مقدمة
عكست الأعمال الدرامية اليمنية -مؤخرا- انقساما حادا داخل المجتمع اليمني تجاه العنصرية ضد السود، حيث كرست صورا نمطية وممارسات عنصرية واضحة ضد ذوي اللون الأسود. ولكنها أسهمت -بشكل غير مباشر- في إظهار وعي رافض للعنصرية. حيث تبيَّن أن هناك وعيا يتشكل داخل المجتمع يسعى إلى مواجهة هذا السلوك الذي يضر بالأفراد والمجتمع بصورة شاملة. وفي الوقت نفسه كشفت هذه الأعمال الفنية أن هناك تراجعا في وعي النخب الفنية والثقافية تجاه قضايا حساسة كالعنصرية، حيث أنهم لا يدركون أن السلوكيات التي تتضمنها أعمالهم تحمل دلالات عنصرية واضحة، وأنها تصر على ترسيخ الصور النمطية السلبية ضد السود داخل المجتمع.
من خلال هذه الإشكالية، تسعى هذه الورقة إلى استكشاف مظاهر الوعي بالعنصرية، وكيف يتم التعبير عنه، والخلفيات المعرفية التي يتم الانطلاق منها كما تستكشف الورقة طرق التعبير عن هذه المقاومة والمحاولات الفردية والجماعية الساعية إلى مواجهة العنصرية، وعوائقها، وطرق تجاوزها مستقبلا.
خلفية تاريخية: المهمشون السود بين العنصرية والتمرد
يتميز المجتمع اليمني بتركيبته المعقدة التي تنبني وفق نظام طبقي، يتسبب في بروز عدد من الظواهر السلبية، من ضمنها العنصرية. وتختلف هذه التراتبية من منطقة إلى أخرى. ففي الجنوب حاول النظام الإشتراكي السابق -الذي حكم جنوب اليمن حتى العام 1990- أن يزيل هذه التراتبية، ومع ذلك مازالت فاعلة. ففي حضرموت -على سبيل المثال- يمكن ملاحظة ثلاث طبقات أساسية: السادة، والمشائخ، والمساكين أو الضُعّف، ثم فئة أخيرة يدخل فيها عدد من أصحاب المهن كالصبيان والحرثان، وكذلك البدو، والعبيد، وغيرهم. وماتزال آثار هذه الطبقية حتى اللحظة وإن كانت أقل حدة من شمال اليمن حيث تقع طبقة السادة أيضا في أعلى هرم النموذج الطبقي؛ فهم يسيطرون على الكثير من الامتيازات السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية (من خلال امتلاكهم السلطة والأراضي والعقارات). كما يضع مجتمع شمال اليمن في المرتبة الثانية طبقة القضاة، وهم الذين كانوا يتميزون بتلقيهم التعليم قبل ثورة 1962. ثم تأتي في المرتبة الثالثة طبقة القبائل، ويرتبطون غالبا بالزراعة، وهي الطبقة الأكثر حضورا في المجتمع اليمني، وتليها الطبقات الضعيفة لاسيما تلك التي لا تملك ارتباطات قبلية قوية، تأتي بعدها طبقات ناقصي الأصول وهم من لا يعرف لهم نسبا قويا في النظام القبلي، ويعملون غالبا كمزودي خدمات في المطاعم وأماكن الحلاقة والجزارة، وهي مهن وضيعة في عين المجتمع. وأدنى كل هذه الطبقات، تأتي فئة اليمنين السود ويصطلح عليهم إعلاميا بـ"المهمشين" ويسميهم المجتمع بـ"الأخدام" أي العبيد. وهي كلمة تحمل إهانة لفظة صريحة وذات مدلول عنصري تجاه هذا الشريحة، ويتم استعمالها من قبل مختلف الفئات، وتتجلى في سياقات مختلفة داخل المجتمع.
هذا حال التقسيم الطبقي بشكل عام في اليمن، ولكن تبقى اختلافات بسيطة في هذه التراتبية حسب المكان والزمان، تختلف من منطقة جغرافية إلى أخرى، ومن فترة زمنية إلى أخرى، ولكن يمكن القول إن الجامع بين كل التقسيمات -في مناطق اليمن المختلفة- أنها تؤكد على وضع المهمشين السود في أدني المراتب الاجتماعية، وتمارس ضدهم العنصرية في الأقوال والسلوك.
