اللجوء إلى المدخل التشاركي لاحتواء الأزمات في تونس: أزمة النفايات بصفاقس

تصدر هذه الورقة في إطار مشروع «المعرفة بصفتها منفعة عامة». يهدف المشروع إلى فحص العلاقة بين إنتاج المعرفة والأكاديميا والمنح الدراسية والسياسات العامة مع التركيز على المستوى المحلي ومعالجة التوتر بين المعرفة الدولية والمحلية. يتضمن المشروع ورش عمل تهدف إلى تعزيز الأبحاث المستندة إلى الأدلة من خلال توفير المهارات الفنية ومنصة للترجمة للباحثين والباحثات الصاعدين/ت الذين يكتبون باللغة العربية.

©مهى بوهلال

مقدمة

تعكس إدارة النفايات في تونس أهمية الدور الذي تلعبه السلطة المركزية في إدارة الخدمات العامة. تلعب الدولة دوراً رئيسياً في قطاع النفايات كسلطة إشراف ومراقبة على السلطة المحلية، كما تتحكم في سبل التمويل والتجهيزات والمخزون العقاري الذي يمكن استغلاله في هذا المجال، لتهيئة المكبات أو لإنشاء وحدات المعالجة والتثمين. وقد أثبتت عدة أحداث، على غرار أزمة النفايات في جربة سنة 2014، والتي اندلعت بسبب غلق مصب "قلالة"، تشبّث الدولة بالمقاربة المركزية لإدارة النفايات، وميلها  إلى عدم إشراك المجتمع المدني، بالإضافة  إلى اتخاذها قرارات منفردة من أعلى الهرم البيروقراطي، تمثلت في تعليب النفايات والتي سرعان ما تحولت بدورها  إلى كارثة بيئية.

لذا جاء اللجوء  إلى الأسلوب التشاركي كإجراء تجميلي ليس أكثر في إدارة الشأن العام، الأمر الذي يثبت سيطرة السلطة المركزية المطلقة. ويمكن تفسير اللجوء إلى المنهج التشاركي كمحاولة لاحتواء أزمة النفايات في صفاقس والتي اندلعت منذ أيلول/سبتمبر 2021 إثر غلق مصب "القنة" بعقارب المستمرة  حتى اليوم. هنا، اضطرت الدولة  للجوء  إلى المنهج التشاركي، حيث أظهرت بسلطتيها المركزية والجهوية توجهاً تشاركياً غير معتاد، يهدف  إلى إيجاد علاج فعال للسياسات المتّبعة من السلطة المركزية. لذا، تعتبر لجنة متابعة أزمة النفايات في مدينة صفاقس مثالاً لاعتماد المنهج التشاركي عبر إشراك أكبر عدد ممكن من الفاعلين في جلسات وحوارات ونقاشات حول الأزمة. وقد سبق إنشاء اللجنة محاولات عديدة للاطلاع على وجهات نظر المجتمع المدني في شكل حوارات، لعل أبرز الأمثلة التي يمكن ذكرها استقبال نشطاء حملة "مانيش_مصب" في بداية الأزمة في القصر الرئاسي للتحاور بشكل مباشر مع رئيس الجمهورية. كما اعتمدت سياسة الوفود بين العاصمة وصفاقس أشرفت عليها وزيرة البيئة بشكل مباشر، وشارك فيها عدة أطراف، في محاولة للخروج بحل توافقي يرضي الجميع... وأعلنت الوزيرة منذ أيار/مايو 2021 عن إطلاق استشارة جهوية واسعة بولاية صفاقس بخصوص أزمة النفايات، بمشاركة كل الأطراف المعنية، لم تعلن   نتائجها إلى اليوم.

تنقسم الورقة إلى ستة أقسام رئيسية؛ يصف القسم الأول المنهجية التي اعتمدت في عمل لجنة متابعة أزمة النفايات في صفاقس. ويتناول القسم الثاني أزمة النفايات في مدينة صفاقس وأسبابها. ويحدد القسم الثالث أطراف اللجنة وأهدافها وتعريفاتها المختلفة للأزمة. ويقيّم القسم الرابع أسلوب اللجوء  إلى التشارك في سياق الأزمة. أما القسم الخامس فيعرض لاحتدام الصراع وتبادل الاتهامات بين السلطة المركزية والمجتمع المدني. ويقترح القسم السادس والأخير توصيات سياسية تهدف  إلى تدعيم تبني المدخل التشاركي في إدارة الأزمات وليس فقط في احتوائها.

