المقدمة
كشفت جائحة كورونا عن "الإجهاد" المستمر لشبكات الأمان الاجتماعي جراء إشكالات سياسية واقتصادية وحوكماتية هيكلية طبعت منهجية صياغة وقيادة البرامج الاجتماعية، حيث أفضى غياب معايير مُسبقة في تحديد الفئات المستهدفة إلى تكريس استهداف "عشوائي" نجم عنه إقصاء بعض مستحقي الدعم مقابل استفادة أشخاص لا تتوافر لديهم الشروط. لهذا السبب، أُعطيت الأولوية لتصميم نظام جديد للاستهداف، يستند إلى أدوات مبتكرة، يتفاوت مداها بين شروط تقنية من أجل الفعالية، وأخرى سياسية تضمن تحكُّم الدولة في مدى السياسات الاجتماعية ومخرجاتها. لهذه الغاية، شكَّل السجل الاجتماعي الموحَّد آلية لحصر قوائم الأسر المستحقة للدعم، وتحديد عتبة الاستفادة من البرامج الاجتماعية ارتكازًا على قاعدة مركزية للمعطيات السوسيو-اقتصادية.
تبحث هذه الورقة في تحولات ومآلات آليات استهداف الفئات المعنية بشبكات الأمان الاجتماعي في المغرب، انطلاقاً من الحقل الاستفهامي الآتي: ما هي التقاطعات القائمة والمحتملة بين البعدين السياسي والتقني في تصميم المنظومة الجديدة للاستهداف الاجتماعي، وما هي أبرز الفرص التي تُتِيحها؟ وما المخاطر التي قد تنجم عنها على صعيد ضبط قوائم الأسر المستحِقّة وتحديد نطاق الاستفادة من البرامج الاجتماعية؟
قسّمت هذه الدراسة إلى أربعة محاور: في البداية نستعرض الملامح العامة للمنظومة الجديدة للاستهداف من خلال تحديد سياقات بروز السجل الاجتماعي الموحد ورهاناته، ثم سننتقل إلى محور وصفي نرصد فيه آليات المنهجية الجديدة للاستهداف وما ترتّب عليها من تغييرات. وفي المحورين الثالث والرابع، سنتتبَّع من خلالهما مظاهر وآثار "تسييس" politisation)) و"تقننة" (technitisation) المحاولات الجارية لتصميم منظومة الاستهداف من منظور الاقتصاد السياسي والمنظور السوسيو-سياسي، قبل أن نختم بخلاصة نقدّم فيها بعض المقترحات لتوجيه التكامل بين البعدين السياسي والتقني نحو تحسين فعالية واستدامة التدخل العمومي للحماية الاجتماعية. منطلقين في ذلك من التقارير الرسمية والمستقلة للوقوف على الخلفيات المؤسسة للانتقال من الشمول إلى سياسات اجتماعية مستهدَفة قد تحقق بعض المكاسب الاقتصادية، لكنها تنطوي على تهديدات تمس باستحقاقات العدالة الاجتماعية وباستدامة البرامج الاجتماعية، مع الاستدلال على ذلك بمؤشرات الحصيلة الأولية للعمل بالمنهجية الجديدة للاستهداف.
الاستهداف في الجيل الجديد لبرامج الحماية الاجتماعية: التحديات والفرص
أثَّر ضعف رؤية معايير الاستفادة من البرامج الاجتماعية على إعمال مبادئ العدالة والمساواة في حصر قوائم المستحقين، وهو واقع حفز على تصميم منظومة جديدة للاستهداف انطلاقاً من خلفيات سياسية واقتصادية، يبدو من الظاهر أنها تتوخى تحقيق العدالة الاجتماعية، لكن مرجعياتها التشريعية وآلياتها التقنية قد تكرس التمييز وعدم الإنصاف بين المستهدفين منها.
1-1. فوضى الاستهداف في برامج الحماية الاجتماعية
لم تحُدّ السياسات الاجتماعية السابقة من التفكك التدريجي لشبكات الأمان وصولاً إلى الأزمة الوبائية كوفيد-19 التي أبانت عن وجود 75 في المائة من المغاربة خارج منظومة الحماية الاجتماعية، وعن احتياج أكثر من 66 في المائة من المواطنين إلى الدعم الذي قدمته الدولة خلال فترة الحجر الصحي عبر صندوق خاص تجاوز غلافه المالي الـ1.5 مليار دولار، وما اكتنف ذلك من صعوبة في الوصول إلى الفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً. تم الاعتماد على قاعدة المعطيات الخاصة ببرنامج المساعدة الطبية في تقديم الدعم لنحو 5.5 ملايين أسرة، وهي القاعدة التي اعترتها نقائص عدة بسبب غياب معايير دقيقة لحصر الأشخاص المستحقين للدعم العمومي. هذا الوضع ساهم في إعادة إنتاج وضعيات متقدمة من "الريع الاجتماعي" بشكل جعل العديد من ميسوري الحال يستفيدون من الدعم المخصَّص للمتضررين مقابل حرمان بعض الفئات الهشّة.
فبناءً على التشخيصات التي أجرتها السلطات العمومية والمنظمات الدولية الشريكة للمغرب، ظهرت حالة من "الفوضى" تعتري منظومة الاستهداف، حيث يتفاقم التضارب بين المشرفين على تدبير المسألة الاجتماعية بوجود أكثر من خمسين فاعلاً مؤسساتياً، لكل منهم فلسفته الخاصة، في ظلِّ غياب أرضية موحدة للتشخيص والتنفيذ. كما استمرت أعداد برامج المساعدات الاجتماعية في التزايد لتصل إلى أكثر من 140 برنامجاً مصمَّماً ومنفَّذا بشكل مستقل، وبطرق استهداف وآليات حوكمة مختلفة، مع غياب شبه كلي لقاعدة معطيات مركزية تتيح بيانات وافية ودقيقة حول الفئات الأكثر احتياجاً. الأمر الذي كرس ما يمكن أن نسميه استهدافاً عشوائياً، جعل فئات ميسورة تستفيد من البرامج الاجتماعية مقابل استبعاد أعداد واسعة من الأشخاص الأشد فقراً.
