لولا جهود التعبئة التي بذلتها هذه المجتمعات المهمشة في اليمن خلال الأربعة عقود الماضية، لكان الإقصاء التاريخي الذي يواجهه هؤلاء الأفراد غير ظاهراً للعيان اليوم، أمام بقية المجتمع اليمني والعالم بأسره.
"المهمشون" هو مصطلح حديث يُطلق على فئة من الشعب ظل بقية المجتمع اليمني على مدى أجيال يصفها بأسماء مثل "الخدم" أو "العبيد".
على الرغم من قرون من التاريخ المسجل في اليمن، فقد تعرضت هذه الأقلية العرقية للاستهزاء والإساءة بسبب لون بشرتهم الداكن من قبل بقية المجتمع بوصفهم غير ملائمين للانتماء إلى البلاد، مما جعلهم يواجهون نوعاً من النبذ والإقصاء الطبقي، والوصم، والحرمان من الكرامة الإنسانية الأساسية. غالباً ما تتواجد مجتمعات المهمشين في المناطق العشوائية والأحياء الفقيرة الواقعة على أطراف المراكز الحضرية في اليمن وفي المناطق الريفية المعزولة. هذا الاستبعاد من المجتمع الرئيسي، والتشتت في جميع أنحاء البلاد، والتعاريف الغامضة التي تُعرف هذه الفئة، جعلت تقدير أعدادهم أمراً صعباً، مع تقديرات تتراوح بين نصف مليون و3.5 مليون شخص.
في التسعينيات، بدأ المهمشون الذين سعوا إلى تحسين أوضاع مجتمعهم في التعبير عن آرائهم بصراحة وأصبحوا أكثر فعالية ونشاطاً في جذب الانتباه إلى معاناتهم والتأكيد على حقهم في أن يُعاملوا كأعضاء كاملي العضوية في المجتمع. وقد حاولت السلطات المتعاقبة قمع هذه المبادرات واستيعابها، فضلاً عن استغلال أوضاع المهمشين الضعيفة، التي تفاقمت بسبب الحرب الأهلية المستمرة في اليمن. فقد سعت الأطراف المتحاربة على كل الجهات، على سبيل المثال، إلى استقطاب الشباب المهمشين في مجتمعاتهم الفقيرة واستدرجتهم للقتال على الخطوط الأمامية ووعدتهم بالحصول على رواتب.
وعلى المستوى الوطني، أصبحت مناصرة المهمشين اليوم منقسمة تماماً مثل البلاد نفسها. بيد أن الدافع داخل تلك الفئة لتحسين المجتمع ككل لا يزال يكتسب زخماً، كما يتضح من العدد المتزايد باستمرار من المبادرات المحلية في جميع أنحاء البلاد، على الرغم من بقاء هدف المواطنة الكاملة أمراً بعيد المنال.
تتناول هذه الورقة التاريخ والتطورات في النشاط المدني الذي يقوده المهمشون في اليمن، ونضال هذه المجتمعات المهمشة من أجل التمكين الذاتي.
من نشأة نشاط المهمشين المدني إلى النزاع المستمر
حدث أول إجراء سياسي جوهري للتصدي للإقصاء التاريخي الذي يواجه المهمشون في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والمعروفة أيضاً باسم اليمن الجنوبي، قبل اندماج الشمال والجنوب في عام 1990 لتشكيل الجمهورية الموحدة. ومنذ أواخر الستينيات إلى أن تشكلت الجمهورية الموحدة، سيطر الحزب الاشتراكي اليمني على حكم الجنوب وحاول فرض سياسة اجتماعية متكافئة تهدف إلى القضاء على التسلسلات الهرمية الاجتماعية والقبلية. ورغم أن هذه السياسة تنطوي على العديد من العيوب وكانت تُطبق في بعض الأحيان بوحشية، فإن إحدى النتائج البارزة لها هي أن النساء والفئات المهمشة، بما في ذلك المهمشين، حصلوا على فرص أكبر للوصول إلى المرافق التعليمية وفرص العمل.
