النظام الإقليمي العربي وبشار الأسد: من النبذ إلى التطبيع

arab-reform-initiative-the-arab-regional-order-and-assad-from-ostracism-to-normalization
قادة ومسؤولون عرب في جامعة الدول العربية يقفون لالتقاط صورة قبل انعقاد القمة الثانية والثلاثين في جدة ، المملكة العربية السعودية - 19 أذار/مايو 2023. © الديوان الملكي السعودي / AA

مقدمة

تمكّن النظام السوري بزعامة بشار الأسد من استعادة مقعد سوريا في القمة الثانية والثلاثين لجامعة الدول العربية التي عُقدت في جدة بالمملكة العربية السعودية في 19 آيار/مايو 2023، وهو ما مثّل نهاية فترة المقاطعة الإقليمية وإقصاء الأسد من الأوساط العربية لمدة تزيد عن العقد. لا يمكن القول إن هذا التحول من النبذ إلى التطبيع مدفوعٌ بحقيقة أن نظام الأسد قد غيّر معاملته الوحشية لمواطنيه؛ بل إن هذا التحول هو بالأحرى انعكاسٌ لتغيّر عميق في النظام الإقليمي العربي الأوسع؛ وهو ما تسعى هذه الورقة لإثباته.

رغم ما اتسم به النظام الإقليمي العربي من شمولية، إلا أنه بإمكاننا رصد عاملين مترابطين منذ أواخر التسعينيات كانا وراء جعل هذا النظام أكثر تفاعلاً – نوعاً ما – مع تطرف الدولة في استعمال العنف والوحشية تجاه مواطنيها؛ وهما: التأثير المتزايد للمجال العربي العام، وظهور الخطاب "الإصلاحي" لإضفاء الشرعية. ظهرت تلك التطورات في وقت كان فيه النفوذ الأميركي على المنطقة مرتفعاً، كما كانت هناك روح التنافس العربي مع إيران. بيد أن تضاؤل تأثير المجال العربي العام، مع ظهور خطاب شرعنة جديد حل محل الخطاب "الإصلاحي" السابق قد أحدثا تغيراً جذرياً في هذا النظام الإقليمي منذ عام 2013، إذ أصبح – على أقل تقدير – غير مبالٍ بكيفية معاملة الدول لمواطنيها. وقد تزامنت تلك التغيّرات مع ذيوع شعور إقليمي واسع بتراجع النفوذ الأميركي في المنطقة، وحضور إقليمي أكبر للصين وروسيا، وكذلك تحول في الموقف العربي تجاه إيران.

يوضح القسم الأول من هذه الورقة أن السبب الرئيسي وراء قرار النظام الإقليمي العربي بنبذ سوريا في عام 2012 كان وحشية نظام الأسد، وليس علاقته بإيران أو سياساته تجاه إسرائيل أو الولايات المتحدة. كما تتتبع هذه الورقة التقرير كيف أن صورة نظام الأسد في النظام الإقليمي العربي – قبل الثورة السورية – قد شهدت تحسناً ملحوظاً، مع تسليط الضوء على كيف أن النظام الإقليمي العربي قد استمر في دعمه للأسد حتى الأشهر الأولى من الثورة، في الوقت نفسه الذي كان يضغط عليه لتنفيذ إصلاحات وتقديم تنازلات محدودة. ثم يبين القسم التالي كيف أن العوامل سالفة الذكر (المجال العام العربي والخطابات المعتمدة) تسلط الضوء على سبب حساسية النظام الإقليمي - المكوّن بالأساس من دول استبدادية - تجاه وحشية نظام الأسد. يعيد هذا القسم الثاني بناء المسار العربي نحو تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، ويُظهر كيف أن التغييرات الحاسمة التي طرأت على كل هذه العوامل قد سهلت إعادة الأسد إلى المسرح.

