كان لبنان يمر بأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، بلغت حد تهديد سلامة البلاد، حين ضربت جائحة "كوفيد-19" العالم. على الرغم من سجل لبنان الطويل في سوء الإدارة العامة، يبدو أن الدولة استجابت حتى الآن بفاعلية للجائحة؛ إذ تحرّكت الحكومة ومعها الشعب بسرعة، ونجحا في إبطاء وتيرة انتشار فيروس كورونا المستجد. حتى 6 آيار/مايو 2020، سجّلت البلاد 750 حالة إصابة مؤكدة، و25 حالة وفاة. يبلي لبنان حسنًا نسبيًا مقارنةً بجيرانه، بالنظر إلى الوقت الذي تستغرقه حالات الوفاة بالفيروس لتتضاعف، وهو ما يحدث حاليًا كل 10 أيام، مع سقفٍ منخفض نوعًا ما (شكل 1).

شكل 1: معدل تقدم مجموع حالات الإصابة بفيروس الكوفيد-19 المؤكدة، ماي/ايار 2020. مصدر: European CDC و Our World in Data
تنتظر لبنان تحدّياتٌ عديدة. فهناك أسئلة عالقة حول قدرة الدولة على مواجهة تفشّي الوباء في مجتمعات اللاجئين في المستقبل. أيضًا أخفقت الدولة في اتخاذ تدابير للتخفيف من الآثار الاقتصادية للأزمة، ممّا يعني أن إجراءات الحظر تصبح يومًا بعد يوم غير قابلة للاستمرار؛ إذ يشعر الكثيرون أنهم مضطرون للعودة إلى العمل لإعالة أسرهم. كانت استجابة الحكومة للأزمة ضعيفة للغاية، بميزانيةٍ تبلغ حوالي 0.3 ٪ فحسب من إجمالي الناتج المحلي (تشمل شبكة الأمان الاجتماعي والرعاية الصحية الموسّعة)، أقلّ بعشر مرات من الميزانية التي أعدّتها كل من الأردن وتونس. وهنا يصبح السؤال: ما مدى استدامة جهود لبنان لاحتواء الفيروس والحد من آثاره؟ هل يمكن أن يعدّ لبنان نفسه لموجة ثانية محتملة؟ هل يمكنه وضع خطة اجتماعية واقتصادية لتخفيف الآثار الاقتصادية للجائحة على السكان المهمّشين بالفعل؟
بداية حالفها الحظ
تم تشخيص أول إصابة بفيروس كورونا المستجد في 20 شباط/فبراير 2020. وبعد بضعة أيام، مع تزايد الضغط الشعبي، قررت الحكومة إغلاق الحدود مع البلدان التي بدأ ينتشر فيها الوباء بصورة مقلقة (خاصةً إيران، منشأ أول حالة لبنانية، وكذلك إيطاليا وكوريا الجنوبية والصين). منذ ذلك الحين، شرعت الحكومة في اتخاذ عدّة تدابير لمحاولة احتواء انتشار الفيروس (إغلاق المدارس ودور الحضانة والجامعات والحانات والمطاعم والمحلات والمراكز التجارية، وأخيرًا منافذ الدخول). كما وضعت المزيد من استراتيجيات الاحتواء، مثل فرض حظر التجوال، وتطبيق نظام مروري يقوم على التناوب بين المركبات، في محاولةٍ لإبطاء انتشار الفيروس.
يبدو أن الاستراتيجية قد نجحت حتى الآن؛ حيث انخفض عدد الحالات الجديدة المؤكّدة يوميًا، ويبدو أن لبنان نجح في تسطيح منحنى الانتشار. منذ 13 مارس/آذار، كان معدل إماتة الحالات مستقرًا عند 3٪ (تقدّر منظمة الصحة العالمية المتوسط العالمي بـ3.4٪). ومن حيث الأداء الصحي (الشكل 2)، يعدّ أداء لبنان مشابه لليونان بصورة مثيرة للاهتمام؛ فهو أفضل من مصر والجزائر، ولكنه أسوأ من دول الخليج أو دولة إسرائيل المجاورة.

