حراك الجزائر بين هاجس الانقسام ورهان الوحدة

عادت الحركة الاحتجاجية الجزائرية إلى الشارع بنفس الزخم وبنفس الإصرار في نفوس المطالبين والمطالبات بالتغيير السلمي للنظام. ومع هذه العودة تنامت بعض الاختلافات. تستكشف هذه الورقة الانقسامات الناشئة في قلب الحراك وقمع السلطة المشتد بمثابة امتحان يكتسي أهمية حيوية لبقاء الحراك والحفاظ على وحدته واستمراريته.

© Anadolu Images

مدخل

كذّبت الحركة الاحتجاجية الجزائرية المنادية بالتغيير كلّ تأويلات وتنبؤات المحللين الذين سارعوا إلى إعلان أفولها بعد غيابها لمدة قاربت السنة ـ من مارس 2020 إلى فبراير 2021 ـ بسبب جائحة "كوفيد 19" التي عطّلت الكثير من الأنشطة الاجتماعية والسياسية في البلد، فعادت بنفس الزخم وبنفس الإصرار في نفوس الطالبين بالتغيير السلمي للنظام. لكن بعد أشهر قليلة من الاستئناف، بدأت تعترضها مشكلتان مستعصيتان تعتبران بمثابة امتحان لها يكتسي أهمية حيوية لبقاء الحراك والحفاظ على وحدته واستمراريته: ازدياد مظاهر التفرقة والتنافر واشتداد القمع.

آفة الانقسامات

المشكلة الأولى التي يواجهها الحراك بحدّة تتمثل في التصدّعات الداخلية التي بدأت تظهر مع استفحال الخلافات الأيديولوجية والفكرية بين العديد من الكتل والمجموعات من النشطاء والمدوّنين والمعلّقين على مواقع التواصل الاجتماعي، حول مسائل هامشية أو رمزية في معظم الأحيان، تتعلق بالقناعات الروحية واستعمالات لرموز الهوية (مثل الراية الأمازيغية التي أصبحت موضع خلاف وجدال محتدم) والمرجعيات التاريخية (الجدل حول الملك شيشناق1 شيشناق أو شاشاق: ملك فرعوني من أصل أمازيغي عاش في القرن العاشر قبل الميلاد. أثار الاحتفاء به هذه السنة في منطقة القبائل جدلا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي. والشيخ بن باديس2  الشيخ عبد الحميد بن باديس (1889ـ1940): رائد النهضة الإسلامية في الجزائر. أصبح في غمرة الحراك الشعبي رمز تيار سياسي صاعد يسمي نفسه التيار "النوفمبري الباديسي". وعبان رمضان3 عبان رمضان (1920 ـ 1957): أحد قادة الثورة التحريرية، اغتيل سنة 1957 على يد إخوانه في الكفاح. يعتبر مرجعية لأنصار التيار العلماني البربري. ولقد رفعت صورته بقوة في المظاهرات الشعبية. والأمير عبد القادر) تذكّر في بعض جوانبها بالصراع اللّغوي المستديم بين المُفرنسين والمعرّبين والذي سمّم الحياة الفكرية في الجزائر طيلة العقود الماضية. كان هذا الخلاف حول رموز الهوية بسيطا وعرضيا، ثم سرعان ما أخذ منحى أكثر تطرفا بعد الانتخابات الرئاسية بسبب انخراط قطاع من "الحراكيين" (الباديسيون النوفمبريون) في مسعى السلطة. ومنذ تلك الفترة، صار الشارع أكثر انسياقا وراء الخطابات المتداولة على شبكات التواصل الاجتماعي التي طغت عليها الأصوات المتطرفة أو المغالية في إثارة القضايا الجدلية.

إن دور السلطة في تضخيم الانقسامات عبر مناورات محبوكة، ومن خلال تنشيط أذرعها الإعلامية وما يسمّى "الذباب الإلكتروني" وكذلك بالتهويل من حضور السلفيين والانفصاليين القبائل، أمر مفروغ منه، لكن عندما يتمسّك بعض الفاعلين من داخل الحراك بمواقف راديكالية (انطواء هوياتي، تبنّي الكثير لنظريات المؤامرة الموجّهة ضد طرف أو جهة معينة، ظهور بوادر التعصب العرقي، إلخ) فإنها بلا شك تتحمّل هي أيضا نصيبا من المسئولية.