1-2. أساسات الجيل الجديد من البرامج الاجتماعية المستهدَفة
في ضوء الظروف الراهنة، برزت الحاجة الملحّة إلى بلورة حلول ملائمة لتوجيه المساعدات المالية بشكل مُحدَّد الأهداف والفئات المستحِقّة، انطلاقاً من سجل اجتماعي موحد يشكل أساساً لحصر قوائم الأسر المستحقة للدعم. في هذا السياق، فقد حفّز الهاجس الموازناتي على التحوّل من النظام المعمّم نحو الاستهداف الجزئي في تصميم البرامج الاجتماعية. يعكس هذا التحوّل إرادة الانتقال من سياسات اجتماعية تستهدف عموم المواطنين إلى سياسات "انتقائية" تتوجه إلى جمهور محدود، ما يتيح التحكم بحجم القاعدة المستفيدة من الخدمات المدعومة. وهذا يؤكد قناعة الحكومة بأن وجود شبكة اجتماعية مستهدفة موحّدة يعد الخيار الأمثل لتخفيف التكاليف المبذولة على الحماية الاجتماعية، في بلد متوسط الدخل ويعاني من نسبة لامساواة عالية، بدلاً من إرساء نظام حماية اجتماعية شامل.
وعليه، وضعت خريطة طريق تشريعية لتفعيل النموذج المنشود في تحديد المشمولين برعاية الدولة ورسم التوجهات العامة لمنظومة الاستهداف، منذ شهر آب/أغسطس 2020 وبإصدار القانون رقم 72.18 المتعلق بمنظومة استهداف المستفيدين من قبل برامج الدعم الاجتماعي وإنشاء الوكالة الوطنية للسجلات. يعتبر هذا القانون أساساً لإرساء قواعد معطيات موثوقة ومستقرة، ويعتمد على شبكة معايير تقنية تتيح تصنيف الأسر بناءً على بياناتها الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم حصر الفئات المشمولة بالبرامج الاجتماعية بعد إجراء عمليات التحقق والتنقيط لاختبار الوسائل البديلة باستخدام تقنيات المعالجة المعلوماتية (the proxy means testing).
تُشير مراجعة التجارب الدولية المماثلة إلى أن المغرب قد تفرَّد بتصميم منصتين متوازيتين لجمع البيانات السكانية والاجتماعية. الأولى هي السجل الوطني للسكان (RNP)، الذي يعمل كقاعدة رقمية مركزية وآمنة، تحتوي على معلومات أساسية مثل الاسم الشخصي والعائلي والعنوان، بالإضافة إلى بيانات بيومترية (Biométriques) تعتمد على قزحية العين لتفادي الازدواجية والاحتيال وتأمين الولوج العادل إلى الخدمات الاجتماعية. وتُستكمل عملية التسجيل بمد كل شخص مسجل برقم تعريفي موحَّد (L'Identifiant Digital Civil et Social IDCS) يستعمل من أجل تسهيل وتأمين الولوج إلى البرامج الحكومية للدعم الاجتماعي.
تكمن أهمية هذا السجل في كونه يشكل الدعامة الصلبة للسجل الاجتماعي الموحد (RSU)، حيث تسمح المعطيات الديموغرافية بالتعرف إلى الأشخاص المسجلين في السجل الاجتماعي الموحد الراغبين في الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي. لذلك، يُعتبر تسجيل الأسر في منصة السجل الاجتماعي الموحد خطوة جدّ مهمة، على اعتبار أنها تلعب دور المصفاة لترشيح الفئات المستهدفة بالبرامج الاجتماعية، حيث تُحدّد قوائم الأسر المستحقة من مختلف أوجه المساعدة التي تقدمها الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، بناءً على المعالجة الإلكترونية للبيانات الاقتصادية والاجتماعية وبحسب العتبة المخصصة لكل برنامج.
الشكل 1: مكونات السجل الاجتماعي الموحد
1-3. السياق السياسي والاقتصادي والقانوني لإنشاء السجل الاجتماعي الموحد
إضافة إلى النصوص التشريعية المرتبطة بشكل مباشر بمنظومة الاستهداف، تم إصدار سلسلة من التشريعات الرامية إلى إعادة تصميم منظومة الحماية الاجتماعية اعتماداً على منهجية الاستهداف الاجتماعي، من بينها نذكر القانون الإطار رقم 09.21 المتعلق بالحماية الاجتماعية، الذي اشتمل على حزمة متكاملة لتعميم خدمات الحماية الاجتماعية، مثل التغطية الصحية والتعويضات العائلية والحق في المعاش والتعويض عن فقدان الشغل بحلول عام 2025. لكن لتحقيق هذا الهدف، يتعين الاعتماد على قواعد معطيات سوسيو-اقتصادية آمنة لتسهيل استهداف المشمولين بهذه البرامج. وبالتالي، برز السجل الاجتماعي الموحد كركيزة أساسية لبلوغ المؤشرات التي نص عليها القانون الإطار، خاصة في ما يتعلق بالاستهداف الدقيق للمستفيدين من نظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض الموجّه لغير القادرين على تحمل تكاليف الاشتراك. ونُذكِّر بهذا الخصوص بازدواجية المقاربة الجديدة لتعميم خدمات الحماية الاجتماعية، وذلك بإجبار العمال المستقلين القادرين على دفع أقساط الاشتراك لفائدة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مقابل إعفاء الأشخاص غير القادرين على تحمل واجبات الاشتراك.
ويتوقّف التفريق بين النظامين المساهماتي (système contributif) والتضامني (système subsidiaire) لمنظومة التغطية الصحية على وجود بنك معطيات ديناميكي يُمكِّن من حصر الفئات المشمولة بالاستفادة المجانية أو الميسَّرة، بالإضافة إلى تدقيق المساطر المعتمدة في احتساب قيمة الاشتراكات. كما يتطلب تعميم التعويضات العائلية تطبيق معايير دقيقة لضمان استفادة الأسر الهشة من برامج الحماية من مخاطر الطفولة، وهذا ينطبق أيضاً على باقي برامج الحماية الاجتماعية.