ظهرت أول حركة مناهضة للعنصرية تدافع صراحة عن المهمشين في عام 1990، عندما أسس محمد القيرعي، وهو أحد المهمشين من مديرية التربة في محافظة تعز، حركة الدفاع عن الأحرار السود. قال القيرعي، الذي كان آنذاك عضواً في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني في مقابلة مع مؤلف هذه الدراسة، إنه في حين دعم الحزب الاشتراكي اليمني والجماعات اليسارية الجنوبية الأخرى تأسيس حركة الدفاع عن الأحرار السود، رأى أنه من المهم إنشاء الحركة بشكل مستقل عن الأحزاب السياسية التقليدية. فقد كانت الحركة إلى حد كبير تجمعاً غير رسمي للمهمشين ذوي التفكير المماثل في تعز في السنوات الأولى، وفقاً للقيرعي، وبينما قام الأفراد بحملات توعية خاصة بهم في محاولة لتسليط الضوء على الصعوبات التي يواجهها المجتمع، لم يكن هناك الكثير من العقبات أمام العمل الجماعي.
شهدت الحرب الأهلية اليمنية عام 1994، التي سحقت فيها قوات الرئيس علي عبد الله صالح التمرد الذي اندلع في الجنوب، تضاؤل قوة ونفوذ الحزب الاشتراكي اليمني بشكل كبير. وبالتالي ضعف دعم الاشتراكيين لحركة المهمشين.
أوضح القيرعي أنه "بعد عام 1994، عندما وصل الحزب الاشتراكي اليمني إلى أضعف حالاته، لم يتمكن من تأمين الدعم الكافي لأنشطة حتى منظماته في جميع مدن ومحافظات الجمهورية". وأضاف "وهذا ما جعل دعمه لنا يقتصر فقط على صحيفة الحزب [صحيفة الثوري] التي كنا نكتب من خلالها".
في 19 تموز/يوليو 2001، بدافع من تدهور حالة حقوق الإنسان التي كان يواجهها المهمشين، كان القيرعي من بين 21 ناشطاً آخرين من المهمشين الذين تمكنوا من تسجيل حركة الدفاع عن الأحرار السود رسمياً لدى السلطات الحكومية. وأصبحت أنشطتهم بعد ذلك أكثر تركيزاً وتأنياً، مع جدول أعمال واضح لرصد وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم العنصرية ضد المهمشين، لمتابعة الملاحقة القانونية ضد مرتكبي هذه الأفعال بدعم من المحامين والمستشارين القانونيين المتحالفين معهم، وتوعية مجتمع المهمشين بأهمية الحصول على تعليم نظامي. وبدأت الحركة أيضاً في التوسيع من مقراتها في تعز وصنعاء، وتأسيس فروع محلية في المحافظات المحيطة.
وسرعان ما أثار التحول الجديد الأكثر نشاطاً لحركة الدفاع عن الأحرار السود حفيظة الرئيس صالح، الذي كان ميالاً إلى النظر إلى أي منظمة خارج شبكة نفوذه على أنها تُمثل تهديداً. ووفقاً للقيرعي، فإن العنصرية، وتحدي حركة الدفاع عن الأحرار السود للتسلسل الهرمي الاجتماعي السائد الذي يضع المهمشين في المرتبة الدنيا، ضاعف من الاستجابة العدوانية. وأطلق نظام صالح حملات إعلامية لتقويض شرعية الحركة وترهيب أتباعها، وقتل العديد من الأعضاء بين عامي 2001 و2005، بما في ذلك اثنان من المؤسسين. وأكد القيرعي أنه هو نفسه تعرض للاعتقال عدة مرات خلال تلك الفترة.
بحلول عام 2005، توسعت حركة الدفاع عن الأحرار السود لتشمل فروعاً في المحافظات الشمالية والجنوبية على حد سواء، وبشكل أساسي في محافظات الضالع، وتعز، وأمانة العاصمة، ومدينة إب، وذمار، ولَحْج، وتضمنت مبادراتها الجهود الرامية إلى تحديد العوامل التي تحول دون حصول المهمشين على التعليم وخدمات الرعاية الصحية وكشف التمييز المنهجي الذي يحرم الأشخاص ذوي البشرة السمراء من الوظائف والترقيات داخل الوظائف الحكومية. بعد ذلك غير صالح من أسلوبه وبدأ في تأسيس منظمات منافسة لتمثيل مجتمع المهمشين، بهدف إضعافه وشق الصف. والواقع أن الأمين العام لحركة الدفاع عن الأحرار السود سيقوم فيما بعد بتأسيس إحدى هذه المنظمات المنافسة، المعروفة باسم "المستقبل" التي أصبحت مع جمعية "الأمل" أبرز منظمتين لحشد المهمشين آنذاك.