منهجية العمل:

اعتمدت منهجية العمل على منهج الملاحظة بالمشاركة (Observation participante)، حيث تمكنت الباحثة من حضور اجتماعات اللجنة بصفة مراقب بشكل شبه دائم. وقد ساهمت هذه المنهجية في توفير العديد من المعلومات التي تخص الجوانب التقنية والإدارية والقانونية لإدارة النفايات في تونس. كما سمحت هذه المنهجية بفهم تصورات أعضاء اللجنة لماهية المقاربة التشاركية، حيث اعتبر أحد الأعضاء "أن المقاربة التشاركية تقوم على اقتراح حلول معقولة قابلة للتنفيذ والإنجاز، وتحظى بالمقبولية الاجتماعية لمعالجة أزمة النفايات في ولاية صفاقس في إطار تشاركي، تساهم فيه كافة الأطراف والهياكل المعنية". ومن جانب آخر سمح حضورها برصد الأطراف المهيمنة داخل اللجنة وكيف يُدار النقاش. كما كشفت المناقشة المستمرة مع أعضاء اللجنة عن العديد من النواقص والصعوبات وتحديات الوصول  إلى حلول ترضي كافة الأطراف: "المجتمع المدني رافض... كيف سنتعامل مع الوضع؟" ... "نقل الصلاحيات من المركزي  إلى المحلي تتطلب قانوناً يضبط ذلك"... "هل نحدد العلاقة بين ما هو محلي وما هو مركزي؟"... "المواقع التي سيتم اختيارها تحتاج  إلى تغيير صبغة"...

أزمة النفايات في صفاقس

في البداية، ولفهم الأزمة التي تعيشها مدينة صفاقس، من المهم الإشارة إلى أنه ومنذ التسعينيات، أصبحت إدارة النفايات من المحاور الاستراتيجية لسياسة الحكومة في تونس. ومنذ ذلك الحين، وُضعت مجموعة من اللوائح، وظهرت العديد من القوانين والمراسيم والقرارات المتعلقة بتحسين إدارة النفايات. تنتظم هذه الخدمة في شكل شبكة تقوم على تجميع النفايات، وهي مهمة تضطلع بها البلديات، لنقلها باتجاه مراكز التحويل للفرز والمعالجة ثم توجيهها في مرحلة أخيرة  إلى المكبات المراقَبة من أجل طمرها بطريقة محددة تقنياً. وقد أُنشئت 10 مكبات منها سنة 2008 قدرت مدة عملها في البداية بخمس سنوات. إلا أنه حتى اليوم، وبعد حوالي 14 سنة من العمل، وفي غياب البدائل، مازالت الدولة تستغل هذه المكبات، معتبرة أن عمر اشتغالها يمكن أن يتراوح بين 10 و15 سنة. وقد اعتبر سكان المناطق المجاورة للمكبات أن ذلك يؤدي  إلى كوارث بيئية تهدد صحتهم وتؤثر سلباً على مكان عيشهم.

