إعادته إلى السجن. وقد تسّلم منذر ورقة معلومات مكتوبة باللغة العبرية، وبالطبع لم يستطع قراءتها. وأثناء مغادرته قال لي: "أشعر وكأنني أتخلى عن ابني، لا أعرف كيف أساعده".
في كل عام، يتم احتجاز ومحاكمة من 500 ألى 700 طفل فلسطيني في نظام المحاكم العسكرية الإسرائيلية، حيث التهمة الأكثر شيوعًا هي رمي الحجارة، والتي يبلغ الحد الأقصى للعقوبة عليها 20 عامًا. حالياً، لا يزال أكثر من 190 طفلاً فلسطينياً يقبعون في السجون الإسرائيلية؛ معظمهم مثل أحمد، رهن الاحتجاز السابق للمحاكمة، بحيث لم تتم إدانتهم بأي جريمة بعد. هذا، على الرغم من دعوات الأمم المتحدة المتكررة لإطلاق سراحهم قبل أي انتشار لفيروس كورونا.
لقد أخبرنا أأطفال كانوا في الاعتقال أن الظروف التي يحتجزون فيها في السجون الإسرائيلية مزرية، حيث ان الزنازين مكتظة، والعدد المتاح من المستلزمات الصحية والخاصة بالنظافة قليل جداً، كما انهم لا يحصلون ألا على مساعدة طبية محدودة.
تم إطلاق سراح لؤي*، 18 عاماً، في نهاية شهر نيسان 2020 حيث قضى في السجن ثلاثة أشهر. وقد كان في السابعة عشرة من عمره عندما اعتقل ووضع في زنزانة مع خمسة أطفال آخرين. ويقول لؤي إن أحداّ لم يخبر الاطفال عن جائحة كورونا: "لم يتم إخبارنا بأي شيء عن كيفية الحفاظ على سلامتنا من فيروس كورونا، مثل مدى أهمية غسل اليدين او أمور أخرى ذات صلة، ولكن قواعد السجن هي التي تغيرت، فقد بات مسموحاً للأطفال بالخروج الى الساحة لمدة ساعة فقط في اليوم الواحد".
كما أضاف: "طوال (فترة اعتقالي) لم يقم حراس السجن بتعقيم المرافق الا مرتين فقط؛ فقد قاموا بتعقيم دور المياه للاستحمام والسلالم والممر، لكن لم يقوموا بتعقيم زنازيننا ولا مرة واحدة. لقد أعطونا زجاجة فيها مادة مطهرة، لكنها نفذت بعد حوالي 15 يوما فقط".
اما هبة* فتم اعتقالها عندما كانت في الرابعة عشرة من عمرها، حيث سجنت لفترة ثمانية أشهر. والآن بعد ثلاثة سنوات، تستعد هبة لامتحانات التوجيهي ولكنها ما زالت تتذكر بوضوح الوقت الذي قضته في السجن:
"كنا خمس فتيات في غرفة واحدة؛ وتبلغ أكبرنا 17 عامًا وكنت انا أصغرهن سناً. وقد كانت زنازين السجن بالكاد تتسع لشخصين، لذا لم نستطع التحرك داخلها. وكان هناك مرحاض بلا باب. في الصيف، الصراصير تتراكض في كل مكان. والغرفة مظلمة للغاية في غياب نافذة للتهوية. ولم يكن يتم تزويدنا انا وزميلاتي المحتجزات بأي مواد صحية فنضطر إلى شرائها بأنفسنا. اما الماء فبالكاد يصلح للشرب، ولونه ابيض ورائحة الكلور تفوح بقوة منه".
"اما الطعام فلم يكن صالحًا ابداً؛ على سبيل المثال، عندما يقدمون لنا الدجاج مرة واحدة في الأسبوع، كان بعض الريش لا يزال موجوداً على الدجاجة المطهية جزئيا، والدم لم يزل بداخلها. لكن الأصعب من كل هذا، هو محدودية الزيارات العائلية المسموح بها، فقد سُمح لوالديّ بزيارتي ثلاث مرات فقط خلال فترة اعتقالي التي دامت ثمانية أشهر."
ومنذ تفشي وباء كورونا، تم تعليق الزيارات من قبل السلطات الإسرائيلية، ولم تتمكن العائلات من زيارة 194 طفلاً ما زالوا يقبعون رهن الاحتجاز. ووفقًا للإجراءات الحالية، يمكن للأطفال إجراء مكالمة هاتفية مع أسرهم لمدة 10 دقائق فقط مرة كل أسبوعين، ولكن عملياً، يفلح معظمهم بالتحدث مع أسرهم مرة واحدة في الشهر. ولهذا العزل المطوّل تداعيات على نفسيتهم.
يؤكد علاء*، 17 عاما، ما قاله لؤي وهبة عن الأوضاع المزرية في السجن عندما تحدث عن الستة أشهر التي قضاها هو نفسه في السجن: "كنا نحاول تنظيف المكان وتعقيمه كل يوم، ولكن بعد ذلك يدخل الحراس الى غرفنا بأحذيتهم وكلابهم القذرة حوالي خمس مرات في اليوم. ولم يكن يسمح لي بإجراء مكالمات هاتفية مع أهلي، وقد كان ذلك محبطًا جداً، لأنني لطالما شعرت بحاجة ماسة للاتصال بأمي وأبي وإخوتي ".
ويعاني الأطفال الفلسطينيون المحتجزون داخل السجون الإسرائيلية من الظروف الصحية السيئة ، والتي حذر منها خبراء الصحة بالنسبة لمكافحة فيروس كورونا. فبالإضافة إلى تعريضهم لخطر الإصابة بالفيروس، يترتب ايضاً على ذلك عدم القدرة على احتوائه. وهنا، لا يسعني إلا التفكير في جميع الأطفال الذين قابلتهم وهم عالقون في هذه العزلة - بعيدين عن عائلاتهم، غير مدركين لما يخبئه لهم المستقبل أو حتى متى سيأتي الوقت للاستماع إلى قضاياهم.
لا يمكننا أن نتخلى عن أحمد وأمثاله. لا تزال هناك فرصة سانحة لإعادة هؤلاء الأطفال إلى منازلهم - لحماية حقوقهم في الصحة، والسيطرة على تفشي المرض وتجنب المزيد من المعاناة.
ولهذا، تدعو منظمة إنقاذ الطفل إلى الإفراج الفوري عن جميع الأطفال الفلسطينيين لكي يتمكنوا من العودة سالمين إلى أسرهم ومجتمعاتهم. ويجب على السلطات الإسرائيلية ان تتوقف عن احتجاز أطفال آخرين في سجونها وعليها ايضاً ان تحافظ على حقوق هؤلاء الأطفال الذين ما زالوا رهن الاعتقال وحمايتهم من العنف والإيذاء والاستغلال.
بقلم كلير نيكول، مستشارة في موضوع إدارة الازمات والإغاثة الإنسانية في إنقاذ الطفل
* تم تغيير جميع الأسماء حفاظاً على الخصوصية
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.