بدأت هذه المنظمات المتشابهة أيضاً في المنافسة على التمويل. على سبيل المثال، بعد تأسيس جمعية "المستقبل"، حصلت على 10 آلاف دولار من برنامج المنح الصغيرة التابع للبنك الدولي لتنظيم دورات لبناء قدرات موظفيها الإداريين. ووسعت الجمعية أيضاً قاعدة برامجها ليشمل الاهتمام بالمسائل الجنسانية، مثل توفير دورات تدريبية لتعلم اللغة الإنجليزية ودورات الخياطة والحياكة للنساء والفتيات. وسعت إلى إنشاء شبكة وطنية، من خلال تنظيم اجتماعات تشاورية في تعز وعدن لجذب جماعات المهمشين المحلية من جميع أنحاء البلاد.
ظلت العضوية بين منظمات المهمشين المختلفة سلسة، بيد أن الخطوط الفاصلة بينها كانت غير واضحة. وفي عام 2007، اتحدت أهم 33 منظمة للمهمشين حول البلاد - بما في ذلك حركة الدفاع عن الأحرار السود والمستقبل والأمل- تحت مظلة الاتحاد الوطني للمهمشين، بدعم من صالح لهذا الاندماج.
أوضح القيرعي أن "نظام صالح ركز على تشكيل الاتحاد الوطني كحركة بديلة عنا"ـ وأضاف، "بيد أنه تشكل في النهاية باندماج معظم منظماتنا القائمة".
أدرك حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يتزعمه صالح، وكذلك منافسه الرئيسي في البرلمان اليمني، حزب الإصلاح، أن هناك ما يكفي من المهمشين في دوائر رئيسية معينة للتأثير على عملية الانتخابات. وفي وقت الانتخابات، عمل مسؤولو حزب المؤتمر الشعبي العام مع قادة الاتحاد الوطني للمهمشين لتشجيع المهمشين على التسجيل للتصويت، وتقديم حوافز، مثل كيس من الأرز أو مبالغ مالية صغيرة، للإدلاء بأصواتهم للمرشح المفضل لدى الحزب.
في عام 2011، انضم العديد من أعضاء مجتمع المهمشين إلى الثورة اليمنية التي أدت في النهاية إلى تنحي صالح. وفي مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد لاحقاً، بهدف جمع كافة الفصائل اليمنية المتنافسة لوضع عقد اجتماعي جديد للبلاد، لم يكن هناك سوى ممثل وحيد فقط من مجتمع المهمشين من بين 565 مشاركاً، وهو رئيس الاتحاد الوطني للمهمشين، نعمان الحذيفي. على الرغم من ذلك، قدمت مختلف لجان مؤتمر الحوار الوطني توصيات للتصدي لمعاناة المهمشين، بما في ذلك التعهدات بتعزيز دمجهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتحديد حصة بنسبة 10% لتوظيف المهمشين في الوظائف الحكومية، وفي المناصب القيادية. ولسوء حظ اليمن وشعبه، انهارت عمليات الحوار الوطني في أوائل عام 2014، مما أدى إلى دخول البلاد في حرب أهلية.
تأثير الحرب على المهمشين
في عام 2014، توسع النزاع المسلح في شمال اليمن إلى حرب أهلية، أعقبها تدخل عسكري إقليمي في عام 2015 والذي لا يزال مستمراً حتى كتابة هذه الدراسة. واليوم، تنقسم البلاد إلى مناطق سيطرة أنشأت بموجبها جماعة "أنصار الله"، المعروفة باسم الحوثيين، وهي ميليشيا شيعية زيدية متشددة، نظام حكم استبدادي شمولي على معظم مناطق الشمال. وتسيطر مجموعة من القوات المتفرقة المعارضة للحوثيين، تحت راية "الحكومة المعترف بها دولياً"، ظاهرياً على بقية البلاد. ونتيجة لذلك، تسبب العنف والانقسام الاجتماعي في تشريد ملايين الأشخاص، بينما أدى انهيار الاقتصاد إلى دفع ملايين آخرين إلى براثن الفقر المدقع، مما يشكل واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العصر الحديث في بلد كان بالفعل واحداً من أقل البلدان نمواً في العالم قبل الصراع. وقد كابد المهمشون، وهم بالفعل أكثر الفئات الاجتماعية تهميشاً في البلاد، حصة متباينة من هذه الصعوبات.