شكل 2: مجموع حالات الإصابة بفيروس الكوفيد-19 المؤكدة مقابل الوفيات بسبب فيروس الكوفيد-19. 18 ابريل/نيسان 2020. مصدر: European CDC و Our World in Data
أثيرت بعض التخوّفات بشأن دقة الأرقام الرسمية المعلنة لعدة أسباب، منها احتمالية أن يكون عدد الإصابات المؤكّدة (العامل المشترك المستخدم لتقييم المؤشرات المختلفة) أقل من الواقع، إذ خلصت الاختبارات المصلية الأخيرة إلى أن معدل الإصابات قد يكون أعلى من الأرقام الرسمية بنحو 50 إلى 85 مرة. في الواقع، لم يخضع لاختبار الكشف عن الفيروس سوى 1٪ من السكان. في بداية تفشي المرض، كان لبنان يُجري 50 اختبارًا يوميًا، وصلت مؤخرًا إلى 1500 اختبار يوميًا، لكنه لا يزال أقل من الهدف الذي حددته وزارة الصحة العامة بـ 2500 اختبار. حتى 7 أيار/مايو، أجرى لبنان حوالي 40 ألف اختبار. ولا يزال عدد الاختبارات لكل ألف نسمة (4-6.67، حسب ما إذا كان عدد السكان يبلغ 6 ملايين أو 10 ملايين) أقل بكثير من الدول المجاورة لها، خاصةً، لا حصرًا، دول الخليج الغنية (على سبيل المثال، إسرائيل 47.77 وقطر 39.21 والمملكة العربية السعودية 11.19 - جميعها حتى 5 أيار/مايو 2020). ومع ذلك، يتفوّق لبنان على تونس (2.13 حتى 4 أيار/مايو 2020)، وهي دولة ذات ظروف مشابهة من حيث الدخل المتوسّط والمعاناة الاقتصادية (شكل 3).

شكل 3: مجموع إختبارات الكشف عن فيروس الكوفيد-19 لكل 1000 شخص. 6 ماي/ايار 2020. مصدر: Our World in Data
وإلى جانب تقدير عدد الحالات المؤكَّدة بأقل من قيمتها الحقيقية بسبب غياب الاختبارات المكثفة، شكّك البعض في الأرقام الرسمية لسبب آخر، أكثر ارتباطًا بالسياسة. حيث يدير "حزب الله" الشيعي الأزمة بالتوازي مع الدولة اللبنانية، بنظامه الموازي للرعاية الصحية، والذي يشمل مستشفى واحد وآلاف العاملين في المجال الطبي. علاوةً على ذلك، فإن مستشفى الرسول الأعظم الذي يملكه ويديره حزب الله، غير مدرج ضمن خطة الطوارئ الحكومية. مؤخرًا، أفاد سيد هاشم صفي الدين، رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله، بأن الحزب "راقب 1200 شخص عادوا من إيران، من بينهم حجّاج و220 طالب كانوا يدرسون في مدينة قم، مركز التعليم الشيعي"، دون أن يفصح عمّا إذا ظهرت بينهم حالات إيجابية و/أو إذا ما يتم إبلاغ وزارة الصحة العامة بتلك الأرقام بصفةٍ دورية.
بدون أرقام موثوقة حول اتجاه معدل الوفيات الإجمالي في لبنان، خاصةً أثناء الجائحة، وبدون معلومات ديموغرافية دقيقة (كان آخر تعداد رسمي في عام 1932، والتقديرات الحالية انطباعية في أحسن الأحوال، تتراوح بين 4 ملايين إلى 10 ملايين نسمة، بما في ذلك اللاجئين)، لا يمكن أن يكون تقييم الأزمة كاملاً. مع ذلك، حتى وإن افترضنا أن الأرقام الرسمية غير دقيقة أو أقل من الواقع، يبدو أن لبنان قد نجا من أصعب مرحلة في الجائحة. ومن الأسباب التي قد تفسّر انخفاض أعداد الحالات المؤكدة نسبيًا، واحدًا أو أكثر من الأسباب التالية: قلة المراكز الحضرية ذات الكثافة السكّانية العالية، ونقص وسائل النقل العام، والتكوين الديموغرافي الذي يغلب عليه نسبيًا الشباب (7٪ من السكان فوق 65 عامًا، مقابل 19.82٪ في فرنسا و21.69٪ في إيطاليا) ، والسلوكيات الثقافية (يميل المسنّون إلى العيش مع أسرهم، وليس في دور رعاية المسنين حيث وقعت معظم الوفيات في أوروبا) ، والمناخ والاستعداد الوراثي.