أدى التراشق بين الفئتين وتبادل التهم بالولاء لجهة أو بلد معيّن، إلى إضعاف الثقة وتعميق التفرقة التي كانت قد اختفت ظرفيا في الأشهر الأولى من انتفاضة 22 فبراير 2019 التي أعطت عن الشعب الجزائري صورة شعب موحّد ومنفتح على التنوّع الثقافي والأيديولوجي - أسوة بجيل نوفمبر 1954 - ومستعد لتجاوز كل الخلافات.

وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن من تداعيات انتشار خطاب الكراهية تشتّت الصفوف وتراجع حجم المسيرات من أسبوع إلى آخر، بحيث لم يبق تقريبا في معظم المدن سوى النشطاء الأكثر التزاما وتصميماً. مما سهّل على السلطات تكثيف الاعتقالات في أوساط هؤلاء النشطاء.

على الصعيد السياسي، تعقدت الأمور بالتغطية الإعلامية المفاجئة والمركزة على تصاعد التيار الإسلامي الراديكالي الممثّل بحركة رشاد. هذه الحركة المنبثقة عن "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"4  الجبهة الإسلامية للإنقاذ: حزب أسس سنة 1989 وفاز بالأغلبية في أولى انتخابات نيابية تعددية سنة 1991. ولقد أدى إلغاء نتائج الانتخابات وحل الحزب إلى اندلاع مواجهات دامية مع قوات الأمن استغرقت ثماني سنوات. المحلّة، أسسّها مناضلون منتسبون إلى هذا الحزب وآخرون انشقوا عن النظام، ومنهم دبلوماسيون سابقون تبوؤوا مناصب قيادية داخل الحركة وصار لهم، فيما بعد، تأثير جليٌ على الحراك، وعلى رأسهم اللاجئ في بريطانيا محمد العربي زيتوت، الذي لا يكتفي بإلقاء خطابات حماسية على اليوتيوب بصفة شبه يومية، بل دأب على إصدار توجيهات عملية للمتظاهرين على الأرض. إن ما ساعد هذه الحركة على البروز بهذا الشكل اللافت هو رفعها شعارات جريئة تنطوي على مضمون سياسي تُوقع صاحبه في المحظور، ولاسيما منها: "مخابرات إرهابية"، "مدنية ماشي 5 "ماشي": تعني "ليس" باللهجة الجزائرية. عسكرية"، وهما شعاران يذكّران الجزائريين بالصراع القديم بين الإسلاميين والجيش والتهم المتبادلة بين الطرفين. وهنا لابد من التوضيح بأن أولى الشعارات المناهضة للقيادة العسكرية، كانت قد ظهرت في وقت متأخر نسبيا وكانت إثر تدخلات رئيس الأركان الأسبق، أحمد قايد صالح، المتكررة في القرارات السياسية ووقوفه الصريح ضد استعمال الراية الأمازيغية، وهذا لكون أن الجماهير، وحرصا منها على الحفاظ على سلمية المظاهرات، كانت تتحاشى الدخول في مواجهات غير محمودة العواقب مع قوات الأمن. إلاّ أن التشهير بالمؤسسة العسكرية - وتحديدا بالمخابرات - بهذه الصورة الصريحة وغير المسبوقة حديث العهد، ويحمل بصمة حركة رشاد حصريا.

طغيان مثل هذه الشعارات في مسيرات ما بعد العودة أثار حفيظة المجموعات اليسارية والعلمانية، خاصة في منطقة القبائل6 منطقة القبائل: تقع شرق العاصمة الجزائرية، وتضم أساسا ولايتي بجاية وتيزي وزو وأجزاء من ولايات البويرة وبرج بوعريرج وسطيف. تمتاز بكثافة سكانية عالية وبحيوية نشاطها الاقتصادي. التي أصبحت المعقل الذي بات يتنافس عليه التياران. ويجدر التنويه هنا بأن التركيز على منطقة القبائل واستهدافها من قبل السلطة والفاعلين السياسيين على حد سواء، يعود إلى كون أن هذه المنطقة أصبحت، مع تعالي منطق العصا، المسرح الرئيسي للأحداث منذ أكثر من عام، والوحيدة التي لا يزال الحراك فيها متواصلا إلى اليوم. ولهذا بات من المنطقي أن تتقاطع فيها كل التجاذبات والاستقطابات السياسية والأيديولوجية، وأن يكون لها دور مصيري للحراك الشعبي ككل.

