المقدمة والمنهجية
أ . المقدمة
يعاني السودان من ارتفاع نسبة الفقر بين سكّانه، إذ تتجاوز هذه النسبة 65% من مجمل عدد السكان. وتتأثر هذه النسبة بضعف النمو الاقتصادي واتساع رقعة النزاعات الأهلية وما يترتب عليها من هجرة ودمار وفقدان لسبل كسب العيش. ومع ذلك الاتساع في نسبة الفقر، فإن شبكات الحماية الاجتماعية لا تقوم بتغطية قطاعات كبيرة من السودانيين.
بدأ السودان منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي برامج للإصلاح الاقتصادي تتضمن رفع الدعم عن السلع الأساسية التي تدعمها الحكومة كالخبز والمحروقات. وكما هو معلوم فإن تطبيق هذه السياسات يحتاج إلى شبكات حماية اجتماعية فعالة لتقليل آثار هذه السياسات على الطبقات الفقيرة، وهي غاية ليست يسيرة في دولة فقيرة، حيث هنالك تساؤل جادّ حول قدرة الحكومة على المضيّ في تطوير نظام فعال للحماية الاجتماعية.
في ظل ضعف الموارد الحكومية والميزانية الأمنية والعسكرية الضخمة، لاسيما في فترة حكم البشير 1989 – 2019، فإن قدرة الحكومة على تخصيص موارد لدعم برامج الحماية الاجتماعية يبدو ضعيفاً، لذلك يُعتبر ديوان الزكاة المقدم الرئيسي لتدخلات الحماية الاجتماعية في السودان من خلال استهداف الشرائح الفقيرة والضعيفة، إذ تمثل موارد الزكاة نحو 87% من إجمالي تدخلات شبكات الحماية الاجتماعية الحكومية (باستثناء الدعم الحكومي).
وهذه الدراسة تنطلق من أن الزكاة يمكن أن تكون أداة فعالة في تمويل وتنفيذ برامج الحماية الاجتماعية، بالإضافة إلى مؤسسات الحماية الاجتماعية في السودان، إذا ما أديرت بشكل سليم. لذلك عملت الورقة على التتبع التاريخي لتطور نظام الزكاة في السودان وتأثير الأنظمة الحاكمة على أدواره في منظومة الحماية الاجتماعية. كما تتناول الدراسة تأثير نظام البشير 1989 – 2019 على نظام الزكاة والتحكم فيه من زاوية التمكين الاقتصادي والسياسي ومدى تأثير ذلك على قدرته في تعزيز شبكات الحماية الاجتماعية في السودان. وتلعب طبيعة النظام السياسي دوراً في تحديد أطر عمل ديوان الزكاة، إذ إن قانون ديوان الزكاة يجعل منه مفوضاً بالإنابة عن الحاكم في صرف الزكاة، وإن السلطة التقديرية لولي الأمر الحاكم في صرف الزكاة هي سلطة أصلية، وتقديرات ولي الأمر تؤثر على نمط توزيع موارد الزكاة المخصصة للمشروعات.
وتتناول الدراسة الفترة التي أعقبت سقوط حكم الإخوان المسلمين في الفترة الانتقالية 2019 -2021، وتلقي الضوء على دور ديوان الزكاة عقب اندلاع الحرب السودانية في 15 نيسان/أبريل 2023.
خلصت الدراسة إلى الإيجابيات والتحديات التي تواجه دور الزكاة في الحماية الاجتماعية في السودان، وقدمت توصيات تهدف إلى مراجعة التجربة، والتي على توسُّعها فهي مصحوبة بالعلل، من حيث التعامل معها كأداة للجباية وتوفير الموارد التي لا تخضع لضوابط صرف ومؤسسية ملائمة وتتأثر بطبيعة النظام السياسي الحاكم وأولوياته حتى ولو تناقضت مع أهداف الزكاة والحماية الاجتماعية.
