في كانون الثاني/يناير 2021، انضم حكام الخرطوم الجدد إلى "اتفاقات أبراهام" أو "الاتفاقيات الإبراهيمية" التي صاغتها واشنطن، وذلك بعد سلسلة من الاتصالات والمحادثات التي شاركت فيها الخرطوم وتل أبيب وجرت بوساطة أمريكية وإماراتية مكثفة. وقد بدأت تلك المحادثات تتخذ طابعاً جدياً بعد فترة وجيزة من الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير في نيسان/أبريل من العام 2019. فقد رأى خلفاء البشير أنهم يمثلون نقيضاً صريحاً لسياساته وللقاعدة الإسلامية التي كانت تدعمه، ولهذا حرصوا على كسب ودّ أعدائه الكثيرين في المنطقة وتحقيق الاستفادة من ذلك. فالسودان الذي كان ذات مرةٍ بلداً صديقاً ومُضيفاً لحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين، وكان أيضاً معبراً مفتوحاً للأسلحة والإمدادات التي تُمرَّر إلى قطاع غزة، بات الآن حريصاً على أن يكون شريكاً في نظام إقليمي قائم على أمن إسرائيل. تستكشف هذه الورقة سجل الصفقات بين الخرطوم وتل أبيب، التي عُقد معظمها سراً، وتبحث في دوافعها، وتقيِّم المساومات والمقايضات التي تنطوي عليها، وتحاول استيضاح الغموض الأيديولوجي الذي يكتنف الخيارات السياسية لصناع القرار في السودان.
اتفاقية يعود تاريخها إلى الحرب الباردة
قبل 54 عاماً، استضافت الخرطوم عبد الناصر المكلوم، الذي تعرض لتوّه للإهانة جراء نكسة حزيران/يونيو 1967، والذي بات في حاجة ماسة إلى حماسة ونشوة الجماهير المبتهجة. وعليه، فقد كان من المفترض أن تُظهِر القمة العربية التي عُقدت في العاصمة السودانية الخرطوم، في الفترة ما بين 29 آب/أغسطس والأول من أيلول/سبتمبر من العام 1967، حالةَ الصمود والثبات والعزم التي لا تنكسر. وفي تلك القمة، أعلن الأمراء والرؤساء العرب -وباتفاقٍ تام- "لاءاتهم" الثلاث: "لا سلام مع إسرائيل، لا اعتراف بإسرائيل، لا مفاوضات مع إسرائيل". ثمة تفسير آخر لذاك الرفض الواضح المُعلن في قمة الخرطوم، يشير هذا التفسير إلى الرضا بالأمر الواقع وتقبل الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي القائم بالفعل، وموافقة ضمنية على التوصل لمجرد ترتيب سياسي لا يرقى إلى معاهدات السلام الرسمية، والرغبة في التماس وساطة الجهات المعتبَرة.
لم يكن حكام الخرطوم، بحكم طبيعتهم، عازفين تماماً عن إسرائيل.
فقد احتل السودان مكانة بارزة في "عقيدة المحيط" الإسرائيلية التي تبلورت في الخمسينيات، وهي عبارة عن استراتيجية وضعت لمواجهة التهديد الذي تمثله مصر الناصرية. وقد حدد رؤوفين شيلواح، الأبُ المؤسس لوكالة الاستخبارات الوطنية الإسرائيلية (الموساد)، العناصرَ المميزة لهذه الاستراتيجية. وفقاً لرؤيته، فإن العرب محاصرون وسط حلقتين من التهديد: حلقة خارجية تضم دولاً غير عربية وحلقة داخلية تتألف من أقليات دينية وإثنية. وبحسب هذا المنطق، تتشارك إسرائيل مع هاتين المجموعتين في عداء القومية العربية. ومن بين الأقليات التي تشكل عناصر الدائرة الثانية، أعطى شيلواح الأولوية للموارنة في لبنان والدروز في سوريا والأكراد في العراق وقبائل جنوب السودان.