ومن مخاطر النظام الطبقي في اليمن أنه يعمل على إبقاء فاصل عميق بين هذه الطبقات، إذ يحمي من اختلاطها الجيني ويحافظ على بقاء "نقاء" الأنواع بحيث تظل طبقة السود خارج حدود المقبول اجتماعيا مهما تعاقبت الأجيال. فلا يتم السماح بالزواج منهم أو تزويجهم، حتى وإن كان ذلك برغبة الطرفين، فإن العائلات ومن ورائها حراس الفصل العنصري يقفون بقوة -قد تكون قاتلة في كثير من الأحيان- ضد مثل هذه المحاولات.
لاتوجد إحصاءات رسمية لأعداد المهمشين "السود" بشكل دقيق، ولكن وفقا لأحدث التقديرات فإن عددهم يصل إلى 3.3 ملايين نسمة موزعين على مختلف مناطق اليمن، يتعرضون فيها لعنصرية وتهميش ممنهج في مختلف الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية، بدءا من التمميز الثقافي ضدهم المتمثل في التنمر والتحقير اللفظي وتغييبهم عن أي دور سياسي أو حتى إداري في الدولة، وانتهاء بحصر كل وظائفهم في عمليات تنظيف الشوارع أو الحمامات وبقية الأعمال ذات المستوى المتدني اقتصاديا واجتماعيا.
وكما يبين الكاتب علي المقري فإنه من الصعب تقديم تعريف واحد لهم كالقول، "إنهم الخدم الفقراء الذين يقومون بتنظيف القاذورات والأوساخ خدمة للميسورين والأغنياء، أو أنهم، أولئك [ الذين يعيشون في هامش القرى والمدن ويمتازون بلون جلودهم السوداء] أو المنبوذون الذين ينحدرون من بقايا الزنوج العبيد، أو أنّهم وجه آخر للغجر لمماثلتهم لهم، في سلوكهم المتمرد على القيم الأيديولوجية السائدة، الدينية والسياسية والاجتماعية، ورفضهم الخضوع والاندماج في المجتمع". ويتضح من هذا التضارب في التعريفات التي أوردها المقري أنها لا تسعى إلى تقديم توصيف أو مفهوم محدد بقدر ما تعكس الجدل الحاصل حولهم، بدءا من مصطلح "الخدم" العنصري، وانتهاء بالتشكيك بتمردهم على القيم والأيديولوجيا والاندماج، إذ إن ذلك يثير سؤالا جوهريا، وهل تم بالفعل العمل على تنفيذ سياسات اندماج حقيقية لهم؟ وفي الواقع لا توجد أية سياسيات واستراتيجيات رسمية جادة في هذا الشأن على مدى العقود الماضية من تاريخ اليمن الحديث، ولا يبدو أن هناك خططا على المدى القصير أو البعيد للتعامل مع هذه القضية الجوهرية.
مظاهر العنصرية ومسبباتها
بغض النظر عن ملاحقة التعريفات، تظل حقيقة أن المهمشين السود هم الفئة الأكثر تعرضا للظلم والمعاناة الممنهجة في اليمن عبر التاريخ، إذ يتعرضون للعنصرية من خلال ممارسة التمييز ضدهم، واحتقارهم، وعزلهم، وتعنيفهم، وتراخي القانون عن حمايتهم، وعدم اعتبار أية أهمية لحياتهم، حيث يعيشون في "المحاوي" وهي تجمعات سكانية تفتقر إلى أساسيات الحياة الآدمية. ويحاول البعض أن يجادل على أن هذه العنصرية ترجع لوضعهم الاجتماعي السيء، ولكن الأدلة تشير بوضوح إلى أنها قائمة لسببين: الأول عرقي، والثاني يرتكز على لون بشرتهم الداكنة الذي يحدد هويتهم، ويميزهم عن غيرهم من فئات المجتمع اليمني. فلون البشرة ذي السحنة السوداء هو ما جعل المجتمع يحتقرهم، ويعمل على إقصاءهم، وتنميط حياتهم وربط الكثير من الممارسات السيئة بهم؛ الأمر الذي أدى بعد ذلك إلى تمردهم المتراكم عبر مئات السنين تحت ضغط عنصرية المجتمع المحيطة بهم، ما أدى إلى عزلهم في مدن صفيح وتجمعات منزوية على حواف المدن والتجمعات السكانية.
