سنوية "انتفاضة 17 تشرين" اللبنانية: هل من أمل؟

مرت سنة على انتفاضة “17 تشرين” اللبنانية. وكغيرها من الانتفاضات العربية، تفتح السنوية الأولى أسئلة كثيرة حول النجاحات والإخفاقات، حول طبيعية النظام ومقومات صموده أو شروط مقاومته، حول التنظيم وآليات الإنتقال، حول اليأس أو الأمل التي ولدته.

في هذا الحوار يتناول كل من بول أشقر وجميل معوض هذه العناوين المختلفة ويعرجان عليها بشكل يتكامل فيه في آن التحليل السياسي والقراءة الميدانية للحراك وللاعبيه، للنظام ولمقوماته. ولا يقتصر النقاش فقط على التحليل، إنما يقدم أيضاً بعض من الأفكار للمضي قدماً والتي ربما تساهم في الانتقال من حالة الاعتراض إلى المعارضة بشكل تصبح القوى هذه لاعباً أساسياً ودائماً في المشهد السياسي اللبناني.

سنوية إنتفاضة 17 تشرين اللبنانية هل من سبب للاحتفال؟
بعد أسبوع من الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت، اجتمع بعض اللبنانيين بجوار المرفأ المدمر لإحياء ذكرى الضحايا. بيروت، لبنان - آب/أغسطس 2020 . ©Hiba Al Kallas / Shutterstock.com

سنة على "الثورة": مرت سنة على انتفاضة "17 تشرين"... ماذا تقول عنها او كيف تتذكرها؟

بول أشقر: إنها لحظة خارج السياق والتخطيط مع أنها على الأرجح حدث لم يرَ لبنان مثيلاً له في حياته اليافعة، فمئة سنة عمر لبنان وهي لا شيء في حياة بلد. إنها لحظة فك الحجر والتفلت من عزلة مجتمع (أصبحت مع الوقت طبيعية)، وتعبير عن رغبة في الإختلاط من قبل شرائح عائلية وتقليدية متنوعة. هذا على الأقل في تعبيراتها الأولى وأيامها الأوائل...

وفي الوقت ذاته لا تستطيع ألا ترى إنها إنفجار غضب لجيل مراهق أدرك أن لا أحد يحسب له حساباً في هذا البلد، وأنه لن يكون له مستقبلاً في بلده.

ومن المفارقة العجيبة، أن هذا الحدث خارج السياق وقع في السنة الأخيرة من القرن الأول للجمهورية كمن يريد أن يقول للبلد: "بلى، هناك طريق آخر، لبنان الطائفي ليس قدركم".

جميل معوض: أرى أن 17 تشرين كانت لحظة ومساحة. لحظة، لأنها أعطت الفرصة لمختلف شرائح المجتمع اللبناني للتعبير عن مظالمها المتنوعة في نفس الوقت. مساحة، لأنها أيضاً أطرت التحركات في ساحات معينة (بيروت، طرابلس، صور، صيدا، جل الديب...). تلاقي عامل اللحظة والمساحة كان من أهم وأجمل ما انتجته الحراكات الشعبية في لبنان.

المشكلة تكمن برأي، بالرغم من كل ما يقال عن المكاسب (وهي طبعاً كثيرة ولدينا العودة إلى هذا الموضوع) ، بأن الاحتجاجات بقيت ضحية معادلة اللحظة والمساحة. أي ان المظالم المختلفة لم تتأطر بقواسم مشتركة بين الشرائح المتنوعة. لا بل يبدو بأن المظالم في مكان ما كانت متناقضة حتى لو لم ندرك ذلك في حينها: من يتظاهر احتجاجاً على خسارته لأمكانيات مادية لم تعد تسمح له بالاستمرار في تأمين الرخاء الاجتماعي من خلال الاستهلاك المفرط، هو غير - لا بل نقيض -  من كان يتظاهر اعتقاداً منه بأن الحراك هو صراعاً طبقياً او من يعتقد أنه يوسع حريته ويؤكد ذاتيته الشبابية.  كما ان الاحتجاجات لم تسلك مساراً مؤسساتياً، بشكل ان الصراع لم ينتقل من الساحة إلى القطاعات، وذلك بالرغم من بعض التجارب والمحاولات الخجولة لتشكيل تيارات او نقابات مستقلة...

