ملخَّص
يعتبر قطاع التعليم في المغرب من بين القطاعات التي فشلت فيها السياسات العامة للدولة فشلاً ذريعاً. من منظور مقاربة مؤسساتية، يعتبر الإطار المؤسساتي الذي وضعته الدولة وتتحكم في قواعد اللعب في إطاره، باعتبارها اللاعب الأقوى والدائم؛ المسؤول الأول والأخير عن مستوانا الاقتصادي ومدى ازدهاره أو فقره، وكذا عن مستوى جودة رأسمالنا البشري.
انطلاقاً من هذا المنظور المؤسساتي، ارتأينا أن نتساءل في هذه الورقة عن قدرة الدولة على إصلاح ما أفسدته، إذ لا يعد من يشرف على إصلاح التعليم المغربي اليوم، وفق الاستراتيجية الجديدة، جزءاً من المنظومة السابقة التي أدى تدبيرها وسياساتها لإفشال هذا القطاع فقط، بل كان جزءاً من الإدارة ومن الإطار المؤسساتي بأكمله.
وإذا تأكدنا من أن المسؤولية الأولى في ما تعيشه المدرسة المغربية مرتبطة بشكل كبير بالإطار المؤسساتي السياسي والاقتصادي للبلد؛ فإن إصلاح التعليم في المغرب يجب أن يبدأ من إصلاح المشرف عليه؛ أي إصلاح الدولة من خلال تغيير استراتيجيات مؤسساتها السياسية والاقتصادية الحالية.
اقرأ المزيدعرف قطاع التعليم في المغرب غداة الاستقلال سنة 1956 ارتفاعاً ملحوظاً في أعداد المتعلمين، لكنه بقي متواضعاً من حيث الجودة. ومع مرور العقود التالية ظلت هذه الوضعية مؤبدة بفعل عوامل كثيرة يصعب حصرها، بل تحولت هذه الحال إلى مشكلة بنيوية استعصى حلها على كل الحكومات التي تعاقبت على تدبير قطاع التعليم في المغرب خلال ستين سنة بعد الاستقلال. وفي أيامنا هذه، يقر الجميع في المغرب، بدءاً من أعلى قمة هرم السلطة إلى المواطن البسيط أن المدرسة المغربية عليلة، بل ثمة إيمان كبير أن علاجها أضحى مهمة مستحيلة بسبب الفشل الذريع لكل الإصلاحات التي طبّقت خلال العقدين الماضيين.
فيما يخص الإصلاحات التي طبّقت منذ سنة 1956 (تاريخ الاستقلال) إلى حدود سنة كتابة هذه الورقة (حزيران/يونيو 2017) فكثيرة؛ بدءاً من إحداث وزارة التربية الوطنية (1956)، وإحداث أول هيئة رسمية عهد لها بإصلاح التعليم (1957)، وتنصيب "الهيئة الملكية لإصلاح التعليم" (1958)، التي أصدرت "ميثاق التعليم" سنة (1959)، ثم ندوة المعمورة حول إصلاح التعليم (1964)، وأيام التربية الوطنية المنعقدة بمنتجع إفران (1980)، ومشروع "التكوين المهني" ولا مركزية الجامعات (1988-1995). وفي بدايات الألفية الجديدة تم تكوين هيئة وطنية من 34 شخصية مغربية عهد إليها بوضع "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" (1999)، وتم تطبيق هذا الميثاق سنة (2000). لكن فشله الكبير سرّع بوضع البرنامج الاستعجالي الذي أُحدِث لإنقاذ فشل "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" (2009). وبسبب إعلان الفشل النهائي لـ "الميثاق الوطني للتربية والتكوين" ثم أخيراً وضع مشروع جديد تحت عنوان كبير وطموح: "من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء: رؤية استراتيجية للإصلاح 2015-2030"، بدأ تنفيذه وإنزال مقتضياته منذ سنة 2015.
إذاً، يتعلق الأمر بما يفوق 11 إصلاحاً كبيراً، بالإضافة لإصلاحات أخرى إدارية ومالية جزئية نفذها المغرب خلال هذه الفترة الطويلة نسبياً. لكن هذه الإصلاحات كلها لم تنجح في تطوير المدرسة المغربية، بل تردت هذه المؤسسة وتدهورت مخرجاتها في زمن تطبيقها.