ثلاثة مواطن ضعف محتملة
هناك ثلاثة أماكن تشكّل نقاط ضعفٍ في لبنان، لكونها بيئةً خصبة لانتشار الفيروس بسبب التكدّس، ويجب مراقبتها عن كثب. المكان الأول هو المستوطنات المزدحمة باللاجئين. يستضيف لبنان أكبر عدد من اللاجئين السوريين بالنسبة لعدد سكانه، ويقدّر عددهم رسميًا بمليون ونصف لاجئ، كما يستضيف 18 ألف و500 لاجئ من دول أخرى مختلفة، بالإضافة إلى أكثر من 200 ألف لاجئ فلسطيني تحت مظلة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). منذ بداية تفشّي الوباء، تحرّكت وكالة الأمم المتحدة للتوعية بالفيروس، وتوزيع الصابون ولوازم النظافة والتعقيم الأخرى على اللاجئين. كما تساعد وكالات الأمم المتحدة الحكومة على تعزيز إمكانياتها الحالية فيما يخص استقبال ورعاية الحالات وإجراء الاختبارات وتجهيز وحدات العناية المركزة.
بينما لا يوجد حتى الآن سوى عدد قليل من حالات الإصابة المؤكّدة بين اللاجئين، إلا أنه من الصعب التنبؤ بما ستؤول له الأوضاع. من المهم أيضًا الإشارة إلى مدى انتشار الوصم والتمييز ضد اللاجئين في لبنان، وهو ما قد يشكل عقبةً أمام احتواء انتشار الفيروس. منذ كانون الثاني/يناير 2020، وقبل إعلان الحكومة حظر التجول على الصعيد الوطني في 26 مارس/آذار، اتخذت حوالي 21 بلدية تدابير تمييزية ضد السوريين في إطار جهودها لمكافحة انتشار الفيروس، بأن فرضت عليهم حظر التجوّل وقيّدت تحركاتهم. انتقدت هيومن رايتس ووتش هذه الإجراءات "لانتهاكها التزامات لبنان الدولية في مجال حقوق الإنسان والقانون الوطني اللبناني".
ثاني الأماكن تكدّسًا هي السجون. في 17 آذار/مارس، اندلعت أعمال شغب في أكبر سجنين في لبنان في رومية وزحلة؛ حيث طالب السجناء بإطلاق سراحهم بسبب خوفهم من سرعة انتشار الوباء بينهم. يُعرف لبنان باكتظاظ سجونه؛ إذ يبلغ عدد السجناء 10 آلاف سجين موزّعين على 25 سجنًا و261 مركز احتجاز. على عكس دول أخرى أفرجت عن آلاف السجناء في محاولة لمنع انتشار الوباء بينهم، مثل إيران أو تركيا، تبنّى لبنان بدلاً من ذلك تدابير وقائية، مثل تعليق جميع الأنشطة في السجون ومنع زيارات الأقارب. وفي محاولة إضافية لتخفيف حدّة القلق والخوف بين السجناء، أمدّ مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة السجناء بخطوط هواتف نقّالة للتواصل مع أسرهم.
أما موطن الضعف الثالث فيتمثّل في أماكن التظاهرات، إذا ما عاد المحتجّون إلى الاحتشاد في الشوارع. منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، اندلعت في جميع أنحاء لبنان احتجاجات واسعة النطاق تندّد بسوء إدارة البلاد اقتصاديًا وسياسيًا. جاءت هذه الاحتجاجات كرد فعل للظروف الاقتصادية والمالية سريعة التدهور التي نتجت عن أزمة مالية غير مسبوقة، أثّرت كثيرًا على مستوى معيشة المواطنين. أدّت إجراءات الحظر إلى تقليل الاحتجاجات، ولكن في الأيام الأخيرة عاد المتظاهرون إلى الشوارع مطالبين بوضع حد للفساد الممنهَج، الذي يعتقدون أنه سبب إفلاس لبنان الاقتصادي والسياسي.