المشكلة اليوم لدى البعض أنهم ما زالوا يقاربون الانتفاضة بصفتها مساحة ولحظة، أي الدعوة الى الاحتفال بسنوية "الثورة" في الساحة إسوة بمجموعة "أنا خط أحمر"
مثالاً 1https://www.facebook.com/AnaKhatAhmar ، وهذا لا يؤسس إلى فعل سياسي، ولا يؤدي الي تغيير حقيقي.

في السياسية وفي المكاسب: هل نستطيع أن ننتقل إلى الفعل السياسي؟ كيف تقيّم المكاسب التي حققتها الثورة، ونحن ندري إستمرارية هذا الخطاب الذي يردد "لم تحققوا شيئاً"؟

بول أشقر: إنه خطاب له وجهان. وجه يريد أن يحمّل الثورة مسؤولية الوضع التي وصلت إليه البلد، وبهذا المعنى إنه خطاب "سلطوي" بإمتياز، يكاد يقول (وقد قالها عدد من المسؤولين مباشرة او مراوبة وقد يرددها بعض الناس) أن الثورة هي التي عملت الإفلاس ثم الإفقار وقد يحاولون بعد فترة أن يحملوا الثورة مسؤولية الإنفجار وحتى كورونا. تبدو السردية مضحكة، ولكن من الضروري التصدي لها لأنها وليدة الضياع الذي يعرفه البلد في هذه الحقبة المكثفة من الوقت. أيضاً، إنها لمفارقة غريبة كبرى أن ينهار في السنة الاخيرة من المئوية العامود الأساسي للنظام الذي يدور في فلكه أكثرية الشعب - ولو بربحية وبدعم متمايزين حسب الطبقة الإجتماعية التي تنتمي إليها- ، ألا وهو النظام المصرفي.

الوجه الثاني هو عادي: الملامة هي بقدر الآمال التي خلقتها 17 تشرين. من الممكن مناقشة ماذا تأمل الناشطون وحتى الناس، ولكن هذا موضوع آخر... من كان يتصور ولو قبل أسبوع هذا التسونامي الجارف الذي زعزع "أرخبيل الطوائف" او نظام الزعماء، وأصابه بضربات مباشرة بمعنى أن ما كان يبدو عادياً ظهر فجأة عجوزاً وعاجزاً... قبله، كان الزعماء، مثل كادر الحركة الوطنية في "فيلم أميركي طويل2مسرحية "فيلم أميركي طويل" (1980) هي مسرحية لبنانية لزياد الحباني تدور أحداثها في مستشفى للأمراض العقلية، وتمثل كل شخصية فيها فئة من المجتمع خلال الحرب الأهلية اللبنانية

" (لم أعد أتذكر إسمه، نزار ربما) يضج على عتبة شقة الحجة لكي تسأله هذه الأخيرة ويوافيها بالتحليل الصحيح... من بعد، صارت الحجة هي التي تنتظره، وهو يصعد إلى شقته خلسة...

أيضاً بعد 17 تشرين، صار حتى أذكاهم وأقواهم يعيد النظر مرة وإثنتان وثلاثة بتحاليله لكي يركب خطاباً مقنعاً له ولجماعته وللرأي العام. 17 تشرين أربكت  نظام الحكم القائم عليه البلد منذ ثلاثين عام وجعلته بائتcaduc  كما قال مرة ياسر عرفات، وزعزعت "أرخبيل الطوائف" (نظام الزعماء) حيث لا يوجد شعب بل جماعات وأفقدته حداً أدنى من توازنه. المشكلة أنه بالرغم من فقدانه لعدد كبير من وظائفه، ليس لك بديل. فذاك يتطلب ليس فعل إرادي بل الإنكباب على فعل سياسي دائم والتدرج على ملء دور المعارض الأول.