وعلى الرغم من أن للتهميش في اليمن أبعادا ثقافية واجتماعية، فإن اللون الأسود هو العامل الأساسي في تجذير العنصرية والتهميش. فكل من يحمل بشرة سوداء فإنه يتعرض للتميز ويطلق عليه اصطلاحات مختلفة، وحتى من يحملون بشرة سمراء من أبناء الطبقات الأخرى فإنهم يتعرضون للتنمر أيضا، وهو ما يعني أن المشكلة الاجتماعية التي صنعها المجتمع مع فئة "المهمشين" السود تنعكس على شكل سلوك عنصري على مختلف المستويات، انطلاقا من المشكلة الأساسية، بوصفها مشكلة لون وعرق.
ومن أبرز هذه المظاهر العنصرية الاحتقار، واستخدام الألفاظ التمييزية مثل كلمة خادم أو أقرع أو وريا، أو زول، وهي لا تطلق على فئة المهمشين فحسب، ولكن تطلق على كل صاحب بشرة سمراء. بما يعمل على تعزيز التنمر ضد هذه الفئة في المدارس، وفي كل مكان، وتحرمهم من ممارسة حياتهم العادية. حتى الأطفال فهم غالبا ما يتعرضون لمثل هذه السلوكيات العنصرية في المدارس، ويميلون بعد ذلك إلى ترك التعليم؛ لأن البيئة التعليمية أصبحت معادية لهم، فتستمر الأجيال في تشكيل مجتمع من المهمشين الذين يفتقرون إلى القدر الكافي من التعليم؛ ومن ثم استمرار الانزواء والعزل والتهميش.
وتمتلئ الثقافة الشعبية في اليمن بالتعبيرات والنصوص التي تجسد الصورة النمطية ذات الطابع العنصري ضد المهمشين السود، حتى الوصول إلى المتخيل الشعبي الذي يعتقد -على سبيل المثال- أنهم "يأكلون موتاهم". هذا يجعل الأمر يتحول من الممارسة اللغوية إلى الممارسة الفعلية، التي تتجسد بعد ذلك على شكل سلوك عنصري يمارس العنف الجسدي ضد السود مثل الضرب، والقتل، والاغتصاب، وكذا الحرمان من التملك. بالإضافة إلى أداء الخدمة غير المدفوعة في الأعراس، ومنازل الآخرين، وتنظيف القاذورات والصرف الصحي. وهذا لا يتم من قبل المجتمع فحسب، بل وبتواطؤ من قبل الأجهزة الرسمية للدولة، حيث لا يُعاقب الجناة، ولا يتم القبض عليهم -أحيانا- لاعتبار أن المجني عليه أسود، وأنه أقل من أن ينال حقا.