تكمن أهمية تناول العلاقات بين الزكاة والحماية الاجتماعية في السودان كونها تصنف كواحدة من أهم موارد الزكاة. كما أن الزكاة في غالب التجربة التي تناولتها الدراسة كانت عبارة عن ضريبة دينية إجبارية، وهو ما يتعارض مع أغلب تجارب الدول الإسلامية في التعامل مع فريضة الزكاة. الربط بين الزكاة والحماية الاجتماعية يحتاج إلى تعامل دقيق يفصل بين الأدوار التي يمكن أن تؤديها الزكاة في الحماية الاجتماعية، فهي ليست مجرد عمل خيري ويمكن أن تكون لديها تأثيراتها على الاقتصاد الكلي، وبين الوقوع في فخ استخدامها كمورد جبائي سهل تتنصل به الحكومات من أدوارها في تطوير ومأسسة الحماية الاجتماعية. تحاول هذه الورقة من خلال التجربة التي جرت في السودان المساهمة في تطوير النقاش والتجربة حول أدوار الزكاة في الحماية الاجتماعية.
ب. المنهجية
تتناول الدراسة من خلال المنهج الوصفي التحليلي دور نظام الزكاة ومؤسساته في تعزيز الحماية الاجتماعية في السودان، كما تستخدم المنهج التاريخي في تلمّس التطور الذي صاحبه وتأثيراته المختلفة، وتنظر من زاوية الاقتصاد السياسي لتأثير الأنظمة السياسية المتعاقبة على نظام الزكاة في السودان.
تغطي الورقة البحثية الفترة الزمنية من 1980 – وحتى 2021، وتعتمد على المقابلات مع مسؤولين حكوميين سابقين وأكاديميين كمصادر معلومات أولية، وعلى الاستعراض المكتبي كمصادر ثانوية.
2. الإطار المفاهيمي
أ. الحماية الاجتماعية
مفهوم الحماية الاجتماعية مفهوم غير ثابت ومرن، ويمكن تعريفه بأنه مجموعة من الإجراءات العامة التي تهدف إلى مواجهة هشاشة حياة الأفراد من خلال التأمين الاجتماعي وتوفير الحماية من المخاطر والمحن مدى الحياة، عن طريق المساعدة الاجتماعية وتقديم دعم مالي للفقراء وتمكينهم من خلال جهود الإدماج الاجتماعي التي تعزز فرص المهمشين للحصول على التأمين الاجتماعي والمساعدة الاجتماعية. بالتالي، تساهم الحماية الاجتماعية في تحقيق العدالة الاجتماعية وإن ارتبط مفهوم الحماية الاجتماعية بمفهوم دولة الرفاه الاجتماعي، فإن المضيّ نحو الإصلاحات الهيكلية والتطبيقات النيوليبرالية تجعل من الحاجة لترسيخ مفهوم الحماية الاجتماعية لازماً ضرورياً والتزاماً تجاه توفير حقوق الإنسان.
بدأ السودان منذ نهاية السبعينيات الدخول في حزم (الإصلاح الهيكلي) والتي تقضي بتقليص دور الدولة وتخفيض الإنفاق العام وتعزيز دور القطاع الخاص. هذه التدابير تحتاج دائماً إلى تدابير اجتماعية مقابلة للتصدي للآثار الجانبية المتأتية عنها، وإلى وجود مؤسسات فعالة لتقديم خدمات الحماية الاجتماعية. وهو تحدٍّ كبير في ظل ارتفاع نسبة الفقر في السودان، وارتفاع نسبة العاملين في القطاع غير المهيكل والتي تكاد تصل في بعض الدراسات إلى 60% من القوى العاملة. كما أن نحو 65% من العمالة في الفئة العمرية 25 – 54 عاماً منخرطة في القطاع غير المنظم. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحروب والنزاعات ذات الطابع الأهلي في العديد من مناطق السودان (ثماني ولايات) تجعل من الأوضاع الاقتصادية أكثر تعقيداً.
تتعدد المؤسسات التي تقوم بالحماية الاجتماعية في السودان. وعلى الرغم من أن وزارة التنمية الاجتماعية تشرف على أغلب هذه الصناديق والهياكل، لا يوجد تنسيق وترابط بين هذه المؤسسات بما يمنع حدوث تكرار أو سوء توزيع لخدمات الحماية الاجتماعية. خلال فترة الحكومة الانتقالية (2019-2021) كان هنالك مشروع لم يرَ النور حول تسجيل الرقم الاجتماعي لينظم عملية الاستفادة من المساعدات .