بالمعنى السياسي، المكاسب جداً مهمة مع التضاعف المريب لعدد الناس التي إنخرطت في الشأن العام، مع تحرر المناطق من أحادية الولاء، مع بلورة عناصر خطاب مركب قادر على التعبير عن وحدة الشعب، مع إعادة بروز ذاتية متحررة لم تعد تختصرها بالضرورة أحادية التفكير التي كانت سائدة ما قبل 17 تشرين. وهذه مكاسب من الصعب أصلاً ترجمتها في واقع مفروز. ولكن تبقى المهمة الأساسية الحفاظ عليها قدر الإمكان في واقع يتآكله الإفلاس والإفقار والعوز والقلق. الأهم هو ألا تتبدد هذه المكتسبات بالكامل. كيف تقيس المكاسب؟ بالنسبة لي، تقاس بتوسيعها لعالم الممكنات. أما عملية الترجمة في الواقع، فهي تتطلب أرضاً قابلة على إستقبالها، وتشخيصاً دقيقاً لماهية الواقع وأيضاً لماهية المعترضين عليه. ربما أولاً وثانياً وأخيراً، يبقى الأهم الإستثمار في جرعة الوعي تلك التي أشارت أنك قادر على تغيير الأشياء، على تغيير نفسك وقطاعك ومنطقتك وأخيراً بلدك. قادر بالتأكيد، إذا جهدت لذلك، لا إذا إكتفيت بالتمني. وهذا الشعور الكبير أيضاً لا يجب تبديده.

جميل معوض: المكاسب كثيرة. كأي حراك اجتماعي ليس هنالك من معطيات موضوعية objectives  يقاس على أساسها النجاح أو الفشل. وبالتالي، يحتم علينا ذلك قراءة ذاتية subjectives  وشخصية، بدءاً من الاشخاص التي فعلياً تغيرت حياتهم جراء 17 تشرين (أصبحوا مدركين لأهمية العمل العام...) وصولاً إلى التخبطات التي يعاني منها أفراد وأحزاب الطبقة الحاكمة.

عملياً، أرى ان هنالك مكسبين أساسيين بغياب النتائج الملموسة:

أولاً، أبرز ما انتجته  17 تشرين هو اعطاء فرصة الانقتال من التململ في السر إلى الاحتجاج في العلن. لقد اعطت الاحتجاجات مساحة – قائمة حتى يومنا هذا -  للتحدث بالسياسية بشكلها المتجرد وليس من خلال التحليل. من يتكلم مع الناس العاديين يعي بأنه سابقاً عادة ما كانوا يجدون مبررات عدة للدفاع عن الزعيم (إنه مجبور، الخيارات حتمت عليه أخذ هذه المواقف...) في الوقت الذي كانو يتململون منه في السر. اليوم السياسية متجردة ويصار الى اتهام الزعيم بالمباشر. حتى ممن هو داعم للنظام بأركانه. وقد إختلفت حجج الدفاع عنه فتراه يعطي حق للثورة مثلاً. لكن ليس لاستراتجيتها. أو تراه يسأل: وماذا حققتم؟ وبذلك ليس اعترافاً بالانتفاضة فقط، بل أيضاً برأيي إنعكاس لرغبة ما تطلب من الانتفاضة تحقيق التغيير.

ثانياً، و إستطراداً، ان الإحتجاجات الشعبية هزت ركناً أساسياً من أركان النظام الثلاث. ما هي هذه الأركان؟ السيطرة على التصورات، السيطرة على الموارد، والسيطرة على العنف. عملياً، تخلص عدد كبير من اللبنانين في تخيلاتهم من محورية الزعيم. صار ممكناً لدينا أن نتخيل مجتمعاً من دون زعيم (حيث كان هنالك استحالة من قبل لتخيل هذا الوضع). أكثر من ذلك، لم نعد نتخيل مجتمعاً من دون زعيم فقط، صرنا أيضاً نطالب بمحاسبته، نشتمه، ونعلق مشنقته. خسر النظام عنصراً أساسياً من أركانه وهي قدرته على تحقيق هيمنة شبه شاملة على المجتمع وتصوراته.