وعلى صعيد آخر، ورغم الصورة السيئة التي ترسمها التقارير الرسمية عن وضعية المدرسة المغربية؛ فإن بعض النجاحات قد تم تحقيقها بالفعل. لكن مجيئها المتأخر جعل من قيمتها وكأنها منعدمة. ومن بين النجاحات المتأخرة التي حققتها المدرسة المغربية، الوصول إلى نسبة تسجيل تفوق 100% في المستوى التعليمي الابتدائي. لكن وكما يبدو في الشكل أسفله، فهذا النجاح حققه بلد مثل تونس، يقترب نموذجه الاقتصادي والمؤسساتي من المغرب، بفارق يفوق 35 سنة عن المغرب. كما يبدو من الإحصائيات الخاصة بالمغرب، التراجع الكبير الذي حصل في هذه النسبة بين بداية الثمانينيات ومنتصف التسعينيات، ولم يستطع المغرب الرجوع إلى المعدل نفسه الذي حققه في بداية الثمانينيات إلا بعد عشرين سنة، سنة 2000. وهذا يعد إهداراً كبيراً لزمن المدرسة المغربية. لكن يمكن تفسيره بالتجاهل الذي ووجهت به المدرسة المغربية بسبب الانتفاضات العنيفة التي شهدها البلد، بين ستينيات وثمانينيات القرن العشرين، والتي كانت المدرسة جزءاً من الدعوة إليها أو التعبئة لها.
شكل1: معدل التسجيل في التعليم الابتدائي بين سنتي 1970 و2015 في مجموعة دول

المصدر: البنك الدولي عن اليونسكو (معهد الإحصاء)
إن هذا النجاح الصغير في تعميم التعليم الابتدائي في المغرب، لا يمكنه أن يغطي الصورة القاتمة التي رسمتها التقييمات الوطنية التي مهدت لمشروع الإصلاح الجديد؛ "من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء: رؤية استراتيجية للإصلاح 2015-2030". إن الأسرة والمجتمع المغربيين فقدا الثقة في المدرسة وفي قدرتها على أداء وظيفتها ورفع التحديات الحالية والمستقبلية للمغرب. وتعتبر أزمة الثقة في المدرسة ودورها، ونجاعتها، وجودتها من بين الملاحظات القوية التي أقر بها المشروع الجديد للإصلاح. إن مجرد الإقرار بذلك ينقل المشكلة إلى البنية المؤسساتية للبلد، إذ أليست الثقة منتجاً خالصاً لا تضمنه إلا مؤسسات متينة وحرة وديمقراطية؟
مظاهر فشل المدرسة المغربية:
بعد 13 سنة من تطبيق ميثاق التربية والتكوين والبحث العلمي، أصدر المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي تقريراً تقويمياً أشرفت عليه "الهيئة الوطنية للتقويم" تحت عنوان: "تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين والبحث العلمي 2000-2013: المكتسبات والمعيقات والتحديات". وبعد دراسة أوجه خلل المدرسة المغربية وحصرها، قام هذا التقرير بتصنيفها إلى صنفين: خلل مرتبط بمحدودية المردودية الداخلية للمدرسة المغربية، وخلل مرتبط بضعف المردودية الخارجية لهذه المدرسة.فيما يتعلق بمحدودية المردودية الداخلية؛ فإن المدرسة المغربية تعاني من ضعف التمكن من اللغات والمعارف والكفايات والقيم، ومن استمرار ظاهرة الهدر المدرسي والمهني والجامعي، ومن ضعف المردودية الكمية والكيفية للبحث العلمي. أما فيما يخص ضعف المردودية الخارجية فيتجلى أساساً حسب هذا التقرير في الصعوبات التي يصادفها خريجو المدرسة المغربية في الاندماج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقيمي، وفي انكفاء المدرسة المغربية على ذاتها، وعدم قدرتها على الانفتاح على محيطها وعلى عالم الابتكارات والتكنولوجيا وإضافات المعرفة.