وأبرز مؤسسات الحماية الاجتماعية في السودان هي:
- التأمين الصحي، 2. الصندوق القومي للمعاشات، 3. ديوان الزكاة، 4. مفوضية مكافحة الفقر، 5. الجهاز الاستثماري للضمان الاجتماعي، 6. المجلس القومي للأشخاص ذوي الإعاقة، 7. الصندوق القومي لدعم الطلاب، 8. بنك الادخار، 9. مفوضية العون الإنساني.
إن حجم الموارد المتاحة للصناديق الاجتماعية المختلفة إذا تمّت إدارتها بشكل سليم، يمكن أن يتجاوز أثرها المساهمة الفعالة في برامج الحماية الاجتماعية للتأثير الإيجابي على الاقتصاد الكلي وفق حجم السيولة والموارد المتاحة لها.
ب. الزكاة والحماية الاجتماعية
الزكاة هي اسم لقدر من مال مخصوص، يصرف لطائفة مخصوصة بشروط ، والزكاة هي أحد أركان الإسلام الخمسة. تعد الزكاة صاحبة النصيب الأكبر في توفير موارد الحماية الاجتماعية، بل وتقوم بدعم بعض برامج المؤسسات الاجتماعية الأخرى كمفوضية مكافحة الفقر.
ومن مميزات مساهمة الزكاة في برامج الحماية الحكومية، هو استقلالها عن ميزانية الحكومة، وأنها ليست فقط مورداً مستداماً لتوفير الموارد للحماية الاجتماعية، ولكنها مصدر قابل للزيادة. ويعتبر الوعاء الزكوي وعاءً كبيراً يشمل قطاعات وموارد مختلفة مادية وعينية، كما يمتد عمل الديوان في كل مدن وقرى السودان. ومن المميزات في دور ديوان الزكاة أن يكون ملزماً بإنفاق كل ما يجمعه خلال فترة زمنية محددة، فهو مؤسسة إنفاق كما هو مؤسسة جباية، ما يجعل قدرته على الاستجابة في الحالات الطارئة وحالات الكوارث أسرع وأكثر فعالية .
ج. أدوار ديوان الزكاة في الحماية الاجتماعية
- التعليم: دعم مجانية التعليم الأساسي، كفالة الطالب الجامعي، توفير المستلزمات الدراسية، توفير الوجبة المدرسية.
- الصحة
- تحسين المأوى.
- المشاريع المدرّة للدخل.
- الدعم المباشر: ويشمل ذلك التمويل الأصغر، والتمويل ذا البعد الاجتماعي.
- دعم الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة بتوفير المستلزمات الأساسية.
- إيجاد فرص عمل للشباب والمرأة في برامج (التمويل الأصغر، القرض الحسن) ومشروع المأوى.
من الخدمات أعلاه يتّضح تنوّع وتعدّد الأدوار التي تُؤدى بواسطة ديوان الزكاة في مجال الحماية الاجتماعية، إذ يساهم الديوان بشكل فعال في دعم الأسر الفقيرة في خدمات الصحة والتعليم، حيث يقدم الديوان الدعم لأكثر من 80 ألف طالب جامعي، ويساهم في توفير خدمات التأمين الصحي للأسر الفقيرة غير المشمولة بخدمات التأمين الصحي.
3. تجربة ديوان الزكاة في الحماية الاجتماعية في فترة الدراسة
أ. مؤسسة الزكاة من 1980 – 1989
صدر أول قانون للزكاة في السودان في نيسان/ أبريل 1980، بهدف إحياء الزكاة. ولهذا الغرض أنشئت مؤسسة "صندوق الزكاة" على أن يتمّ جمعها وتوزيعها على سبيل التطوع والاختيار. وتكوّنت إدارة الصندوق من لجنة تنفيذية جرى اختيار أعضائها من مؤسسات حكومية. وفي آذار/مارس 1984 وعقب إعلان الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية في 1983 صدر قانون جديد ضم بموجبه صندوق الزكاة إلى إدارة الضرائب التي تتبع وزارة المالية وسمي بصندوق الضرائب والزكاة، وأصبحت الزكاة تجمع بصورة إلزامية، وألغيت كافة الضرائب المباشرة، وفرضت ضريبة (تكافل اجتماعي على غير المسلمين تعادل نسبة الزكاة)، وتمّ تشكيل إدارة للصندوق من مجلس أمناء ولجنة عليا للتظلّمات وإدارات متخصصة.