1- النبذ العربي لنظام الأسد

عشية الثورة السورية؛ كان بشار الأسد قد وصل إلى أقوى مركز إقليمي له منذ أن ورث الحكم بعد والده في يوليو/تموز 2000. وبحلول آب/أغسطس 2010، كان النظام السوري في مأمن من الكثير من التهديدات التي يمكن أن تهز وضعه في المنطقة؛ إذ إن انسحاب القوات الأميركية من العراق عام 2007 كان قد أوشك على الاكتمال، مخلفاً وراءه نظاماً سياسياً تهيمن عليه إيران، حليفة الأسد. من ناحية أخرى، أدى اتفاق الدوحة لعام 2008 – الذي وضع حداً للأزمة اللبنانية التي استمرت عامين – إلى مأسسة وتوطيد أركان حليف آخر من حلفاء الأسد هو حزب الله، والذي قويت شوكته منذ نجاحه بصد الهجوم الإسرائيلي عام 2006 وطردهم من البلاد. في ذلك الوقت أيضاً، كانت علاقات الأسد مع كل من تركيا وقطر قد بلغت أعلى مستوى لها بعد حرب غزة الأولى (2008-2009) عندما استضافت قطر قمة غزة الطارئة بحضور كل من تركيا وإيران، بالرغم من اعتراضات ومقاطعة السعودية ومصر. حتى علاقات الأسد مع المملكة العربية السعودية كانت قد بدأت تشهد تحسناً منذ القمة الاقتصادية العربية في الكويت في كانون الثاني/يناير 2009. وفي الفترة من كانون الثاني/يناير 2009 إلى تشرين الأول/أكتوبر 2010 التقى الأسد شخصياً بالملك عبد الله – ملك المملكة العربية السعودية – أكثر من خمس مرات، وزار الرياض ثلاث مرات. وفي استطلاع أجرته جامعة ماريلاند عام 2008 في ست دول عربية – منها مصر والمملكة العربية السعودية – جاء بشار الأسد في المرتبة الثانية بعد زعيم حزب الله، حسن نصر الله، باعتباره الزعيم العالمي الأكثر شعبية في العالم العربي.

ثم بحلول الوقت الذي اندلعت فيه شرارة الثورة السورية في آذار/مارس 2011، كان النظام الإقليمي العربي قد اعتمد بالفعل ثلاثة مقاربات مختلفة للتعامل مع الانتفاضات العربية الجارية في البحرين واليمن وليبيا. ففي البحرين، أرسلت دول مجلس التعاون الخليجي – من خلال القيادة العسكرية الموحدة لدول مجلس التعاون – قوة درع الجزيرة لحماية نظام آل خليفة في البحرين؛ وقد حظي هذا التدخل بتأييد جامعة الدول العربية، التي شملت النظام السوري. وفي اليمن؛ تبنى مجلس التعاون الخليجي مقاربة وسطاً نتج عنها مشروع المبادرة الخليجية الذي تضمن خطة انتقال سلمي للسلطة، مقابل حصانة كاملة للنظام القديم. وأما في ليبيا، فقد علّقت جامعة الدول العربية مشاركة ممثلي نظام القذافي، ودعت مجلس الأمن إلى فرض منطقة حظر طيران على الطيران العسكري الليبي، وهو ما ساهم في إصدار قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1973 الذي على أساسه تدخل حلف شمال الأطلسي عسكرياً في ليبيا.