هذه هي الخلفية التاريخية التي نشأت على أثرها أزمة النفايات في صفاقس، حيث أصبح تراكم أكوام النفايات في شوارع المدينة سيناريو مألوفاً للغاية. فمنذ صيف 2020 تعيش صفاقس على وقع أزمات متعاقبة للنفايات بسبب إغلاق مكب "القنة" المراقب تحت ضغط النشطاء البيئيين والمواطنين بمدينة عقارب المتاخمة للمكب، والتي تبعد 20 كلم عن مدينة صفاقس. إلا أن الأزمة الحالية التي اندلعت منذ سبتمبر 2021 تُعدّ، ومن دون منازع، الأطول والأكثر عنفاً، لأن مكب القنة يعد ثاني أكبر مكب نفايات مراقب في البلاد التونسية، بعد مكب برج شاكير في العاصمة. كما يعد نقطة من نقاط الالتهاب الكثيرة في تونس، بسبب استخدام كل بلديات ولاية صفاقس هذا المكب لطمر نفاياتها. يستقبل المكب يومياً 600 طن من النفايات المنزلية، و20 طناً من النفايات الصناعية. لذا ظهر في عقارب منذ 2018 نشاط بيئي نما وتطور ضد ما وصفوه بـ"الجرائم البيئية" و"الإرهاب البيئي" الذي تمارسه الدولة على سكان المنطقة. وقد انخرط النشطاء في عقارب في حملة موحدة تحت شعار #مانيش_مصب (لست مكباً للنفايات) والذي مثل السردية الرئيسية التي استعملت لتأطير المشكلة. وفي إطار التنافس على الأولوية، استخدموا خطاباً صحياً لإبراز المكب كخطر على صحة الإنسان أكثر من كونه مجرد مصدر للإزعاج بسبب الروائح الكريهة المنبعثة منه، خاصة من خلال نشر رواية الفتاة التي توفيت نتيجة لسعة بعوضة متأتية من المكب، حسب النشطاء. وقد سمح هذا التأطير لحراك مانيش_مصب بحشد الرأي العام، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو عبر وسائل الإعلام، وأهمها برنامج "الحقائق الأربع"، وهو أهم برنامج استقصائي في تونس. إذ خصص البرنامج أكثر من حلقة للتعريف بمشكلة مكب عقارب. على مستوى ثانٍ تنوّعت أشكال الاحتجاج بعد هذه الحادثة، وصارت جزءاً من معالم المدينة، حيث انتشرت الرسوم والوقفات الاحتجاجية والتظاهرات والاعتصامات، وصارت الفلاش-موب « flash-mob» وقطع الطرقات جزءاً من الاحتجاجات اليومية للمواطنين.

صور لبعض أشكال الاحتجاج التي اعتمدها حراك مانيش_مصب1المصدر صفحة مانيش_مصب على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك https://www.facebook.com/groups/688457011533365

هكذا تمكن الحراك من النجاح في غلق المكب نهائياً، مستغلاً الغلق المؤقت له من طرف الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات2استغل نشطاء حراك "مانيش_مصب" التصريح الإعلامي الذي صاحب الغلق على لسان المدير الجهوي للوكالة الوطنية للتصرف بالنفايات بصفاقس بأن "المكب أغلق لأنه لم يعد قادراً على استقبال كميات جديدة من النفايات".

، الأمر الذي أدى  إلى تصاعد الأزمة والتي تستمر  إلى يومنا هذا مخلفة جواً من الاحتقان والصدام بين الدولة والسكان، بسبب عجز السلطة عن إيجاد حلول فعالة ومقبولة من جميع الأطراف.

اللجنة الاستشارية كميكروكوزم لتعدد تعريفات الأزمة

في نهاية شهر جويلية 2022، وبأمر من الوالي، شُكّلت لجنة استشارية لمتابعة مسار أزمة النفايات بصفاقس. وسعت هذه اللجنة في تركيبتها  إلى ضم أكبر عدد ممكن من الأطراف: المنتخبون (رؤساء البلديات بصفاقس) أطراف حكومية (ممثلون جهويون عن مؤسسات حكومية كوزارة البيئة، الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، الوكالة الوطنية لحماية المحيط، وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي، وزارة الصحة، وزارة التجهيز، وزارة الداخلية، وزارة أملاك الدولة، وزارة المالية...)، رجال أعمال، رجال قانون، ناشطون بيئيون وممثلون عن المجتمع المدني بصفاقس، بالإضافة  إلى باحثين وخبراء في مجال التصرف في النفايات. وفي المقابل غاب عن اللجنة طرف رئيسي، ولعله أهم طرف في الأزمة، وهم نشطاء حملة مانيش_مصب لاعتبارهم جزءاً من تأجيج المشكلة دون طرح حلول تساعد طرفي الأزمة.