لا يمكن تجاهل التطور القانوني والهيكلي المتعلق بإحياء شعيرة الزكاة بمعزل عن التوجه الإسلامي للرئيس الأسبق جعفر محمد نميري والذي بلغ أوجّه بإعلان النميري تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية في السودان ومن ثم تعديل كل القوانين بما يتماشى مع الشريعة الإسلامية. وحتى بعد سقوط نظام النميري عقب الانتفاضة الشعبية في نيسان/أبريل 1985، صدر قانون جديد للزكاة عام 1986 فُصلَت بموجبه الزكاة عن الضرائب، وأُسست لها هيئة مستقلة، وعيّن أول أمين عام لديوان الزكاة في كانون الثاني/يناير 1988، وتبع الديوان من ناحية الإشراف لوزارة الشؤون الاجتماعية، وانتشرت فروعه في جميع ولايات السودان.
شهدت تجربة الديوان في هذه الفترة تحديات مهمة، منها المجاعة التي ضربت مناطق عديدة في القرن الإفريقي ومناطق في غرب السودان. وقد عانى السودان في هذه الفترة من الهجرة من دول الجوار والنزوح الداخلي من المناطق التي ضربها الجفاف. كما بدأت الأوضاع الاقتصادية في التدهور منذ النصف الثاني من السبعينيات، ولم تُجدِ الإصلاحات الاقتصادية التي بدأت في تلك الفترة في معالجتها، بل فاقمت من تدهورها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة.
شهدت هذه التجربة الانتقال في بدايتها من طوعية الالتزام بأداء الزكاة إلى الإلزامية، كما شهدت التراوح من جعلها مستقلة ومنفصلة عن الضريبة ثم الربط بينها ثم العودة إلى جعلهما منفصلين .
ب. تجربة ديوان الزكاة في الفترة من 1989 – 2019 فترة حكم الحركة الإسلامية:
عمل نظام الحركة الإسلامية في السودان على تطبيق تصوراته حول الحكم الإسلامي من خلال تجربته في الحكم، ومن ذلك حديثه عن تطبيق تجربة الاقتصاد الإسلامي في مقابل الاقتصادين الماركسي والرأسمالي. وتقع مسألة الزكاة في قلب قضايا الاقتصاد الإسلامي كأساس لتحقيق العدالة الاجتماعية والتكافل بين المسلمين. في حقيقة التجربة التي عاشها السودان من خلال حكم الحركة الإسلامية فإن النموذج الذي طُبّق على مستوى الاقتصاد هو امتداد لتطبيق سياسات الإصلاح الهيكلي مع تشوه في التطبيق، لتحقيق أحد أهداف (الحركة الإسلامية) وهو التمكن من مفاصل الدولة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً عبر ما عرف بسياسة (التمكين)، وبالتالي تم توفير موارد الدولة لصالح خدمة هذا التمكين.
وشهدت هذه التجربة تطوراً كبيراً في مسار عمل الديوان، من حيث التوسع في زيادة حجم موارد الزكاة ومن حيث إنفاقها، وهنا نتحفظ قليلاً. فهذا التوسع في الإنفاق لم يكن مرتبطاً فقط بتحقيق أهداف الزكاة، بل كان متصلاً أيضاً بتوفير موارد لمؤسسات وأنشطة متعلقة بالحركة الإسلامية وحكومتها.
صدرت تعديلات قانونية في ما يخص الزكاة في هذه الفترة، الأول كان في العام 1991، ثم صدر قانون العام 2001 والذي يمثل المرجعية الرئيسية لعمل الزكاة. بالإضافة إلى ذلك، تشكل اللوائح والنظم القواعد الأساسية للعمل، بالإضافة إلى المراشد وأدلة العمل في مجال الجباية والمصارف والإدارة. كما تحدد المنشورات كيفية تطبيق القانون، والطرق العلمية والطرق المتعلقة بالجباية والصرف وكيفية تنفيذ العمل من ناحية إدارية.