ولكن عندما اندلعت الثورة السورية، تبنى النظام الإقليمي العربي موقفاً أدنى حتى من موقفه تجاه اليمن، لكنه تحول لاحقاً إلى موقف أقرب إلى موقفه الذي تعامل به مع الحالة الليبية. فخلال الأشهر القليلة الأولى للثورة، شجّعت دولٌ عربية كثيرة الأسد على إجراء بعض الإصلاحات السياسية، وفي الوقت نفسه أيّدت رواية الأسد للأحداث، التي وصف فيها الاحتجاجات بأنها فتنة أشعلتها عناصر أجنبية. لكن في صيف 2011 ظهر موقف عربي جديد شبه موحّد، وهو ما تمثل في المبادرة العربية لحل الأزمة السورية التي ترعاها جامعة الدول العربية. دعت تلك المبادرة إلى وقف جميع أشكال العنف فوراً، وتنظيم حوار وطني شامل. لم يرفض نظام الأسد المبادرة بشكل قاطع، لكنه راوغ للتهرب من تنفيذها. وبناءً عليه، قررت جامعة الدول العربية تعليق عضوية سوريا 12 تشرين الثاني/يناير 2011  للضغط على النظام للامتثال لطلبات المبادرة، ثم أتبعته بقرار آخر يفرض عقوبات اقتصادية على سوريا. وافق الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2011 على تنفيذ طلبات المبادرة من أجل رفع تلك العقوبات، وهو ما سمح لبعثة مراقبين عرب بدخول البلاد ومراقبة تنفيذها. إلا أن عمليات البعثة لم تستمر أكثر من شهر، مشيرة إلى "التدهور الخطير للوضع في سوريا واستمرار استخدام العنف"، وهو ما بدد كل أمل في التوصل إلى حل بوساطة عربية.

إثر فشل المبادرة العربية، ووحشية نظام الأسد المتصاعدة ضد مواطنيه؛ لجأت جامعة الدول العربية إلى مجلس الأمن من أجل استصدار قرار مماثل لما صدر في حالة ليبيا. بيد أن مقترح السلام المطروح في 4 شباط/فبراير 2012 لم ينجح هذه المرة، إذ استعملت الصين وروسيا حق النقض لوقف العملية؛ وهو ما ترتب عليه تضاؤل الدور الجماعي العربي في حل الأزمة السورية تدريجياً على مدى السنوات الأربع التالية. ثم ابتداءً من كانون الأول/ديسمبر 2016، عقدت تركيا وإيران وروسيا عدة محادثات في آستانا دون أي تمثيل عربي، وهو ما زاد من تهميش دور الدول العربية في الصراع السوري. ثم قطعت جميع الدول العربية علاقاتها مع نظام الأسد بين عامي 2012 و2018، باستثناء الجزائر والعراق.

كما يظهر من هذه السردية، فقد كان السبب الرئيسي وراء تحول الموقف العربي تجاه النظام السوري من عودة العلاقات في 2009-2010 إلى النبذ وقطع العلاقات هو زيادة وحشية النظام تجاه مواطنيه، في مقابل الطبيعة السلمية التي هيمنت على الثورة في عامها الأول. في الواقع، وثقت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان عشرة آلاف قتيل خلال الأشهر الثمانية الأولى من الثورة، كما وُثّق اعتقال عشرة آلاف آخرين خلال الفترة نفسها. في عام 2010، أفادت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن العدد الإجمالي للاجئين والنازحين القادمين من سوريا بلغ 28.216؛ وقد ارتفع هذا الرقم إلى 48.497 في عام 2011، بزيادة 72%، ثم وصل إلى حوالي 2.8 مليون في عام 2012، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 5760٪. كان السبب المُعلَن لتعليق عضوية سوريا بجامعة الدول العربية هو تمسك الجامعة بـ "وضع حد للعنف والقتل المستمر، وضرورة أن يستجيب النظام لتطلعات الشعب السوري في إجراء التغييرات والإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المنشودة". كما بررت الدول العربية التي قررت قطع العلاقات مع نظام الأسد – كلٌ على حده – موقفها بأنه احتجاج على وحشية النظام؛ وهذا ما أعلنته المغرب والمملكة العربية السعودية مثلاً.

غنيٌ عن القول إن وحشية نظام الأسد بمفردها لا يمكنها أن تستثير رد فعل كهذا من الدول العربية – التي لا تقل استبدادية عن النظام الذي تدينه – لولا ضغط عاملين مترابطين؛ الأول هو القوة المتنامية للمجال العربي العام، الذي بدأ في التوسع منذ أواخر التسعينيات. إذ مع انتشار القنوات الفضائية – وخاصة إطلاق قناة الجزيرة في عام 1996 – دبّ الضعف في القبضة الاحتكارية التي تمارسها الدول العربية على وسائل الإعلام والوصول إليها. وفوق ذلك، وفرت شبكة الإنترنت للمواطنين العرب مساحات وفرصاً غير مسبوقة للوصول إلى المعلومات ونشر المظالم والحشد والتعبئة من أجل التأثير على الأجندة السياسية.