وقد حدد السقف الزمني لعمل اللجنة بثلاثة أشهر من تاريخ إنشائها. وتمثلت مهمتها في اقتراح مسار تشاركي لإدارة أزمة النفايات بصفاقس من خلال صياغة مشروع النظام الأساسي للوكالة الجهوية للخدمات البيئية، إضافة  إلى تحديد مواقع صالحة لاستقبال النفايات (مكبات، محطات معالجة وتثمين)، وأخيراً تقييم مشاريع التصرف في النفايات التي يطرحها المستثمرون كعلاج مستقبلي للأزمة.

ومن الجدير بالذكر، اشتراك العديد من أعضاء اللجنة في التسليم بخطورة الأزمة وفشل سياسة إدارة النفايات القائمة على الطمر وعدم فعاليتها حتى الآن، واعتبروا أنه "بات من الضروري اليوم تبني مقاربة جديدة للتصرف بالنفايات تقوم على تدعيم الفرز من المصدر وإعادة التدوير والتثمين". من جانب آخر شدد عدد من أعضاء اللجنة على اعتبار الأزمة تجسيداً لغياب الوعي وغياب تقاليد العمل على تحسيس المواطنين ومقبوليتهم المجتمعية للتجهيزات المتعلقة بإدارة النفايات، حيث اعتبروا أن "ظاهرة الرفض الاجتماعي ارتبطت بغياب مبادئ العدل والمساواة والإنصاف بين المواطنين والمتساكنين في محيط المكبات والذين انتفضوا على المكبات القديمة ورفضوا إنشاء مواقع جديدة للتثمين...". كما اعتبروا أن "غياب الاستراتيجيات العمومية والرؤى الاستشرافية والسياسات الاتصالية والتواصلية السليمة مع السكان هي التي عمقت الأزمة في كل أبعادها". من جانب ثالث اعتبر عدد من الأعضاء الأزمة سياسية في المقام الأول. فحسب الوالي "هناك أشخاص يصطادون في الماء العكر... هناك أشخاص ضد تونس... أزمة النفايات أصبحت وسيلة لجمع التزكيات للانتخابات القادمة"، في إشارة  إلى الانتخابات التشريعية التي أقيمت في 17 من ديسمبر 2022. من ناحية رابعة طرح آخرون توصيفاً مختلفاً للأزمة على أنها تجسيد لضعف السلطة المركزية "على السلطة المركزية أن تكون صارمة... على الدولة أن تتحمل مسؤولياتها وتواجه الرفض الاجتماعي".

تكلفة اللجوء للمنهج التشاركي: اللجنة كوحدة تحليل مصغّرة

من المؤكد أن اللجنة الاستشارية لمتابعة مسار أزمة النفايات في صفاقس اعتمدت سياسة تشاركية في محاولة لحل الأزمة وتقريب وجهات النظر وطرح مختلف الحلول الممكنة، من أجل الخروج بحل تقني عملي يستجيب لتطلعات مختلف الأطراف. إلا أن سياق الأزمة الذي أنشئت فيه اللجنة، والذي تطلب إجراءات عاجلة في ظل حالة طارئة، جعل مهمتها صعبة جداً. فمن ناحية أولى، عملت اللجنة تحت ضغط شديد، ضغط الوقت حيث حددت مدة عمل اللجنة بثلاثة أشهر فقط (أوت -سبتمبر - أكتوبر) وهي فترة قصيرة جداً مقارنة بالأهداف المرسومة، ضغط السلطة المركزية التي تبحث عن أي طريقة لحل الأزمة وضغط المجتمع المدني في صفاقس، في عقارب وفي كل المواقع التي حُددت لاستقبال النفايات أو لإنشاء وحدات المعالجة والتثمين.