لم تتبع الحكومة السودانية مذهباً محدداً في موضوع الزكاة، بل تنقلت بين المدارس المختلفة لتتوسع في الجباية الزكوية، كما قامت بالتوسع في المصارف التي تمضي لها الزكاة.
لقد كان التوظيف السياسي لموارد الزكاة واضحاً في مصارف الزكاة المستخدمة، إذ شمل صرف الزكاة الإنفاق على الحرب في جنوب السودان ومصروفات أمنية. كما شمل الإنفاق من مال الزكاة منظمات مسيطر عليها من قبل الحركة الإسلامية كمنظمة الدعوة الإسلامية، ومؤسسات تعليمية تابعة لها كجامعة إفريقيا العالمية، كما شمل التوظيف في ديوان الزكاة العديد من المنسوبين إلى الحركة الإسلامية.
إن التراوح بين الاستقلالية المنصوص عليها، وفي نفس الوقت خضوع ديوان الزكاة للوزير المختص ورئاسة الجمهورية، جعلته قربيا من التناول السياسي الذي لا يخضع لأدوات محاسبة مناسبة، كما أن التوسع في مصارف الزكاة لم يمثل فقط انفتاحاً فقهياً، ولكنه كان مدخلاً لاستخدام يتجاوز البنود المتعارف عليها لتحقيق مراد مَن بيده السلطة .
شهدت فترة حكم نظام الحركة الإسلامية تجاوزات مالية وصلت حد الاتهام بالفساد، وهو نتاج طبيعي في ظل خلل قانوني وغياب للشفافية تجعل من حوكمة عمل ديوان الزكاة حلماً بعيد المنال. وقد كانت يد السلطة التنفيذية مبسوطة في توجيه الصندوق لدعم ما تراه أولوية، وما لذلك من خطورة في ظل نظام شمولي تغيب فيه أدوات المساءلة والمحاسبة؛ الأمر الذي يجعل من الزكاة مورداً إضافياً لمصروفات حكومية بدلاً من تفرغها للحماية الاجتماعية المخصصة للشرائح الضعيفة.
لقد كان الطابع الجبائي غالباً على عمل ديوان الزكاة، ما جعل النظر إلى تطبيق الشعيرة الدينية وبشكل قسري أقرب في تصورات الناس إلى الجباية، لاسيما وأن تطبيقها بقوة القانون ومعاقبة من يمتنع عن دفعها ساهما في ترسيخ الأمر، ما قاد إلى التهرب من دفعها بما يفقد الديوان موارد مالية مقدرة .
التدفقات المالية للزكاة في الفترة من 2003 - 2018
الجدول يعبر عن حصيلة الزكاة في الفترة من 2003 – 2018، الوحدة مليون جنيه سوداني.
تعد تجربة ديوان الزكاة في الحماية الاجتماعية في فترة حكم الحركة الإسلامية الأكثر تأثيراً حيث شهدت تمدداً تنظيمياً لتشمل كل السودان، ومثلت أولوية بالنسبة للحكومة وفق إطار أيديولوجي لتبني فكرة تأصيل الحياة وفق المرجعية الدينية. وشكلت الزكاة مورداً مالياً معتبراً تتحرك فيه الحكومة بعيداً عن أدوات وإجراءات الضبط التي تتم في ميزانيات الحكومة الأخرى .
على الرغم من أن مصارف الزكاة الرئيسية ترتبط بالحماية الاجتماعية، وأن الزكاة تعتبر الأكبر لتمويل برامج الزكاة، إلا أن النظر إليها فقط من زاوية الحماية الاجتماعية يبدو محدوداً. فقد تم التعامل مع الزكاة كفريضة دينية، مع اعتبار الدولة مسؤولة عن تحصيلها بدلا من اعتبارها أداة فعّالة في تعزيز الحماية الاجتماعية في السودان. يكمن الخلل هنا في أن النظر إلى الزكاة من زاوية الحماية الاجتماعية يجعل التنسيق بين مؤسسات الحماية الاجتماعية المختلفة أمراً أكثر ضرورية. هذا التنسيق يتيح الاستخدام الأمثل للموارد المالية المتاحة للحماية الاجتماعية، وهو أمر يؤثر بشكل إيجابي على شراكات ديوان الزكاة وعلاقاته مع الشركاء التنمويين والجهات الحكومية الأخرى المعنية بتقديم خدمات الحماية الاجتماعية.