وفيما بين عامي 2005 و2014، ارتفعت نسبة الأفراد الذين يستخدمون شبكة الإنترنت في العالم العربي من 9% إلى 40%. وقد تزامنت هذه الزيادة مع الانتقال التدريجي – المرتبط بها – من الطبيعة الثابتة أحادية الاتجاه للجيل الأول (ويب 1.0) إلى الجيل الثاني (ويب 2.0) الأكثر ديناميكية، مما سهل ظهور منصات الشبكات الاجتماعية مثل فيسبوك (2004) ويوتيوب (2005) وتويتر (2006). ثم بعد عام 2011، أصبحت تلك المنصات هي المنتديات السياسية الرئيسية للتفاعل والتعبئة بين المواطنين العرب.

أما العامل الثاني الذي أثر في رد فعل الدول العربية الأخرى تجاه نظام الأسد فهو تبنّي خطاب شرعنة إصلاحي منذ أواخر التسعينيات. لقد سوّغ هذا الخطاب الحكم الاستبدادي بالقول إنه وضع مؤقت يمكن قبوله طالما أن الدولة تتخذ خطوات تدريجية نحو الديمقراطية. وفي إطار كهذا، فإن خطاب الدولة الاستبدادية لشرعنة الاستبداد سرعان ما يغدو خالياً من أي معنى بمجرد أن تنتكس هذه الدولة أو تلجأ إلى استعمال العنف الشديد ضد مواطنيها.

كان تطوير الحكومات العربية لهذا الخطاب واستخدامها له مدفوعاً جزئياً بالرغبة في التكيف مع موجة الدمقرطة التي اجتاحت العالم بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها. إلا أن معالم هذا الخطاب اتضحت بصورة أكبر بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ففي أعقاب هذا الغزو، تبنّت حكومات المملكة العربية السعودية ومصر وسوريا مبادرة لإصلاح الوضع العربي؛ فقد شهدت القمة السادسة عشرة لجامعة الدول العربية التي استضافتها تونس عام 2004، "تعاهُد" الدول العربية فيما بينها على تبني هذه المبادرة، كما تعهدت باتخاذ خطوات حاسمة نحو "الإصلاح الشامل". تضمنت هذه الخطوات "توسيع المشاركة السياسية، ودعم حرية التعبير المسؤولة، وحماية حقوق الإنسان". كما شهدت هذه القمة الموافقة على الميثاق العربي لحقوق الإنسان ودخوله حيز التنفيذ في وقت لاحق في عام 2008 بعد أن صدقت عليه 10 دول، منها سوريا. كما أصدرت جامعة الدول العربية وثيقة بعنوان "رحلة التطوير والتحديث في الوطن العربي"، أعرب فيه القادة العرب عن التزامهم بـ"تعميق أسس الديمقراطية والتشاور، وتوسيع نطاق المشاركة في المجال السياسي والشؤون العامة وصنع القرار في إطار سيادة القانون وتحقيق العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير". وفي عام 2005، أعادت قمة جامعة الدول العربية في الجزائر التأكيد على هذه الالتزامات، وأعلنت إنشاء برلمان عربي مقره دمشق. ومن هنا يمكننا القول إن انتشار هذا الاتجاه الخطابي الإصلاحي في العالم العربي منذ ظهوره في أواخر التسعينيات قد أجبر العديد من الدول العربية على السعي للتمييز بين استبدادها "الإصلاحي" والممارسات الوحشية لنظام الأسد.