الوعي بالعنصرية ومواجهتها
لقد لاحظنا مؤخرا ظهور مبادرات وأنشطة فردية، بعضها يقوم بها ناشطون من مجتمع المهمشين السود أنفسهم، وآخرين من ناشطات وناشطي المجتمع المدني والفاعلين الثقافيين الذين يسعون باتجاه تحريك الوعي الجمعي، من أجل مواجهة العنصرية. وهذا يدفعنا من أجل البحث في وعي بعض القائمين على مثل هذه الأفكار التي ترفض التنميط، وتسعى إلى المساواة، وإلغاء الامتيازات الطبقية التي تعلي من شأن فئة على حساب أخرى. ويدفعنا هذا الوعي بالعنصرية -من قبلهم- إلى أن نتسائل عن المسببات -في نظرهم- التي تجعل المجتمع يقاوم -بشكل قوي- أية محاولات لإلغاء هذه العنصرية. يرى البعض منهم أن المشكلة لها جذور عميقة تمتد إلى قرون ماضية، وتحديدا إلى لحظة وصول الإمام الرسي إلى اليمن عام 893 م، الذي عمل على تحويل المجتمع اليمني من مجتمع زراعي متجانس إلى مجتمع طبقي، لكي تتشكل طبقة (الهاشمية) بوصفها أعلى وأشرف الطبقات، ليكون السود واليهود في أسفل هذا الهرم. مما أدى إلى ظهور سلوكيات تعمل على احتقار السود على أساس المكانة الاجتماعية والمهنية ولون البشرة. ولكن يؤكد بعض الباحثين أن النظام الطبقي يمتد في اليمن إلى فترات سابقة للإسلام، من حيث وجود أنظمة هي عبارة عن خليط من النظام القبلي القديم ونظام الطبقات والأرستقراطية والملكية الإقطاعية مع وجود أشراف وملاك ورقيق. ويجادل آخرون على أن النظام الطبقي الذي تحول إلى سلوكيات عنصرية ظهر في فترات لاحقة خاصة في ظل حكم الأئمة الذين عززوا سياسة الانغلاق وفرضوها على اليمن عبر مئات السنوات وما ترتب عليها من جهل لا سيما وسط هذه الفئات المهمشة. ومع الإيمان بصحة تورط هذه الأسباب لاسيما الدينية منها في تعزيز العنصرية، لا يمكن إنكار الأسباب الثقافية التي تحتقر اللون الأسود وتراه رمزا للعيب والعار والفعل المشين، وما يرتبط بهذه القيم من تنافس قبلي وصراعات، تؤدي إلى رفع بعض القبائل، وتصنيف الفئات الأخرى وفق تراتبية خاصة بها.
وإذا كانت الأنساق الثقافية غير مدركة من قبل الجميع؛ نتيجة اتساع رقعة الجهل وتراجع مساحة التعليم، وسيطرة الإعلام الموجة الذي يركز على إنتاج الأتباع -بوصف ذلك أحد نتائج الحرب- فإن الأعمال الأدبية والثقافية والفنية والفكرية يفترض أن تكون قادرة على الغوص في عمق هذه الثقافة، ومواجهة أسس العنصرية ومظاهرها، وأن تجتهد بعد ذلك من أجل صناعة وعي ثقافي واجتماعي مناهض للتمييز العنصري. كما لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي تلعبه وسائل الإعلام الحديثة، لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي، في تشكيل الوعي الحالي مما يجعلها وسيلة قادرة على كشف العنصرية والعمل على مقاومتها.
يقع الإنتاج الدرامي اليمني -عن عمد أو غير العمد- في ترسيخ الصورة النمطية التي تعمل على تأكيد بعض صور العنصرية، وإيصال رسائل خاطئة إلى جمهورها الواسع. فعلي سبيل المثال أسهمت بعض المسلسلات والبرامج التلفزيونية اليمنية هذا العام2021 في توطيد بعض مظاهر العنصرية داخل المجتمع، من خلال قيام بعض الممثلين بأدوار تجسد شخصيات ذات لون أسود، حيث تم صبغ وجوههم بهذا اللون لكي يقوموا بأدوار تعكس أداء تمييزيا ضد هذه الفئات، إما من خلال السخرية، أو بجعلهم يؤدون أدوارا إجرامية. ولم يكن ذلك الإدراك ليحصل لهذه الأبعاد العنصرية لولا وعي بعض الناشطات والناشطين اليمنيين على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين قاموا بكشف تلك الانتهاكات العنصرية وحرّكوا حملات موجهة تطالب بمقاطعة هذه البرامج ومثيلاتها.
في الحقيقة يشكل الإنتاج الدرامي أحد مظاهر الثقافة، فهو امتداد للوعي الجمعي الراسخ في كيان المجتمع، وهذه ليست المرة الأولى التي تجسد فيها الدراما والفن في اليمن مظاهر عنصرية، ولكنها تقريبا المرة الأولى التي ظهرت فيها مقاومة فردية من قبل الناشطات والناشطين لكشف تلك العنصرية ورفضها وكشف عيوبها وتوضيح مخاطرها.