ومن ناحية أخرى، اصطدمت طموحات وآمال اللجنة بواقع شديد التعقيد، تداخلت فيه عدة أطراف تحت إشراف ورقابة إدارية مركزية صارمة من الصعب تجاوزها. واحتاجت الأهداف التي رسمتها اللجنة (الوكالة الجهوية للخدمات البيئية، تحديد المواقع، فتح المجال للمستثمرين الخواص)  إلى مظلة قانونية مع ما يتطلبه ذلك من تمشٍّ معقد يحتاج  إلى فترة زمنية طويلة لا تتلاءم مع الصفة الطارئة للخروج من وضعية الأزمة التي تعيشها المدينة. كما اصطدمت رغبة اللجنة في التوجه نحو التدبير الحر وتدعيم اللامركزية في إدارة النفايات بالسلطة المحلية وافتقارها للإمكانيات اللازمة وما يتطلبه نقل الصلاحيات والإمكانيات من السلطة المركزية باتجاه السلطة المحلية من قوانين تحدد الصلاحيات الذاتية والصلاحيات المشتركة، وتحدد العلاقة بين ما هو محلي وما هو مركزي. هذا الاحتياج  إلى وقت طويل ومراحل متعددة واتفاقات من نوع جديد، بدا غير ملائم كحل على المدى القصير. لذا عبرت عدة أطراف عن تخوفها من الانسلاخ عن السلطة المركزية، وأكدت على ضرورة أن لا تكون الخيارات الجهوية منفصلة عن خيارات الدولة، وأن مدينة صفاقس يجب أن تبقى منخرطة في الاستراتيجية الوطنية للتصرف في النفايات للمحافظة على تماسك الدولة، لكي لا تصبح إدارة النفايات بيد مجموعة من الوكالات المتفرقة تتصرف كل واحدة منها كما يحلو لها.

ورغم طول المدة التي تحتاجها الحلول المطروحة من اللجنة، إلا أن نتائج عملها تعد مفيدة كسابقة للعمل التشاركي، حتى وإن جاء محدوداً ومستخدماً لتفادي السخط الشعبي. فقد انبثقت عن أعمال اللجنة خلال الأشهر الثلاثة الماضية عدة نتائج على المستوى القانوني والفني، إضافة  إلى تحديد مواقع يمكن استخدامها لإدارة النفايات. فعلى المستوى القانوني تمت المصادقة على النظام الأساسي لمؤسسة الخدمات البيئية والتنمية المستدامة، في إطار التضامن بين بلديات مدينة صفاقس. كما تم التصديق على الاقتراحات لإصلاح المنظومة القانونية للتصرف في النفايات، إضافة  إلى إقرار الحوافز والامتيازات لمناطق معالجة النفايات. أما على المستوى الفني، فقد دعت اللجنة إلى اقتراح مشاريع تهتم بمعالجة وتثمين النفايات من جهة المستثمرين. وبالفعل تلقت اللجنة 12 عرضاً على الأقل، حسب تصريح إعلامي لأحد أعضائها. وتمكنت اللجنة كذلك من تحديد عدة مواقع للتثمين والتجميع المؤقت التي لم يُعلن عنها حتى اليوم تخوفاً من الرفض الشعبي على مبدأ توزيع العبء البيئي بين مختلف أجزاء المدينة. كما استُكمل كل ما يتطلبه ذلك من إجراءات وترتيبات لتخصيص هذه المواقع وتغيير صبغتها.

وتجدر الإشارة  إلى أن التقرير المفصل عن نشاط اللجنة وأهم نتائجها ما زال قيد الإنجاز، إلا أنه بات من الممكن تتبع هذه النتائح، سواء عن طريق البيانات الصحفية التي أصدرتها، أو كذلك عن طريق تصريحات أعضائها في وسائل الإعلام، وأبرزهم الناشط في المجتمع المدني والنائب السابق شفيق العيادي3شفيق العيادي نائب سابق عن مدينة صفاقس وناشط في المجتمع المدني وعضو قار باللجنة الاستشارية لمتابعة مسار أزمة النفايات بصفاقس .

ورغم كل هذه الإنجازات، عادت أزمة النفايات في صفاقس لتتصدّر المشهد الإعلامي من جديد، حيث أدى الرفض الاجتماعي للمكب المؤقت الذي تم تحديده، وقطع الطريق أمام شاحنات النفايات ومنعها من دخول الموقع، إلى تكدّس أكوام القمامة في كامل أرجاء صفاقس. كما زادت الحرائق التي أُضرمت في مصب الميناء من تعميق الأزمة البيئية في المدينة، فغطى الدخان المتصاعد سماء صفاقس. وتناول الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي حالات إغماء وحالات اختناق وسط المدينة، واضطرار بعض المدارس  إلى تعليق الدروس.