بجانب تنامي نفوذ الهيمنة الأميركية في المنطقة، تعمّق أثر هذين العاملين بفعل التنافس المتصاعد بين العديد من الدول العربية وإيران. فقبل الثورة السورية، كان نظام الأسد يوازن بدقة بين تحالفه مع إيران من جهة، وعلاقاته مع تركيا وقطر والمملكة العربية السعودية ومصر من جهة أخرى. بيد أن القمع الوحشي الذي مارسه النظام بحق مواطنيه جعل كفته تميل نحو إيران وأبعده عن الفاعلين الإقليميين الآخرين. إذ يرى الحكام العرب أن اعتماد الأسد المتزايد على إيران وميليشياتها الطائفية في العراق ولبنان قد أزال حائط الصد الأخير أمام تبني سياسات أكثر انسجاماً مع الرأي العام العربي، وتماشياً مع أيديولوجيتهم الإصلاحية المعلنة. وقد سمح لهم هذا التحول بالتوافق مع مشاعر السكان العرب وتعزيز التزامهم بالإصلاح.

2. عملية التطبيع (2018-2023)

بدءاً من عام 2018، بدأت عملية التطبيع مع الأسد، على الرغم من عدم حدوث أي تغييرات في وحشية النظام أو علاقاته الوثيقة مع إيران. والمذهل في الأمر أنه بحلول نهاية ذلك العام، وصل عدد القتلى الموثق في سوريا إلى 328,882 شخص، مع ارتفاع العدد الإجمالي للنازحين إلى 6.7 مليون شخص. اتخذت سلطنة عُمان الخطوة الأولى نحو التطبيع عندما استقبلت رسمياً وزير الخارجية السوري في آذار/مارس 2018. وفي تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، أعاد الأردن فتح معبر جابر الحدودي مع سوريا. وفي كانون الأول/ديسمبر الماضي، أصبح عمر البشير الرئيس السوداني آنذاك أول رئيس عربي يزور الأسد. وبعد بضعة أيام، أعادت الإمارات العربية المتحدة فتح سفارتها في دمشق، وأصدرت البحرين بياناً يؤكد استمرار علاقاتها مع سوريا. واستمرت العملية في تشرين الأول/أكتوبر 2020 عندما أعادت عُمان سفيرها إلى منصبه في سوريا. ثم، في آذار/مارس 2021، دعت مصر والإمارات العربية المتحدة إلى عودة الأسد إلى الجامعة العربية. وبعد بضعة أشهر، في أيلول/سبتمبر 2021، عقد وزير الخارجية المصري اجتماعاً مع نظيره السوري، واقترح الأردن في تشرين الأول/أكتوبر مبادرة لحل الأزمة السورية. وفي هذا الاقتراح، أقر الأردن بفشل الجهود الرامية إلى الإطاحة بالأسد واقترح اتباع نهج تدريجي للتعامل معه. بيد أن الولايات المتحدة تجاهلت هذا الاقتراح ولم يسفر عن أي نتائج فورية. وفي 18 آذار/مارس 2022، بمناسبة الذكرى الحادية عشرة للثورة، قام الأسد بأول زيارة رسمية له إلى بلد عربي عندما سافر إلى الإمارات العربية المتحدة.

شكل الزلزال المدمر الذي ضرب كلاً من تركيا وسوريا في شباط/فبراير 2023 نقطة تحول حاسمة، ما فتح آفاقاً جديدة لتطبيع العلاقات مع الأسد وإمكانية إعادة انضمام سوريا إلى جامعة الدول العربية. بعد وقوع الزلزال بوقت قصير، حدثت تطورات دبلوماسية هامة. فقد زار وزراء خارجية الإمارات والأردن دمشق، في إشارة رسمية إلى استعدادهم للتعامل مع الحكومة السورية. وعلاوة على ذلك، أجرى الرئيس المصري وملك البحرين أول اتصال هاتفي لهما مع الأسد، ما يدل على تحسن العلاقات. فضلاً عن أن الحكومة السعودية أرسلت مساعدات إنسانية إلى حلب في بادرة دعم علنية. وفي 19 شباط/فبراير، دعا وزير الخارجية السعودي إلى نهج جديد في معالجة الأزمة السورية. وفي اليوم التالي، زار الأسد سلطنة عُمان، مما عزز الزخم نحو التطبيع. وفي آذار/مارس، أجرى وزير الخارجية التونسي اتصالاً هاتفياً بنظيره السوري، مما أدى إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بحلول أوائل نيسان/أبريل. وفي 12 نيسان/أبريل، سافر وزير الخارجية السوري إلى المملكة العربية السعودية لمناقشة الخطوات الضرورية لإعادة سوريا إلى النظام الإقليمي العربي.