قدرة النظام الصحّي تظل محدودة
منذ بدء تفشّي فيروس كورونا المستجد، نشرت وزارة الصحة العامة خطّتها للتأهب والاستجابة السريعة للفيروس، وأطلعت الجمهور باستمرار على أعداد الحالات الإيجابية والوفيات والاستعدادات. كما أعلنت عن استراتيجيتها لتسطيح المنحنى بالنظر إلى أعداد الأسرّة ووحدات العناية المركزة المحدودة، وحدّدت المستشفيات (العامة والخاصة) التي سيتم تفعيلها عند الحاجة، وقسّمتها إلى أربعة خطوط يتم اللجوء إليها على مراحل في حالة زيادة الحالات. يشمل الخط الأول 12 مستشفى، بما في ذلك المستشفى الحكومي الرئيسي الذي يعالج حاليًا المرضى: مستشفى رفيق الحريري الجامعي. ويشمل الخط الثاني كذلك 12 مستشفى عامًا، ويشمل الخط الثالث 17 مستشفى عامًا آخر. وأخيرًا يشمل الخط الرابع المستشفيات العامة الـ 29 المتبقية، بالإضافة إلى جميع المستشفيات الجامعية الخاصة.
إلا أن سعة المستشفيات العامة محدودة (222 جهاز تنفّس صناعي و419 سرير عناية مركزة)، على عكس المستشفيات الخاصة (1242 جهاز تنفّس صناعي و2391 سرير عناية مركزة). ونظرًا لأن الحكومة تدين بمتأخّرات كبيرة لمقدّمي الخدمات الصحية الخاصة، ليس من الواضح ما إذا كانت المستشفيات الخاصة ستقبل علاج مصابي فيروس كورونا مجانًا. كما أن كل المستشفيات الخاصة أو العامة لا تتوفر على أجنحة مستقلة يمكنها علاج مرضى الفيروس، لذا من المحتمل أن يكون إجمالي عدد الأسرّة المتاحة أقل من المتوقّع.
أعدّت وزارة الصحة العامة عدّة خطط طوارئ استعدادًا لسيناريوهين: سيناريو متفائل (في حالة إصابة 1٪ من السكان) وسيناريو متشائم (في حالة إصابة 10٪ من السكان) دون إعطاء أسباب أو تفسيرات لتلك النماذج الافتراضية. بناءً على هذه الأرقام، حدّدت وزارة الصحة العامة الاحتياجات العاجلة، مثل تجهيز 11 مستشفى عامًا بأسرّة إضافية لوحدات العناية المركزة، وأجهزة تنفّس صناعي، وطواقم عمل ومعدّات وقائية. وفقًا لوزارة الصحة العامة، ستبلغ طاقة القطاع الصحي الاستيعابية أقصى حد لها إذا بلغ عدد المصابين 5000 إصابة، منهم 20٪ (1000 مصاب) يحتاجون إلى رعاية طبية، و 5٪ (250 مصاب) يحتاجون إلى دخول العناية المركزة، و 2-3٪ (150 مصاب) يحتاجون إلى أجهزة تنفّس صناعي.
ويمكن أن يصل عدد الإصابات إلى 5000، خلال ما يخشى العديد من الخبراء أن تكون موجة ثانية، ربما أكثر تدميرًا من الأولى. حيث حذّر رئيس الوزراء حسن دياب من موجة ثانية محتملة بحلول تموز/يوليو إذا لم يتم الحفاظ على التباعد الاجتماعي. بتسطيح منحناها، نجح لبنان، حتى الآن، في تجنيب المستشفيات حدوث طفرة في أعداد المصابين من ذوي الحالات الحرجة، ولكن يبقى أن ننتظر لنرى ما إذا كان هذا النجاح سيستمر عندما يتم تخفيف إجراءات الحظر.
أزمة داخل أزمة
تأتي أزمة فيروس كورونا المستجد في أعقاب سلسلة من الأزمات التي عصفت بلبنان في الأشهر الأخيرة. حيث كانت الأزمة الاقتصادية، التي نتجت عن التوقف المفاجئ لتدفّقات رؤوس الأموال في أواخر عام 2019 إلى الاقتصاد المثقل بالديون، مدمّرة بالفعل، وزادت إجراءات الحظر الصارمة من وطأة الصدمة. وفي حين ضربت الأزمة الاقتصادية بشكل أساسي القطاع الرسمي الذي يعتمد بشكل كبير على العلاقات المصرفية والواردات، فإن أزمة "كوفيد-19" جعلت الصدمة تمتدّ إلى القطاع غير الرسمي الذي يعمل فيه الكثير من الفقراء، بسبب انهيار قطاعات الغذاء وتجارة التجزئة والسياحة والنقل.