وقد وجدت دراسة استقصائية أجرتها منظمة اليونيسيف عام 2015 أن الظروف المعيشية السيئة للأسر المعيشية في مجتمعات المهمشين منتشرة على نطاق واسع، مع ارتفاع مستويات الفقر جنباً إلى جنب مع انخفاض مستويات التعليم والالتحاق بالمدارس، وتدني فرص الحصول على الرعاية الصحية.
ووفقاً للتقرير، "لا يُجيد سوى شخص واحد من كل خمسة أشخاص [ممن شملهم الاستطلاع] ممن تبلغ أعمارهم 15 عاماً أو أكثر القراءة أو الكتابة، ولا يلتحق بالمدارس سوى طفلين من كل أربعة أطفال تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عاماً، على الرغم من أن المتوسط [اليمني] يبلغ ضعف هذا الرقم تقريباً"، وذكر التقرير أنه: "على الرغم من أن ثلث مواطني البلاد يتلقون تحويلات نقدية من صندوق الضمان الاجتماعي، فإن هذا يتراجع إلى خمس أسر المهمشين فقط. وهذا أمر مثير للقلق بشكل خاص نظراً إلى أن أسرة واحدة فقط من كل عشرة أسر لديها مصادر تحقق دخل مثل الماشية ووسائل النقل وآلات الخياطة، وما إلى ذلك".
في عام 2022، أظهرت دراسة أجرتها وكالة التعاون التقني والتنمية بالتعاون مع منظمة الهجرة الدولية، للأسر المعيشية للمهمشين في 14 منطقة مختلفة تقع في مناطق الحكومة المعترف بها دولياً، أن 37% منهم يفتقرون إلى ما يكفي من المال لتوفير الغذاء للأسرة، و49% من الأطفال لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس، و80% من الأسر لا تستطيع تغطية تكاليف الحصول على الرعاية الصحية. وقد تم أيضاً تحديد عدم وجود سكن آمن على أنه حاجة ماسة. وتجدر الإشارة إلى أن الإحصائيات القليلة الموثوقة المتعلقة بالمهمشين التي ظهرت منذ بداية الصراع جاءت من المحافظات التي يسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً، وذلك لأن سلطات الحوثي فرضت قيوداً صارمة على أنشطة المنظمات غير الحكومية والناشطين والباحثين في المناطق التي يسيطرون عليها.
ومما يزيد من تفاقم هذه المشاكل أن عملية اختيار المستفيدين لتوزيع المساعدات غالباً ما تميز ضد أفراد مجتمع المهمشين. فغالباً ما يتم توزيع المساعدات الدولية من قبل منظمات شريكة محلية، ونظراً إلى الاحتياجات الإنسانية الهائلة للسكان اليمنيين بشكل عام، ثمة منافسة شرسة للإدراج على قوائم التوزيع. وقد أعرب ناشطو حقوق الإنسان في مجتمع المهمشين أنه من الشائع أن تقوم شبكات توزيع المساعدات المحلية بوضع المهمشين في ذيل الأولويات أو إقصائهم من قوائم التوزيع.
وقد كان لضعف المجتمع المتزايد آثار عميقة على أفراد مجتمع المهمشين. بالنسبة للنساء والفتيات، تشير الأدلة المتناقلة إلى زيادة خطر تعرضهن للتحرش والاعتداء والعنف الجنسي والعنف القائم على نوع الجنس والزواج المبكر. وبالنسبة للرجال، فإن الحالة الاقتصادية المتردية وعدم القدرة على تحقيق دخل جعلتهم عرضة للاستغلال من قبل الجماعات المسلحة.
في الجنوب، دأبت الجماعات المسلحة مثل مجموعة "الحزام الأمني" و"قوات العمالقة" على تجنيد الشباب المهمشين ووعدهم بالحصول على راتب شهري. أما في الشمال، فقد بذل الحوثيون جهوداً مماثلةً لتجنيد الشباب مع عنصر اجتماعي وديني من خلال إنشاء منظمة أحفاد بلال. في المعتقدات الإسلامية، كان بلال بن رباح عبداً في السابق من أصل أفريقي وأصبح واحداً من صحابة النبي محمد الأكثر ثقةً وكان أول مؤذن في الإسلام (الشخص الذي يدعو المسلمين إلى الصلاة). وكان انجذاب بعض المهمشين الذين انضموا إلى المنظمة بسبب الوضع الاجتماعي المرموق الذي ينطوي عليه الاسم.