هذه الاستراتيجية صحيحة وجيدة، لكن لا بد من اقتناص الفرص فور ظهورها. أُتيحت مثل هذه الفرصة خلال المناورات السياسية الكثيفة مع بزوغ فجر استقلال السودان في كانون الثاني/يناير من العام 1956. كانت إسرائيل تعارض احتمالية حدوث تحالف مصري سوداني تظله راية ناصرية، ووجدت حليفاً قلِقاً مثلها يتمثل في حزب الأمة القومي برئاسة عبد الرحمن المهدي، وهو ابن الإمام المهدي، البطل السوداني المناهض للاستعمار خلال القرن التاسع عشر، ووُلِد بعد وفاته. كان الأنصار الأقوياء لحزب الأمة في ذلك الوقت حريصين على مقاومة النفوذ السياسي والعسكري الناصري في السودان.
وقد جرت، منذ العام 1954، اتصالات بين مسؤولين في حزب الأمة وبين دبلوماسيين إسرائيليين في لندن، وذكرت تقارير أن مسؤولاً سودانياً رفيعَ المستوى زار إسرائيل في أواخر آب/أغسطس 1956 لمناقشة تقديم مساعدات اقتصادية لحزب الأمة. وعلى مستوى أعلى، شهد شهر آب/أغسطس من العام 1957 لقاءاً بين رئيس الوزراء السوداني عبد الله خليل، المنتمي إلى حزب الأمة القومي، مع وزيرة الخارجية الإسرائيلية غولدا مائير في باريس. وبموجب التفاهمات التي تم التوصل إليها في باريس، طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون من الرئيس الأميركي دوايت ديفيد أيزنهاور زيادة الدعم المالي والسياسي المقدم لحكومة حزب الأمة.
تواصل عبد الله خليل -رئيس الوزراء ذو الخلفية العسكرية، الذي يلعب البولو ويصطاد الطرائد الكبيرة- مع الحكومة الأميركية في شباط/فبراير 1957، طالباً مساعدات اقتصادية وعسكرية قُبيل زيارة نائب الرئيس ريتشارد نيكسون في آذار/مارس من نفس العام. فمثلما كتب محرر صحيفة نيويورك تايمز بعبارات قاطعة خلال حقبة الحرب الباردة، "يمكن أن يصبح هذا البلد الإسلامي الشاسع، الذي تبلغ مساحته ثلاثة أضعاف ولاية تكساس، إما جسراً لنشر الشيوعية في أفريقيا أو سداً يحول دون ذلك".
لم يكن لدى رئيس الوزراء أدنى فكرة عن حجم المساعدات الذي ينبغي طلبه أو ما الذي سيفعله بتلك المساعدات على وجه التحديد، لكنه كان يريد بناء جيش مجهز جيداً يمكن الاعتماد عليه، وتحسين التكنولوجيا الخاصة بالاتصالات والزراعة. كان محبطاً بسبب إغلاق قناة السويس أثناء العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 وتداعيات ذلك على شريان الحياة في السودان؛ ألا وهي صادرات القطن. وصرح لمراسل صحيفة نيويورك تايمز قائلاً: "نحن لا نكره أحداً، نكره فقط كلمتَي ’مُعادٍ‘ و’ضد‘. نحن مسالمون وودودون. ولا أريد سوى تطوير هذا البلد ورفع مستوى معيشة الشعب"، هكذا أعرب رئيس الوزراء، الذي لم يَصِغ فكرة محددة عمّا سيفعله بالمساعدات التي طلبها.
لم تَبقَ حكومة عبدالله خليل في السلطة لتجني ثمار مناشداتها لإسرائيل والولايات المتحدة. فقد فجرت القضية الأوضاع السياسية، وأدت الاحتجاجات على المعونة الأميركية المزمعة -التي نظمها كلٌّ من "الجبهة المعادية للاستعمار" الشيوعية و"الحزب الوطني الاتحادي" الموالي لمصر- إلى زعزعة استقرار حكومته. ونتيجةً لإغلاق قناة السويس، لم يتمكن السودان من تسويق محصول القطن في موسم 1957 ومُنيَ موسم 1958 بالفشل. وبعد عجزه عن حشد أغلبية حاكمة فعّالة في البرلمان، طلب خليل بجدية من جنرالات الجيش -رفاق السلاح السابقين- أن يتولوا السلطة، وهو ما قاموا به في تشرين الثاني/نوفمبر 1958.