في ضوء ذلك، راهنت الحكومة على السجل الاجتماعي لتنفيذ "النظام غير المساهماتي" للحماية الاجتماعية، ولتنظيم مسطرة الاستفادة من عمليات المساعدة الاجتماعية، من خلال ضبط معايير حصر قوائم الأشخاص المستحقين وتحسين عمليات التنسيق والتتبّع بين مختلف برامج الدعم الاجتماعي. ومع ذلك، فإن هذا الرهان لا يستحضر حقيقة أن تطوير السجل الاجتماعي وصيانته مكلف للغاية، وأنه ينطوي على أخطاء كبيرة وتحيّزات في البيانات بسبب عوامل فنية واجتماعية وسياسية، كما أنه يقوض الانتقال نحو نظام شمولي للحماية الاجتماعية يستهدف جميع المواطنين والمقيمين بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي.
ارتباطاً بذلك، يحتمل العمل بالمنظومة الجديدة للاستهداف الاجتماعي مخاطر استراتيجية على وظيفة الدولة وموقعها في بنية التدبير العمومي، خاصة في ضوء ضغوطات المؤسسات المالية الدولية التي تدفع في اتجاه تكريس الطابع النيوليبرالي للسياسات العمومية وللبرامج الاجتماعية بشكل خاص، من خلال تقليص الميزانيات الاجتماعية وتحجيم القاعدة الديموغرافية المستهدفة وفق منطق موازناتي يستهدف ترسيخ نموذج أقل ما يمكن من الدولة وأقل ما يمكن من المستفيدين من برامج الحماية والمساعدة.
المنهجية الجديدة للاستهداف الاجتماعي: المرجعيات والآليات
بهدف معالجة الإشكالات التي طبعت الإطار التنظيمي للاستهداف الاجتماعي استُحدثت بنية جديدة للإشراف السياسي والتقني على تنفيذ المنهجية الجديدة، بتشكيل لجنة وزارية مشتركة تعمل تحت وصاية رئيس الحكومة لتفعيل الأطر التشريعية والتدبيرية لمنظومة الحماية الاجتماعية، مع تطوير التواصل المؤسساتي بين جميع الجهات المعنية لضمان اتساق وفعالية التدابير المتعلقة بالاستهداف. وتتفرّع عن اللجنة الوزارية لجنة تقنية يشرف عليها الوزير المنتدب لدى وزارة الاقتصاد والمالية المكلف بالميزانية، ومهمتها تنفيذ قرارات اللجنة الوزارية واقتراح الإجراءات والأدوات اللازمة لإصلاح منظومة الحماية الاجتماعية ككل.
أُنشئت الوكالة الوطنية للسجلات لإدارة وتنظيم السجل الوطني للسكان والسجل الاجتماعي الموحّد، وهي مؤسسة عمومية مسؤولة عن مراقبة النظم المعلوماتية للمسجلين والتحقق من صحّة البيانات. تعزّز هذه الوكالة تبادل المعلومات بين الإدارات العمومية وتمنح الاعتماد للهيئات الوسيطة وتراقبها بما يكفل استخدام البيانات بطريقة نزيهة ومشروعة تحمي خصوصيات الأشخاص المسجلين. بالإضافة إلى ذلك، قامت المندوبية السامية للتخطيط (HCP) بدعم تقني من البنك الدولي بوضع صيغة حسابية لاختبار الوسائل البديلة (PMT) ولتنقيط الأسر حسب وسط الإقامة الحضري والقروي، واستناداً إلى معطيات اقتصادية واجتماعية يتم تدقيقها وتحديثها باستمرار. وهو دور، رغم طابعه التقني، لا يخلو من حمولة سياسية، لأن المعادلات الرياضية ستشكل النواة الصلبة لقرارات القبول أو الاستبعاد بالنسبة لطلبات الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي. فعلى أساس مؤشرات التنقيط والترتيب، تقوم الوكالة بإصدار قرارات لتحديد لائحة الأسر المستحقة. وهو ما يعني أن الخوارزميات المستخدمة في اختبار دخل الأسر قد لا تفيد بالضرورة الفئات الفقيرة، بسبب عدم رؤية الأنشطة الاقتصادية غير المهيكَلة، فضلاً عن الأخطاء التقنية التي تطبع المعالجة المعلوماتية للبيانات السوسيو ــ اقتصادية، كما حصل في العديد من التجارب الدولية على غرار التجربة السريلانكية.
استلهمت المشاورات الرامية إلى رقمنة البيانات الاجتماعية في المغرب من نظام التحديد الموحد في الهند (Aadhaar) والذي أصبح نموذجاً استرشادياً يُحتذى به من المنظمات الدولية في مجال تطوير بنية تحتية رقمية ممركزة ومؤمنة في المجال الاجتماعي. بعد الانتهاء من الهندسة المعلوماتية للسجل الوطني للسكان والسجل الاجتماعي الموحد، تم الشروع في تخزين المعطيات الديموغرافية والاقتصادية والاجتماعية للسكان بطريقتين؛ الأولى بشكل تلقائي عبر التسجيل الإلكتروني، والثانية عبر فتح أكثر من ألفي مكتب حضوري لخدمات المواطنين (CSC) لتسهيل التسجيل وجمع البيانات وتحديثها ومعالجة الشكاوى. لكن مختلف هذه الآليات ظلت غير كافية، خاصة في المناطق النائية التي تتميز بضعف شبكة الإنترنت وبصعوبة الولوج إلى مكاتب التسجيل، وهو ما أضاف عاملاً إقصائياً، جعل الآلاف من الأسر غير مسجلة حتى الآن في السجل الاجتماعي الموحد، ما سيجعلها مستبعدة من برامج الحماية والمساعدة.