اعتمد هذا التقرير كما تقارير أخرى أصدرها "المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي" حول وضعية المدرسة المغربية على التقييمات العالمية المعروفة، خاصة المسوحات المعروفة تحت اسمي TIMSS وPIRLS. حيث يهتم هذان المسحان بتقييم درجة تمكن تلاميذ المدارس من القراءة والكتابة ودرجة استيعابهم للعلوم ومادة الرياضيات. وفيما يخص الحال المغربية، قدم المسحان صورة كارثية عن مخرجات المدرسة المغربية. فخلال عقد واحد فقط، من خلال مقارنة نتائج المسحين بين سنتي 2001 و2011، تبين أن مخرجات المدرسة المغربية تدهورت جودتها بنسب مرتفعة.
بينت نتائج هذه التقييمات مثلاً، حسب أحد تقارير المجلس أن 60% من تلاميذ السنة الرابعة ابتدائي، و49% من تلاميذ السنة الثانية ثانوي إعدادي، يدرسون في مؤسسات تعيش مشكلات أمنية وسلوكية تتراوح بين ظاهرة الغياب عن الدروس والتأخر عن الحصص، والغش، ومظاهر التخريب وتهديد السلامة الجسدية للمتعلمين وحتى المعلمين. وحسب نتائج هذا التقييم؛ تبلغ نسبة من يدرسون في مدارس جيدة لا تعاني من هذه الظواهر 14% من مجموع التلاميذ المغاربة.
وعلى المستوى الجامعي، لم تفلت الجامعة المغربية من مظاهر غياب السلوك المدني وتفشي ظواهر العنف داخل الجامعات والأحياء الجامعية المخصصة لإيواء الطلبة. لقد حوّلت هذه الظروف الجامعة المغربية إلى ساحة للصراعات السياسية، وسحبت منها صورة المؤسسة البحثية والعلمية المنتجة للمعرفة والباحثين. وفي السنوات الأخيرة كان عدد من الطلبة ضحايا لهذا العنف، إذ توفي عدد منهم بسبب أحداث العنف التي كانت تندلع بين الطلبة في رحاب الجامعات المغربية.
لقد ساهمت هذه الوضعية في تسجيل تأخر كبير على مستوى دراسة الفرد المغربي. وعلى الرغم من ارتفاع مستوى دراسة الفرد الذي يصل عمره إلى 15 سنة فما فوق إلى حوالي 4.72 سنة عام 2010، مسجلاً بذلك ارتفاعاً بسنة واحدة مقارنة مع معدل عام 1982؛ فإن هذا الرقم يبقى أقل مما هو مسجل بين الدول السائرة في طريق النمو، والذي يبلغ حوالي 7.1 سنة و11 سنة في الدول المتقدمة. وإذا أقرّت هذه التقارير بفقدان الأسرة المغربية للثقة في المدرسة الوطنية؛ فلهذه الحال ما يفسرها على مستوى طبيعة المؤسسات السياسية والاقتصادية للبلد وجودتها ومتانتها. وقبل أن نستعرض طبيعة المؤسسات المغربية اليوم، لا بد من تقديم رؤية النظرية الاقتصادية لعلاقة المؤسسات بجودة الرأسمال البشري في بلد ما.
طبيعة المؤسسات وجودة التعليم:
تقدم النظرية الاقتصادية المعاصرة بعض الأفكار الجديدة والمهمة عن العلاقة بين طبيعة مؤسسات بلد ما وجودة تعليمه. فإذا كان التعليم عاملاً من عوامل خلق النمو الاقتصادي، فهو بدوره يبقى مرتبطاً بتحقق شروط أساسية، وخاصة شرط متانة المؤسسات السياسية والاقتصادية. إن المؤسسات/القواعد في المجتمع هي مصدر الثقة بالنسبة للأفراد، وهي أيضاً مصدر المحفزات التي تدفع الأفراد نحو الاستثمار في رأسمالهم البشري. ومتى ما انعدمت تلك المحفزات تراجع الأفراد عن الاستثمار في تعليم أنفسهم وأبنائهم، وتراجعت ثقتهم في المؤسسات السياسية والاقتصادية التي يعيشون في ظل حكمها، وتدهورت معارفهم وجودة تعليمهم.