نحَّى عبد الله خليل الديمقراطيةَ جانباً، ورحب بالانقلاب الذي أطاح به، قائلاً إن الجيش أعاق محاولة لضم السودان من قبل الرئيس المصري جمال عبد الناصر؛ لتنتهي محاولات التقرب من إسرائيل عند ذلك الحد. ففي تموز/يوليو 1958، وافق البرلمان المشاكس -الذي حاول عبدالله خليل عبثاً السيطرةَ عليه- على قانون مقاطعة إسرائيل في إطار موجة من الدعم الموجه لمصر خلال العدوان الثلاثي. وقد أُلغِي هذا النص التشريعي القصير بموجب جلسة مشتركة بين مجلس الوزراء ومجلس السيادة -الهيئة الرئاسية الجماعية في السودان- في 6 نيسان/أبريل 2021.
مثّلت الأزمات الاقتصادية، والسعي لنيل رضا الولايات المتحدة، ومحاولات التطابق مع التحالفات الإقليمية، واتباع السياسات الخارجية النفعية على نهج الفيلسوف البريطاني جيرمي بنثام، وتبني عقيدة تنموية تبشيرية، كل هذه الأشياء مجتمعة مثّلت العناصر الرئيسية لتفكير عبد الله خليل ومنطقه. وكانت هذه العناصر نفسها هي ما دعمت بنفس القدر قرارَ الشركاء في الحكومة الانتقالية السودانية بـ"تطبيع" العلاقات مع الكيان الصهيوني في إطار خطة السلام التي أعدها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب المسماة "صفقة القرن"، اللقب الذي ابتكره لها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو.
الخط الزمني للصفقة
يوضح الخط الزمني للجهود الراهنة لتطبيع العلاقات بين الخرطوم وتل أبيب الرهاناتِ المطروحةَ، وفي مقدمتها سعي حكام السودان نحو توفير موارد نقدية جديدة لإدارة أزمة اقتصادية قاسية ولتحقيق الاستقرار في مجال سياسي دائم التقلّب، سواء من خلال قوة السلاح أو المال. فقد التقى الحاكمُ العسكري للسودان، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيسَ الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مدينة عنتيبي الأوغندية في الثالث من شباط/فبراير 2020. وقال القائد السوداني إن اللقاء جاء "في إطار جهود السودان نحو تحقيق مصالحه القومية والأمنية"، مؤكداً على دور تل أبيب في دعم جهود السودان للخروج من قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب. وكانت الولايات المتحدة نفسها هي التي نسّقت اللقاءَ الذي لم يُكشَف عنه سوى بعد انتهائه، بمشاركة من رعاة السودان الإقليميين: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر. وقد لقيت هذه الخطوة احتفاءً وترحيباً من إدارة ترامب. وفي خلال أسابيع، صار المجال الجوي السوداني مفتوحاً أمام الطائرات الإسرائيلية.
في غضون ذلك، وافق السودان في أيار/مايو 2020 على دفع تعويضات بقيمة 335 مليون دولار أميركي لضحايا تفجيرات عام 1998 في السفارتَين الأميركيتين في العاصمتَين الكينية والتنزانية، ولضحايا تفجيرات عام 2000 التي استهدفت المدمرة الأميركية كول (U.S.S. Cole) قُبالة السواحل اليمنية؛ وقد جاءت هذه الموافقة في تسوية خارج إطار المحاكم. وقد سافر حينها وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو إلى الخرطوم في آب/أغسطس 2020، لتسريع المحادثات حول تطبيع الروابط والعلاقات بين السودان وإسرائيل. إلا أنه فشل في إبرام صفقة في ذلك الحين، لكن المحادثات استمرت خلال شهر أيلول/سبتمبر 2020 في الإمارات العربية المتحدة. وأشارت تقارير إلى أن الحكومة السودانية طالبت بحزمة دعم اقتصادي مرنة، تشمل شحنات من النفط والقمح بقيمة 1.2 مليار دولار، ومنحة فورية بقيمة 2 مليار دولار، وتعهدات بمزيد من الدعم والمساعدات من قِبَل الولايات المتحدة والإمارات على مدار ثلاثة أعوام.