في الاخفاقات: وإذا إنتقلنا الآن ألى الإخفاقات، هل نراها كثيرة، أكثر او أقل من المكتسبات؟

بول أشقر: لا بد هنا من الإنتقال خطوتان إلى الوراء لتصويب النقاش. لا يمكن الإكتفاء بقراءة ما حدث في 17 تشرين من وجهة نظر السيرة الذاتية للناشطين. بالتأكيد، لكل واحد أن يقرأ ما يريد، وخصوصاً إذا كانت القراءة ممزوجة بالشعور والإستثمار الذاتيين. عندئذ تصبح 17 تشرين محطة تأتي في مسار تصاعدي يبدأ في 2011 (النضال الإجتماعي حول سلسلة الرتب والرواتب) ثم يعرج على الحراك المرتبط بأزمة النفايات عام 2015 التي تلته الإنتخابات البلدية عام 2016 والتي إعتبرها البعض بروفة لإنتخابات 2018 النيابية، وصولاً إلى 17 تشرين، فهذه سردية مشروعة. ولكن أكرر: هذه السردية هي السيرة الذاتية للناشطين وقصة تدخلاتهم في هذه المحطة او تلك.

قصة 17 تشرين أبعد من ذاك: 17 تشرين هي ردة فعل على مأزق نظام الزعماء (أرخبيل الطوائف) وقد بدأت تجهيز أرضيته مع بداية الحرب وإكتملت عناصره مع نهايتها بتصحير كل المشهد المجتمعي حتى قبل المشهد السياسي. هذا النظام الذي تزعزع او بدأ يفقد عناصر أساسية من شرعيته في 17 تشرين هو نفسه هذا النظام حيث لا ضرورة لوجود برامج يحكم على أساسه، لا بل يقتصر دوره حصراً على "قسمة" الدولة (المحاصصة). هذا النظام الذي أخذ يفقد موارد إستمراره والقائم على تكامل الأدوار هو نفسه هذا النظام الغير قابل للإصلاح بمعنى أنه صعب إستبدال قطعة بغيرها –هكذا خلقها الخالق وهكذا صبّها!! -  كما دلت وتدل السنة الأخيرة.

لهذا السبب، وهنا بيت القصيد، أنتج هذا النظام – عفواً للقساوة - إعتراضاً غير قابل للإصلاح بدوره. إنه إعتراض أخلاقي بمعنى أنه مجرد وغير سياسي تارة يؤله شعبه وطوراً يشتمه. يجهل ما هي المرحلية في السياسة، يريد "إسقاط النظام" دون أن يحفظ لنفسه بداية موقعاً في المشهد السياسي. هذا مستحيل في أي عمل سياسي وأكثر من مستحيل في نظام مثل النظام الطائفي اللبناني بسبع وسبعين روح وأكثر، والقائم على إرتجاجات دائمة قادرة على إغراق أي كان او على جعله يزحل من زاوية إلى زاوية في المشهد، وان يُحشر فيها دون أن يدري وحتى دون أن يرتكب خطأً! فكيف إذا إرتكبنا هذا الكم من الأخطاء ومن الهفوات ومن الإرتجالات...

أخيراً وليس آخراً في موضوع الإخفاقات: لا شك أن النظام "سقط" في أي فحص أخلاقي او حتى وظيفي... أي لجنة تحكيم كانت لتصرفه وتعتبره مفلساً وراسباً بأي مقياس. في النظام اللبناني، الموضوع غير هيك: بالرغم من كل ما سبق، إن لم يكن لدينا البديل الحقيقي المرتبط بحد أدنى بوسائط مجتمعية وأن تكون الناس قادرة على تمييزها أولا وتبنيها في ما بعد، قد يحكمونا بعد أربعين سنة... هاي شي وهاي شي...