تبادل الاتهامات بين السلطة المركزية والمجتمع المدني

رغم الإجراءات والخطوات التي اتُّخذت، لم يزل الصراع بين المجتمع المدني والسلطة المركزية محتدماً في ما يتعلق بقضية إدارة النفايات. فمن ناحية يرفض السكان والمجتمع المدني الإقامة بالقرب من التجهيزات المرتبطة بالنفايات، ومن ناحية أخرى تعتبر الدولة أي نقد أو معارضة شكلاً من أشكال التخريب السياسي. هكذا يبقى الوضع محتدماً ويهيمن عليه إلقاء متبادل للمسؤولية بين السلطة المركزية والمجتمع المدني.

فلا السلطة المركزية تمكنت من إدارة النفايات بشكل مستدام والالتزام ببرنامجها القائم على التقليص من حجم النفايات وتدعيم إعادة التدوير والتثمين، ولا المجتمع المدني تمكن من لعب دوره في التوعية المجتمعية حول أهمية الفرز الانتقائي من المصدر. حتى إن أحد النشطاء البيئيين في مدينة صفاقس يقول: "لم نعد نعتقد بتاتاً في حملات التوعية حول ضرورة فرز النفايات... فالحماس الشديد الذي نلمسه في البداية سرعان ما يتلاشى ..."

لكن عودة أزمة النفايات لتصدُّر المشهد من جديد وتراكم آلاف الأطنان في أنحاء صفاقس وانتشار حرائق القمامة، زادت من تعميق الأزمة، وزادت الاتهامات المتبادلة بين السلطة المركزية والمجتمع المدني. ونجد هذا الاحتدام واضحاً في تصريحات الناشط البيئي زياد الملولي4زياد الملولي ناشط بيئي مستقل، ومن أهم الحملات التي قادها وساهم في تأسيسها هي #سيب_التروتوار (أترك الرصيف) #يزي_تخنقنا (كفاية تخنقنا) وأخيراً وليس آخراً #صفاقس_ تتحرك .

بأن "السلطة المركزية تخلت عن اللجنة وعن السلطة المحلية". هذا الشعور بالنبذ امتد  إلى وسائل الإعلام بشكل أوسع، حيث بات الرأي العام متفقاً على أن السلطة المركزية تركت السلطة المحلية في صفاقس تواجه مصيرها بمفردها، خاصة نتيجة غياب وزيرة البيئة ورئيسة الحكومة عن المشهد، ورفضهما تقديم أي تصريحات للإعلام على علاقة بأزمة صفاقس. ولم يظهر أي تصريح عام إلا بعد أسبوعين من تدهور الأوضاع، وجاء من رئيس الجمهورية مباشرة مطالباً وزيرة البيئة بحلول فورية، ومؤكداً على الصبغة السياسية للأزمة، وعلى اعتبارها مؤامرة من أطراف يسعون  إلى "إسقاط الدولة"، واعتبار أن "مكانهم سيكون في مزبلة التاريخ مثل القمامة التي يكدسونها".

هكذا وجدت اللجنة المكونة لمعالجة الموقف عبر منهج تشاركي نفسها بين مطرقة المجتمع المدني المحلي وسندان السلطة المركزية. وحاولت إيجاد تأطير وسيط يركز على تقاسم الأعباء وإعلاء قيمة القانون من جانب، وضرورة مساندة السلطة المركزية لها مالياً وإجرائياً من جانب آخر. وقد امتد هذا التوتر إلى أعضاء اللجنة أنفسهم حين تناقضت تصريحات بعض الأعضاء مع تلك الصادرة من الوالي في ما يتعلق بالعلاقة مع السلطة المركزية.