وفي خضم تلك المنافسة تشكّلت كتلة ما يسمّى "القطيعة المزدوجة"، والمقصود بها القطيعة مع النظام ومع الإسلام السياسي في آن واحد، تضمّ بالأخص أتباع الزعيم الأسبق لحزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"7 التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية: حزب علماني تأسس سنة 1989، ومتمركز في منطقة القبائل. يقوده حاليا النائب السابق محسن بلعباس. ، سعيد سعدي، الذي أذكى هذا الصراع بسجال مفتوح مع زعيم حركة رشاد، مراد دهينة.8 https://www.youtube.com/watch?v=Xnx-i2uu_lM فيما آثرت القيادة الحالية للحزب الثبات على موقفها الراديكالي إزاء النظام وانفتاحها على بقية الأطياف السياسية دون إقصاء. إذا كان هذا التيار السياسي المنبثق من المخاض الداخلي لم يستطع تخطي حدود منطقة القبائل والعاصمة - بحكم تركيبته البشرية - إلاّ أن له حضور بارز في وسائل الإعلام التقليدية التي سعت للتحذير من خطر الإسلاميين - وبالتحديد من إسلاميي رشاد - على مستقبل الحراك.

ومن أوجه هذه الخلافات حدوث صدامات أثناء المظاهرات بين أنصار التيارين الإسلامي والعلماني، خاصة في مدينة بجاية بمنطقة القبائل. من مثل ذلك ما وقع في الجمعة الـ115 من الحراك الموافق لـ30 أبريل 2021، حيث اشتبك أنصار التيارين بسبب رفع صورة الكاتب والباحث سعيد جاب الخير، المتابع قضائيا بتهمة "ازدراء الدين الإسلامي"، ولم تهدأ الأعصاب إلا بعد تدخل "العقلاء". ولقد اتهّم يومها الناطق باسم "القطيعة المزدوجة"، الناشط مراد بوزيدي، أتباع حركة رشاد بمحاولة الاعتداء عليهم.9https://www.buzzwebnet.com/index.php/2021/04/30/hirak-tension-entre-manifestants-a-bejaia/ وهذا كلّه أثرّ سلبا على الإقبال الجماهيري على المشاركة، ويتضح ذلك من خلال تراجع حجم المسيرات واختفائها تماما في بعض المناطق، حتى قبل صدور المرسوم الوزاري المؤرخ 9 مايو 2021 بإخضاع المظاهرات لترخيص إداري مسبق.

استغلت السلطة تفاقم التصدعات في صفوف الحراك وتحرّكت بسرعة من أجل احتوائه والإجهاز عليه، وذلك بتشغيل آلة الدعاية بكامل طاقتها، إعلاميا وسياسيا، وكذلك عبر جملة من الإجراءات العملية، أهمها وأخطرها إقرار المجلس الأعلى للأمن بتاريخ 18 ماي 2021 إدراج حركتي رشاد الإسلامية والحركة من أجل تقرير المصير القبائل (الماك)10 الحركة من أجل تقرير المصير القبائل (ويصطلح عليها بالحروف اللاتينية "ماك"): تأسست سنة 2003 في غمرة أحداث 2001 بمنطقة القبائل. يقودها فرحات مهني أحد مؤسسي حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، ويعيش في المنفى منذ 2004. ضمن المنظمات الإرهابية. من الواضح أن السلطة أرادت بقرارها خلق مبرر شرعي لقمع المسيرات، يساعدها في نفس الوقت على تعميق الفجوة التي ما فتئت تتّسع بين أنصار ونشطاء الحراك، لاسيما بين الإسلاميين - أو من يوصفون كذلك - والعلمانيين، من جهة، وبين الجماهير الشعبية من جهة أخرى، تمهيدا لمنع المظاهرات. وهذا ما حدث فعلا في الأسبوع التالي بصدور قرار من وزارة الداخلية بفرض الترخيص المسبق لأي مسيرة، وهو القرار الذي دخل للتو حيز التنفيذ شاملاً كل مدن القطر، ما عدا المدن التابعة لولايات القبائل التي استمرت فيها المظاهرات الأسبوعية بشكل طبيعي. استُثنيت هذه المنطقة من تطبيق القرار نظرا لتسامح السلطات، خشية من إثارة مواجهات لن تتحكم فيها بسبب حجم المسيرات والالتفاف الشعبي الكبير هناك مقارنة ببقية المناطق. ولقد فُسرّ هذا التسامح، وهذه الخصوصية في التعامل مع منطقة القبائل، على أنه اعتراف ضمني بعجز السلطة على القضاء على الحراك في هذه المنطقة التي تعتبر مركز ثقل الحركة الاحتجاجية، وأنّ أيّ محاولة لقمعها ستوسّع من رقعة التمرّد، وقد تدفع بالأمور إلى ما لا تحمد عقباه، أي إلى ارتماء السكان في أحضان الحركة الانفصالية التي لا تمثل إلى حد الآن، رغم كل الهالة المحيطة بها، سوى أقلية في منطقة القبائل، مثلما يشهد عليه هزالة المظاهرات التي تبادر بها حركة "الماك" باسمها. مثلما أن المقاطعة الشاملة المسجّلة في هذه المنطقة بالانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في 12 يونيو المنصرم ـ 99% مقابل 70% من نسبة المقاطعين على المستوى الوطني ـ تؤكد انحسار المد الثوري وانحصاره في حيز جغرافي محدود، تخشى قيادات بعض الأحزاب السياسية أن يتحوّل إلى بؤرة تمرد.  من زاوية أخرى، ينّم هذا العصيان الانتخابي أيضا عن فشل الأحزاب التقليدية في جرّ الجزائريين إلى مسعى المشاركة، وبشكل أكثر وضوح في هذه المنطقة.