جميل معوض: لقد ركزت الاحتجاجات كثيراً، بشكل مقصود أو غير مقصود على "الانهيار". ظهر ذلك وكأنه عامل قوة ضد النظام. أي انه من الممكن توظيفه لفضح النظام وتحميله مسؤولية الانهيار المالي، والاقتصادي. لكن غاب المشروع. أذكر أنه بعد كل مظاهرة كنا نسأل "وبعدين، منروح على البيت"؟ المشروع السياسي كان غائباً تماماً. وما زال.

جمال الانتفاضة انها فتحت مجالاً للجميع في أن يجد نفسه في الساحات وفي الشعارات، من المواطن العادي غير المسيس، لليسار، لليمين، و للمفارقة أيضاً لبعض أفراد الطبقة السياسية. فالماركسي، وجد فيها صراعاً طبقياً. والمهتم بالبيئة، وجد فيها تعبيراً عن حس بيئ... الخ. هذا شيء إيجابي من جهة ولكنه ضعف في نفس الوقت. أعطي مثلاً. الكثير قال بأن الإحتجاجات الشعبية ساهمت في استعادة المساحة العامة. هذا خطأ.  لم نستعد المساحة العامة (وسط بيروت، و"الزيتونة-باي" ما زالا مملوكان من سوليدير). الحقيقة اننا استعدنا وظيفة المساحة العامة (أي ادركنا اهمية المساحة المفتوحة للنقاش، وبالتساوي بين الناس...). ضاعت الانتفاضة بين الاحلام وبين الواقع.

كيف نتفادى هذا الضعف؟ نتتفاداه من خلال عاملين: القيادة، والمشروع.

علت أصوات بالانتفاضة قالت بأن جمال التحركات أن لا قادة لها. وجاء ذلك معطوفاً على شعار بأن "الثورة تطالب ولا تفاوض". وهذه اشكالية بحد بذاتها. اما هذه الاصوات كانت عاجزة ان تتفق على برنامج موحد أو على قادة موحدين، وبالتالي تلطت وراء شعارات شعرية لتغطي عجزها. وأما هي تعرف عملياً بان الحراك لا مقومات ثورية له (لجنة مركزية، مشروع متكامل أو ربما مقومات العنف الثوري...)، لكنهم حاولوا ان يصوروه على انه ثورة فقط لأن التغيير المتخيل لديهم يقوم على الثورة من الاسفل، تيمناً بثورات يسارية عالمية.

في غياب المشروع، تبقى الشعارات فضفاضة، لا بل تسمح لبعض أركان الطبقة الحاكمة من الذهاب بعيداً في دعمها للانتفاضة، وبالتالي في ركوب موجتها، كما يقول البعض. لنأخذ الشعارات مثلاً: شعار الاوليغارشية كنموذج أخذ حقه في أول أيام الإحتجاجات الشعبية، ومعه تقسيم المجتمع على أساس معادلة ال99% ضد ال1%. اليوم، مرّ الوقت عليه.  كنا سابقاً نتحدث عن اسقاط "النظام" (القواعد، الدستور ...) وأصبحنا نتحدث عن اسقاط "المنظومة" (أي الأفراد). إنتقلنا من النظام إلى المنظومة، إنتقلنا من الأساسات إلى الأفراد، ولم أعد استغرب إذاً بأن سياسي مثل سامي الجميل وهو انتاج للنظام وفلسفته (العائلية، المناطقية، الحزبية التقليدية، الطائفية، الشعبوية...) يريد فقط اسقاط "المنظومة" من خلال إجراء انتخابات مبكرة.

الأمل: ولكن لا يوجد سياسة بدون أمل، وهذا الحوار ينقصه الأمل...

بول أشقر: لا أتقن تجارة بيع الأحلام الوردية. نأمل او بالأحرى نتأمل. الأمل السياسي لن ينزل علينا كندى الصباح، لن يأت إلا من العمل المنهجي لتغيير العقلية السائدة في الإعتراض. ومن الإرتقاء تدريجاً من الإعتراض الأعمى إلى المعارضة السياسية. إنه درب طويل، وقد بدأ البعض يسلكه، وهو مفتاح الإنتقال من عتبة لأخرى.