بعد مضي يومين من زيارة وزير الخارجية السوري إلى المملكة العربية السعودية، بدأت تتكشف الجهود العربية المتعددة الأطراف للتطبيع مع نظام الأسد. وفي 14 نيسان/أبريل، استضافت المملكة العربية السعودية اجتماعاً لإحياء الاقتراح الأردني. وقد حضر هذا الاجتماع، الذي عُقد في جدة، بقية دول مجلس التعاون الخليجي بالإضافة إلى العراق ومصر والأردن. في 1 أيار/مايو، عُقد اجتماع متابعة في عمان بحضور ممثلين من المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا والعراق ومصر. وخلال هذا الاجتماع اعتُمد المقترح الأردني رسمياً، مع التأكيد على تبني نهج تدريجي يشمل ثلاثة أبعاد: إنسانية وأمنية وسياسية.

وبعد أسبوع، قررت جامعة الدول العربية بالإجماع إعادة نظام الأسد إلى الجامعة، مما يمثل علامة فارقة في عملية التطبيع. بعد يومين، استعادت المملكة العربية السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع نظام الأسد. وقد أدت هذه الجهود في نهاية المطاف إلى مشاركة بشار الأسد في القمة العربية في جدة في 19 أيار/مايو.

حتى اليوم، الدول العربية الوحيدة التي لم تستعد علاقاتها مع الأسد هي المغرب والكويت وقطر. فقد طالب المغرب نظام الأسد بوقف دعمه لجبهة البوليساريو مقابل التطبيع. في حين صرحت وزارة الخارجية القطرية أن التطبيع يعتمد على تحقيق تقدم في الحل السياسي. أما بالنسبة للكويت، فقد أثار تقرير نشرته صحيفة محلية يفيد بأن وزير الخارجية الكويتي يخطط لزيارة سوريا موجة من الانتقادات المحلية، مما دفع وزارة الخارجية الكويتية إلى إصدار بيان نفى صحة هذا التقرير.

يبرز التحول من نظام إقليمي يعاقب دولة عضوة ترتكب جرائم بشعة ضد الإنسانية إلى نظام يظهر على أقل تقدير عدم اكتراث بالطريقة التي تعامل بها الدول الأعضاء مواطنيها، التحولات العميقة في إطار العاملين المذكورين آنفاً. منذ الانقلاب في مصر عام 2013، شهد المجال العربي العام تراجعاً تدريجياً. فقد تضاءلت هالة الموضوعية والاستقلال التي تمتعت بهما قناة الجزيرة لما يقرب من عقدين من الزمن، خاصة خلال الصراع بين قطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر من عام 2017 إلى 2020. طوال هذه الفترة، نجحت الدول الأربع في تصوير المنبر الإعلامي العملاق على أنه مجرد أداة لتحالف قطري مع جماعة الإخوان المسلمين. وظهرت أنماط مماثلة فيما يتعلق بوسائل الإعلام عبر الوطنية الأخرى التي تتمتع بمستوى محدود من الاستقلالية. ففي أعقاب حملة مكافحة الفساد عام 2017 في فندق ريتز كارلتون في المملكة العربية السعودية، أصبحت العديد من الكيانات الإعلامية السعودية العابرة للحدود الوطنية، التي يملكها أشخاص اعتقلوا خلال العملية، متوائمة بشكل وثيق مع الأجندة المحلية والخارجية للدولة السعودية. ونتيجة لذلك، اختفت صحيفة الحياة، وفقدت روتانا ومجموعة إم بي سي والمجموعة السعودية للأبحاث والإعلام الكثير من استقلاليتها المحدودة أصلاً. علاوة على ذلك، انتهجت الحكومات العربية استراتيجية مزدوجة للسيطرة على محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك تعزيز قدراتها التقنية للمراقبة الرقمية والمراقبة عبر الإنترنت، جنباً إلى جنب مع حملة مستمرة لاعتقال المؤثرين العرب المستقلين والناقدين أو استمالتهم أو استبدالهم.