ومن ناحية ثانية، يتهم البعض الدولة بأنها تستغل المنهج التشاركي للمماطلة، ولكسب الوقت دون إنجازات حقيقية. بالإضافة  إلى تشتت المسؤوليات بين الأطراف المتعددة، ما سمح للسلطة المركزية بالتنصّل من واجباتها. وفي هذا الوضع المحتدم، لم تعد اللجنة قادرة على العمل إلا بشكل سري للغاية، متجنبة الخروج على الإعلام دون الإعلان عن إنجازات حقيقية أو أي خطوات قامت بها، بسبب مناخ الاستقطاب السياسي العام الذي تعيشه البلاد. هذا الحرص على الصمت من جانب اللجنة فاقم من الشعور المتزايد بتخلّي السلطة المركزية عن مدينة صفاقس.

هذا الأمر أدى إلى ظهور دعوات عديدة  إلى الحشد والاحتجاجات من طرف منظمات المجتمع المدني والاتحاد العام التونسي للشغل، وتوالي البيانات الداعية  إلى ضرورة التحرك إثر اندلاع حريق مكب الميناء واستمراره لمدة خمسة أيام، رغم الجهود المبذولة لإخماده من أفراد الحماية المدنية. وقد صعّد هذا الحدث من عمليات تبادل الاتهامات، لتعلن الحماية المدنية أنه حريق مفتعل وتستدعي النيابة العمومية لفتح تحقيق في ملابساته، لتبدأ دورة حشد جديدة من المجتمع المدني عبر إطلاق وسم #صفاقس_تتحرك ووسم #يزي (يكفي) ووسم #يزي_هز_الزبلة (يكفي ارفع القمامة) و#يزي_تخنقنا وهو وسم قديم استعملته الناشطية البيئية في صفاقس في معركتها ضد مصنع الصناعات الكيميائية السياب الذي أغلق منذ 2019.

الدروس المستفادة

اللجوء  إلى المنهج التشاركي في سياق الأزمات لا يمثل الحل الأمثل، حيث لا يتلاءم اللجوء  إلى عشرات الجلسات والحوارات مع الطبيعة الطارئة للوضع. فلا تلجأ الحكومة  إلى المنهج التشاركي إلا عند الأزمات، ما يُجهض كل إمكانيات نجاح هذا المنهج، ويجعل فاعليته محدودة من وجهة نظر الجمهور المتعطش لحلول جذرية سريعة. ناهيك عن أن المواضيع الحساسة مثل النفايات تتطلب مساراً تدرّجياً للحصول على المقبولية المجتمعية للتجهيزات من قبل السكان. هكذا يلعب عنصر الوقت والضغط الملازم له كمعوّق لأي إصلاح عميق للمشكلة. وهكذا تفقد تجربة اللجوء  إلى المنهج التشاركي كإطار لعلاج الأزمات المحتدمة مصداقيتها لتصبح سابقة يمكن الاعتداد بها عند ظهور أزمات معيشية في صفاقس أو في سائر البلاد. الدرس المستفاد هنا هو أن اللجوء  إلى المنهج التشاركي لا يمكن أن يكون انتقائياً أو مؤقتاً. إنه فلسفة حكم وتوجّه مختلف في علاقة السلطة المركزية بالمواطنين يمكن له أن يساهم في حل الأزمات إذا ما استقر كمنهاج للنظام السياسي.

Endnotes

Endnotes
1 المصدر صفحة مانيش_مصب على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك https://www.facebook.com/groups/688457011533365
2 استغل نشطاء حراك "مانيش_مصب" التصريح الإعلامي الذي صاحب الغلق على لسان المدير الجهوي للوكالة الوطنية للتصرف بالنفايات بصفاقس بأن "المكب أغلق لأنه لم يعد قادراً على استقبال كميات جديدة من النفايات".

3 شفيق العيادي نائب سابق عن مدينة صفاقس وناشط في المجتمع المدني وعضو قار باللجنة الاستشارية لمتابعة مسار أزمة النفايات بصفاقس
4 زياد الملولي ناشط بيئي مستقل، ومن أهم الحملات التي قادها وساهم في تأسيسها هي #سيب_التروتوار (أترك الرصيف) #يزي_تخنقنا (كفاية تخنقنا) وأخيراً وليس آخراً #صفاقس_ تتحرك .

تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.