وعقد وفد إسرائيلي-أميركي مشترك محادثات مع الفريق البرهان في الخرطوم في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2020، في محاولة أخيرة للوصول إلى اتفاق. وفي اليوم التالي أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن السودان سيكون الدولة العربية الثالثة التي تقوم بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، بعد الإمارات العربية المتحدة والبحرين، كجزء مما يسمّى "الاتفاقيات الإبراهيمية" التي رعتها إدارته. وقال مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي في يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر 2020 إن تل أبيب سترسل كميات من القمح بقيمة 5 ملايين دولار إلى أصدقائها الجدد في الخرطوم لجعل السلام دافئاً أو بالأحرى "صالحًا للأكل".
وفي 14 كانون الأول/ديسمبر 2020، ألغت الولايات المتحدة رسمياً توصيف السودان باعتباره "دولة راعية للإرهاب". وأُبرِمت صفقة التطبيع في السابع من كانون الثاني/يناير 2021 في الخرطوم بتوقيع وزير العدل السوداني، خريج هارفارد، نصر الدين عبد الباري ووزير المالية الأميركي السابق ستيفن منوشين. في المقابل، قدمت الولايات المتحدة قرضاً قصير الأجل بقيمة مليار دولار أميركي لسداد متأخّراته لدى البنك الدولي، كجزء من جهد أكبر لعلاج عبء الدين الخارجي السوداني الثقيل. بُعيدَ أيام وصل وزير الاستخبارات الإسرائيلي إيلي كوهين إلى الخرطوم على رأس وفد أمني لعقد لقاءات مع البرهان ومسؤولين عسكريين وأمنيين آخرين. وعرض وزير الدفاع السوداني على ضيفه تقليداً للبندقية M-16 من إنتاج مجمع اليرموك الصناعي التابع للجيش السوداني. وكان مسؤولون سودانيون قد اتهموا إسرائيل في العام 2012 بشن غارة جوية على مصنع للأسلحة أُنشِئ في 1996 بمساعدة إيرانية كما يُزعَم. ولكن بالتأكيد تغيَّر اليوم موقع السودان في إحداثيات المنطقة.
القليل من النقاش في أوساط النخب السياسية
في البداية كانت هناك أسباب لافتراض وجود اختلاف في وجهات النظر بين العسكريين الذين اتخذوا قرارَ تطبيع العلاقات مع إسرائيل وشرعوا في تنفيذه وبين بعض شركائهم المدنيين في الحكومة. فقد أنكر أعضاء في الحكومة، ومن بينهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، معرفتَهم السابقة برحلة البرهان إلى عنتيبي. فيما أبدَت "قوى إعلان الحرية والتغيير" -وهي تحالف من الأحزاب السياسية والنقابات المهنية التي تآلفت مع زيادة حدة حركة الاحتجاجات الشعبية ضد حكم الرئيس السابق عمر البشير- انزعاجَها من خطوة البرهان، واعتبرتها انتهاكاً للإعلان الدستوري، وهو وثيقة وُقّعت في آب/أغسطس 2019 بين "قوى إعلان الحرية والتغيير" وبين المجلس العسكري الانتقالي الذي كان قد انتزع السلطة من البشير في نيسان/أبريل 2019. التغيرات الجوهرية ذات الطبيعة السياسية المهمة كالعلاقة مع إسرائيل "يجب أن يقررها الشعب السوداني عبر القنوات التي تمثله"، هذا ما صرح به شركاء تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" في ذلك الوقت. ومع تطور الأحداث، صار من الواضح أن اختلاف الآراء كان هامشياً ومقتصراً على أعضاء التحالف المنسلخين، الذين انفصلوا عنه لاحقاً، كالحزب الشيوعي السوداني. وأيّاً كانت هواجس أعضاء التحالف الآخرين، فإن تلك الهواجس لم تستحق إحداث مواجهة مع الحكومة التنفيذية حول مسألة التطبيع. فقد زعم الفريق البرهان، رئيس مجلس السيادة، أن حزب الأمة السوداني بل وحزب البعث العربي الاشتراكي كانا على استعداد للقبول بتطبيع العلاقات مع إسرائيل إذا حصل القرار على غالبية الأصوات في هيئة تشريعية انتقالية غير منتخبة، لم تُشكَّل بعد، يتم تعيينها من خلال اتفاق بين شركاء تحالف "قوى إعلان الحرية والتغيير" والمتمردين السابقين وغيرهم من أصحاب المصالح.