لقد مثلت قضية "البلاك فيس" (الوجه الأسود) أول الموضوعات التي اشتغلت عليها هذه الحملات. حيث عملت على تقديم مفهوم (البلاك فيس) الذي بدا جديدا للناس، ووضحوا الأبعاد العنصرية والمخاطر التي ينطوي عليها، مثل ترسيخ السخرية في وعي الناس، والاستشهاد بما تظهره بعض مشاهد مثل مسلسل "كابتشينو" على تلفزيون "يمن شباب" الذي يؤدى فيه دوران لرجل وامرأة تم صبغ وجهيهما باللون الأسود، وأنيطت بهما أدوارا ساخرة، سواء من خلال اللغة أو من خلال رد فعل بقية الممثلين تجاه شخصيتيهما، من التحقير والاشمئزاز، والإهانة. وهو ما قد يؤدي إلى ردود فعل تجاه السود تؤكد على أنهم "مقززين ومقرفين". أما مسلسل "خلف الشمس" الذي عرضته قناة "السعيدة"، فقد جسد فيه أحد الممثلين دور قرصان صومالي، حيث قام بصبغ وجهه باللون الأسود، بما يعني أن المسلسل بحسب ردود فعل الناشطات والناشطين قد قام بارتكاب جريمتين عنصريتين: الأولى البلاك فيس، والثانية تجسيد الأسود في هيئة المجرم، "إذ طالما تم تجسيد السود بوصفهم مجرمين أو ضحايا للجريمة، وهي من الصور الشائعة للتمييز العنصري ضد السود في الثقافة والإعلام، وفي الأفلام بدلاً من تصويرهم كشخصيات رائدة في التلفاز أو السينما". فمن منظور هذه الحملات، فإن الإشكالية الحقيقية بسبب اللون الأسود ذاته، والأنساق الثقافية المترسخة في وعي الناس، فلولا اللون الأسود لما كان هناك عنصرية تجاه فئة هي الأقلية الأكبر، والأكثر اضطهادا في اليمن.
إن الأمر يعكس خللا حقيقيا في وعي القائمين على هذه الأعمال. فإلى جانب الصورة النمطية، فلا وجود لشخصيات من السود في الإعلام. على الرغم من وجود ملايين السود الذين لا يتم تهميشهم فحسب، بل ويُمارس عليهم التنمر بشكل رسمي في الإنتاجات التلفزيونية المختلفة. والأمر الأكثر مأساوية حينما يتعلق بالمرأة السوداء بشكل خاص، إذ لا يوجد "ظهور حقيقي للنساء السوداوات في اليمن، فليس هناك الكثير من الفنانات أو الإعلاميات السود في شاشة التلفاز اليمني، وهذا يدل على الإقصاء المتعمد والمعايير القاسية التي تستثني وجودهن في الإعلام وحصرهن في أدوار نمطية مهينة كما يؤكد النظرة العنصرية والدونية للمرأة السوداء ومعايير الجمال الوهمية". فتغييب السود، يتم بشكل متعمد، تبعا للأنماط ثقافية راسخة في وعي القائمين على تلك الأعمال، وإن تم إحضار سود فإنما ليؤدون أدوارا سيئة، أو للتندر والسخرية، لا بوصفهم جزءا أساسيا من كيان المجتمع بمختلف تجلياته.
المبادرات ورؤى الحل
تنفي الدولة اليمنية وجود فئات عرقية ضمن المجتمع، وتؤكد أن المجتمع اليمني مجتمع متجانس في تركيبته ولايوجد أي نوع من العنصرية ضمن فئاته، وهذا الخطاب الرسمي جعل البعض مثل (ناصر) يعتقد بأن التهميش أو العنصرية غير ممنهجة من قبل الدولة، فهي لا تستند إلى قوانين عنصرية مكتوبة، ولكن حقيقة الأمر ليست بهذه البساطة. صحيح أن التشريعات اليمنية لا تحتوي بشكل مباشر على قوانين تمييزية على أساس العرق أو اللون، لكن لا يوجد قوانين واضحة تعاقب العنصرية والتمييز ، وهذا يفتح الباب مشرعا لممارسة التمييز واستمراره والتستر على مرتكبيه.