قال أحد الناشطين في مجتمع المهمشين يعيش في منطقة يسيطر عليها الحوثيون، "عندما أعلن الحوثيون عن تأسيس منظمة أحفاد بلال، كان هناك استمالة للمشاعر، ولكن الفكرة والنوايا لم تكن دمج أحفاد بلال والدفاع عن حقوقهم". وفي الواقع، تفاخر نائب رئيس المنظمة بتقديم العشرات من الشهداء والجرحى لجهود الحرب في إحدى وسائل الإعلام التابعة للحوثيين.
العجز على المستوى الوطني والتناحر الداخلي بين الحركات المناهضة للعنصرية
تعرضت منظمات المجتمع المدني في اليمن عموماً لضغوط شديدة أثناء الحرب حتى تحافظ على نشاطها وفعاليتها؛ بيد أن الأمر بالنسبة لمجموعات المهمشين كان مختلفاً، إذ كان هناك تحديات إضافية تتمثل في الدفاع عن مجتمع منبوذ، ويعاني من التمييز الاجتماعي، ولكن جهودهم لم تفتر رغم كل تلك العوائق.
توسعت جهود التعبئة المستمرة التي يقودها المهمشون لمكافحة العنصرية على المستوى المحلي لتشمل مجموعة متنوعة من الأنشطة؛ حيث يعمل كثير من الناشطين أيضاً في المنظمات الوطنية والدولية لمساعدة وحماية مختلف الفئات المهمشة في اليمن . تندرج معظم المبادرات المنظمة محلياً - من الناحية الفنية - تحت إحدى المنظمتين الرئيسيتين، وترتبط كل منهما بأحد أطراف الحرب الأهلية؛ ففي المناطق التابعة للحوثيين تنشط منظمة أحفاد بلال، وفي المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً ينشط الاتحاد الوطني للمهمشين. ورغم ذلك، قال أحد نشطاء المهمشين الذي تحدث مع كاتب المقال إن الجماعات المحلية تميل إلى الحفاظ على قدر كبير من الاستقلالية والتوجيه الذاتي .
بشكل عام؛ المنظمات الجامعة معروفة بعجزها الشديد عندما يتعلق الأمر بمناصرة المهمشين. فعلى سبيل المثال، يدعي الاتحاد الوطني للمهمشين - الذي ذاع صيته اعتباراً من عام 2019 ليضم تحته حوالي 80 منظمة من منظمات المجتمع المدني المهتمة بشؤون المهمشين - أنه يسعى إلى الوصول إلى حلول قانونية لوضع المهمشين، بيد أن ذلك السعي لم يظفر سوى بالقليل من النتائج. وأوضح أحد الناشطين أنه في عامي 2018 و2019 رصد هو وفريقه ووثقوا الانتهاكات الإنسانية ضد المهمشين، ورفعوا بها تقريراً إلى الاتحاد الوطني للمهمشين، لكنهم لم يتلقوا أي رد ولم يُنشر التقرير مطلقاً.
أما منظمة أحفاد بلال في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، "فلا يزال هناك نشاط للمطالبة بحقوق المهمشين، ولكنه لا يعدو أن يكون مجرد كتابات على مواقع التواصل الاجتماعي (مثل الفيسبوك). وقال ناشط من محافظة الضالع: "لم يتحقق شيء يذكر على أرض الواقع".
في نهاية عام 2022، حاولت مجموعة من شباب المهمشين تأسيس مبادرة وطنية جديدة لمناصرة المهمشين واستعادة الثقة التي تراجعت في الحراك الأوسع بسبب انقسام المجتمع. تهدف هذه المبادرة التي أطلق عليها اسم "ملتقى المصير المشترك" إلى إنشاء جبهة إعلامية جماعية وتوحيد الخطاب العام. وقد حشدت المبادرة العديد من الشخصيات الشبابية التي تشق طريقها نحو الظهور ساعين إلى حشد الجهود حول رغبتهم الجماعية في تأكيد وحماية حقوق المهمشين. وعندما طُرحت الفكرة على الاتحاد الوطني للمهمشين، قوبلت بمقاومة داخلية، مع شكوك في تبعية الملتقى للحزب الاشتراكي اليمني، كما زعم مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل التابع للحكومة اليمنية في وقت لاحق أنه "وصلته معلومات" تفيد بأن الملتقى كان محاولة انقلاب ضد الاتحاد الوطني للمهمشين بدعم من "أطراف مجهولة".