تتلخص حجة مؤيدي "السلام" مع إسرائيل في ثلاث نقاط أساسية. أُولاها أن السياسة الواقعية تُلزِم السودان بالسعي نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل لتلبية المطالب الأميركية وللتوافق مع خيارات الرعاة الإقليميين، كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وفيما يتصل بهذا التفكير، قيل إن الصمود من مخلَّفات عصر بائد تُسمع فيه جعجعة ولا يُرى طحين. فما الذي سيجنيه السودان من "المقاومة" إذا علمنا أن دول المواجهة، كمصر والأردن، بل حتى الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني (منظمة التحرير الفلسطينية)، قد وقّعت معاهداتها للسلام مع إسرائيل وجَنت ثمارها. فيما تقول النقطة الثالثة أن الفلسطينيين أنفسهم لا يستحقون التضامن. إذ ينظر الفلسطينيون إلى السودانيين باعتبارهم أدنى منهم من الناحية العرقية، فيرى البعضُ فيهم ذوي أصول أفريقية طامحِين لأن يكونوا عرباً. يمتد هذا الانعطاف الهوياتي، بعد ذلك، للتأكيد على أن العرب السودانيين هم في نهاية المطاف آبقون حين يتعلق الأمر بادّعائهم الهوية العربية وزعمهم الالتزام السوداني بالقضية الفلسطينية، وهو انعكاس مؤسف لعقدة النقص المزمنة هذه مع سعيهم للاعتراف بهم بين أقرانهم العرب. تقوم هذه الحجج العرقية، التي تتداولها قطاعات من المثقفين الليبراليين، جزئياً على تجاب المغتربين السودانيين في الأجواء التنافسية، التي عادة ما تكون حادة، في سوق العمل ببلاد الخليج العربي.
في نهاية المطاف، ساد إجماع الموافقة الصامت في أروقة السلطة، وكان أفضل تعبير عنه هو وزير العدل السوداني نصر الدين عبد الباري، الذي هاجم منتقدي السلطة، قائلاً إن الحكومة تحظى بتأييد شعبي واسع وبدعم الجيش. وأكد عبد الباري، مستخدماً اللغة القانونية، أن الوثيقة الدستورية لا تضع قيوداً على السياسات الحكومية سوى مبادئ الاستقلال والمصالح القومية وتوازُن العلاقات الخارجية، ولا تمنع بحالٍ من الأحوال تطبيعَ العلاقات مع إسرائيل.
بلغ منطق بنثام ذروته مع بروز رفضٍ تاتشريّ لفكرة المجتمع السياسي نفسها. فقد قال عبد الباري إنه "لا يوجد شيء يسمى ’ثوابت الأمة السودانية‘"، نظراً لأنه لم يكن هناك أبداً إجماع في تاريخ البلاد على مجموعة محددة من المبادئ الدستورية الملزِمة. وإنما فرضت النخب السياسية، كما زعم عبد الباري، ما تعتقده وتؤمن به على "الشعب السوداني المتباين"، وسمّت مَن يخالفها الرأي خائناً.
غير أن النتيجة التي وصل إليها عبد الباري من مقدمة صحيحة حول الإقرار بسلطوية النخبة السودانية لا تعبّر سوى عن قيامه بالأمر نفسه. فقد أدان سجلاً حافلاً بالعجز الديمقراطي، ولكنه لم يقترح وسيلة موثوقة لمعالجته. وقد تجاهل ببساطة الاقتراح القائل إن عملية إعادة توجيه هائلة للسياسات -بحجم تطبيع العلاقات مع إسرائيل- قد تتطلب على الأقل موافقة برلمانٍ منتخب، وهو غير قائم اليوم؛ وأكّد بدلاً من ذلك على أن تعديل الوثيقة الدستورية منَح أيَّ اجتماع مشترك للحكومة مع مجلس السيادة -وهو الهيئة الرئاسية الجماعية في السودان- سلطةً تشريعية. وكما شرع في المُحاججة بأسلوب احترافي، لا يجب تحديد السياسة الخارجية من خلال قناعات محددة أو توجهات سياسية حزبية أو أيديولوجية فردية، بل يتم تحديدها بناء على المصالح. وأضاف أن السؤال الصحيح يجب أن يدور حول ما إذا كان تطبيع العلاقات مع إسرائيل سيؤدي إلى تحقيق مصالح البلاد. لذا، فمن الواضح أن تحديد ماهية المصالح القومية، في منطق عبد الباري، هو مسألة متروكة للنخبة المطّلعة لتقرر بشأنها بمنأى عن القيود التي يضعها التمثيل الشعبي.