وعلى الرغم من اتساع رقعة العنصرية وبلوغ أثرها الكبير أبعادا مختلفة في الواقع، فإن النشاط المجتمعي مازال قاصرا تجاهها. ويمكن اعتبار النشاط الموجه من قبل الناشطات والناشطين الشباب لمواجهة هذه الظاهرة بداية جيدة لتحريك وعي الناس ودفعه باتجاه التغيير.
إضافة لهذه الجهود الفردية يعدد الناشط فوزي الحبشي المبادرات التي تعمل على كسر هذه الجدران، ومنها على سبيل المثال: ما يقوم به المرصد اليمني لحقوق الانسان من خلال تنفيذ برنامج دعم التعايش المجتمعي مع فئة المهمشين والاتحاد الوطني للمهمشين الذي يقوم بأنشطة مختلفة لمواجهة العنصرية من خلال الدعم القانوني والضغط والمناصرة. وكذلك ما تقوم به جمعية كفاية من خلال دعم الحوار المجتمعي باتجاه السلام وتعزيز التعايش. ورغم أن هذا النشاط المناهض للعنصرية يبدو فرديا ومحدودا، فإنه يحمل رسائل إيجابية باتجاه تشكل وعي لدى فئة من الجيل الجديد الذي يمكنه أن يعمل على التغيير في المجتمع باتجاه كشف هذه الأنساق ومواجهتها وإلغائها في المستقبل. كما يمكن لهذه الجهود الفردية أن تتضافر باتجاه تشكيل بؤر مؤسسية تحمل هذه الأهداف وتؤمن بها وتعمل على تنفيذها من أجل مواجهة العنصرية التي تؤثر على هذه الفئات بشكل خاص وعلى المجتمع بشكل عام.
ويعد الاعتراف بالعنصرية كظاهرة مجتمعية موجودة وبوصفها جريمة ينبغي محاربتها خطوة أساسية في سبيل مواجهة العنصرية. وهو ما يستدعي إثر ذلك تنفيذ استراتيجية وطنية متكاملة ذات أبعاد قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى لإدماج المهمشين بالمجتمع بشكل تام واقتلاع العنصرية من المجتمع من جذورها، بدءا بإسقاط الألقاب وتجريم العنصرية دستوريا ثم السعي إلى تعديل القوانين الحالية، والعمل على إصدار تشريعات تجرّم العنصرية بكل أشكالها، وتعاقب أي سلوكيات تكرسها، سواء في المدارس من قبل الطلبة أو من قبل المدرسين ومديري المدارس، الذين يمارسون السلوكيات العنصرية. وأيضا ينبغي نشر الفكر الداعي إلى نبذ العنصرية عبر الأفلام القصيرة، والمقالات، والندوات، وورش العمل، والمناظرات، بالإضافة إلى منع الإعلام من استخدام البشرة السوداء كمادة للسخرية. مع التركيز على إشراك المهمشين السود بشكل خاص في الوظائف وصناعة القرار من أجل تجسيد قيم العدل والمساواة وذوبان التمييز العنصري، وكذلك العمل على تأهيل كوادر هذه الفئات لاسيما من الشباب ثقافيا وسياسيا وحقوقيا حتى يتمكنوا من الدفاع عن حقوقهم ومواجهة هذا التحدي بأنفسهم.
يبدو الطريق إلى مواجهة العنصرية ضد السود في اليمن صعبا، ولكنه ليس مستحيلا، فوجود مثل هذا النشاط إضافة إلى تلك الأصوات الناضجة التي شهدنا ولادتها في وسائل التواصل الاجتماعي، يعكس وجود البنية الفكرية والإمكانات البشرية باتجاه التغيير، بما يسهل -في المستقبل- عملية تحويل هذا الوعي الفردي إلى عمل مؤسسي وفق رؤية استراتيجية تعمل على إرساء مبدأ المواطنة المتساوية بما يتجاوز العرق واللون والمعتقد، وتحقيق أهداف وطنية تجسد مفاهيم حقوق الإنسان، وقيم العالم الحديث، وتسعى لتحقيق مصلحة الجميع دون استثناء.
تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الورقة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر مبادرة الإصلاح العربي، أو فريق عملها، أو أعضاء مجلسها.