وقال فوزي الحبشي، وهو ناشط من تعز: "للأسف أُجهض الملتقى قبل خروجه للنور لأن الاتحاد الوطني للمهمشين شن حملات تشويه ضدنا وادعى أن المبادرة هي تشتيت للجهود، رغم أن لدينا رؤية واضحة بإرادة شبابية ولا تقوم على أكثر من العمل التطوعي".
وأضاف أنه "في كل مرة نحاول فيها استعادة النشاط، تنشأ خلافات بين الحركات المدافعة عن حقوق المهمشين، وهذه الخلافات الداخلية تضعف صوتنا بالقضية".
مبادرات صغيرة الحجم عظيمة التأثير
أدى التشرذم والاختلال الوظيفي على المستوى الوطني في جهود تعبئة المهمشين إلى منع المناصرة المنسقة رفيعة المستوى للمجتمع. وعلى الرغم من ذلك، تشير الأدلة المتناقلة إلى أن المجموعات الصغيرة والناشطين الأفراد يواصلون عملهم في المبادرات الشعبية لتلبية الاحتياجات التي لا تعد ولا تحصى لهذه الفئة من السكان المهمشين. كشف مسح موجز لهذه الجهود من جميع أنحاء البلاد عن الظروف المحلية المختلفة التي يواجهها المهمشون، فضلاً عن التقدم غير المتكافئ في مواجهة الأعراف الاجتماعية التي تهمش هذه الفئة.
جمعية حياة أفضل للتعايش السلمي بتعز
قال فوزي مهيوب الحبشي إنه رغم قدرته على الالتحاق بالمدرسة أثناء نشأته في ريف محافظة تعز، فإنه وغيره من الأشخاص ذوي البشرة الداكنة يتعرضون بانتظام للعنصرية والتنمر من قبل أقرانهم والمدرسين ومسؤولي المدرسة، ويصل الأمر في كثير من الأحيان إلى الاعتداءات الجسدية. وقال إن محاولاته الأولى للدفاع عن المهمشين جاءت أثناء التحاقه بجامعة صنعاء، حيث سعى إلى تنفيذ حملات توعية بحقوق الإنسان، لكنه لم يتلق سوى القليل من الدعم، وكانت دراسته تتحكم في الوقت الذي يمكنه تخصيصه للنشاط الحقوقي. تخرج الحبشي بدرجة البكالوريوس في علوم الحاسوب وعاد إلى تعز عام 2016 بعد اندلاع الحرب.
عند عودته، لاحظ انخفاضاً ملحوظاً في مستوى العنصرية التي واجهها، وأرجع ذلك إلى ظهور العديد من الجماعات التي سعت للدفاع عن حقوق المهمشين. ثم بدأ هو وغيره من الناشطين في مديرية المعافر في تأسيس المبادرات لتعزيز هذه المكاسب ودعم التعايش السلمي بين المجتمعات المهمشة والمجتمع الأوسع. شمل ذلك حملات توعية في المدارس، فضلاً عن مجموعات النقاش وتبادل الآراء مع أولياء الأمور ومديري المدارس والسلطات المحلية، بهدف حظر السلوك العنصري.
هذه المبادرات دفعت الحبشي والناشطين الآخرين إلى تأسيس جمعية حياة أفضل للتعايش السلمي في عام 2023. واصلت الجمعية أنشطتها السابقة وتوسعت في برامج مساعدة أسر المهمشين النازحين ورفع مستوى الوعي بين المجتمع حول أهمية حقوقهم الإنسانية والتأكيد عليها.
وقال الحبشي إن الجمعية تضم فئات مختلفة؛ حيث تشتمل على حوالي 40% من المهمشين، و30% من النازحين، و30% من المجتمعات المهمشة الأخرى. كما قامت الجمعية بعقد شراكة مع منظمة أوكسفام لمشاريع مناصرة لحقوق مجتمعات المهمشين.
ناشط ومدافع عن حقوق الإنسان في محافظة شبوة
بحسب ما أفاد إسماعيل النجار - الناشط والمدافع عن حقوق الإنسان من محافظة شبوة - لا يزال مصطلح "الأخدام" - أي العبيد - شائعَ الاستخدام في الإشارة إلى المهمشين في المناطق الجنوبية من اليمن. النجار من مواليد 1978، حاصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية، وهو مدرس بوزارة التربية والتعليم، ورئيس مؤسسة قادرون للتنمية وبناء السلام، التي تهدف إلى المساعدة في دمج المهمشين في المجتمع الأوسع.