في الجهة المقابلة، حاول أنصار حركة رشاد تدارك الانعكاسات السلبية الناتجة عن الريبة المتزايدة من نواياهم، كما سعوا لرأب الصدع الذي أحدثته الخلافات بين مختلف الأطياف، والتي يشارك فيها إسلاميون تقليديون، فعمدوا إلى التسويق لخطاب الوحدة وآثروا التقرّب من الليبراليين والعلمانيين، وبالأخص من جماهير القبائل ـ الأكثر تنظيما وجاهزية للتصدي جماعيا لأي مشروع سياسي نابع من السلطة الحاكمة ـ والانفتاح على التعددية الثقافية واللغوية ـ عكس ما كان معروفا عند الإسلاميين في العقود الماضية. مثال على ذلك ما يرددّوه من عبارات الإطراء ("القبائل الأحرار") في خطبهم وتبني الراية الأمازيغية. مثل هذا التوجّه وطّد العلاقة بين خطباء الحركة وقطاع من جماهير القبائل وخلق نوعا من الإحساس بوحدة المصير.

وهنا لابد من التوضيح بأن حركة رشاد لا تحتكر الخطاب الإسلامي في الجزائر، ومن مميزات أسلوبها أنّها لا تطالب جهرا بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية، ولا تتحالف مع أي تنظيم إسلامي آخر.

والنتيجة أن محاولة التسلّل وسط المتظاهرين، لاسيما في بجاية التي استطاعوا أن يحوّلوها إلى معقل من معاقلهم بسبب تراجع دور الأحزاب التقليدية، لاسيما منها جبهة القوى الاشتراكية11 جبهة القوى الاشتراكية: حزب يساري منتشر في منطقة القبائل، أسّسه الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد ومجموعة من معارضي نظام أحمد بن بلة سنة 1963. قاد حركة تمرد مسلحة وانتهت بسجن آيت أحمد واستسلام قائدها العسكري العقيد محند أولحاج. التي اعتادت الحصول على أغلبية المقاعد في المجالس المنتخبة المحلية، زادت من حالة التشنّج في أوساط الحراك ونوعا من الاشتباه في مقاصد هذا التنظيم الإسلامي المعارض.

ظلت حركة رشاد تنشط في السرية، إلاّ أن أنصارها كانوا في البداية يكشفون عن هويتهم، خاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. بدأت الأمور تتغير بعد صدور القرار الذي صنّفها ضمن الكيانات الإرهابية. ولقد اعتقل العديد منهم، خاصة في العاصمة وفي بعض مدن الشرق الجزائري، بتهمة "التحريض على العنف" وتلقي أموال من "جهات أجنبية معادية". عموما، نشاط رشاد يتجلّى من خلال شعاراتها المميزة والتوجيهات السياسية التي يصدرها ممثلّوها المعروفون.