ولقد اختصر دوغلاس نورث وروبرت توماس (1973) هذا الأطروحة في عملهم الذي صدر في سبعينيات القرن الماضي، وأعاد دارون عاصم أوغلو تقديمه من خلال الخطاطة التالية:

جعل عمل كل من نورث وتوماس (1973) نظريات التنمية تزيد اهتمامها بدور المؤسسات في التنمية، وفي تأهيل المجتمعات للإقلاع الاقتصادي. وكما يتضح من خلال الخطاطة أعلاه؛ فعملهما أكد أيضاً على دور جودة المؤسسات في تحديد جودة الرأسمال البشري لبلد معين. لكن ربط تطور البلدان بطبيعة المؤسسات السياسية والاقتصادية يرجع إلى ما قبل ذلك بكثير، لقد أكدت مثلاً أعمال كل من ديفيد هيوم وجون لوك وآدم سميث وجون استيوارت ميل على دور الحرية والعدل وحماية حقوق الملكية في خلق الرخاء الاقتصادي، وخلق الظروف المواتية لتحققه.
لكن اقتصاديين معاصرين بدءاً برونالد كوز (1960) وآرثور لويس (1984) ودوغلاس نورث وروبرت توماس (1973) أسسوا تقليداً علمياً جديداً، يطلق عليه "الاقتصاد المؤسساتي الجديد". لقد فسر هذا الفرع المهم من فروع الاقتصاد السياسي عدداً من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية تفسيرات مؤسساتية، ومنها ظاهرة تردي جودة تعليم (الرأسمال البشري) بلد معين.
يربط بعض المؤسساتيين -نورث وتوماس (1973)، بنحبيب وشبيجل (1994)، استرلي (2001)، بريتشيت (2013)، رودريك (2013)، عاصم أوغلو وروبنسون (2012)- تردي تعليم بلد معين بطبيعة "المؤسسات الإقصائية" بتعبير عاصم أوغلو وروبنسون في كتابهما "لماذا تأفل الأمم: أصول السلطة والازدهار والفقر" (2012). إن بلداً بـ "مؤسسات اقصائية" غير ديمقراطية وغير حرة يقوم في الواقع بإعدام المحفزات على الاستثمار في الرأسمال البشري. وفي وضعية هذه البلدان يتخلى الأفراد عن الاستثمار في تعلميهم وتعليم أبنائهم نتيجة فقدان الثقة في العيش في ذلك البلد، وعلى أقصى تقدير فهم يتحولون إلى مشاريع "مهاجرين سريين مقيمين" في انتظار فرصة سانحة للهجرة.
إن المؤسسات الديمقراطية والحرة تساهم في تراكم الرأسمال البشري ومخرجات المعرفة، وانتقال التكنولوجيا الحديثة إلى الاقتصادات النامية وتأهيل إنتاجية العمال. ويؤدي هذا بدوره إلى تشجيع استثمار الأفراد في التعليم والتحفيز على الاستثمار وتأهيل جودة التعليم.
لقد بين نورث (1997) بوضوح أن محفزات الأفراد على الاستثمار المادي أو البشري ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإطار المؤسساتي الذي يعيش فيه أولئك الأفراد. فالمؤسسات هي من يرسم قواعد اللعب داخل مجتمع معين. وتتوزع هذه المؤسسات بين المؤسسات الرسمية (الدستور، القوانين، البرلمان، الحكومة، حقوق الملكية، حقوق الإنسان، الديمقراطية الخ...) والمؤسسات غير الرسمية (الدين، الأعراف غير المكتوبة، العقود الشفهية، ثقافة المجتمع الخ...).
فيما يخص حال التعليم في المغرب، فتأثير طبيعة المؤسسات الرسمية سيثير اهتمامنا أكثر من تأثير المؤسسات غير الرسمية، لسببين رئيسيين: قدرتنا على قياسها وبالتالي تأمل تطورها خلال العقود الماضية، وكذا الاهتمام الذي أعطته لها دراسات وبحوث سابقة.
المؤسسات في المغرب: فشل هيكلي
يتوفر المغرب، كما هي الحال بالنسبة لأغلب الدول النامية، على مؤسسات سياسية هشة أمام النخب ذات النفوذ في الإدارة وفي مجالي السياسة والمال. فحسب مؤشر السلطوية الذي ينتجه مشروع Polity IV Project يعتبر المغرب بلداً سلطوياً، وبديمقراطية هشة تم قياس مؤشرها عن طريق قياس القيود المؤسساتية على عمل السلطة.