قال النجار إنه يعمل بانتظام على استثمار المناسبات الاجتماعية – مثل حفلات الزفاف والاحتفالات الأخرى – ويتخذ منها منصة لمناقشة الممارسات العنصرية تجاه المهمشين والدعوة إلى الاعتراف بحقوق الإنسان الأساسية للمجتمع على أساسٍ متين من خلال التأكيد على مبادئ العدالة الإسلامية. ومن بين الأعراف الاجتماعية التي حاربها النجار هي عادة إجبار المهمشين على الجلوس خارج الخيام لتناول الطعام بينما يتناول باقي الضيوف طعامهم في الداخل. وقال النجار إن مناصرته قادته إلى بعض الشهرة المحلية، مما سهل دعوته للتحدث في الراديو بشأن قضايا المهمشين وتشجيع السلطات المحلية له في أنشطته.
حسب ما يرى النجار؛ فإن الفرق بين شبوة وأجزاء أخرى من البلاد - وخاصة الشمال - هو أن معظم السكان من ذوي البشرة الداكنة. ونتيجة لذلك، فإن التمييز ضد المهمشين ليس قضية عنصرية بقدر ما يعتمد أكثر على الأصول والانتماء العرقي. وفي جميع أنحاء الجنوب بشكل عام، يقول النجار إن المهمشين الذين نشأوا في ظل حكم الحزب الاشتراكي اليمني قبل توحيد البلاد – – استفادوا من سياسات الحزب الاشتراكية ذات النزوع الأكبر نحو المساواة، والتي سمحت للكثيرين بالحصول على درجات التعليم العالي والاندماج أكثر في المجتمع الأوسع. وهو يقارن هذه المجموعة بموجات المهمشين التي جاءت إلى شبوة بعد الحرب الأهلية عام 1994، وعلى رأسها تلك التي جاءت من محافظة الحديدة الساحلية الشمالية، والذين تتعرض سمعتهم للتشويه عموماً باعتبارهم طبقة من الخدم والمستبعدين اجتماعياً.
وقال النجار إنه بدأ يلاحظ تراجع الأعراف الاجتماعية العنصرية ضد المهمشين؛ ومن بين الأشياء التي يشير إليها أنه عندما تكون هناك حالة وفاة في مجتمع المهمشين اليوم، يأتي أشخاص من خارج المجتمع لتقديم واجب العزاء، وهو أمر لم يكن يسمع به من قبل.
الإقصاء الاجتماعي والعنصرية المؤسسية في المهرة
فاطمة حسن محامية من عدن، تعيش اليوم في محافظة المهرة في أقصى شرق اليمن. أثناء دراستها في عدن، تقول إنها واجهت التمييز في بيئة الجامعة، وفي بعض الأحيان كان ذلك على أيدي الأشخاص الذين اعتبرتهم أصدقائها المقربين. قالت فاطمة إن الوضع الذي يواجه المهمشين في المهرة أكثر خطورة بكثير؛ وتشير إلى أن المهمشين هناك يُطردون فعلياً من المراكز الحضرية، ويُجبرون على العيش في الأحياء الفقيرة على أطراف المدينة، ويُحرم أطفالهم من أي فرصة للتعليم. وقارنت ذلك بما حدث في عدن؛ فعلى الرغم من أن العنصرية كانت منتشرة، إلا أن المهمشين لا يزالون قادرين على الالتحاق بالمدارس التي يلتحق بها نظراؤهم من اليمنيين.
من وجهة نظرها كمحامية، ترى فاطمة أيضاً وجود عنصرية مؤسسية في المهرة. على سبيل المثال، وصفت إحدى الحالات التي اتُهم فيها رجلان بالسرقة، أحدهما من قبيلة محلية والآخر من قبيلة مهمشين. كان لدى النيابة أدلة تدين الرجل الذي من القبيلة المحلية، في حين لا يوجد دليل مباشر ضد المهمّش. تغاضت الشرطة عن كل ذلك، فحُبس المهمش في السجن وتعرض للضرب، بينما تمكن شيخ من القبيلة من التوسط لإطلاق سراح الرجل الآخر. وظل المهمش في السجن حتى موعد المحاكمة، وعندها أمر القاضي بإطلاق سراحه لعدم كفاية الأدلة.