على الرغم من التطور في الإمكانيات والموارد خلال هذه الفترة، لم يشهد ديوان الزكاة التطور التقني والإداري المطلوب، مثل أتمتة العمل واعتماد أنظمة أكثر فعالية وشفافية.
ج . 2019 – 2021: فترة الحكومة الانتقالية
على مستوى السياق الاقتصادي العام شهدت هذه الفترة بروز تحديات رئيسية تؤثر على عمل ديوان الزكاة ومساهمته في برامج الحماية الاجتماعية، من أهمها التفشي العالمي لجائحة كورونا. كما شهدت الفترة تطبيق حزمة إصلاحات اقتصادية في ظل سعي الحكومة الانتقالية للاستفادة من مبادرة "هيبيك" للدول الأكثر فقراً لمعالجة الدين الخارجي الذي يفوق 60 مليار دولار .
مع بداية الحكومة الانتقالية تمّ إجراء تغييرات إدارية لتقليل تأثير التمكين السياسي للمنسوبين إلى النظام السابق على الديوان. وتمّ إجراء تغييرات إدارية لتعزيز الحوكمة ومحاربة الفساد، حيث تمت أتمتة العمل بالديوان، وتفعيل الإدارة العامة للمراجعة والتفتيش لأنظمة ديوان الزكاة.
لعب ديوان الزكاة دوراً مهماً في التصدّي لجائحة كورونا من خلال سرعة الاستجابة مقارنة بالجهات الحكومية الأخرى وحتى المنظمات الدولية التي تقوم بتوفير المساعدات. كانت للصندوق خبرة في الوصول إلى المناطق المتأثرة وتحديد المستفيدين وتوزيع المساعدات، بل وحتى في معرفة الاحتياجات الضرورية للمستهدفين بالدعم.
أدى ديوان الزكاة أيضاً أدواراً مهمّة في التصدي للأزمات الإنسانية التي تلت أحداث عنف قبلي متفرقة في غرب السودان وشرقه، كما ساهم بالتعاون مع وزارة المالية في تحديد الشرائح المستهدفة لبرنامج الدعم الاجتماعي الممول من البنك الدولي برنامج (التحويل النقدي) من خلال قاعدة البيانات الموجودة لديه. ويعتبر تحديد قاعدة بيانات للمستهدفين ببرنامج التحويل النقدي واحداً من أكبر تحديات هذا البرنامج، والذي تمّ إيقافه من المانحين عقب انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 .
حجم التدفقات المالية لأعوام الفترة الانتقالية 2019- 2021:
ويوضح التفصيل أدناه حجم الزيادة التي حدثت خلال الفترة الانتقالية للتدفقات المالية:
- النصف الأول من العام 2019 بلغ 2 تريليوني جنيه سوداني.
- النصف الثاني من 2021 بلغ 57 تريليون جنيه سوداني.
يمكننا أن نرى أن هنالك العديد من الإصلاحات التي بدأت في فترة الانتقال الديمقراطي 2019 - 2021 في عمل ديوان الزكاة، من حيث تطوير عمل الديوان في مجال الحكومة والحوسبة، بالإضافه إلى تصديه السريع للحاجات الإنسانية التي برزت بسبب جائحة كورونا وما صحبها من فترات إغلاق أثّرت على العاملين في القطاع غير المنظم بشكل سلبي، بالإضافة إلى المساعدات التي قدمها ديوان الزكاة لمناطق النزاعات الأهلية.
ظل عدم التنسيق والترابط بين مؤسسات تقديم خدمات الحماية الاجتماعية موجوداً. وإن بدأت محاولات التنسيق، وتوحيد المعلومات المتعلقة بتقديم الخدمة، لم تتم معالجات للقانون بحيث يصبح الديوان أكثر شفافية، ويقل تأثير السلطات الحكومية أياً كانت طبيعتها على عمله .
د. دور ديوان الزكاة في الحماية الاجتماعية عقب نشوب الحرب في السودان 15 نيسان/أبريل 2023.