ومنذ انطلاق العملية في شهر تشرين الأول/نوفمبر 2022 وحتى منتصف حزيران/يونيو 2023، سُجّل ما يقارب 21.5 مليون شخص في السجل الوطني للسكان و18 مليوناً في السجل الاجتماعي الموحد، ينتمون إلى خمسة ملايين أسرة. وإذا كان التسجيل في السجل الوطني للسكان إلزامياً من أجل مركزة المعطيات الديموغرافية، فإن الانضمام إلى السجل الاجتماعي الموحد متاح فقط للأسر التي ترغب في الاستفادة من البرامج الاجتماعية. ويُنتظر تعميم العمل بشكل كامل بالمنظومة الجديدة للاستهداف مع بداية سنة 2025، غير أن الحصيلة الأولية لا تتوافق مع هذا الرهان في ظل تباطؤ عمليات التسجيل والمراجعة، ناهيك عن الأعطاب التي تواجه منهجية الاستهداف والتي نجم عنها حتى الآن إقصاء نحو مليون شخص مُسجَّل في السجل الاجتماعي الموحد من الاستفادة من برنامج الدعم المباشر.
بغية ضبط الاستحقاقات الجديدة لمنهجية الاستهداف، عملت الحكومة على تكييف المحفظة المالية للبرامج الاجتماعية بما يتوافق مع متطلبات العقلنة والاستحقاق، وذلك عن طريق الميزانية السنوية لبرامج الحماية الاجتماعية التي حُدِّدت بـ51 مليار درهم. كما تم توحيد الحسابات المالية باستبدال صندوق التماسك الاجتماعي بصندوق الحماية الاجتماعية والتماسك الاجتماعي بموجب قانون المالية لسنة 2022، مع تخصيص غلاف مالي سنوي يقدر بنحو 10 مليارات درهم، منها 3.5 مليارات درهم لدعم تمدرس الأطفال عبر برامج "تيسير" و"مليون محفظة" ودعم الأرامل المعوزات الحاضنات لأولادهن، و4.2 مليارات درهم لإدماج 11 مليون شخص في وضعية هشة في نظام التأمين الإجباري الأساسي عن المرض، بالإضافة إلى 1.7 مليار لدعم وصول الفئات الهشة إلى الدواء والعلاجات.
وفي ضوء التقدم الحاصل في إرساء الدعائم المالية والمعلوماتية والمؤسساتية للمنظومة الجديدة للاستهداف، بدأت تظهر بعض مؤشرات إعمال معايير الاستحقاق في تحديد الفئات المعنية بأولوية الاستفادة من البرامج الاجتماعية، مثل برنامج التغطية الصحية، حيث ارتفع عدد المسجلين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS) من 7.8 ملايين في 2021 إلى ما يناهز 23,2 مليون شخص مع نهاية سنة 2023، بعد إدماج المهنيين والعمال غير الأجراء (TNS) وذوي الحقوق المرتبطين بهم الذين يُقدّر عددهم بثلاثة ملايين، وضم المستفيدين سابقاً من نظام المساعدة الطبية الذين قارب عددهم 11 مليون شخص مع تحمل الدولة اشتراكاتهم في الصندوق المذكور بغلاف مالي سنوي يعادل 9.5 مليارات درهم.
كما تمت مراجعة عدة برامج اجتماعية بغية ملاءمتها مع الاستحقاقات الجديدة لمنظومة الاستهداف، حيث شرعت الجهات المعنية، منذ نهاية عام 2022، في تكييف برامج المساعدة الاجتماعية مع المقاربة الجديدة لتدعيم شبكات الأمان الاجتماعي، كبرنامج "تيسير" الخاص بمحاربة الهدر المدرسي، وبرنامج دعم الأرامل في وضعية هشة الحاضنات لأولادهن المتمدرسين، في أفق مركزة وتجميع مختلف برامج الدعم الاجتماعي ضمن برنامج موحد للتحويلات النقدية المباشرة.
مع نهاية عام 2023 شرعت الحكومة في تعميم الدعم المباشر في شكل تحويلات مالية إلى 3.3 ملايين أسرة، فيما تجاوزت طلبات الاستفادة من الدعم 4.4 ملايين طلب تتم معالجتها في ضوء المعطيات المسجلة في السجل الاجتماعي الموحد، الذي أصبح التسجيل فيه خطوة ضرورية للحصول على العديد من الخدمات، مثل طلب الاستفادة من المِنح الجامعية، حيث تم تكليف لجنة وزارية بحصر لوائح المستفيدين المستوفين للشروط، استناداً إلى مستوى التنقيط الممنوح لأسرة صاحب الطلب في السجل الاجتماعي الموحد.
الاقتصاد السياسي لبرامج الحماية الاجتماعية في ضوء المنهجية الجديدة للاستهداف
بسبب العيوب المنهجية التي تعتري عمليات حصر الفئات المستفيدة وكيفيات وضع واحتساب المعايير التي تدخل في إصدار قرارات الاستفادة من البرامج الاجتماعية، فإن التحويلات المستهدفة تطرح تحديات جمة على مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
3-1. التداعيات السياسية والاجتماعية للسجل الاجتماعي الموحد ومنهجية الاستهداف
حظي تجديد منهجية استهداف المواطنين بأهمية بالغة في المسار الجديد للسياسات الاجتماعية انطلاقاً من خلفية سياسية تستهدف عقلنة الفعل العمومي على نحو يُمكِّن من تحقيق أفضل مردودية بأقل التكاليف. لكن في المقابل، تُطرَح العديد من التخوفات من اتخاذ المقاربة الجديدة للاستهداف كنوع من التحول المنهجي في السياسات العمومية، ومن الانتقال من تدخلات تنصبّ على توفير خدمات عمومية موجهة لجميع المواطنين في المجالات الحيوية كالتعليم والشغل والنقل إلى الاقتصار على شبكات أمان اجتماعية محدودة النطاق وموجهة إلى جمهور منتقى (sélectif)، مع تضييق مشمولات هذه الأخيرة بشكل قد يجعل عدة فئات خارج شبكات الحماية كالأشخاص المسنين والمهاجرين في وضعية غير نظامية والعاطلين عن العمل، إلخ. يُظهِر هذا التصور إرادة تحول الدولة من رعاية الجميع إلى التركيز على الأكثر تضررًا، مع افتراض أن الفئات الأخرى يمكنها الوصول إلى الخدمات العمومية على حسابها الخاص. وهذا ما يتعارض مع كون الحماية الاجتماعية حق من حقوق الإنسان وحق اقتصادي-اجتماعي للجميع. وفضلاً عن ذلك، فهذا التصور مغلوط، لكون البرامج المستهدفة لا تشمل فعلاً كل السكان الذين ينتمون إلى فئات اجتماعية هشة، لا بل يقصي الكثير منهم حسب ما أظهرت دراسات من سياقات مختلفة حول العالم. ونشير على سبيل المثال إلى دراسة استقصائية للوكالة الأسترالية للتنمية الدولية حول التحويلات النقدية المباشرة في عدة دول إفريقية وآسيوية خلصت إلى تسجيل نسب مهولة في استبعاد المستحقين بسبب الأخطاء والأعطاب التي تعتري منهجية حصر الساكنة المستفيدة.