الدوافع وراء صفقة تبادل المنافع
الآن، ما هي الدوافع التي جعلت تطبيع العلاقات مع إسرائيل أولوية للنظام السوداني في مرحلة ما بعد البشير؟ في الحقيقة، تشير كافة المبررات الواقعية أن واشنطن قدمت للخرطوم مقايضة مباشرة، وهي مقايضة قيل إن إسرائيل سبق وأن عرضتها على البشير في 2016، لكنه تردد في قبولها خوفاً من حدوث رد فعل سياسي من بعض الجهات القريبة. إلا أن حكام الخرطوم الجدد رأوا أنهم يمثلون النقيض لنظام البشير فيما يتعلق بالعلاقات مع الولايات المتحدة والقوى الغربية، وحرصوا على إثبات جدارتهم.
ونظراً لحالة الاقتصاد السوداني الذي يشهد انهياراً حراً، كانت خطة الحكومة الانتقالية لإنقاذ الاقتصاد تتمثل في الحصول على قروضٍ جديدة. في ضوء هذه المعوقات، تمتعت واشنطن بحرية تقرير السياسات المتبعة في الخرطوم. وعليه، فقد لجأت الدولة الأقوى في العالم إلى سياسة لَيّ الذراع في وجه واحد من أفقر البلدان لِتطويعه سياسياً، ذلك البلد المثقل بدين خارجي يبلغ حوالي 59 مليار دولار أميركي (أيّ أكثر من 190% من ناتجه المحلي الإجمالي في عام 2019) ومعدل تضخم يقدر بالمئات (حوالي 400%).
في هذا السياق، كان للجيش السوداني أجندته الخاصة. تنفق إسرائيل حوالي 22 مليار دولار سنوياً على جيشها، أيّ نحو 12% من إجمالي إنفاقها الحكومي. "ويُعد جيش الدفاع الإسرائيلي، والأذرع الاجتماعية والمالية والثقافية المتصلة به، المؤسسة الوحيدة الأكثر أهمية في إسرائيل اليوم، كونه مجمع سياسي وثقافي واقتصادي وعسكري وصناعي. إذ إن فصل السياسي عن المدني أمراً مستحيلاً في إسرائيل". ويمكن القول إن هذا الالتحام الراسخ بين الجيش والشعب هو النموذج الذي يعد موضع حسد باقي الجيوش في المنطقة، فهو يمثل فكرة يجري تعميمها من خلال تبني الشعار الشعبوي واسع الانتشار 'جيش واحد، شعب واحد' «شعار القوات المسلحة السودانية»، ويعبر عن شكل من أشكال الحكومات التي نجت من الحرب الباردة وتم تهيئتها لتتواءم مع خطة الدمقرطة الأميركية في الشرق الأوسط وخدمة 'حربها على الإرهاب'، وقد أضعفت اضطرابات الربيع العربي تلك الحكومات لكنها لم تنجح في القضاء عليها تماماً.
ومن هذا المنطلق، فإن النظام الحالي في السودان ما هو إلا تجربة إعادة تسمية الاستبدادية دون الحاجة إلى دكتاتوريين من الطراز القديم ليمثلوا التعايش أو التحالف بين الجيوش والنخب الليبرالية. يشير رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، إلى هذا التعايش بوصفه "النموذج الانتقالي السوداني".