تمت هذه الإضافة عقب إكمال مقترح الورقة، ولكن نشوب الحرب في السودان قبل نشر الورقة استدعى بعض الإضافات المحدودة للتعبير عن الوضع الحالي.
فالحرب التي نشبت في مركز الدولة وعاصمتها بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع التي ساهمت في تعطيل العديد من مؤسسات الدولة ساهمت أيضاً في تعطيل عمل ديوان الزكاة، وباستثناء بعض المساعدات التي قامت به دواوين الزكاة الولائية، فلم يقم ديوان الزكاة بدور مهم في التصدي للأوضاع الإنسانية بالغة السوء بسبب اندلاع الحرب مقارنة بالمجهودات المحلية التي تقوم بها بعض المنظمات الدولية والفاعلين المحليين، مثل غرف الطوارئ وبعض المنظمات الوطنية.
4. التحديات والإيجابيات والسلبيات في عمل ديوان الزكاة في الحماية الاجتماعية:
أ . التحديات
- عدم وجود سياسة واضحة للحماية الاجتماعية في السودان.
- عدم وجود التنسيق المطلوب بين المؤسسات التي تقدّم خدمة الحماية الاجتماعية.
- صعوبة الحفاظ على الاستقلالية وتأثير الأنظمة الحاكمة على أولويات الصندوق.
- عدم تفهّم دور الصندوق كواحد من أكبر مؤسسات الحماية الاجتماعية في السودان وليس فقط أداة تنفيذ فريضة دينية.
- عدم توفر المعلومات الكافية والدقيقة عن الفقر في السودان.
- احتمالية عدم استدامة التدفقات المالية في ظل الظروف الأمنية والحروب في بعض المناطق.
- ارتفاع تكلفة التوزيع في بعض المناطق في ظل ضعف البنية التحتية في السودان.
ب. الإيجابيات
- القدرة على الوصول إلى كافة مناطق وقرى السودان.
- توفر قدر من المعلومات حول الفقر والفقراء في السودان.
- تنوع وتعدد الأنشطة التي يقوم بها صندوق الزكاة في مجال الحماية الاجتماعية.
ج. السلبيات
- الاستخدام والتمكين السياسي في ديوان الزكاة: والمقصود بالاستخدام السياسي هو توفير جزء من مقدرات الديوان لصالح خدمة الأهداف السياسية للنظام الحاكم. وقد كان ذلك واضحاً في تجربة الديوان في الفترة من 1989 – 2019 خلال فترة حكم الحركة الإسلامية. والمقصود بالتمكين السياسي هو تمكين عناصر تنظيم سياسي من ديوان الزكاة.
- ضعف عملية المراجعة والشفافية في الأداء المالي وتخصيص الموارد بالنسبة للديوان.
- التركيز على الجباية يجعل النظر إلى الزكاة كضريبة يتمّ التهرّب منها أكثر من كونها واحدة من أدوات التكافل الاجتماعي، خاصة في ظل الأنظمة الشمولية حيث تضعف الثقة في المنظومة السياسية ومدى التزامها بتخصيص موارد الزكاة لمصروفاتها المطلوبة.
- لا توجد طرق متبعة للتظلّم والاستئناف على مستوى القرى والمحليات.
5. الخلاصة والتوصيات
تمثّل الزكاة مورداً مهمّاً يمكن أن يساعد في تطوير برامج ومؤسسات الحماية الاجتماعية في السودان، لا سيما في ظل ضعف الموارد الحكومية المخصصة لبرامج الحماية الاجتماعية، وتزايد نسبة الهشاشة الاقتصادية لأسباب متعددة منها النزاعات الأهلية المسلحة، والسياسات الاقتصادية (الإصلاح الهيكلي) وما يترتب عليها من تبعات اقتصادية واجتماعية، خاصة على الشرائح الفقيرة التي تمثل ثلثي سكان السودان.
هنالك إشكاليات متعلقة بتجربة ديوان الزكاة في السودان، منها ما هو متعلق بالحوكمة، والضبط الإداري والمؤسسي، ومنها ما هو متعلق بالشفافية وطمأنينة دافع الزكاة على أن أمواله تمضي إلى المصارف الصحيحة، وهو ما يقود أحياناً إلى التهرب من دفع الزكاة إلى الديوان. هناك أيضا غياب استراتيجية للحماية الاجتماعية تتضمن سياسات واضحة لدور الزكاة، وغياب الإحصائيات الدقيقة وعدم تبادل المعلومات بشكل منظم بين مؤسسات الحماية الاجتماعية المتعددة. كل ذلك يقلل من فعاليتها وتأثيرها.