إن "خوارزميات الاستهداف" (algorithmes de ciblage) يمكن أن تساهم في تحجيم عدد المشمولين ببرامج الحماية الاجتماعية، إذ تظهر العديد من التجارب الممولة من قبل البنك الدولي تكريس حالة من "الإقصاء المُمنهج" للعديد من الفئات المستحقة. إحدى هذه التجارب هي التجربة الأردنية التي شرعت بالعمل بالتحويلات النقدية المشروطة عبر برنامج "تكافل" منذ عام 2020، والذي يُمكِّن من تقديم مساعدات نقدية منتظَمة إلى 120 ألف أسرة. ومع ذلك، فإن هذا العدد لا يُمثّل سوى نسبة قليلة من الأُسر التي تعيش تحت خط الفقر في الأردن. وفضلاً عن ذلك، لا تراعي آليات الاستهداف حاجيات بعض الفئات الهشة كالنساء والأطفال والمهاجرين والعاملين في القطاع غير المهيكَل والأشخاص في وضعية إعاقة. وغيرها من المظاهر التي تؤشر إلى أن التحويلات النقدية المشروطة يمكن أن تكون وسيلة فعالة لتطوير رأس المال البشري والهروب من دائرة الفقر، لكنها قد تكون أيضًا مصيدة في حد ذاتها للفقراء، حيث إن هذه التحويلات تستبطن عيباً "خِلقيا" لكونها لا تأخذ في اعتبارها معدّل التضخم الذي من شأنه أن يقلل من قيمتها بشكل يجعل من الصعب الحفاظ على كرامة المستفيدين أمام الزيادة المستمرة في الأسعار. وفضلاً عن ذلك فقيمتها في الأصل ضئيلة وغير كافية لتلبية الحاجيات الأساسية للأسر، كما أنها غير مستدامة لارتباطها بتقلبات الظرفية الاقتصادية والسياسية التي قد تدفع إلى توقيفها أو تأخير صرفها.
نشير في هذا الصدد إلى خطر "تسييس" مرجعية الاستهداف وجعلها رهينة التسويات السياسية، كما حصل خلال الخلاف الذي نشب بين مكونات الأغلبية الحكومية بشأن إقرار واستمرار الدعم الموجه للنساء الأرامل في وضعية صعبة، ساهم هذا الملف إلى جانب خلافات أخرى في خلق "بلوكاج سياسي" حال دون تشكيل الحكومة الثانية لعبد الإله بنكيران في 2016، كما أن حكومة سعد الدين العثماني لم تعبر عن رغبتها في مضاعفة الدعم المخصص لهذه الفئة وفي تعميمه ليشمل كل النساء المعوزات إلا مع اقتراب انتهاء الولاية الحكومية 2016-2021. صحيح أن الترسيم التشريعي لمعايير تحديد القاعدة المستفيدة وآليات استهدافها من شأنه أن يُخفِّف من وطأة التوظيف "الانتخابي" للمسألة الاجتماعية، لكن هذا لا يدفع خطر تغذية الزبائنية السياسية (Clientélisme politique) عبر تلاعب بعض الفاعلين السياسيين بمعايير الاستهداف بما يكفل ضم أو حذف بعض الفئات. الأمر الذي يضع على المحك ضرورة تضييق نطاق البرامج الاجتماعية المستهدفة مقابل توسيع السياسات الاجتماعية الشاملة التي تتوخى تحقيق المساواة بين جميع المواطنات والمواطنين.
من جهة أخرى، تؤشر المنهجية الجديدة للاستهداف إلى "تأميم" الفعل الاجتماعي وجعله شأناً "دولتياً" (Étatique)، إذ إن هذا من شأنه أن يمنع استثمار التيارات السياسية من التكفّل بالفئات الهشة واتخاذها كقاعدة انتخابية. لكن على الرغم من ذلك، يمكن أن يكبح هذا النهج الأدوار الرائدة للحركات الاجتماعية وشبكات التضامن في دعم تماسك النسيج الاجتماعي أمام عجز الدولة عن الوصول إلى جميع المحرومين من شبكات الأمان، والنظر إلى القيمة المضافة للعمل الميداني لمنظمات المجتمع المدني في تحسين كفاءة عمليات الاستهداف. ولذلك، يتعين إشراك أصحاب المصلحة في مختلف المحاولات الرامية إلى تدعيم شبكة الأمان الاجتماعي، ضماناً لمراعاة الحاجيات الفعلية للمستهدفين من جهة، وللحيلولة دون تكريس الاستغلال السياسي لمسألة قد تعصف بتماسك النسيج الاجتماعي إن لم تعالَج بشكل تشاركي ومنصف.