الأمل قد يأت أيضاً بشكل متكامل من مجتمع عاد يأخذ تدريجاً مصيره بيده. هنا وهناك. هناك إرهاصات تدل أن بعض الفئات تأخذ خيارات في هذا الصدد، إن في المناطق او في المهن. ولكن هذه الآليات الجنينية لكي تولّد أملا، عليها أن تكون أكثر كثافة وإنتشاراً ومنهجية لكي تساهم كل واحدة وكلها معاً في إطلاق محرك الأمل. وهنا الإنتصارات الجزئية قد تساعد بتحولها إلى كرة ثلج او ربما نموذج يحتذى به لتتعميم ثقافة جديدة من التواجد.

أخيراً، في مجتمع سياسي "مكربج" سلطوياً وإعتراضاً، لا بد من مبادرات لتحريك المستنقع او قل "التعداد الآلي" الرتيب والمعهود الذي يعيده كل واحد منا دون أن يفكر بمغزاه...  إذا عرفنا كيف نقتصر المسافات ونساهم في تحديث وتجديد الفكر السياسي (او الإعتراضي لا فرق) نكون قد وفّرنا وقتاً ثميناً. وتوفير الوقت يساعد في توليد الأمل: هناك حلقة مفرغة قد تؤدي (بدأت تؤدي) إلى يأس عميق بسبب تضافر عناصر موضوعية (إفلاس / إفقار / إنفجار) وعناصر ذاتية (إستسهال / إنسداد أفق / صعوبة المهام). لا يوجد عصا سحرية لتغيير المشهد إلا لمحبي الحلول الأمنية. الأمل يجب أن يكون مزيجاً من العزيمة على العمل مع نتائج مرحلية قابلة للقياس وفي الوقت ذاته محاولات وحملات تنطلق من قراءة لعدد من مآزق النظام والتدخل فيها لـ"تخريب اللعبة" بالمعنى الإيجابي وجذب إهتمام المواطنين العاديين قبل الناشطين وجعل الخطوط تتحرك. أيضاً وأيضاً، إنه عمل على الأمد الطويل وسيولد أملاً على الأمد المتوسط شرط أن نباشر به فوراً...

جميل معوض: بمواجهة كل سلطة، توجد مقاومة. وأمام كل يأس، يطل الأمل. طبعاً، اليأس منتشر بشكل كبير حالياً في لبنان. واليأس ليس حالة نفسية فقط، لديه أيضاً بعد مادي  conditions matérielles. فبين "الانهيار" و"الانفجار"، شعر المجتمع بإنسداد الافق لأنه أدرك بأن لا شبكات أمان تحميه. من هنا، الأمل لا يجب أن يكون انعكاساً لأحلاماً وردية، من خلال مهرجانات تحيي "ذكرى الثورة" مثلاً، أو زجليات تؤكد بأننا "لن نترك البلد، لن نهاجر". لا بد من تأمين البعد المادي المقرون بالأمل من خلال مشروع سياسي. لا أمل حقيقي من دون سياسة، ولا سياسة من دون أمل، من دون رؤية لمستقبل أفضل من الذي نعيشه.