كما يعاني البلد من ضعف حماية حقوق الإنسان حسب مؤشرات هيومان رايتس ووتش وهيومان رايتس بروتيكشن سكورز، المؤشر الذي يعده كل من كريستوفر فاريس Christopher Farris وكيث شناكنبرغ Keith Schnakenberg. ويعاني أيضاً من مؤشرات منخفضة فيما يخص درجة الحريات المدنية، والحريات السياسية، وحرية الصحافة حسب معطيات فريدم هاوس، وعلى مؤشرات فساد ورشوة مرتفعة حسب مؤسسات مختصة مغربية ودولية.
وعلى مستوى المؤسسات الاقتصادية، رغم تحكمه في معدلات التضخم خلال السنوات الأخيرة مقارنة بعدد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ فإن حجم الحكومة يعتبر ضخماً حسب معطيات Penn World Table 9.0. وتعاني حقوق الملكية الخاصة من انتهاكات كبيرة حسب مؤشرات Cato Institute وFraser Institute. أما انفتاح الاقتصاد المغربي فيبقى متوسطاً حسب إحصائياتWorld Development Indicators التي يعدها البنك الدولي.
يعتقد المؤسساتيون أن الدول النامية تتميز أحياناً بوجود قواعد وقوانين لكن لا يتم تطبيقها، أو بانعدام نهائي للقواعد والقوانين التي تردع النخب ذات النفوذ أحياناً أخرى. وفي حال المغرب، تعتبر القوانين في بعض الحالات حبراً على ورق؛ إنها موجودة لكن تطبيقها يظل عشوائياً حسب سلطة الأشخاص المعنيين ونفوذهم وقدرتهم على التأثير فيمن يفترض منهم تطبيق القوانين. إننا –إذاً- أمام مؤسسات سياسية واقتصادية هشة وذات جودة منخفضة، وأمام مستوى حوكمة منخفض. إن هذا الإطار المؤسساتي ينتج تأثيرات سيئة كبيرة على الاستثمار في الرأسمال البشري، ويعيق المحفزات على الاستثمار في المستقبل.
طبيعة المؤسسات وفشل المنظومة التعليمية: هل من علاقة في الحال المغربية؟
أعاد عاصم أوغلو وآخرون (2014) التأكيد على فكرة فريدمان وآخرين (2011)، التي مفادها أن "مزيداً من التعليم قد يمهد الطريق إلى مزيد من الاستياء حسب السياق المؤسساتي والاجتماعي" الذي يوجد فيه البلد. وتؤكد هذا بشكل لا يخلو من شك نتائج عمل استرلي (2001)، الذي يتوقع أن الاستثمار في الرأسمال البشري في أي بلد معين إنما هو بالضرورة نتيجة حتمية للإطار المؤسساتي لذلك البلد. فإذا كان الإطار المؤسساتي غير قادر على خلق فرص للفئات الشابة، سيؤدي أي استثمار في التعليم إلى أن يكون وقوداً للانتفاضات الاجتماعية وأحياناً أخرى ليكون مصدراً لثورات عنيفة، تأتي على التنمية الاقتصادية للبلد. ويكاد هذا الرأي أن يكون محل إجماع كبير في صفوف التيار الاقتصادي المؤسساتي.
لقد بيّنت دراسة أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط سنة 2012 حول الرفاه والعيش الكريم، أن 64% من المغاربة غير راضين عن مستوى دخلهم، وأكثر من 50% غير راضين عن شغلهم، وأن 72% غير راضين عن الخدمات الصحية في بلدهم، و68% غير راضين عن الحياة الثقافية والترفيهية، وما يفوق أربعة أخماس المغاربة غير راضين عن حياتهم العائلية ومحيطهم المجتمعي. أما فيما يخص المدرسة، فما يفوق 55% غير راضين تماماً عن قطاع التعليم في بلدهم حسب إحصاءات هذه المؤسسة الرسمية.
إننا إذاً أمام حال مغربية متشائمة، تتسم بفقدان الأمل وعدم الرضى وقلة مستويات الرفاه الاجتماعي والاقتصادي. يرجع هذا أساساً إلى تعثر مسلسل التنمية الاقتصادية في المغرب، الذي يرجع بدوره لفقدان الثقة بين المواطنين في قدرة مؤسسات بلدهم على حمايتهم وحماية ملكيتهم مما يجعل الاستثمار في التعليم في نظرهم استثماراً لا عائد من ورائه. لقد عاشت أجيال مغربية كثيرة في ظل شبح الهجرة إلى الخارج، ومغادرة البلد. وذلك له تأثيرات خطيرة على جودة الرأسمال البشري المغربي ونموه وتطوره.