3-2. التداعيات الاقتصادية للسجل الاجتماعي الموحد ومنهجية الاستهداف
تَعِد الإصلاحات الجديدة بفتح آفاق واسعة لتنويع آليات تمويل برامج الحماية الاجتماعية. يتضمن ذلك استخدام المساهمات التضامنية، والاشتراكات، وتحويلات الدولة والمؤسسات العمومية، بالإضافة إلى الفوائض المتوقعة من إلغاء الدعم المباشر. وبذلك تهدف الإصلاحات إلى الانتقال من الدعم السلعي الشامل إلى التحويل النقدي المشروط الموجه للاستهداف المباشر للفئات المعوزة، والتي تقدّر بنحو 16 مليار درهم. من المتوقع أن يُسهم إلغاء الدعم بصفة نهائية على غاز البوتان والقمح والسكر بحلول 2025 في توفير هوامش مالية لتغطية نفقات البرامج الجاري تفعيلها. لكنها ستُرتِّب في المقابل تأثيرات سلبية لا حصر لها بالنظر إلى الخلفية النيوليبرالية للإصلاح الذي تندرج ضمن اشتراطات الشراكة مع المؤسسات المالية الدولية، التي تدفع في اتجاه تكريس التقشف في تمويل السياسات الاجتماعية، وفي تقليص الأعداد المشمولة برعاية الدولة، في ضوء مآلات بعض التجارب العربية كالعراق، حيث لم تسعف التحويلات المستهدفة التي ساهمت في تصميمها وتمويلها الجهات المانحة في تدعيم شبكات الأمان الاجتماعي.
يثير التخلي التام عن دعم أسعار المواد الأساسية مخاوف بشأن القدرة الشرائية لبعض القطاعات الاجتماعية، ما يتركها تحت رحمة السوق. هذا التحول قد يُهدِّد بتحويل مرامي المقاربة إلى جعل الاستحقاقات مقتصرة على استهداف الفقراء وبدرجة أقل الطبقة الوسطى، مع "توريط" هذه الأخيرة في التمويل التضامني للسياسات الاجتماعية بفرض ضرائب جديدة تثقل كاهلها، كفرض مساهمة اجتماعية على الأرباح والدخل على كل موظف أو أجير يساوي أو يفوق أجره الشهري 20 ألف درهم في حدود 1,5 في المائة من الأجر الصافي، وهو ما يقتضي القيام بإصلاح شامل وتصاعدي للنظام الضريبي بما يكفل التمويل المستدام والعادل للسياسات الاجتماعية، مع المعالجة الاستباقية للآثار المحتملة على القدرة الشرائية للطبقة الوسطى ووضع التدابير الملائمة لدعمها.
إلى جانب ذلك، يتعين الوعي بمحدودية آثار الدعم النقدي المباشر، فقد يؤدي التخلي عن دعم المواد الأساسية، دون توفير بدائل ناجعة، إلى تآكل متراكم للقدرة الشرائية للمواطنين، وخاصة مع ارتفاع الأسعار وثبات الأجور، كما حدث في الجزائر منذ تبني سياسة تحرير الأسعار في عام 2008، بالإضافة إلى ذلك، يتعين الوعي للآثار الجانبية لنظام التحويلات النقدية المباشرة والتي قد تؤدي إلى تكريس الاعتماد المستمر (Dépendance) على الرعاية الاجتماعية للدولة كما حدث في السنغال دون ضمان استمرارية واستدامة هذا النوع من الرعاية. فعلى سبيل المثال، لم تساعد التحويلات النقدية المباشرة للفئات الهشة منذ انطلاقها في عام 2012 في الحد من مؤشرات الفقر والهشاشة، بحكم ضعف توجيهها للمشاريع المدرة للدخل، الأمر الذي يحتم الموازنة بين الدعم المباشر وبين الاستثمار في التجهيزات الاجتماعية والموارد البشرية لتعزيز فرص إعادة تأهيل الأشخاص الأكثر هشاشة وتقوية استقلالهم المالي، وبالتالي تدعيم قدرتهم على مواجهة التهديدات التي تؤثر على قدرتهم الشرائية. فقد يكون تخصيص الأموال لبناء وتجهيز المدارس أفضل من تقديم مساعدات مالية للناس للالتحاق بها.
شكَّل ضبط قوائم المستفيدين من البرامج الاجتماعية هاجساً لتطوير علاقات الشراكة بين المغرب والهيئات المانحة، التي انخرطت في تصميم المنهجية الجديدة للاستهداف عبر المساهمة في وضع الأسس المعلوماتية والصيغ الحسابية لحصر المشمولين بالإعانات. ومع ذلك، تحمل هذه العملية عدة مخاطر، حيث إن الشروط التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية غالباً ما تكون غير مُراعية لأسس العدالة الاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي الاقتراض المفرط إلى تقييد قدرة الدولة على تحمل التزاماتها الاجتماعية في المستقبل، وقد يترتب على ذلك اتخاذ إجراءات قد تُعرِّض أبعاد الرعاية الاجتماعية الأساسية للخطر. في هذا السياق، يُعزى هذا النموذج إلى التحول نحو استخدام منطق السوق في إدارة الشؤون الاجتماعية، وهو ما يظهر في تجارب بعض الدول في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، حيث يرتبط تقديم القروض من قبل البنك الدولي بحزمة متكاملة من الشروط تشمل تحرير الأسعار ورفع الدعم الشامل.
الهندسة التقنية لمنظومة الاستهداف الاجتماعي: مخاطر تفوق الفرص
تعد الشروط التقنية لتصميم السجل الاجتماعي الموحد بتحسين حوكمة قيادة البرامج الاجتماعية، لكن قد يؤدي الإفراط في "تقننة" إدارة منظومة الاستهداف إلى نتائج عكسية، حيث يمكن أن يتسبب في إقصاء عدة فئات من الحماية ما لم يتم اتخاذ التدابير التصحيحية لجعل المساطر التقنية في خدمة العدالة الاجتماعية. وهكذا، فبناء "بنك مركزي" للبيانات الاجتماعية سيسمح بالتعرف إلى أوضاع السكان بناء على معطيات موثوقة، ولكن ستبقى فعاليته مرهونة بمراجعته دورياً ليعكس الواقع المتغير للأسر. تجربة البرازيل توضح ذلك، حيث أفضت عمليات مراقبة برنامج رعاية الأسرة لمحاربة الفقر (Bolsa Familia) إلى حذف نصف مليون شخص بعدما أثبتت التحقيقات عدم استحقاقهم للدعم بعد مرور سنة من انطلاقه في 2006. وكذلك الأمر في مصر، حيث ساعدت فرق البحث ولجان المساءلة الاجتماعية على تحيين قاعدة بيانات برنامجي "كرامة" و"تكافل"، ما أدى إلى استبعاد أكثر من مليون مستفيد غير مستحق بناء على نتائج اختبار قياس الفقر التي أثبتت تجاوزهم الحد الأقصى المسموح به للأسر المستفيدة من الدعم النقدي. في الحالة المغربية أدى المرور إلى تصفية قاعدة المستفيدين من البرامج قبل الانتهاء من جاهزية المنظومة الجديدة للاستهداف إلى مواصلة حرمان برامج الحماية الاجتماعية من النجاعة.