لا بد من التشديد أيضاً بأن المجتمع اللبناني دائماً تعلق بالأمل حتى لو لم يتجسد. في سنوات الحرب الأهلية كان الناس يقولون "بكرا بتجي الدولة وبتشيلن (أي الميليشيات)". بعد الحرب الأهلية تحول الأمل إلى مشروع حكم سيطر عليه السياسيين، هو أمل اعادة الاعمار المقرون بالرهان على السلام مع اسرائيل. وقد تعايش بالمقابل مع نقيضه أي أمل الانتصار على اسرائيل وإزالتها من الوجود. وقد تحققت بعض أهداف المشروعين، لكن أي منهما لم يؤسس لمجتمع يحمي مشروعه، فلا حقوق إجتماعية ولا اقتصاد عادل وارد فيهما على سبيل المثال. هكذا، أدت إعادة الإعمار إلى بنى تحية ترهلت وإلى وسط تجاري مهجور. أما المقاومة فإن انتصرت على اسرائيل إلا أنها عجزت عن بلورة مشروع قادر على حماية المجتمع من الفساد. تابع معي: بعد الـ2005، ربطنا بين الخروج السوري وبين عودة الامل بالدولة والعبور اليها. وكلها طلعت آمالاً زائفة، لم يستفد منها الا الطبقة الحاكمة ومشاريعها.

اليوم لم يعد النظام، قادراً على بيعنا أي مشروع أمل. هذا أكبر دليل على عجزه. وهذا بحد ذاته مصدر أمل بالنسبة لقوى الإعتراض. علينا ان ننتج مشروعاً سياسياً ينتج عنه أمل حتمي بمستقبل أفضل.

الانتقال، الحكومة الشرعية والانتخابات: أخيراً، كيف تنظر لمجمل القضايا السياسية الراهنة المطروحة من مواضيع إنتقال السلطة، إلى حكومة ذات صلاحيات تشريعية، إلى موضوع الإنتخابات وهلم جر... ؟

بول أشقر: إن هذا النقاش لا يمكن أن يعالج بالقصف العشوائي. علينا وضع إطار منطقي لمناقشته. ما هو مطلوب من قوى الإعتراض هو أن ترتقي إلى مستوى المعارضة. هذه مهمتها التاريخية. أن تتجهز لكي تكون معارضة مقنعة وأن تقنع شعبها بجدارتها للعب هذا الدور، بإعتراف الشعب وليس بإعترافنا نحن (أي الناشطين). أولاً علينا أن نثبت أننا أحسن المعارضات، أننا أحسن من المعارضات الأخرى او المزيفة. عندما ندرك هذا المستوى، بنظر شعبنا، نكون قد بدأنا نتأهل للعب دور البديل. لا نستطيع أن نكون بديلاً مقنعاً قبل أن نثبت جدارتنا بأن نكون معارضة مقنعة. لا بأس أن يكون لهذه المعارضة لجان متخصصة او حتى حكومة ظل كما يقال. ولكن هذه تسميات: ليس مطلوب منا أن نضيّع وقتنا في تشكيل حكومات على الورق لنوحي لشعبنا أن لدينا أسماء أو اننا بديل او لا أعرف ماذا... . بالمقابل، المطلوب منا هو أن نثبت لشعبنا أننا معارضة رصينة وقادرة وملمة، وهكذا نتأهل لكي يثق بنا كإمكانية بديل. الفارق بين الموقع والآخر حقيقي.

أما موضوع الحكومة من خارج الطبقة السياسية وذات صلاحيات إشتراعية إستثنائية فيها وجهان. الثورة غير قادرة على فرض الأولى التي تعني في العالم الحقيقي ضغطاً شعبياً قوياً جداً كما حدث في أول أسبوعين من 17 تشرين حيث تؤلف حكومة من خارج الطبقة السياسية، والضغط الشعبي يمنع الطبقة السياسية أن تمد يدها إلى الحكومة، والطبقة السياسية في المقابل بسبب هذا الضغط الشعبي الهائل تمنح هذه الحكومة الثقة. هذه الظروف إذا توفرت بلحظة ما فهي غير متوفرة حالياً. الصلاحيات التشريعية الإستثنائية هي حاجة قصوى مع مسار إنهيار البلد إن كانت الحكومة من الطبقة السياسية او من خارجها.