تعتبر قلة المحفزات على العيش في البلد، وانعدام الثقة في مؤسساته السياسية والاقتصادية ظاهرتين رافقتا أجيالاً من المغاربة. وكان لذلك نتائجه المباشرة على المستوى الاجتماعي، حيث بدأت موجة من الانتفاضات الاجتماعية والسياسية منذ سنة 2011، وما تزال مستمرة في الضغط على المؤسسات السياسية الحالية بقصد تحسينها أو تغييرها في أحيان أخرى. لقد ألقى هذا المناخ المؤسساتي بثقله على المدرسة المغربية وعلى جودة مخرجاتها. وتكاد المقولة المغربية الشهيرة: "آش دارو اللي قراو؟" (ماذا حقق أولئك الذين درسوا؟) أن تصبح عملة وطنية. وترتبط المدرسة في المخيال الثقافي للمواطن المغربي بعدد من الظواهر السيئة وكثير من الأفكار السلبية.
تحملت المدرسة المغربية في الواقع فشل المؤسسات السياسية والاقتصادية في تحفيز المواطن بالاستثمار في المستقبل في بلد لم يكن يرى فيه لنفسه مستقبلاً. ومع مرور الوقت أصبح إصلاح المدرسة المغربية مستحيلاً من دون تدشين إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية. وهو نهج وإن بدأ منذ سنوات لكنه يسير بشكل بطيء في بلد يبدو أن السرعة التي يتحرك بها الأفراد فيه أعلى من سرعة إصلاحات الدولة.
خاتمة وتوصيات:
تبتغي هذه الورقة أن يبدأ نهج إصلاح التعليم في المغرب من حيث يجب أن يبدأ إصلاح المؤسسات وتمتينها لتحمي الأفراد وملكياتهم. وعلى هذا المستوى يجب أن تباشر الدولة إصلاحات حقيقية على مستوى:
- المؤسسات السياسية: من خلال تنفيذ إصلاحات سياسية مؤسساتية، تدعم التعددية السياسية، والرقابة على الحكومة من خلال برلمان يتمتع بصلاحيات كما هو متعارف عليها في الديمقراطيات البرلمانية. وتوسيع هامش الحريات المدنية وحرية التعبير وحماية حقوق الإنسان. وإصلاح النظام القضائي لضمان سرعة البتّ في القضايا وشفافية القضاء واستقلاليته عن القوى ذات النفوذ وتطهيره من كل مظاهر الفساد.
- المؤسسات الاقتصادية: من خلال دعم حماية حق الملكية، الذي يعتبر أهم حق اقتصادي بالنسبة لأي فرد. وضبط معدلات التضخم حماية للقدرة الشرائية للأفراد. وتحسين مناخ الأعمال وسن تشريعات تدعم حرية السوق والمبادرة الحرة. وتحسين سوق العمل من خلال رفع القيود التي تعيق دينامية التشغيل، وتخفيف جمود القوانين الحالية. إن الاقتصاد المغربي في حاجة إلى جرعات تحرير جديدة، ترسخ التنافسية والحوكمة الجيدة والانفتاح على الرأسمال الأجنبي من خلال جذبه عن طريق إصلاحات مؤسساتية حقيقية.
إن هذه الإصلاحات المؤسساتية وغيرها هي وحدها الكفيلة بإعطاء أمل في المستقبل للفرد المغربي، الذي يشكل جوهر المدرسة المغربية. فمن دونه لا يمكن إصلاح هذه المؤسسة الاجتماعية والتربوية المهمة لتنمية البلد.
- "البرنامج الوطني لتقييم مكتسبات تلامذة الجذع المشترك 2016" (PNEA 2016).
- "التقرير الموضوعاتي لسنة 2009 حول نتائج البرنامج الوطني لتقويم التحصيل الدراسي" (2008).
- "تقرير المجلس الأعلى للتعليم عن حال المنظومة الوطنية للتربية والتكوين وآفاقها" (2008).
https://goo.gl/icD8vQ
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.