علاوة على ذلك، أفضت الانتفاضات العربية وظهور جيل جديد من القادة العرب إلى زوال الخطاب السياسي الإصلاحي، وأدت إلى بروز خطاب ناشئ يتسم بموقف مشترك لا يتزعزع ضد الحركات الإسلامية. وعلى عكس سابقه، لا يقدم هذا الخطاب الجديد التزامات سياسية صريحة، بل يشدد بدلاً من ذلك على "الحقوق الأصلية" للمواطنين العرب، على النحو المنصوص عليه في إعلان قمة جدة، الذي يعطي الأولوية "للتنمية المستدامة والأمن والاستقرار وظروف العيش السلمي". وفي إطار هذا الخطاب، يُنظر إلى عصر العولمة على أنه قد انتهى، ويُعتقد أن العالم يدخل مرحلة جديدة يتشكل فيها نظام دولي جديد. ويتجلى هذا الموضوع في أوضح صوره في الخطابين اللذين ألقاهما الرئيس التونسي قيس سعيد والأسد. فقد أعلن الرئيس سعيد أن "العالم يمر بتشكيل جديد" وأنه "لا ينبغي إعادة تشكيله مرة أخرى على حساب أمتنا وقدرات شعبنا. وبدلاً من ذلك، نريد أن نكون شركاء متساوين." بينما عبّر الأسد عن منظور مماثل، مؤكداً أن "النظام الدولي يتغير إلى نظام متعدد الأقطاب". بالنسبة له، يوفر هذا الواقع للعرب "فرصة تاريخية لإعادة ترتيب شؤوننا مع حد أدنى من التدخل الأجنبي." وإلى جانب هذا الفهم للعالم كان هناك رفض متكرر للتدخلات الأجنبية. فقد دعا إعلان جدة إلى "وقف التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول العربية". وقد تكررت الرسالة نفسها في خطابات العديد من القادة، مثل قادة مصر والبحرين.

يعكس هذا الخطاب الجديد مجموعة من التحولات الملموسة إقليمياً في التوازن العالمي والإقليمي للقوى. يتلخص التحول الأول الملموس في تراجع الدور الأميركي النشط في المنطقة، سواء كان ذلك الدور معطلاً للوضع الراهن أو حامياً له. بدأ هذه الإدراك مع استجابة إدارة أوباما لهجمات نظام الأسد بالأسلحة الكيميائية في الغوطة في 21 آب/أغسطس 2013، والتي قدمت أدلة دامغة على أن عصر التدخل المباشر الأميركي لتغيير النظام قد انتهى. في وقت لاحق، أدى الاتفاق النووي الإيراني المبرم في حزيران/يوليو 2015 إلى زيادة الشكوك بين الحلفاء العرب للولايات المتحدة بشأن الالتزام الأميركي بمصالحهم وأولوياتهم الإقليمية. ووصل هذا التوجه إلى ذروته عندما نأت إدارة ترامب بنفسها تدريجياً عن دعم التحالف العربي الذي تقوده السعودية في اليمن، وردت بشكل سلبي على الهجمات المتعددة على المنشآت النفطية والبنية التحتية في الخليج.

وينطوي التحول الثاني على الارتفاع التدريجي ولكن الملحوظ في نفوذ روسيا والصين في المنطقة. في أيلول/سبتمبر 2015، تدخلت روسيا عسكرياً في سوريا، وتحالفت مع نظام الأسد. وبعد عام، أبرمت اتفاقاً مع دول منظمة أوبك بقيادة السعودية لتنسيق إنتاج النفط. وبالمثل، فإن اعتماد الصين المتزايد على النفط الخليجي دفعها إلى صياغة وإعلان سياسة رسمية تجاه العالم العربي، وهي سياسة تتوافق في القيم مع الخطاب الإقليمي العربي الجديد.