هل ينجح رهان الوحدة؟

بقي الحراك عرضة لكل أنواع الاهتزازات والتجاذبات، بالرغم من ثباته على مطالب جامعة مثل المطالبة بإطلاق سراح معتقلي الرأي والدفاع عن مبدأ الحريات وحقوق الإنسان، ووقف أعمال القمع والملاحقات القضائية وحملات التخوين التي تستهدف أنصار الحراك، إلى جانب النضال السلمي من أجل تغيير النظام. إلا أنّه ظل يتحرك في دائرة مغلقة في غياب استراتيجية محددة المعالم والأهداف. يميل البعض إلى الجزم بأن الطابع "الثوري السلمي" للحراك أدرك حدوده، في حين يعتبر البعض الآخر أن الحراك حقق أهدافه الأوليّة التي تتمثل أساساً في إسقاط سيناريو التمديد للرئيس الأسبق عبد العزيز بوتفليقة، وإبعاد الأوليغارشية المالية التي تعششت داخل النظام، وبالتالي لم يعد قادرا على إفراز واقع جديد.  ويجدر القول إن النقاش لم يحُسم بعد في صفوف الحراك حول جدوى الأسلوب المنتهج إلى حد الآن، في ظل غياب طرح بدائل: الذهاب نحو مزيد من الراديكالية مع السلطة (مثلما تم اقتراحه في فترة من الفترات بإعلان العصيان المدني، كما يدعو إليه مطلب أنصار حركة رشاد) أم القبول بمبدأ الحوار مع السلطة من باب الحفاظ على سلمية الثورة والتفاهم على مرحلة انتقالية بما تقتضيه من خطوات مثل إنشاء مجلس تأسّيسي سيّد وحكومة توافقية، كما تنادي به معظم الفعاليات المنخرطة في الحراك، على غرار "العقد من أجل البديل الديمقراطي" الذي يضم الأحزاب الليبرالية واليسارية.

أمام هذا التحدّي الوجودي، تسعى مجموعات من النخب المنخرطة في الحراك لإنتاج خطاب وحودي وتدعوا لنبذ التفرقة والتعالي على الشعارات الضيقة أو الحزبية والتركيز على هدف واحدة ومحدد: إجبار السلطة على قبول التغيير، أو بالأحرى على الرحيل. ومن الوسائل المطروحة لتحقيق هذه الغاية - أي تفادي التشتت وضمان الاستمرارية - نجد هيكلة الحراك أو تنظيمه بشكل أو بآخر. ولقد ظهرت مبادرات، أبرزها "نداء 22"، تدعوا إلى التفكير في المسألة. في أوّل بيان صدر لأصحاب المبادرة، التي وقعتها في أكتوبر 2020 شخصيات أكاديمية معروفة من أمثال عالمي الاجتماع عدي الهواري وناصر جابي (اللذين استجوبناهما في هذه الورقة – أنظر أدناه)، لم يختلف تشخيصهم للوضع عمّا بدر من أوساط كثيرة: "بعد أكثر من عامين على انتفاضة 22 فبراير، لم تنجح فواعل الحراك في الاتحاد حول مشروع سياسي موحّد يعكس التطلعات الديمقراطية للشعب الجزائري. في الوقت نفسه، عانى الحراك من وطأة الدعاية الرسمية الهادفة إلى كسر صفوفه على أسس أيديولوجية أو سياسية لإبعاده عن أهدافه."12 https://m.facebook.com/Nida22.DZ/photos/pcb.187631192826484/187630582826545/?type=3&source=48   لبدء عملية التحضير للانتقال، "يبدو أنه من الأساسي لنا توحيد أكبر عدد من الجهات الفاعلة حول مؤتمر وطني تكون مشاركته مشروطة بالتوقيع على ميثاق القيم. الهدف هو طمأنة وخلق روابط ثقة بين الجهات الفاعلة من خلال الالتزام بالقيم المشتركة كجزء من عملية التحضير للانتقال الديمقراطي." لكن منذ إطلاقها في خريف 2020، لم تطوّر مبادرة "نداء 22" أي استراتيجية تجسّد بها أهدافها، وظلت مكتفية بتنظيم لقاءات افتراضية وإصدار بيانات أغلبها تنديدية لإجراءات السلطة القمعية وللاعتقالات في صفوف الحراك. ومما لا شك فيه أيضا أن ظروف الحجر الصحي التي عاشتها البلاد لم تشجع روّاد هذه المبادرة على الالتقاء بالجماهير.