المراوحة في تجربة الزكاة من كونها طوعية إلى إلزامية قد يعكس التعامل معها كمورد جبائي أكثر من كونها شعيرة دينية. تتضح هذه المسألة من خلال تجربة حكم الحركة الإسلامية 1989 -2019، حيث غلب الجانب الجبائي على عملية تحصيل الزكاة. وبالتالي قد يبدو في الإصلاح المؤسسي لتجربة الزكاة والاستفادة منها ضرورة المواءمة بين طوعية الزكاة ووجود مؤسسة قوية وفعالة لإدارتها، بحيث لا تتحول إلى أداة يتم استخدامها سياسياً من قبل جمعيات ومنظمات خيرية ذات أهداف خاصة. لذلك قد يكون من المفيد العودة إلى القوانين التي تبعد الزكاة عن الإطار الجبائي، مع تطوير مؤسساتها بحيث تصبح فعالة ومكملة لمؤسسات الحماية الاجتماعية الأخرى.
تؤثر طبيعة النظام السياسي على فعالية وعدالة الجهد الزكوي في مجال الحماية الاجتماعية. وفي تجربة حكم الحركة الإسلامية الشمولي عمدت الحكومة إلى زيادة القدرة الجبائية للديوان، ولكن بالمقابل تمّ استخدام موارد الزكاة لأغراض سياسية ودعم منظمات تدين بالولاء للحركة الإسلامية، ما أثّر سلباً على سمعة ودور ديوان الزكاة.
على الرغم من التحديات والإخفاقات التي واجهت تجربة ديوان الزكاة في السودان، فهناك فرص كبيرة لأن تلعب الزكاة دوراً رئيسياً في دعم الحماية الاجتماعية. فوجود موارد مالية كبيرة، ووجود قاعدة معلومات، والقدرة على الوصول إلى المناطق الريفية والحضرية المختلفة، كلها عوامل يمكن أن تساعد ديوان الزكاة على لعب أدوار كبيرة في تحسين وتطوير خدمات الحماية الاجتماعية في البلد .
النظر إلى ديوان الزكاة كونه منصة رئيسية ومهمة للحماية الاجتماعية ووضعه في قلب السياسات الاجتماعية للدولة، والنأي بالزكاة ومؤسساتها عن الاستغلال والاستقطاب السياسي من شأنه أن يؤدي إلى زيادة الثقة فيها بما يعزز من الإنفاق الطوعي تجاهها وزيادة مواردها بالشكل الذي يجعلها أكثر فعالية. إرساء الشفافية في عمل ديوان الزكاة وتوضيح ميزانيته وأوجه صرفها يمكن أن يسهم في بناء تواصل جيد بين الديوان والناس، سواء كانوا مصادر تمويل أو مستفيدين من الزكاة.
التوصيات
- أهمية ربط ما تقدمه الزكاة من خدمات حماية اجتماعية مع ما تقوم به الصناديق والمؤسسات الأخرى التي تعمل في مجال الحماية الاجتماعية.
- تجويد عملية التخطيط والتنسيق في حشد الموارد الزكوية، واستخداماتها بين المركز والولايات بما يحقق واقعية التقديرات وتكامل الموازنات السنوية.
- تشجيع الشراكات مع شركاء التنمية والمؤسسات التي تعمل على مكافحة الفقر وخلق التكامل والتناسق في حشد الموارد واستخداماتها.
- إرساء الشفافية في عمل ديوان الزكاة لتعزيز ثقة الناس فيه.
- مراجعة الإطار القانوني للزكاة بحيث لا تتحول إلى مجرد مورد جبائي، لاسيما وأن أول قانون لتنظيم الزكاة كان يتعامل معها كضريبة دينية تطوعية.
- تطوير قدرات العاملين في ديوان الزكاة، أهمية التنوير المعرفي لهم وللمستفيدين، وربط رسالة الديوان بتحقيق الحماية الاجتماعية.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.