وبالفعل، بمجرد أن وقّع السودان على الاتفاقيات الإبراهيمية، شرع الجيش الأميركي في تنفيذ خطة للتعاون مع الجيش السوداني تذكرنا بفترة السبعينيات عندما كان الجيش السوداني أحد دعامات الاستراتيجية العسكرية الأميركية في المنطقة وأحد المستفيدين منها، ضمن جملة من المهام الأخرى التي يؤديها بوصفه الحصن المنيع ضد نظام الديرغ «الماركسي» في أثيوبيا والنظام الليبي المارق. ففي كانون الثاني/يناير 2021، أمضى قادة القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا بضعة أيامٍ في الخرطوم لمناقشة 'خطة' مع نظرائهم السودانيين، واستقبل ضباط القوات البحرية السودانية السفن العسكرية الأميركية الراسية في ميناء بورتسودان متهللين، في تطورٍ وصفته التقارير الإخبارية العسكرية الأميركية بأنه"تغيٌّر جذري في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والسودان".
تصور البرهان ورفاقه العسكريين أن ثمة عودة لمستقبل عسكري كبير مع الأميركيين. بوصفه عميلاً للأمريكان خلال السنوات الأخيرة من حكم الرئيس السوداني السابق جعفر النميري، تلقى الجيش السوداني في الفترة ما بين عامي 1977 و1985 حزمة تسليح عسكري إجمالية تقدر بـ1.4 مليار دولار، وهو ما يعد أكبر التزام أميركي بتقديم موارد عسكرية-اقتصادية لدولة من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
خلال هذه السنوات التسع، منحت الولايات المتحدة 135 مليون دولار أميركي للسودان على هيئة مساعدات عسكرية و150 مليون دولار على شكل قروض لتمويل المبيعات العسكرية الخارجية، وأودعت 506 مليون دولار في صناديق الدعم الاقتصادي، ووافقت على منحه 581 مليون دولار في هيئة تحويل نقدي للمبيعات العسكرية الخارجية، وسمحت بتلقيه 7 مليون دولار على هيئة تدريبات ودورات تعليمية عسكرية لتدريب 625 طالب عسكري، كان من بينهم الراحل جون قرنق، نائب رئيس السودان سابقاً، والقيصر الأمني الفاتح عروة. توفي الأول في حادث تحطم مروحية عقب نجاحه في إيجاد دولة لجيشه الخاص: كانت الدولة هي جنوب السودان والجيش هو جيش التحرير الشعبي السوداني، في حين شغل الأخير منصب وزير الدولة لشؤون الدفاع في عهد عمر البشير، وعمل أيضاً مندوباً للسودان لدى الأمم المتحدة، ومستشاراً للرئيس لشؤون الأمن القومي، ويتمتع اليوم بخطة تقاعد سخية بصفته الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لعملاقة الاتصالات الخليجية "زين" في السودان.
تعاون النميري ورئيس جهاز أمنه عمر محمد الطيب مع أرئيل شارون، الذي كان وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت، وتاجر السلاح السعودي عدنان خاشقجي لتنفيذ مهمة نقل آلاف اليهود الإثيوبيين إلى إسرائيل عبر السودان في الفترة بين عامي 1984 و1985. نجحت 'عملية موسى' التي شارك فيها الفاتح عروة عندما كان ضابطاً شاباً، وتحولت مع الوقت إلى أسطورة إسرائيلية أخرى عن الدهاء والشجاعة تجسدت لمدة 130 دقيقة في فيلم الإثارة "منتجع البحر الأحمر للغوص". كان النميري يخضع لتعليمات الولايات المتحدة ويسرت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية الجوانب اللوجستية والمالية للعملية السرية.
أمل النميري، الذي كان يكافح من أجل بقائه في السلطة وسط أزمتي اقتصاد وحكم طاحنتين، في الحصول على إغاثة أميركية. لكنه لم يحصل سوى على ما يقدر بـ71 مليون دولار أميركي أنفق معظمها في الرشاوى على طول سلسلة القيادة، مقابل 300 مليون دولار تم تخصيصها للعملية. ولم يتحقق أيضاً أمله في التعلق بحبل النجاة الأميركي الذي كان في أمس الحاجة إليه. فبينما كان النميري في زيارة لواشنطن لمقابلة الرئيس ريغان، اندلعت في الخرطوم انتفاضة 1985 التي أسقطت نظامه، والتي أتت رداً على برنامج قاسي لخفض الدعم أوصى به صندوق النقد الدولي.