الإنتخابات هي في الحياة العامة حدث سياسي بإمتياز، وفي حياة عالم الإعتراض يجب أن يكون كذلك، بمعنى أنها تقيس ما تغير في البلد بين إنتخاب وآخر، ما قمنا به من عمل جدي كل أيام السنة. في وضعنا المهترئ الحالي، لا يجوز أن تحركنا الإنتخابات. ما يجب أن يحركنا هو العمل الدؤوب كل يوم لنصبح لاعباً سياسياً في المشهد العام. وإن لم تجر الإنتخابات؟ الإنتخابات ستأتي كمحطة طبيعية إذا عملنا، لا إذا إلتهينا بالإنتخابات. والإنتخابات لن تعطينا إلا نتيجة متواضعة أول مرة: 5 نواب، 10 ام 20؟ في كل الأحوال، الإنتخابات لا يمكن أن تكون الموضوع: الموضوع هو أن البلد "فرط". من هنا، موضوعنا يصبح بناء المعارضة التي لا يمكن أن تكون مجرد معارضة سياسية بل أيضاً مجتمعية.  الموضوع هو أن البلد "فرط" أكرر . من هنا، موضوعنا يصبح أي مشروع نريد أن نبني ونقدم لشعبنا بعد إنتهاء حقبة الكازينو المالي حيث "دعمتنا" الليرة جميعنا، الأغنياء ولكن أيضاً الفقراء، وجعلتنا نعيش فوق طاقاتنا الحقيقية قبل أن ينسحب البساط من تحتنا، هذه المرة الفقراء قبل الأغنياء. كيف نعود ونبني البلد؟ هذا هو السؤال، ومن أين نبدأ لبناء المعارضة؟ هذه هي المهمة.

جميل معوض: الانتخابات ودوريتها أساسية في نظام ديمقراطي، أو أقله من أجل الحفاظ على ديمقراطية ما. البعض يطالب بانتخابات مبكرة بناء على قانون انتخابي عصري وعادل. لكن الانتخابات ليست موضوعاً تقنياً تتعلق بعدالة القانون. الانتخابات في لبنان هي عملياً مناسبة للتنافس ليس على السياسيات العامة لكن على السيطرة على الموارد وشبكات الزبائنية. وبالتالي، التنافس مسبقاً هو لصالح الطبقة السياسية التي تمتلك أدوات الانتخابات والسيطرة عليها وعلى الناخبين (من معرفة تامة بالأحياء ومن يسكنها، وحاجات الناس اليومية، وصولاً إلى امتلاك ما يسمى بالمفاتيح الانتخابية والتي هي نوع من العنف الرمزي الذي يأتي معها عشية الانتخابات وخلالها. هي فعلاً نوع من الترهيب). من هنا، لا أرى انه يمكن لنا ان ننافس الطبقة الحاكمة من خلال الانتخابات، التي ستفوز بها وتعيد شرعية شعبية فقدتها بالشارع.

المسألة بالنسبة لي أبعد من إنتخابات. أنها مسألة تنافس أو صراع مع الطبقة الحاكمة.

أنا أرى انه لا بد من التسلح بفكرة الصراع قبل المنافسة. الصراع اي فتح مجالات مقارعة النظام في كل الأمكنة (الانتخابات النيابية آخرها). وهذه الصراعات تتنوع من الشارع، وصولاً الى الانتقاد على مواقع التواصل الاجتماعي، تحطيم صورة ومحورية الزعيم، إلى تطوير برامج سياسية، إقتصادية وإجتماعية، إلى الانتخابات النقابية الخ). الصراع هذا لا يهدف إلى مقارعة النظام فقط، لكن يهدف إلى تحويل العمل العام من سياسة تقديم الخدمة الى سياسة السياسات العامة. أيضاً إلى اعادة انتاج مجتمع. وهذا هو التحدي. هنا ربما يمكننا تحويل الانتخابات النيابية من انتخابات عد اصوات، إلى انتخابات مناقشة برامج.

Endnotes

Endnotes
1 https://www.facebook.com/AnaKhatAhmar
2 مسرحية "فيلم أميركي طويل" (1980) هي مسرحية لبنانية لزياد الحباني تدور أحداثها في مستشفى للأمراض العقلية، وتمثل كل شخصية فيها فئة من المجتمع خلال الحرب الأهلية اللبنانية

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.