بالإضافة إلى هذه المبادرة، أعلن في نفس الفترة عن إنشاء ما يسمّى "المؤتمر الوطني للحراك الشعبي" كمنتدى للنقاش حول مستقبل الثورة السلمية، لكن سرعان ما ألصقت عليه تهمة التبعية لحركة رشاد، استنادا إلى نوعية الشعارات التي ترفعها ("مدنية ماشي عسكرية"). كما يعاب على هذه المبادرة تبنيها خطاب العصيان المدني. وجاء في بيان نشرته هذه المبادرة في موقعها الرسمي بتاريخ 16 فبراير 2012،13  https://cnhpdz.org/ "يقترح هذا المشروع التحضير لانعقاد مؤتمر عام يشمل جميع فعاليات الحراك الشعبي بالداخل والخارج التي تؤمن بالتصور المطروح أعلاه، دون إقصاء بسبب الاختلافات الإيديولوجية أو النزاعات الذاتية الضيقة. وستتم الدعوة لانعقاد هذا "المؤتمر" في وقت سيتم الإعلان عنه لاحقا مع تحديد مواصفات ومعايير الالتزام للمدعوين إليه." إلاّ أن الفكرة لا تزال في طورها الجنيني.

خارج هاتين المبادرتين، دعت بعض العناصر الفاعلة إلى اجتماع عام عقد في مدينة خراطة14 مدينة صغيرة تبعد بحوالي 40 كلم عن عاصمة ولاية بجاية، كانت مسرحا لمجازر 8 ماي 1945 التي خرج فيها الجزائريون في عدد من مدن الشرق للمطالبة بالاستقلال، وقوبلوا بقمع وحشي. كما تعد من ضمن المدن التي شهدت أولى المسيرات الاحتجاجية ضد النظام في فبراري 2019. التاريخية يوم 8 ماي 2021، جرى فيها نقاش صريح ومفتوح، لكن لم يخرج المشاركون بأية لوائح أو أجندة محددة. حضر هذا اللقاء غير المرخص له -مثلما هو حال كافة التجمعات والنشاطات السياسية في هذه الولاية - عديد من الأصوات المعروفة في الساحتين المحلية والوطنية، نذكر منهم النائب السابق في جبهة قوى الاشتراكية خالد تزغارت، وعبد الوهاب فرصاوي رئيس جمعية "راج" المحلة، وزبيدة عسول، رئيسة حزب الاتحاد من أجل التغيير والتقدم، والمحامي البارز مصطفى بوشاشي. ولقد أجمع المشاركون على مبدأ أن "التنظيم والاتحاد بات أمرا ضروريا لإنجاح الثورة".

هل الحل في هيكلة الحراك؟

حول هذه الإشكالية المطروحة، وجّهنا سؤالين لعيّنة من النشطاء الملتزمين بالعمل الوحدوي، لاستشفاف مدى تأثير الخطابات الإيديولوجية على تماسك الحراك والفرص المتاحة للاسترجاع قوته. اخترنا أربعة من الفاعلين يشتركون في كونهم منخرطين ميدانيا في الحراك ويملكون قدرا كافيا من الروح النقدية لإجراء تشخيص موضوعي للإشكالية المطروحة.

  • السؤال الأول: هل تعتقد أن الحراك ملغم بانقسامات ذات طابع إيديولوجي تضعف وحدته؟
  • السؤال الثاني: ما رأيك في فكرة هيكلة الحراك؟ وماذا تقترح لضمان استمرارية الثورة أمام اشتداد القمع؟

يقول الأستاذ ناصر جابي من جامعة الجزائر، وهو أحد الموقّعين على "نداء 22"، في رده على السؤال الأوّل: "لا أعتقد أن كلمة ¨ملغم¨ هي الأصلح للحديث عن تنوع أيديولوجي وفكري كما يحصل في كل مجتمع عادي منقسم طبقيا وفكريا. الأحسن ربما الكلام عن تنوع قد يكون مصدر قوة إذا عرفنا كيف نحسن توظيفه، وقد يتحول إلى مصدر ضعف إذا ما أسيء استعماله كالتركيز مثلا على القراءة الثقافوية والهوياتية التي أرادتها السلطة ولاتزال، بالتركيز على دور أبناء القبائل مثلا والقضايا الثقافية الموجودة في كل مجتمع." ويؤمن ناصر جابي بأن الحراك كحركة اجتماعية كبيرة "سيبقى متنوعا".

وبخصوص هيكلة الحراك وجدواها في المرحلة الراهنة، يؤكد الأستاذ جابي أن الفكرة إيجابية من الناحية المبدئية "إذا عرفنا كيف نتفاعل معها، لأنها تزيد من قوة الحراك وتمكنّه من تحقيق بعض أهدافه". ويمكن أن يكون بوتقة لجمعيات وأحزاب عديدة. ويستطرد محدثنا قائلا: "إن النظام رفض فكرة التنظيم وعمل المستحيل لتشويهها وتشويه كل من يبرز من الوجوه التي يمكن أن تساعد على تنظيم الحراك ومنحه معنى سياسي". والدليل على ذلك، كما يقول، هو اعتقال الكثير من الوجوه التي ظهرت بعد مدة. ويتابع: "كذلك كان هناك رفض لفكرة التنظيم كانعكاس لصراع النخب ورفض بروز نخب بسبب تجذر ثقافة شعبوية عندنا لا تعترف بدور للنخب التي تشكوا من شرعية كبيرة في بعض الاحيان." ويعزي ذلك إلى وجود عوائق لغوية وثقافية "أثرت سلبا على دورها في كل المعارك السياسية"، على حد تعبيره.