هل سيظهر شكل جديد من التضامن؟
في 11 أيار/مايو 2021، أطلق الضباط الذين يحرسون مقر القيادة العليا للقوات المسلحة السودانية في الخرطوم الرصاص على المتظاهرين، ما أسفر عن مقتل شابين وجرح خمسة عشر آخرين. وقال متحدث باسم الجيش إنه لم تصدر أوامر بفتح النيران على المتظاهرين ووعد بفتح تحقيق في الواقعة. كان المتظاهرون قد احتشدوا لإحياء الذكرى الثانية لمجزرة 29 رمضان (3 حزيران/يونيو 2019) التي وقعت حينما فرقت كتائب من قوات الأمن التي تتبع جهات مختلفة مقر الاعتصام المترامي الأطراف في محيط مقر القيادة العامة للجيش بطريقة وحشية في خضم نوبة هستيرية من سفك الدماء.
لا يزال التحقيق في مجزرة الثالث من حزيران/يونيو مستمراً وبات الآن قضية ثانوية. في فلسطين، وفي الوقت نفسه تقريباً، وجهت حماس إنذاراً أخيراً إلى تل أبيب في 10 أيار/مايو تتوعدها فيه بتحمل العواقب في حال عدم انسحاب قوات الأمن بحلول الساعة السادسة مساءً من الحرم القدسي الشريف وحي الشيخ جراح. في المقابل، بدأ جيش الدفاع الإسرائيلي في شن حملة من الغارات الجوية العنيفة على قطاع غزة.
خلص بعض المتظاهرين السودانيين إلى أن حرب نتنياهو على غزة والرصاص الذي يوجهه جنود برهان إلى صدورهم يمثلان سلسلة متصلة للثورة المضادة، وأن التضامن مع المقاومة الفلسطينية يعد شرطاً أساسياً في نضالهم. كان بإمكانهم رؤية أنفسهم في جيل نشطاء الشيخ جراح، وإدراك أوجه التشابه بينهم فيما يتعلق بخيبة أملهم في سياسات المؤسسة والمحاولات المبذولة بشكلٍ عملي لإعادة تشكيل إحداثيات النضال بما يتجاوز قيود ومعوقات الطبقة السياسية الأميرية.
أدت كثرة أعداد المتظاهرين الفلسطينيين في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية ومن مختلف التوجهات السياسية، على نحوٍ تجاوز كافة الانقسامات، إلى القضاء فعلياً على حالة التشرذم القائمة بين مناطق الخط الأخضر والضفة الغربية وقطاع غزة، وأعادت التأكيد على وحدة فلسطين "من النهر إلى البحر" في المخيلة السياسية. بالمثل، وفي لحظة مجدهم، خلال الاعتصام أمام مقر القيادة العامة في الخرطوم -الذي يبدو الآن أسطورياً- في الفترة من نيسان/أبريل إلى حزيران/يونيو من العام 2019، تخيل المتظاهرون السودانيون نظاماً سياسياً من شأنه تغيير النظام الإتجاري (المَركَنتليّ) العنصري الموجود في السودان بالفعل وعاشوا مكونات تلك الرؤية في ممارساتهم اليومية للتضامن.
بشرت الموجة الثورية في السودان خلال عامي 2018-2019 بإنهاء عهد الانتهازية السياسية وبدء عهد التحرر. ومشاركة إمكانية التحرر تلك، هي ما تجعل الشباب والشابات في السودان وفلسطين والولايات المتحدة والعالم يُقدرون ويتفهّمون بعضهم البعض. في ذروة احتجاجات حركة "حياة السود مهمة" في الولايات المتحدة، حمل المتظاهرون الصاخبون في الخرطوم لافتة مكتوب عليها الشعار ذاته مع إضافة من وحي ظروفهم الخاصة موجهة إلى العدو العالمي. "ترامب كلبٌ نافق"، هكذا أعلن المتظاهرون مُقتبسين كلمات ميلودرامية من موسيقى الأندرجراوند المستقلة في الخرطوم. قفز حكام السودان الجدد إلى السلطة من خلال أولئك الأمميين بالفطرة. وكثير من الخيارات السياسية في الفترة الانتقالية، وعلى رأسها تطبيع العلاقات مع إسرائيل، تتناقض تماماً وحتى تهزأ من تلك الدوافع الثورية، بل إنها تواصل السير على الدروب المعهودة ذاتها من النفعية والانتهازية.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.