علاوة على ذلك، كان التطبيع مع الأسد سهلاً ميسراً بفضل التحول في نهج النظام الإقليمي العربي تجاه إيران، والانتقال من موقف المواجهة إلى موقف أكثر تصالحية. بدأ هذا التحول عندما بدأت إيران تحسين علاقاتها مع قطر بعد مقاطعة الرباعي العربي لقطر في عام 2017. وجاء التحول السعودي والإماراتي نحو إيران بعد هجمات عام 2019 على منشآت النفط في الخليج واستمرار حالة الجمود في اليمن. ومنذ آذار/مارس 2021، شاركت السعودية وإيران في سلسلة من المحادثات في العراق وعُمان. وفي شباط/فبراير 2023، تحت رعاية صينية، وقع الجانبان اتفاقاً لاستعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما. ويبدو أن التطبيع مع الأسد كان جزئياً نتيجة غير مباشرة لهذا التحسن في العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية.

ملاحظات ختامية

يُقدم هذا البحث ثلاث استنتاجات. أولاً، من المهم أن ندرك أن التطبيع مع الأسد، على غرار التطبيع مع إسرائيل، حدث في إطار بيئة استبدادية للغاية في الشرق الأوسط. وهذا يعني أن القرار اتخذ دون مراعاة رغبات ومصالح غالبية المواطنين العرب. أظهرت سلسلة من استطلاعات الرأي التي أجريت في المملكة العربية السعودية بين عامي 2019 و2022 أن أكثر من 70% من السعوديين لا يرون أنه من المهم إقامة علاقات جيدة مع سوريا. ويمكن ملاحظة مواقف مماثلة في الأردن والبحرين والكويت والإمارات العربية المتحدة ومصر. وفي نيسان/أبريل 2023، اعتقد 61% من السعوديين أن التطبيع مع الأسد سيكون له تأثير سلبي.

الاستنتاج الثاني، هو أن التطبيع مع الأسد يعني قبول وتطبيع الأشكال المتطرفة من قمع الدولة والجرائم ضد الإنسانية. إذ يشير التركيز على سيادة الدولة المطلقة، فضلاً عن صعود الاتجاهات القومية اليمينية، إلى أن أعمال العنف الفظيعة هذه أصبحت الآن مقبولة على الأجندة العربية، على الأقل من الناحية النظرية.

أما الاستنتاج الأخير، فهو أن التطبيع مع الأسد مؤشر ينذر بالخطر ويجب أن يكون مصدر قلق لأنصار الديمقراطية والحقوق السياسية والإصلاح في المنطقة. ويسلط الضوء على استعداد القوى العربية الاستبدادية للتعاون والسعي إلى حل خلافاتها وصراعاتها الداخلية. ويجب أن يكون هذا هو الوقت المناسب لمؤيدي الديمقراطية وحقوق الإنسان لإعادة تقييم وإعادة النظر في استراتيجياتهم للمنطقة وتجاوز تركيزهم على الدولة بالتحديد، نحو مقاربات أكثر تعاوناً وتنسيقاً. الخطوة الأولى، على سبيل المثال، هي أن ينظم المثقفون والناشطون والأكاديميون والمنظمات العربية الملتزمة بالديمقراطية وحقوق الإنسان مؤتمراً سنوياً موازياً لقمة الدول العربية.  يمكن أن توفر هذه المؤتمرات منصة عالمية للمناقشات المدروسة، ومناقشة السياسات البديلة، وبناء الشبكات، وتوليد الأفكار والنهج المبتكرة، فضلاً عن استخلاص الدروس من التجارب السابقة والعمل معاً لمواجهة هذا التقارب المستمر بين القوى الاستبدادية.

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.