بالنظر إلى ذلك، فإن توحيد المعطيات الاجتماعية يبقى منقوصاً ما لم تُتَّخذ التدابير المناسبة لإدماج الفئات الهشة من القطاع غير الرسمي. حيث يواجه هذا الرهان تحديات كبيرة نتيجة لصعوبة توثيق وإثبات الوضع المالي لهذه الفئة من العمال، في ظل تعدد المداخيل غير المصرح عنها، ووجود عناصر غير مُنتِجة تؤثر في احتساب الوضعية الاجتماعية كامتلاك أراضٍ وعقارات غير مستغَلّة، وممارسة مهن تدر دخلاً محدوداً. يدفع هذا الأمر البعض إلى بيع الأصول والممتلكات بما يخلق بيانات سوسيو-اقتصادية "وهمية" تبرز عوزهم وتبرر استفادتهم من برامج المساعدة والحماية، وهذا ما حدث مع نظام التحويلات النقدية المشروطة في مصر، الذي حث الكثير من الأسر على الهروب من أنظمة المعاش التساهمي القائم على العمل والاستمرار في أنظمة التشغيل غير الرسمي.
وتُعتبر المعايير التقنية عاملاً هاماً لتحييد البعد السياسي، بالاعتماد على معادلات رياضية في استخراج عتبة الاستفادة المجانية من البرامج الاجتماعية. ومع ذلك، قد يؤدي هذا "الجموح التقني" إلى إقصاء قطاعات واسعة نتيجة لمنطق "الرياضيات الاجتماعية"، ومن مؤشرات ذلك إقصاء نحو مليون مستفيد سابق من نظام المساعدة الطبية من برنامج التأمين الإجباري الأساسي عن المرض الخاص بالأشخاص غير القادرين على تحمل واجبات الاشتراك (AMO-TADAMON)، لعدم بلوغهم العتبة المحددة والتي ينبغي أن تساوي أو تقل عن معدل 9.32. ويرجع هذا إلى عوامل ثانوية أضعفت فرصهم في نيل التنقيط المناسب كتواجدهم في الوسط الحضري رغم تواجد بعضهم في مناطق شبه قروية، أو بسبب تجميع "ميكانيكي" للمؤشرات السوسيو-اقتصادية، كما حصل مع زوجين مسنين حصلا على مؤشر 9.52 بالرغم من عدم توفرهما على أي دخل سوى إعانات الأبناء، وعدم امتلاكهما الحد الأدنى من التجهيزات: لا هاتف ثابت، ولا لاقط هوائي، مع استعمال قارورة غاز واحدة، وفاتورة الماء والكهرباء لا تتجاوز 40 درهماً شهرياً. مثل هذه المآلات تحتم مراجعة شبكات الأمان الاجتماعي القائمة على الاستهداف والتوجه نحو برامج شمولية تستحضر مبادئ ومعايير العدالة الاجتماعية بما يجعلها مستوعبة لكل مستحقي الرعاية، على اعتبار أن التحويلات النقدية المباشرة لن تستهدف في أحسن الأحوال سوى 60 في المائة من الأسر المغربية.
يُمكِّن الرقم التعريفي الموحَّد من الربط الآلي بين مختلف قواعد المعطيات العمومية، ما يسهّل انبثاق منظومة معلوماتية متجانسة، تسمح بتبادل المعلومات وتنسيق التدخلات الاجتماعية بين مختلف الفاعلين. ويعزّز ذلك تحسين إنتاجيتها، ويسهِّل توظيفها من قبل الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات القاعدية، عند وضع برامجها التنموية وتشخيص محيطها الاجتماعي. ومع ذلك، قد تتراجع كفاءة هذا النظام في ظل الجمود الإداري وتكريس البيروقراطية الرقمية، ما يفرض ضرورة وضع آليات واضحة لتجسير عمليات التنسيق والتكامل، خاصةً مع الصعوبات التي تعترض نظام بيني لتبادل المعلومات إثر الشروع في تطبيق القانون المتعلق بتبسيط المساطر الإدارية.
لتحسين رؤية (visibilité) شروط الاستفادة، أُحيط النظام الجديد للاستهداف بعدة ضمانات تقنية لكفالة شفافية المعايير ومؤشرات التتبع، ولتسهيل الطعن في قرارات الرفض بما يجعل من تكنولوجيا المعلومات دعامة أساسية لإسهام المواطنين في تحسين منظومة الاستهداف وزيادة كفاءتها ومصداقيتها. ومع ذلك، لا تزال بعض الفئات تواجه صعوبة بالغة بالتسجيل في قاعدة السجل الاجتماعي الموحد بحكم تواجدها في مناطق نائية ذات تغطية ضعيفة لشبكة الإنترنت، أو بسبب ضعف تملّكها وسائل التواصل الرقمية. هذا يستدعي تكثيف الحملات التواصلية وتوفير بنيات إدارية متنقلة لجعل المستحقين مشمولين في منظومة الاستهداف. كما يتطلب الأمر إنتاج تقارير دورية لتوضيح التغيرات في القاعدة المستفيدة من البرامج الاجتماعية، وحجم المبالغ المرصودة، وتطور المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، ومستوى مساهمة مختلف السياسات الاجتماعية في مكافحة العوامل التي تؤدي إلى عدم الحماية والإقصاء.