حول نفس الإشكالية، يرى الناشط السياسي سمير بن العربي أن "الحراك حراك شعب فيه كل الأيديولوجيات"، مشيراً إلى أن "التيار العلماني مسيطر إعلاميا لكنه ضعيف ميدانيا." يعترف الناشط أنه "في البداية كان هناك تجاوز للأيديولوجيات، لكن مع الوقت، بدأت تظهر خلافات كبيرة."

يدافع بن العربي، الذي اعتقل مرتين بين سنتين 2019 و2020، عن أطروحة الهيكلة، ويقول: "من الأول قلنا وجب هيكلة الحراك وتنظيمه في أطر مختلفة وليس تمثيله." ويرى من المستحيل أن يكون هناك إطار واحد يجمع كل الفعاليات. ويشاطر رأي ناصر جابي باقتراحه استحداث عدة أطر جمعوية أو حزبية. ويؤكد أن هذه الفكرة "منتشرة بقوة، لكن هناك تخوفا بسبب كثرة التخوين"، خاصة ـ كما يوضح ـ من قبل من يسميّهم "مرتزقة اللايف"، ويقصد بهم المدوّنين الذين ينشطون في الخارج.

من جهته، يقول الأستاذ في علم الاجتماع عدي الهواري: "إن الحراك حركة اجتماعية تعكس تنوع التيارات الأيديولوجية الموجودة في المجتمع: إسلاميون، علمانيون، شعبويون، محافظون، تقدميون، إلخ. لا يملك التجانس الأيديولوجي الذي يميّز الأحزاب السياسية. يحمل بداخله بذور عدة أحزاب. ومع ذلك، فهو موحدّ بمطلب مشترك، ألا وهو تغيير النظام بتغيير آلية تعيين الرؤساء من قبل الجنرالات، ووضع حد لرقابة البوليس السياسي على المجتمع المدني." ويؤكد الأستاذ عدي الهواري أن الأجيال الجديدة تريد نظام حكم جديدا، لأن النظام الذي حكم منذ 1962 أصبح مستنفذا سياسياً وأيديولوجياً."

وبخصوص فكرة الهيكلة، يقول عدي الهواري إن ذلك مستحيل لأن قوانين النظام لا تسمح به. "لا يمكن لأي حزب أو أي جمعية أن تنشط دون ترخيص من وزارة الداخلية، في حين أن الحراك يناضل من أجل تغيير قانون الأحزاب." ويتابع: "إن النظام لا يقبل بأن تأتي أحزاب للطعن في شرعيته، فيما الحراك يحارب المبدأ الذي يقوم عليه ذات النظام، والمتمثل في كون أن الجيش هو المصدر الوحيد للسلطة."

وعن توقف المسيرات الأسبوعية في العاصمة وباقي ولايات القطر ـ عدا منطقة القبائل ـ يرى الأستاذ الهواري أن المتظاهرين تصرفوا بحكمة لتفادي مواجهات حتمية وربما أيضا قتلى وسيؤدي ذلك، حسب تعبيره، إلى ما يشبه "السيناريو السوري". ومع ذلك فهو متفائل بقدرة الحراك على إيجاد طرق نضال أخرى.

وترفض المحامية والناشطة اليسارية عويشة بختي وصف الحراك بـ"الـملغم"، على أساس أنه "متكون ـ مثل المجتمع ـ من تيارات وأفكار مختلفة ومتناقضة ومتعارضة". إلا أنها تعترف بأنه "إذا كان الهدف المشترك الظاهر هو تغيير النظام، فإن الهدف الباطني مختلف. فهناك من يريد بناء دولة عصرية وتقدمية، وهناك من يخطط لتغيير النظام ليخلفه، وهناك -وهذا هو الأخطر - من يريد إسقاط الدولة الوطنية ويستغل الغضب الشعبي المشروع." وتقصد المتحدثة بـ"إسقاط الدولة الوطنية" كل المحاولات الرامية إلى تفكيك أركان الدولة ونشر الفوضى على طريقة ثورات الربيع العربي.