وقالت فاطمة أيضاً إنها بصفتها محامية، فهي قادرة على أن تعيش حياة أفضل من معظم المهمشين، على الرغم من أنها لا تزال تتعرض للعنصرية بصورة مستمرة. وتشير إلى أمثلة على ذلك من مكان عملها، حيث تعرضت للسخرية في مكتب النيابة، وسخر منها زملاؤها الذين يطلقون عليها اسم الحرافيش (وهو الاسم الذي يطلق على المهمشين في المهرة)، وهو ما جعل العملاء المحتملين يعزفون عنها بمجرد اكتشاف أنها من المهمشين.
جمعية التضامن الأسري: من إب إلى عدن
ابتداءً من عام 2000، بدأ سالم المسيب وزوجته في عقد دروس منتظمة للقراءة والكتابة للمهمشين في سن المدرسة الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى التعليم الرسمي في منطقة مشرفة بمحافظة إب. أدى ذلك في النهاية إلى تأسيس منظمة مجتمع مدني صغيرة تسمى جمعية التكافل الأسري، تهدف إلى مساعدة الأسر المتعثرة في الحصول على الاحتياجات اليومية الأساسية.
يقول سالم إنه على الرغم من أنه أدرك في وقت مبكر أهمية التعليم، وكان يحاول مساعدة أقرانه في العثور على المستلزمات الأساسية مثل الدفاتر والأقلام لإكمال فصولهم الدراسية، إلا أنه كان ثمة تضارب عام في مجتمع المهمشين تجاه التعليم، وهو ما مثّل حاجزاً آخر أمام تحسين ظروفهم. توقف تعليم سالم عند المدرسة الثانوية، لأنه لم يكن قادراً – ولا عائلته – على تحمل تكاليف الدراسة في الجامعة.
في عام 2022، يقول سالم إن نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي أدى إلى تلقيه تهديدات من الحوثيين، فهرب إلى عدن، حيث واصل هو وزوجته أنشطتهما في المجتمع المدني لصالح المهمشين في مخيم زهراء خليل للنازحين في منطقة دار سعد بعدن. أما بالنسبة للدخل فهو يعمل حارساً في إحدى الجامعات الخاصة في عدن، وبين الحين والآخر يبيع العصير أو الشاي في الشوارع.
التطلع إلى المستقبل: النضال الطويل ضد العنصرية
واجه اليمن بالفعل مجموعة هائلة من التحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية قبل الحرب، والتي ازدادت حِدتها وانتشارها منذ ذلك الحين خلال الصراع. ومن هنا؛ يواجه مجتمع المهمشين - الفئة الأكثر تهميشاً في البلاد - مستقبلاً أصعب من عامة السكان، كما أن احتمالات قدرة المهمشين على حشد جهودهم من أجل رأب صدع التشرذم والانقسام العام في المجتمع اليمني اليوم لا تبدو مبشرة أيضاً.
ومع ذلك، لا يزال هناك نمو مطرد للمبادرات المحلية المستقلة في جميع أنحاء البلاد، والتي تقدم المناصرة والدفاع نيابة عن المجتمع. ويشير هذا إلى وجود قاعدة قوية للعمل الجماعي، كما يمثل وسيلة محتملة للتغيير الإيجابي. والأمر كذلك بالنسبة لقنوات التواصل وشبكة العلاقات الآخذة في التوسع بين هذه المبادرات المحلية، بقيادة جيل أصغر سناً من الناشطين الأقل ميلاً إلى إقحام أنفسهم في المنافسات السياسية التقليدية، كما أنهم أكثر ذكاءً في العمل على مساحة تقاطع المناصرة، وصنع السياسات، والتواصل الدولي، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي.
من المرجح أن أوضح الفرص للمساعدة في تعزيز جهود المهمشين لتحقيق العدالة الاجتماعية والشمول سوف تتضمن الاستثمار في هذه المبادرات المحلية لبناء قدراتها المؤسسية واستدامتها وتعزيز التواصل فيما بينها. ويجب توخي الحذر للمحافظة على بساطة تلك الجهود وتجنب خلق منافسة مصطنعة وندّية بين هذه المجموعات. كما ينبغي أن تشمل هذه الجهود أيضاً تعزيز التواصل البناء بين مجموعات المهمشين ومنظمات المجتمع المدني الأخرى والسلطات المحلية. ومن شبه المؤكد أن هذه الشبكة الأوسع من المبادرات المتحالفة ستساعد في دعم الجهود المبذولة لتوثيق تأثير الحرب الأهلية على المهمشين، ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان ضدهم، والمساعدة في تسهيل الفرص الاقتصادية وتعزيز الاندماج الاجتماعي لهذه الفئة المهمشة.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.