نشير في هذا السياق إلى خطر الرهان على المقاربة الكمية في بلوغ مؤشرات مشروع الحماية الاجتماعية، خاصة في ما يتعلق بجودة الخدمات وحجم سلة العلاجات (Le panier de soins). يتمثّل هذا الخطر في محدودية استفادة قطاعات واسعة من الفئات المستهدفة من نظام المساعدة الطبية، نظراً لعدم قدرتها على المساهمة المالية ومحدودية هوامش ميزانية الدولة. وكأن الأمر يتعلق بمجرد إيجاد "تغطية صحية اسمية" من خلال إجراءات ميكانيكية لبلوغ السقف المحدد، بدلاً من الحرص على إقامة "تغطية صحية فعلية"، يواجه المستفيدون صعوبات بالغة في تحمل تكاليف الاستشفاء والعلاج، ناهيك عن عدم كفاية المبالغ المسترجعة لتغطية تكاليف العلاج والأدوية بسبب الفارق الكبير بين التعرفة الوطنية المرجعية والفاتورة الفعلية. وهو إرهاص يُنذر بتأثير عكسي لمنظومة الاستهداف على منظومة الحماية الاجتماعية، استنادًا إلى بعض التجارب العربية مثل مصر، فبالموازاة مع توسيع دائرة التغطية الصحية التي قفزت من 10 في المائة في 1990 إلى 58 في المائة في 2015، ارتفعت بالمقابل نسبة إنفاق الأفراد على الصحة من مجموع الإنفاق العام، إذ انتقلت من 34 في المائة إلى 45 في المائة خلال الفترة نفسها.
في المحصلة، يتعين الملاءمة بين الخيارات السياسية والتقنية لمنظومة الاستهداف الاجتماعي. كما يجب تهيئة آليات كفيلة بتعزيز حكامة تدبيرها وفعالية واستدامة آثارها، بما يكفل الموازنة بين استحقاقات الاقتصاد السياسي للتنمية الاجتماعية وبين إعمال متطلبات العدالة والاستحقاق في هندسة برامج الحماية والمساعدة. ارتباطاً بذلك، تفرض التحديات الجديدة التطلع إلى بناء نموذج متقدم للدولة الاجتماعية في المغرب، بعيداً عن "وصفات" (recettes) المؤسسات المالية الدولية، التي غالباً ما تفتقد إلى الفهم العميق للتحديات الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية التي تواجه منظومة الاستهداف. وعلى رأس ذلك التوقف عن هدر الأموال التنموية على برامج مستهدفة مكلفة وبدون طائل، واستبدالها بمخططات حماية اجتماعية شاملة تقودها الدولة أولاً ولو كان بالشراكة مع فاعلين غير حكوميين آخرين.
الخاتمة
تبشر المنهجية الجديدة للاستهداف بعقلنة تدبير السياسات الاجتماعية بما يجعلها أكثر نجاعة في تحديد المشمولين بها، غير أن الواقع يؤشر إلى صعوبة تحقيق هذا الرهان في ظل المخاطر التي تكتنف العمل في السجل الاجتماعي الموحد. يتمثل أحد هذه المخاطر في المحاولات المستمرة لـ"تسييس" التدابير التقنية بغية توجيهها للتحكم في عدد المستفيدين، بالإضافة إلى خطر إعادة إنتاج بعض مظاهر "الاستهداف العشوائي" نتيجة التحديات التقنية المتعلقة بتحديث ومعالجة البيانات السوسيو-اقتصادية للمستهدفين، ما يمكن أن يؤدي إلى استخدام الشروط التقنية كذريعة لتقييد الفعل الاجتماعي للدولة ولتضييق نطاق البرامج الاجتماعية وتقليص دائرة المستفيدين منها، وغيرها من التداعيات التي قد تنتج عن الاعتماد على منهجية الاستهداف، ليس فقط بسبب أخطاء المعالجة التقنية للبيانات الاجتماعية التي تتميز بالديناميكية، ولكن أيضاً بسبب خلفيتها السياسية المحافظة التي تنزع نحو الاستبعاد أكثر من توخيها الإدماج.
لضمان تكامل البعدين السياسي والتقني في إعادة تصميم منظومة الاستهداف الاجتماعي، يتعين مراجعة المقاربة المعتمدة في صنع وتدبير البرامج الاجتماعية بالانتقال من منظور قائم على الاستهداف إلى منظور قائم على الحق. ضمن هذا السياق نوصي بـ:
- توخي الشمول في إعادة تصميم البرامج الاجتماعية في ضوء إرهاصات التدخلات القائمة على الاستهداف بحكم طابعها الإقصائي في حق فئات اجتماعية عريضة.
- تدقيق معايير الاستفادة من برامج الحماية والمساعدة الاجتماعيتين أمام الغموض الذي يعتري الصيغة الحسابية المعتمدة، التي يجب أن تخضع للتحيين المستمر ضماناً لكفاءتها وعدالتها.
- وضع ضمانات للحيلولة دون جعل المنهجية الجديدة للاستهداف مطية لرفع يد الدولة عن مسؤوليتها الاجتماعية، كتعزيز دور البرلمان في مراقبة السياسات الاجتماعية، وتنويع مصادر تمويل البرامج الاجتماعية خارج المنافذ الاقتراضية والجبائية.
- الملاءمة بين استحقاقات الحماية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية، عبر سياسات توازن بين الاستهداف الشامل الموجه إلى عموم المواطنين، والاستهداف المُبرمَج لتعزيز وصول عديمي وضعيفي الدخل إلى شبكات الأمان الاجتماعي.
- التعامل بحذر مع الخوارزميات المؤطرة لتقننة مساطر الاستهداف، بإحاطة المعالجة الآلية للبيانات والمؤشرات الاجتماعية بمعالجة بشرية "مرنة" تُراعي متطلبات الإنصاف والاستحقاق.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.