وعن أطروحة الهيكلة، تشير المحامية، التي شاركت أكثر من مرة في الدفاع عن معتقلي الحراك ـ إلى أن "الحركة الجماهرية كانت فرصة للتنظيم وتقديم بديل متين ومُقنع لبناء دولة ديمقراطية، اجتماعية وعصرية". وتخلص بالقول إن "التمسك بالسلمية والتنظيم هو الرهان الذي ينبغي أن يبني عليه الحراك."

أصبح رهان السلمية والحفاظ على وحدة الصفوف مطروحا بشكل أكثر حدة بعد إجراء الانتخابات التشريعية المبكرة التي جرت في 12 يونيو، لكونها تفرض على الحراك الثبات من أجل صون شرعيته أمام من يفترض أنهم يمثلون الشعب رسميا في البرلمان. إلاّ أن ضعف مصداقية هذه الاستشارة الانتخابية -على غرار سابقاتها - وشبهات التزوير التي شابتها، أعطت فرصة جديدة لمناضلي الحراك لكي يدّعموا موقفهم ويعيدوا ترتيب أولوياتهم لمواجهة الواقع الجديد. فهل يكون النقاش حول فكرة الهيكلة والتنظيم على رأس أولوياتهم ؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.

Endnotes

Endnotes
1  شيشناق أو شاشاق: ملك فرعوني من أصل أمازيغي عاش في القرن العاشر قبل الميلاد. أثار الاحتفاء به هذه السنة في منطقة القبائل جدلا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي.
2   الشيخ عبد الحميد بن باديس (1889ـ1940): رائد النهضة الإسلامية في الجزائر. أصبح في غمرة الحراك الشعبي رمز تيار سياسي صاعد يسمي نفسه التيار "النوفمبري الباديسي".
3  عبان رمضان (1920 ـ 1957): أحد قادة الثورة التحريرية، اغتيل سنة 1957 على يد إخوانه في الكفاح. يعتبر مرجعية لأنصار التيار العلماني البربري. ولقد رفعت صورته بقوة في المظاهرات الشعبية.
4   الجبهة الإسلامية للإنقاذ: حزب أسس سنة 1989 وفاز بالأغلبية في أولى انتخابات نيابية تعددية سنة 1991. ولقد أدى إلغاء نتائج الانتخابات وحل الحزب إلى اندلاع مواجهات دامية مع قوات الأمن استغرقت ثماني سنوات.
5  "ماشي": تعني "ليس" باللهجة الجزائرية.
6  منطقة القبائل: تقع شرق العاصمة الجزائرية، وتضم أساسا ولايتي بجاية وتيزي وزو وأجزاء من ولايات البويرة وبرج بوعريرج وسطيف. تمتاز بكثافة سكانية عالية وبحيوية نشاطها الاقتصادي.
7  التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية: حزب علماني تأسس سنة 1989، ومتمركز في منطقة القبائل. يقوده حاليا النائب السابق محسن بلعباس.
8  https://www.youtube.com/watch?v=Xnx-i2uu_lM
9 https://www.buzzwebnet.com/index.php/2021/04/30/hirak-tension-entre-manifestants-a-bejaia/
10  الحركة من أجل تقرير المصير القبائل (ويصطلح عليها بالحروف اللاتينية "ماك"): تأسست سنة 2003 في غمرة أحداث 2001 بمنطقة القبائل. يقودها فرحات مهني أحد مؤسسي حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، ويعيش في المنفى منذ 2004.
11  جبهة القوى الاشتراكية: حزب يساري منتشر في منطقة القبائل، أسّسه الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد ومجموعة من معارضي نظام أحمد بن بلة سنة 1963. قاد حركة تمرد مسلحة وانتهت بسجن آيت أحمد واستسلام قائدها العسكري العقيد محند أولحاج.
12  https://m.facebook.com/Nida22.DZ/photos/pcb.187631192826484/187630582826545/?type=3&source=48
13   https://cnhpdz.org/
14  مدينة صغيرة تبعد بحوالي 40 كلم عن عاصمة ولاية بجاية، كانت مسرحا لمجازر 8 ماي 1945 التي خرج فيها الجزائريون في عدد من مدن الشرق للمطالبة بالاستقلال، وقوبلوا بقمع وحشي. كما تعد من ضمن المدن التي شهدت أولى المسيرات الاحتجاجية ضد النظام في فبراري 2019.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.