إن الشركات والمشروعات الخاصة في طريقها إلى الإفلاس، ومعدّل البطالة آخذ في الارتفاع، وأدّى كل من التضخم المتزايد (الذي يقدّر الآن بنسبة 40٪ سنويًا) وانخفاض قيمة العملة في السوق الموازي إلى خفض الأجور الفعلية بشكل حاد. في غضون أشهر، اتّسع نطاق الفقر بشكلٍ كبير، حيث قدّر البنك الدولي أنه سيطال 50٪ من السكان بحلول نهاية عام 2020. وقد كافحت الحكومة، في حيّزٍ مالي ضيّق، لتغطية تكلفة تحديث النظام الصحي، والتخفيف من أثر الصدمة على السكان الأكثر فقرًا.
أوقات عصيبة تنتظر البلاد
يمر لبنان بفترةٍ شديدة التقلّب؛ حيث قد يقود التفاعل بين حركة الشارع وأزمة "كوفيد-19"، في ظل الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعصف بالبلاد في الوقت الراهن، إلى ديناميات فوضوية محتملة.
قد يتعرّض لبنان لموجة ثانية من جائحة الكورونا، ليس بسبب الديناميات المتعلّقة بالفيروس فحسب، ولكن بسبب التفاعل بين الانهيار الاقتصادي والثورة والوباء، وهو ما قد يؤدّي إلى عاصفةٍ عارمة يغذّي فيها كل عنصر الآخر، مولّدةً انفجارًا عامًا. في الأيام الأخيرة، عاد المتظاهرون إلى الشارع للمطالبة باستقرار الليرة اللبنانية، التي باتت في حالة سقوط حر. كما تثير قضية إعادة التوزيع توتّرات حادة؛ إذ يجب أن توزَّع الخسائر التي تصل إلى ضعف إجمالي الناتج المحلي على السكان، ممّا يضع الفقراء والطبقة المتوسطة في مواجهة مع الأغنياء، ويخلق توتّراتٍ طائفية. في هذا المناخ من التمرّد الشعبي، قد تميل النخب السياسية إلى استغلال ظرفية الوباء للتغطية على استخدام القمع علنًا، كما تجلّى في قيام قوّات الجيش والشرطة بهدم خيام المتظاهرين. في الوقت نفسه، من المرجّح أن تتصاعد حركة الشارع في الأسابيع المقبلة، مما قد يؤدّي إلى سرعة انتشار الفيروس، خاصةً بين أفقر المراكز الحضرية عالية الكثافة، حيث يشكّل الجوع مصدر قلقٍ وتهديد أكبر من الفيروس.
إذا ما نظرنا إلى الأمور بمزيد من التفاؤل، سنجد أن هناك طريقًا ممكنًا للخلاص يتمثّل في التعاون والتضامن في مواجهة تلك المحنة التي يمرّ بها الوطن. قد يكون هذا أكثر ممّا يمكن توقّعه في ظل الظروف الحالية؛ حيث يعتقد العديد من المتظاهرين أن الحكومة الحالية ميؤوس منها بسبب اعتمادها على النخبة السياسية نفسها. لكن هذا الطريق يمكن أن يستند إلى النجاح النسبي في إدارة أزمة "كوفيد-19" لإعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة والنخب. ومن نفس المنطلق، فإن خطر انتشار الوباء قد يكون أكثر تهديدًا من خطر الانقسام الاجتماعي والاقتصادي، ممّا قد يدفع اللبنانيين من كل الطبقات والمذاهب للعمل سويًا لإيجاد حل للتحديات الاقتصادية والتاريخية التي تقسمهم، والتي لا يمكن معالجتها بنجاح إلا من خلال التعاون الوطني. ربما حينها ستشكّل الموجة الثانية، في مفارقةٍ غريبة، بداية مرحلة جديدة من المراجعة الجادة، التي يحتاجها لبنان ليتمكن من عبور تلك المرحلة الصعبة وابتكار العقد الاجتماعي الجديد الذي هو في أمسّ الحاجة إليه.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.